المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة الرابعةقال الرازي: العالم كرة…فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر - الكلمات الحسان في بيان علو الرحمن

[عبد الهادي بن حسن وهبي]

فهرس الكتاب

- ‌المُقَدِِّّمَةُ

- ‌أَدِلَّةُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى العَرْشِ

- ‌التَّصريحُ بالفوقيَّةِ مقرونًا بأداة «مِنْ» المعيِّنةِ للفوقيَّةِ بالذَّاتِ

- ‌ذِكْرُها مُجَرَّدَةً عَنِ الأداةِ

- ‌التَّصريحُ بالعروجِ إليهِ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ بالصُّعودِ إليهِ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ برفعهِ بعضَ المخلوقاتِ إليهِ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ بالعلوِّ المطلقِ الدَّالِّ على جميعِ مراتبِ العلوِّ، ذاتًا وقَدْرًا وقَهْرًا

- ‌التَّصريحُ بتنزيلِ الكتابِ منهُ سبحانه وتعالى

- ‌التَّصْرِيحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنَّهَا عندهُ، وأنَّ بعضَها أقربُ إليهِ منْ بعضٍ

- ‌التَّصريحُ بأنَّهُ تعالى في السَّماءِ

- ‌شهادَتُهُ صلى الله عليه وسلم التي هيَ أصدقُ شهادةٍ عند اللهِ وملائكتِهِ وجميعِ المؤمنينَ لمنْ قالَ: «إنَّ ربَّهُ في السَّماءِ» بالإيمانِ

- ‌الإشارةُ إليه سبحانه وتعالى حسًّا إلى العلوِّ

- ‌التَّصرِيحُ برَفْعِ الأيدي والأبصارِ إليه سبحانه وتعالى

- ‌النُّصوصُ الدَّالةُ على رؤيةِ أهلِ الجنَّةِ لهُ تعالى مِنَ الكتابِ والسنَّةِ

- ‌التصريحُ بنزوله سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدنيا

- ‌إخبارُهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه تردَّد بينَ موسى عليه السلام وبينَ ربِّه ليلةَ المعراجِ بسببِ الصَّلاةِ

- ‌النُّصوصُ الواردةُ فِي ذكرِ العرشِ وصفتهِ وإضافتهِ غالبًا إِلَى خالقهِ تبارك وتعالى وأنَّه تَعَالَى فوقهُ

- ‌إخبارهُ تعالى عنْ فرعونَ أنَّهُ رامَ الصُّعودَ إلى السَّمَاء ليطِّلع إلى إله موسى، فيكذِّبهُ فيما أخبرهُ منْ أنَّهُ سبحانهُ فوقَ السَّماوات

- ‌تنزيهُ اللهِ سبحانه وتعالى نفسَهُ عن موجبِ النُّقصانِ، وعمَّا يوجبُ التمثيلَ والتشبيهَ

- ‌مِنَ البراهين الدَّالَّةِ على علوِّ الله على خلقهِ واستوائهِ على عرشهِ الدليلُ العظيمُ والبرهانُ القاطعُ

- ‌أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي العُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ

