المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة الأولىيستلزم من إثبات الفوقية لله تعالى أن يكون في مكان وحيز وجهة - الكلمات الحسان في بيان علو الرحمن

[عبد الهادي بن حسن وهبي]

فهرس الكتاب

- ‌المُقَدِِّّمَةُ

- ‌أَدِلَّةُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى العَرْشِ

- ‌التَّصريحُ بالفوقيَّةِ مقرونًا بأداة «مِنْ» المعيِّنةِ للفوقيَّةِ بالذَّاتِ

- ‌ذِكْرُها مُجَرَّدَةً عَنِ الأداةِ

- ‌التَّصريحُ بالعروجِ إليهِ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ بالصُّعودِ إليهِ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ برفعهِ بعضَ المخلوقاتِ إليهِ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ بالعلوِّ المطلقِ الدَّالِّ على جميعِ مراتبِ العلوِّ، ذاتًا وقَدْرًا وقَهْرًا

- ‌التَّصريحُ بتنزيلِ الكتابِ منهُ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنَّهَا عندهُ، وأنَّ بعضَها أقربُ إليهِ منْ بعضٍ

- ‌التَّصريحُ بأنَّهُ تعالى في السَّماءِ

- ‌شهادَتُهُ صلى الله عليه وسلم التي هيَ أصدقُ شهادةٍ عند اللهِ وملائكتِهِ وجميعِ المؤمنينَ لمنْ قالَ: «إنَّ ربَّهُ في السَّماءِ» بالإيمانِ

- ‌الإشارةُ إليه سبحانه وتعالى حسًّا إلى العلوِّ

- ‌التَّصرِيحُ برَفْعِ الأيدي والأبصارِ إليه سبحانه وتعالى

- ‌النُّصوصُ الدَّالةُ على رؤيةِ أهلِ الجنَّةِ لهُ تعالى مِنَ الكتابِ والسنَّةِ

- ‌التصريحُ بنزوله سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدنيا

- ‌إخبارُهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه تردَّد بينَ موسى عليه السلام وبينَ ربِّه ليلةَ المعراجِ بسببِ الصَّلاةِ

- ‌النُّصوصُ الواردةُ فِي ذكرِ العرشِ وصفتهِ وإضافتهِ غالبًا إِلَى خالقهِ تبارك وتعالى وأنَّه تَعَالَى فوقهُ

- ‌إخبارهُ تعالى عنْ فرعونَ أنَّهُ رامَ الصُّعودَ إلى السَّمَاء ليطِّلع إلى إله موسى، فيكذِّبهُ فيما أخبرهُ منْ أنَّهُ سبحانهُ فوقَ السَّماوات

- ‌تنزيهُ اللهِ سبحانه وتعالى نفسَهُ عن موجبِ النُّقصانِ، وعمَّا يوجبُ التمثيلَ والتشبيهَ

- ‌مِنَ البراهين الدَّالَّةِ على علوِّ الله على خلقهِ واستوائهِ على عرشهِ الدليلُ العظيمُ والبرهانُ القاطعُ

- ‌أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي العُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ

- ‌1 - حُمَيدُ بنُ ثوَرٍ

- ‌2 - ابنُ عَبّاسٍ

- ‌3 - زينبُ بنتُ جَحْشٍ

- ‌4 - ابنُ مَسْعُودٍ

- ‌5 - عَائِشَةُ

- ‌6 - أَبو ذَرٍّ

- ‌7 - ابنُ عُمَرَ

- ‌8 - مَسروقٌ

- ‌9 - أيوبُ السُّخْتِيَانِيُّ

- ‌10 - سليمان التِّيميُّ

- ‌11 - مقاتلُ بنُ حِيَّانَ (قبل150ه

- ‌12 - الأَوزاعيُّ (157ه

- ‌13 - سفيانُ الثوريُّ عالمُ زمانهِ (161ه

- ‌14 - مالك إمام دار الهجرة (179ه

- ‌15 - حمَّادُ بنُ زيدٍ البصريّ (179ه

- ‌16 - عبدُ الله بنُ المباركِ، شيخُ الإسلامِ (181ه

- ‌17 - جرير الضبيُّ، محدِّث الري (188ه

- ‌18 - عبدُ الرحمنِ بنُ مهدي (198ه

- ‌19 - أبو معاذ البلخي الفقيه (199ه

- ‌20 - منصورُ بن عمار (200ه

- ‌21 - الإمامُ الشافعيُّ (204ه

- ‌22 - يزيدُ بنُ هارونَ الواسطيُّ (206ه

- ‌23 - سعيدُ بن عامر الضبعيُّ عالِمُ البصرة (208ه

- ‌24 - عبدُ الله بن أبي جعفر الرازيُّ

- ‌25 - القعنبيُّ (221ه

- ‌26 - عاصمُ بن علي شيخ البخاري (221ه

- ‌27 - هشام بن عبيد الله الرَّازيُّ (221ه

- ‌28 - بِشْر الحافي، زاهدُ العصرِ (227ه

- ‌29 - محمدُ بن مصعب العابدُ: شيخُ بغداد (228ه

- ‌30 - نُعَيمُ بن حمَّاد الخزاعيُّ الحافظ (228ه

- ‌31 - أبو عبد الله بن الأعرابي، لغوي زمانه (231ه

- ‌32 - أبو معمر القطيعي (236ه

- ‌33 - إسحاق بن راهويه عالم خراسان (238ه

- ‌34 - قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ: شيخُ خراسانَ (240ه