- ‌1 - حُمَيدُ بنُ ثوَرٍ

- ‌2 - ابنُ عَبّاسٍ

- ‌3 - زينبُ بنتُ جَحْشٍ

- ‌4 - ابنُ مَسْعُودٍ

- ‌5 - عَائِشَةُ

- ‌6 - أَبو ذَرٍّ

- ‌7 - ابنُ عُمَرَ

- ‌8 - مَسروقٌ

- ‌9 - أيوبُ السُّخْتِيَانِيُّ

- ‌10 - سليمان التِّيميُّ

- ‌11 - مقاتلُ بنُ حِيَّانَ (قبل150ه

- ‌12 - الأَوزاعيُّ (157ه

- ‌13 - سفيانُ الثوريُّ عالمُ زمانهِ (161ه

- ‌14 - مالك إمام دار الهجرة (179ه

- ‌15 - حمَّادُ بنُ زيدٍ البصريّ (179ه

- ‌16 - عبدُ الله بنُ المباركِ، شيخُ الإسلامِ (181ه

- ‌17 - جرير الضبيُّ، محدِّث الري (188ه

- ‌18 - عبدُ الرحمنِ بنُ مهدي (198ه

- ‌19 - أبو معاذ البلخي الفقيه (199ه

- ‌20 - منصورُ بن عمار (200ه

- ‌21 - الإمامُ الشافعيُّ (204ه

- ‌22 - يزيدُ بنُ هارونَ الواسطيُّ (206ه

- ‌23 - سعيدُ بن عامر الضبعيُّ عالِمُ البصرة (208ه

- ‌24 - عبدُ الله بن أبي جعفر الرازيُّ

- ‌25 - القعنبيُّ (221ه

- ‌26 - عاصمُ بن علي شيخ البخاري (221ه

- ‌27 - هشام بن عبيد الله الرَّازيُّ (221ه

- ‌28 - بِشْر الحافي، زاهدُ العصرِ (227ه

- ‌29 - محمدُ بن مصعب العابدُ: شيخُ بغداد (228ه

- ‌30 - نُعَيمُ بن حمَّاد الخزاعيُّ الحافظ (228ه

- ‌31 - أبو عبد الله بن الأعرابي، لغوي زمانه (231ه

- ‌32 - أبو معمر القطيعي (236ه

- ‌33 - إسحاق بن راهويه عالم خراسان (238ه

- ‌34 - قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ: شيخُ خراسانَ (240ه

- ‌35 - أحمدُ بن حنبل شيخُ الإسلام (241ه

- ‌36 - الإمام الربانيُّ محمدُ بن أسلم الطوسيُّ (242ه

- ‌37 - الحارثُ بن أسد المحاسبيُّ (243ه

- ‌39 - خَشَيْشُ بن أصرم (253ه

- ‌41 - إسماعيل بن يحيى المزنيُّ (264ه

- ‌42 - أبو زُرعة الرازيُّ (264ه

- ‌43 - أبو حَاتِمٍ الرازيُّ (277ه

- ‌44 - حَرْب الكَرْمَانِيُّ (280ه

- ‌45 - ابنُ قُتَيْبَةَ (276ه

- ‌46 - أبو عيسى الترمذيُّ (279ه

- ‌47 - عثمانُ بنُ سعيد الدّارِمِيُّ الحافظُ (280ه

- ‌48 - ثَعْلَب إمامُ العربية (291ه

- ‌49 - أبو مُسْلِمٍ الكجيُّ الحافظُ (292ه

- ‌50 - عَمْرُو بنُ عثمانَ المكيُّ (297ه

- ‌51 - ابنُ أبي شَيْبَةَ (297ه

- ‌52 - زكريا السَّاجيُّ (307ه

- ‌53 - محمدُ بن جرير الطبريُّ (310ه

- ‌54 - ابنُ الأخرم (311ه

- ‌55 - إمام الأئمة ابنُ خُزَيْمَةَ (311ه

- ‌56 - نِفْطَوَيْه شيخُ العربية (323ه

- ‌57 - أبو الحسن الأشعريُّ (324ه

- ‌58 - البَرْبَهَارِيُّ (329ه

- ‌59 - الوزير عليُّ بنُ عيسى (334ه

- ‌60 - العلَّامة أبو بكر الضِّبْعِيُّ (342ه

- ‌61 - ابنُ شعبان (355ه

- ‌62 - الإمام أبو بكر الآجُرِّيُّ (360ه

- ‌63 - الحافظُ أبو الشيخ (369ه

- ‌64 - العلاّمة أبو بكر الإسماعيليُّ (371ه

- ‌65 - أبو الحسن بنُ مهدي المتكلِّمُ (380ه

- ‌66 - ابنُ بطَّة (387ه

- ‌67 - ابنُ أبي زيدٍ (386ه

- ‌68 - ابنُ مَنْدَه (395ه

- ‌69 - ابنُ أبي زمْنِين (399ه

- ‌70 - القَصّابُ (400ه

- ‌71 - ابنُ الباقلانيُّ (403ه

- ‌72 - ابنُ موهب (406ه

- ‌73 - مَعْمَرُ بنُ زيادٍ (418ه

- ‌74 - أبو القاسم اللَالكَائِيُّ (418ه

- ‌75 - السُّلطانُ (421ه

- ‌76 - يحيى بنُ عمَّارٍ (422ه

- ‌77 - القادرُ بالله أميرُ المؤمنين (422ه

- ‌78 - أبو عمر الطلمنكيُّ (429ه

- ‌79 - أبو نُعيم الأصبهانيُّ (430ه

- ‌80 - عبدُ الله بن يوسف الجوينيُّ (438ه

- ‌81 - أبو عَمْرٍو الدّانِيُّ (440ه

- ‌82 - عليُّ بنُ عمر الحربيُّ (442ه

- ‌83 - أبو عثمانَ الصابونيُّ (449ه

- ‌84 - أبو نَصْرٍ السجزيُّ (444ه

- ‌85 - القاضي أبو يعلى (458ه

- ‌86 - البيهقيُّ (458ه

- ‌87 - ابنُ عبد البر (463ه

- ‌89 - سعدٌ الزنجانيُّ (471ه

- ‌90 - إمامُ الحرمَيْنِ (478ه

- ‌91 - شيخُ الإسلام الهرويُّ (481ه

- ‌93 - الفقيهُ نَصْر المقدسيُّ (490ه

- ‌94 - ابن الحدَّاد (517ه

- ‌95 - أبو الحسن بنُ الزاغونيِّ (527ه

- ‌96 - الحسنُ الكرجيُّ (532ه

- ‌98 - عديُّ بنُ مسافر الأمويُّ الهكاريُّ (555ه

- ‌99 - العلامةُ يحيى بنُ أبي الخير العمرانُّي (558ه

- ‌100 - الشيخُ عبدُ القادر (562ه

- ‌101 - ابنُ رشد المالكيُّ (595ه

- ‌102 - المقدسيُّ (600ه

- ‌103 - القرطبيُّ (677ه

- ‌105 - العلاّمةُ الشَّوكانِيُّ (1255ه

- ‌الدَّلِيلُ مِنَ الفِطْرَةِ

- ‌هل نَجْزِمُ بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ على العَرْشِ، أو نُفَوِّضُ

- ‌شُبُهَاتٌ والرَّدُّ عَلَيْهَا

- ‌الشُّبْهَةُ الأولىيستلزمُ منْ إثباتِ الفوقيَّةِ لله تعالى أنْ يكونَ في مكانٍ وحيِّزٍ وجهةٍ

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُلو كانَ الخالقُ فوقَ العرشِ لكانَ حاملُ العرشِ حاملًا لمنْ فوقَ العرشِ فيلزمْ احتياجُ الخالقِ إلى المخلوقِ

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُلَوْ كانَ اللهُ فِي السَّمَاءِ لكانَ محصورًا

- ‌الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُقال الرازيُّ: العالمُ كُرَةٌ…فلو كانَ الله في جهةِ فوق لكانَ أسفلَ بالنِّسبةِ إلى سكَّانِ الوجهِ الآخر

- ‌الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُلو كانَ مَوْصُوفًا بالعُلُوِّ لكانَ جسمًا، ولو كانَ جسمًا لكان مماثلًا لِسَائِرِ الأَجْسَامِ، واللهُ قد نَفَى عنه المِثْلَ

- ‌الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُلو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ

- ‌الشُّبْهَةُ الحَادِيَةُ عَشْرَةَلوْ كانَ تعالى فوقَ العرشِ لما صحَّ القولُ بأنَّهُ تعالى قريبٌ منْ عبادهِ

- ‌الردُّ على منِ ادَّعى المجازَ بالفوقيَّةِ بفوقيَّةِ القَدْرِ والرُّتْبَةِ

- ‌الرَّدُّ عَلى مَنْ تَأَوَّلَ الاسْتِوَاءَ بالاسْتِيلاءِ

- ‌الرَدُّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ نُزُولَ الله عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الحَقِّ

- ‌الشُّبهاتُ الواردةُ على صفَّةِ النزولِ

- ‌أَسْئِلَةٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ

- ‌السؤالُ الأوَّلُ:هل نقولُ ينزلُ بذاتهِ

- ‌السؤال الثاني:كيفَ نجمعُ بينَ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تفتحُ أبوابُ السّمَاءِ نصفَ الليلِ، فينادي منادٍ: هلْ منْ داعٍ فيستجابُ لهُ؟ هلْ منْ سائلٍ فيُعطى؟ هلْ منْ مكروبٍ فيفرَّج عنهُ؟ فلا يبقى مسلمٌ يدعو بدعوةٍ إلَّا استجابَ اللهُ تعالى لهُ

- ‌السؤالُ الثالثُ:كيفَ نجمعُ بين علوِّ الله على العرشِ ونزولهِ إلى السَّماءِ الدُّنيا

- ‌السؤالُ الرابعُ:ما يستفادُ مِنْ حديثِ النزولِ

- ‌أَسْئِلَةٌ وأَجْوِبَتُهَا

- ‌السؤالُ الرابعُما معنى قول السَّلفِ: أمِرُّوهَا كما جاءتْ بلا كيفٍ

- ‌السؤالُ الخامسُكيف استوى على العرش

- ‌السؤالُ السادسُهل مذهبُ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبُ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ

- ‌السؤالُ الثامنُهل آياتُ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه

- ‌كَلَامٌ نَفِيسٌ لِشَيْخِ الإِسْلَامِ في العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ

- ‌أَثَرُ الإِيْمَانِ بِعُلُوِّ الرَّحْمَنِ

- ‌الخَاتِمَةُ

الفصل: ‌الشبهة الرابعةقال الرازي: العالم كرة…فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر

فكيفَ يُتوهَّمُ بعدَ هذا أنَّ خلقًا يحصرهُ ويحويهِ؟! وقدْ قالَ سبحانهُ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، أي «على جذوعِ النَّخلِ» {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 137]، بمعنى «على الأرضِ» ونحو ذلكَ، وهوَ كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مجازًا وهذا يعلمهُ منْ عرفَ حقائقَ معاني الحروفِ، وأنَّها متواطئةٌ في الغالبِ لا مشتركةٌ (1).

‌الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ

قال الرازيُّ: العالمُ كُرَةٌ

فلو كانَ الله في جهةِ فوق لكانَ أسفلَ بالنِّسبةِ إلى سكَّانِ الوجهِ الآخر

.

وهذا الكلامُ «إذا تدبَّرهُ العاقلُ تبيَّن لهُ أنَّ القومَ يقولونَ على الله ما لا يعلمونَ ويقولونَ على الله غيرَ الحقِّ» (2).

وهذه الشُّبهةُ وأمثالها «مِنَ الخيالاتِ والأوهامِ الباطلةِ، التي تُعَارَضُ بها فطرةَ الله التي فطرَ النَّاسَ عليها، والعلومَ الضروريَّةَ، والقصودَ الضروريَّةَ، والعلومَ البرهانيةَ القياسيَّةَ، والكتبَ الإلهيَّةَ، والسننَ النبويَّةَ، وإجماعَ أهلِ العلمِ والإيمانِ منْ سائرِ البرية» (3).