- ‌35 - أحمدُ بن حنبل شيخُ الإسلام (241ه

- ‌36 - الإمام الربانيُّ محمدُ بن أسلم الطوسيُّ (242ه

- ‌37 - الحارثُ بن أسد المحاسبيُّ (243ه

- ‌39 - خَشَيْشُ بن أصرم (253ه

- ‌41 - إسماعيل بن يحيى المزنيُّ (264ه

- ‌42 - أبو زُرعة الرازيُّ (264ه

- ‌43 - أبو حَاتِمٍ الرازيُّ (277ه

- ‌44 - حَرْب الكَرْمَانِيُّ (280ه

- ‌45 - ابنُ قُتَيْبَةَ (276ه

- ‌46 - أبو عيسى الترمذيُّ (279ه

- ‌47 - عثمانُ بنُ سعيد الدّارِمِيُّ الحافظُ (280ه

- ‌48 - ثَعْلَب إمامُ العربية (291ه

- ‌49 - أبو مُسْلِمٍ الكجيُّ الحافظُ (292ه

- ‌50 - عَمْرُو بنُ عثمانَ المكيُّ (297ه

- ‌51 - ابنُ أبي شَيْبَةَ (297ه

- ‌52 - زكريا السَّاجيُّ (307ه

- ‌53 - محمدُ بن جرير الطبريُّ (310ه

- ‌54 - ابنُ الأخرم (311ه

- ‌55 - إمام الأئمة ابنُ خُزَيْمَةَ (311ه

- ‌56 - نِفْطَوَيْه شيخُ العربية (323ه

- ‌57 - أبو الحسن الأشعريُّ (324ه

- ‌58 - البَرْبَهَارِيُّ (329ه

- ‌59 - الوزير عليُّ بنُ عيسى (334ه

- ‌60 - العلَّامة أبو بكر الضِّبْعِيُّ (342ه

- ‌61 - ابنُ شعبان (355ه

- ‌62 - الإمام أبو بكر الآجُرِّيُّ (360ه

- ‌63 - الحافظُ أبو الشيخ (369ه

- ‌64 - العلاّمة أبو بكر الإسماعيليُّ (371ه

- ‌65 - أبو الحسن بنُ مهدي المتكلِّمُ (380ه

- ‌66 - ابنُ بطَّة (387ه

- ‌67 - ابنُ أبي زيدٍ (386ه

- ‌68 - ابنُ مَنْدَه (395ه

- ‌69 - ابنُ أبي زمْنِين (399ه

- ‌70 - القَصّابُ (400ه

- ‌71 - ابنُ الباقلانيُّ (403ه

- ‌72 - ابنُ موهب (406ه

- ‌73 - مَعْمَرُ بنُ زيادٍ (418ه

- ‌74 - أبو القاسم اللَالكَائِيُّ (418ه

- ‌75 - السُّلطانُ (421ه

- ‌76 - يحيى بنُ عمَّارٍ (422ه

- ‌77 - القادرُ بالله أميرُ المؤمنين (422ه

- ‌78 - أبو عمر الطلمنكيُّ (429ه

- ‌79 - أبو نُعيم الأصبهانيُّ (430ه

- ‌80 - عبدُ الله بن يوسف الجوينيُّ (438ه

- ‌81 - أبو عَمْرٍو الدّانِيُّ (440ه

- ‌82 - عليُّ بنُ عمر الحربيُّ (442ه

- ‌83 - أبو عثمانَ الصابونيُّ (449ه

- ‌84 - أبو نَصْرٍ السجزيُّ (444ه

- ‌85 - القاضي أبو يعلى (458ه

- ‌86 - البيهقيُّ (458ه

- ‌87 - ابنُ عبد البر (463ه

- ‌89 - سعدٌ الزنجانيُّ (471ه

- ‌90 - إمامُ الحرمَيْنِ (478ه

- ‌91 - شيخُ الإسلام الهرويُّ (481ه

- ‌93 - الفقيهُ نَصْر المقدسيُّ (490ه

- ‌94 - ابن الحدَّاد (517ه

- ‌95 - أبو الحسن بنُ الزاغونيِّ (527ه

- ‌96 - الحسنُ الكرجيُّ (532ه

- ‌98 - عديُّ بنُ مسافر الأمويُّ الهكاريُّ (555ه

- ‌99 - العلامةُ يحيى بنُ أبي الخير العمرانُّي (558ه

- ‌100 - الشيخُ عبدُ القادر (562ه

- ‌101 - ابنُ رشد المالكيُّ (595ه

- ‌102 - المقدسيُّ (600ه

- ‌103 - القرطبيُّ (677ه

- ‌105 - العلاّمةُ الشَّوكانِيُّ (1255ه

- ‌الدَّلِيلُ مِنَ الفِطْرَةِ

- ‌هل نَجْزِمُ بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ على العَرْشِ، أو نُفَوِّضُ

- ‌شُبُهَاتٌ والرَّدُّ عَلَيْهَا

- ‌الشُّبْهَةُ الأولىيستلزمُ منْ إثباتِ الفوقيَّةِ لله تعالى أنْ يكونَ في مكانٍ وحيِّزٍ وجهةٍ

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُلو كانَ الخالقُ فوقَ العرشِ لكانَ حاملُ العرشِ حاملًا لمنْ فوقَ العرشِ فيلزمْ احتياجُ الخالقِ إلى المخلوقِ

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُلَوْ كانَ اللهُ فِي السَّمَاءِ لكانَ محصورًا

- ‌الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُقال الرازيُّ: العالمُ كُرَةٌ…فلو كانَ الله في جهةِ فوق لكانَ أسفلَ بالنِّسبةِ إلى سكَّانِ الوجهِ الآخر

- ‌الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُلو كانَ مَوْصُوفًا بالعُلُوِّ لكانَ جسمًا، ولو كانَ جسمًا لكان مماثلًا لِسَائِرِ الأَجْسَامِ، واللهُ قد نَفَى عنه المِثْلَ

- ‌الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُلو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ

- ‌الشُّبْهَةُ الحَادِيَةُ عَشْرَةَلوْ كانَ تعالى فوقَ العرشِ لما صحَّ القولُ بأنَّهُ تعالى قريبٌ منْ عبادهِ

- ‌الردُّ على منِ ادَّعى المجازَ بالفوقيَّةِ بفوقيَّةِ القَدْرِ والرُّتْبَةِ

- ‌الرَّدُّ عَلى مَنْ تَأَوَّلَ الاسْتِوَاءَ بالاسْتِيلاءِ

- ‌الرَدُّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ نُزُولَ الله عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الحَقِّ

- ‌الشُّبهاتُ الواردةُ على صفَّةِ النزولِ

- ‌أَسْئِلَةٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ

- ‌السؤالُ الأوَّلُ:هل نقولُ ينزلُ بذاتهِ

- ‌السؤال الثاني:كيفَ نجمعُ بينَ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تفتحُ أبوابُ السّمَاءِ نصفَ الليلِ، فينادي منادٍ: هلْ منْ داعٍ فيستجابُ لهُ؟ هلْ منْ سائلٍ فيُعطى؟ هلْ منْ مكروبٍ فيفرَّج عنهُ؟ فلا يبقى مسلمٌ يدعو بدعوةٍ إلَّا استجابَ اللهُ تعالى لهُ

- ‌السؤالُ الثالثُ:كيفَ نجمعُ بين علوِّ الله على العرشِ ونزولهِ إلى السَّماءِ الدُّنيا

- ‌السؤالُ الرابعُ:ما يستفادُ مِنْ حديثِ النزولِ

- ‌أَسْئِلَةٌ وأَجْوِبَتُهَا

- ‌السؤالُ الرابعُما معنى قول السَّلفِ: أمِرُّوهَا كما جاءتْ بلا كيفٍ

- ‌السؤالُ الخامسُكيف استوى على العرش

- ‌السؤالُ السادسُهل مذهبُ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبُ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ

- ‌السؤالُ الثامنُهل آياتُ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه

- ‌كَلَامٌ نَفِيسٌ لِشَيْخِ الإِسْلَامِ في العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ

- ‌أَثَرُ الإِيْمَانِ بِعُلُوِّ الرَّحْمَنِ

- ‌الخَاتِمَةُ

الفصل: ‌الشبهة الأولىيستلزم من إثبات الفوقية لله تعالى أن يكون في مكان وحيز وجهة

وإذا تأمَّلتَ تعمُّقهم في التَّأويلاتِ المخالفةِ لظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ، وعدولَهم عنهما إلى زخرفِ القولِ والغرورِ لتقويةِ باطلهم، وتقريبهِ إلى القلوبِ الضعيفةِ لاحَ لكَ الحقُّ، وبانَ الصدقُ، فلا تلتفتْ إلى ما أسسوهُ، ولا تبالِ بما زخرفوهُ، والزمْ نصَّ الكتابِ، وظاهرَ الحديثِ الصحيحِ اللَّذينِ هما أصولُ الشرعياتِ، تقفُ على الهدى المستقيمِ (1).

وبعدَ هذا البيانِ نذكرُ شبهاتِ المتكلِّمينَ - التي عارضوا بها نصوصَ الوحي - ثمَّ نأتي عليهَا مِنَ القواعدِ بإذن الله سبحانه وتعالى.

‌الشُّبْهَةُ الأولى

يستلزمُ منْ إثباتِ الفوقيَّةِ لله تعالى أنْ يكونَ في مكانٍ وحيِّزٍ وجهةٍ

(2).

ينبغي أنْ يُعلمَ بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلام إذا قالوا: «إنَّ الله منزَّهٌ عَنِ الحيِّز والجهةِ والمكانِ» أوهموا النَّاسَ أنَّ مقصودهم بذلكَ أنَّهُ لا تحصرهُ المخلوقاتُ، ولا تحوزه المصنوعاتُ، وهذا المعنى صحيحٌ، ومقصودهم: أنَّهُ ليسَ مباينًا للخلقِ ولا منفصلًا عنهم، وأنَّهُ ليس فوق السَّمواتِ ربٌّ يعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ يصلَّى لهُ ويسجدُ، وأنَّ محمَّدًا لم يُعْرَجْ بهِ إليهِ، ولا ترفعُ إليهِ الأيدي في الدُّعاءِ، ونحو ذلك منْ كلامِ الجهميَّةِ الفرعونيَّة.

تَالله قَدْ ضَلَّتْ عُقُولُ القَوْمِ إذْ

قَالُوا بِهَذَا القَوْلِ ذِي البُطْلَانِ (3)

(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 295).

(2)

قال شيخ الاسلام في «منهاج السنة» (2/ 246 - 248): «هؤلاء أخذوا لفظ «الجهة» بالاشتراك، وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره، كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء، ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجًا إلى غيره، والله تعالى غنيٌّ عن كل ما سواه، وهذه مقدِّماتٌ كلها باطلةٌ».

(3)

الكافية الشافية (ص90).

ص: 183

والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ أنْ يقالَ:

الأصلُ في هذا البابِ أنَّ كلَّ ما ثبتَ في كتابِ الله تعالى، أو سنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم وجبَ التَّصديقُ بهِ، مثلُ علوِّ الرَّبِّ، واستوائهِ على عرشهِ ونحو ذلكَ. وأمَّا الألفاظُ المبتدعةُ في النَّفيِ والإثباتِ، مثلُ قولِ القائلِ: هوَ في جهةٍ أو ليسَ في جهةٍ، وهو متحيِّزٌ أو ليسَ بمتحيِّزٍ، ونحو ذلكَ مِنَ الألفاظِ التي تنازعَ فيهَا النَّاسُ، وليسَ مع أحدهمْ نصٌّ لا عَنِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا عَنِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، والتابعينَ لهمْ بإحسانٍ، ولا أئمَّةِ المسلمين. هؤلاءِ لمْ يقلْ أحدٌ منهم: إنَّ الله تعالى في جهةٍ، ولا قالَ ليسَ هوَ في جهةٍ، ولا قالَ: هوَ متحيِّزٌ، ولا قالَ: ليسَ بمتحيِّزٍ، بلْ ولا قالَ: هو جسمٌ أو جوهرٌ، ولا قالَ: ليسَ بجسمٍ ولا جوهرٍ. فهذهِ الألفاظُ ليستْ منصوصةً في الكتابِ، ولا السنَّةِ، ولا الإجماعِ، والنَّاطقونَ بها قدْ يريدونَ معنًى صحيحًا وقدْ يريدونَ معنًى فاسدًا، فإنْ أرادوا معنًى صحيحًا يوافقُ الكتابَ والسنَّةَ، كانَ ذلكَ مقبولًا منهمْ. وإنْ أرادوا معنًى فاسدًا يخالفُ الكتابَ والسنَّةَ، كانَ ذلكَ المعنى مردودًا عليهم.

ص: 184

فإذا قالَ القائلُ: إنَّ الله تعالى في جهةٍ، قيلَ ما تريدُ بذلكَ؟ أتريدُ بذلكَ أنَّهُ سبحانهُ في جهةٍ موجودةٍ تحصرهُ وتحيطُ بهِ وتعلو عليهِ، أو يحتاجُ إليها بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، مثلَ أنْ يكونَ في جوفِ السَّمواتِ، أمْ تريدُ بالجهةِ أمرًا عدميًّا وهوَ ما فوقَ العالمِ، فإنَّه ليسَ فوقَ العالمِ شيءٌ مِنَ المخلوقاتِ، فإنْ أردتَ الجهةَ الوجوديَّةَ، وجعلتَ الله تعالى محصورًا في المخلوقاتِ فهذا باطلٌ. فكلُّ موجودٍ سوى الله فهو مخلوقٌ، والله خالقُ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواه فهو فقيرٌ إليه، وهو غنيٌّ عمَّا سواهُ. وإنْ أردتَ الجهةَ العدميَّةَ، وأردتَ الله تعالى وحدَهُ فوقَ المخلوقاتِ بائنٌ عنها، فهذا حقٌّ، وليسَ في ذلكَ أنَّ شيئًا مِنَ المخلوقاتِ حصرهُ ولا أحاطَ بهِ ولا علَا عليهِ، بلْ هوَ العالي عليهَا المحيطُ بها، وقدْ قالَ تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] الآية.

وقدْ ثبتَ في الصَّحيحِ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَّ اللهَ عز وجل يَقْبِضُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَطْوِي السَّمواتِ بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَهُزُّهُنَّ فيقولُ: أنا المَلِكُ أينَ ملوكُ الأَرْضِ» (1).

(1) رواه البخاري (4812 و6519 و7382 و7412)، ومسلم (2787 و2788) عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم.

ص: 185

ومنْ قالَ: إنَّ الله تعالى ليسَ في جهةٍ. قيلَ لهُ ما تريدُ بذلكَ؟ فإنْ أرادَ بذلكَ أنَّه ليسَ فوقَ السَّمواتِ ربٌّ يعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ، ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لمْ يعرجْ بهِ إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفعُ إلى الله تعالى في الدُّعاءِ، ولا تتوجَّهُ القلوبُ إليهِ، ولا تصعدُ الملائكةُ إليهِ، ولا تنزلُ الكتبُ منهُ، ولا يقربُ منهُ شيءٌ، ولا يدنو إلى شيءٍ، فهذا فرعونيٌّ معطِّلٌ، جاحدٌ لربِّ العالمينَ. ومنْ نفى الجهةَ وأراد بالنَّفي كون المخلوقات محيطةً بهِ أو كونه مفتقرًا إليها فهذا حقٌّ.

وكذلكَ منْ قال: إنَّ الله تعالى متحيِّزٌ، أو قالَ ليس بمتحيِّزٍ، إنْ أرادَ بقولهِ متحيِّزٌ أنَّ المخلوقاتِ تحوزهُ وتحيطُ بهِ، وليسَ هو بقدرتهِ يحملُ العرشَ وحملتهُ، وليسَ هو العليٌّ الأعلى الكبيرُ العظيمُ الذي لا تدركهُ الأبصارُ وهوَ يدركُ الأبصارَ، فقدْ أخطأَ. وإنْ أرادَ بهِ أنه منحازٌ عَنِ المخلوقاتِ مباينٌ لها عالٍ عليهَا فوق سمواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، فقدْ أصابَ. ومنْ قالَ: ليس بمتحيِّزٍ؛ إنْ أرادَ المخلوقاتُ لا تحوزهُ فقدْ أصابَ. وإنْ أرادَ ليسَ ببائنٍ عنهَا بلْ هوَ لا داخلٌ فيها ولا خارجٌ عنها فقدْ أخطأ.

ومنْ قالَ بنفي المكانِ عَنِ الله عز وجل، فقد يُراد بالمكانِ ما يحوي الشيءَ ويحيطُ به، وقد يرادُ بهِ ما يستقرُّ الشَّيءُ عليه بحيثُ يكونُ محتاجًا إليهِ، وقدْ يرادُ بهِ ما كانَ الشيءُ فوقَهُ وإن لم يكنْ محتاجًا إليهِ، وقدْ يرادُ بهِ ما فوق العالم وإن لم يكن شيئًا موجودًا.

فإنْ قيلَ: هو في مكانٍ بمعنى إحاطة غيرهِ بهِ وافتقارهُ إلى غيرهِ؛ فالله منزَّهٌ عَنِ الحاجةِ إلى الغيرِ وإحاطةِ الغيرِ بهِ ونحو ذلكَ.

وإنْ أريدَ بالمكانِ ما فوق العالمِ وما هو الرَّبُّ فوقهُ.

ص: 186

قيلَ: إذا لم يكنْ إلَّا خالقٌ أو مخلوقٌ، والخالقُ بائنٌ مِنَ المخلوقِ، كانَ هو الظاهرُ الذي ليسَ فوقهُ شيءٌ.

وإذا قالَ القائلُ: هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ فهذا المعنى حقٌّ سواء سمَّيتَ ذلكَ مكانًا أوْ لمْ تسمِّه.

وإذا عُرف المقصودُ فمذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ واتَّفقَ عليه سلفُ الأمَّةِ، وهو القول المطابقُ لصحيحِ المنقولِ وصريحِ المعقول (1).

قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: «وحقيقةُ الأمرِ في المعنى أنْ يُنظرَ إلى المقصودِ، فَمَنِ اعتقدَ أنَّ المكانَ لا يكونُ إلَّا ما يفتقرُ إليهِ المتمكنُ، سواءُ كانَ محيطًا به، أو كانَ تحتهُ، فمعلومٌ أنَّ الله سبحانه ليسَ في مكانٍ بهذا الاعتبارِ، ومَنِ اعتقدَ أنَّ العرشَ هو المكانُ، وأنَّ الله فوقهُ، مع غناه عنهُ، فلا ريبَ أنَّهُ في مكانٍ بهذا الاعتبارِ.

فممَّا يجبُ نفيهُ بلا ريبٍ افتقارُ الله تعالى إلى ما سواه، فإنَّهُ سبحانهُ غنيٌّ عنْ ما سواهُ، وكلُّ شيءٍ فقيرٌ إليهِ، فلا يجوزُ أن يُوصفَ بصفةٍ تتضمَّنُ افتقارَهُ إلى ما سواه» (2).

ثمَّ نقولُ: لا نسلِّمُ كونَ الباري على عرشهِ فوقَ السَّماواتِ يلزمُ منهُ أنَّهُ في حيِّزٍ وجهةٍ، لأنَّ العرشَ سقفُ جميعِ المخلوقاتِ، فما فوقهُ لا يسمَّى جهةً، وما دونَ العرشِ يقالُ فيهِ حيِّزٌ وجهاتٌ، وما فوقهُ فليسَ هوَ كذلكَ، والله فَوْقَ عَرْشِهِ كما أجمعَ عليهِ الصَّدرُ الأوَّلُ ونقلهُ عنهم الأئمَّةُ.

ولو سلَّمنا أنَّه يلزمُ منْ إثباتِ العلوِّ إثباتُ الجهةِ، فلازمُ الحقِّ حقٌّ، فما استلزمهُ صريحُ الآياتِ والأحاديثِ فهوَ حقٌّ بلا خلافٍ عندَ أهلِ السنَّةِ.

(1) منهاج السنة (2/ 144 - 145).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 249).

ص: 187