(1) الرسالة التدمريّة (ص85 - 89) تحقيق: محمود عودة السعودي، وانظر: مجموع الفتاوى (5/ 106) و (16/ 100 - 101)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 16)، والجواب الصحيح (4/ 316 - 317).

(2)

الفتاوى الكبرى (6/ 555).

(3)

درء تعارض العقل والنقل (7/ 21).

ص: 196

والجوابُ عَنِ الشُّبهة المذكورةِ منْ وجهين:

أحدُها:

أنْ يقالَ: القائلونَ بأنَّ العالمَ كرةٌ يقولونَ: إنَّ السَّماءَ عاليةٌ على الأرضِ منْ جميعِ الجهاتِ، والأرضُ تحتها منْ جميعِ الجهاتِ، والجهاتُ قسمان: حقيقيَّةٌ ولها جهتان: العلوُّ والسُّفلُ فقط، فالأفلاكُ وما فوقهَا هو العالي مطلقًا، وما في جوفهَا هوَ السَّافلُ مطلقًا، وإضافية: وهي الجهاتُ الست بالنِّسبةِ للحيوانِ، فما أمامهُ يقالُ لهُ أمامٌ، وما خلفهُ يقالُ له خلفٌ، وما عنْ يمينهِ يقالُ لهُ اليمينُ، وما عنْ يسارهِ يقالُ لهُ اليسارُ، وما فوقَ رأسهِ يقالُ لهُ فوقُ، وما تحتَ قدميهِ يقالُ لهُ تحتُ.

أرأيتَ لوْ أنَّ رجلًا علَّقَ رجليهِ إلى السَّماءِ ورأسهُ إلى الأرضِ أليستِ السماءُ فوقَهُ وإنْ قابلهَا برجليهِ؟! (1).

وإذا كانَ كذلكَ، فالملائكةُ الذينَ في السَّماءِ، هم باعتبارِ الحقيقةِ كلُّهم فوقَ الأرضِ، وليسَ بعضهمْ تحتَ شيءٍ مِنَ الأرضِ، وكذلكَ السَّحابُ وطيرُ الهواءِ، هوَ منْ جميعِ الجوانبِ فوقَ الأرضِ وتحتَ السَّماءِ، ليسَ شيءٌ منهُ تحتَ الأرضِ. وكذلكَ ما على ظهرِ الأرضِ مِنَ الجبالِ والنَّباتِ والحيوانِ والأناسيِّ وغيرهم، همْ منْ جميعِ جوانبِ الأرضِ فوقَها، وهمْ تحتَ السَّماءِ، وليسَ أهلُ هذهِ النَّاحيةِ تحتَ أهلِ هذهِ الناحيَّةِ، ولا أحدٌ منهم تحتَ الأرضِ ولا فوقَ السَّماءِ البتةَ.

وإذا كانتْ هذهِ المخلوقاتُ لا يلزمُ منْ علوِّها على ما تحتَها أنْ تكونَ تحتَ ما في الجانبِ الآخرِ مِنَ العالمِ، فالعليُّ الأعلى سبحانه أولى أنْ لا يلزم منْ علوِّه على العالمِ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ منهُ.

(1) انظر: مجموع الفتاوى (25/ 196 - 197).

ص: 197

وكانَ مَنِ احتجَّ بمثلِ هذهِ الحجَّةِ إنَّما احتجَّ بالخيالِ الباطلِ الذي لا حقيقةَ لهُ، مَعَ دعواهُ أنَّهُ مِنَ البراهينِ العقليةِ، فإنْ كانَ يتصوَّرُ حقيقةَ الأمرِ فهوَ معاندٌ جاحدٌ محتجٌّ بما يعلمُ أنَّهُ باطلٌ، وإنْ كانَ لمْ يتصوَّر حقيقةَ الأمرِ، فهوَ منْ أجهلِ النَّاسِ بهذهِ الأمورِ العقليةِ، التي هيَ موافقةٌ لما أخبرتْ بهِ الرُّسلُ، وهو يزعمُ أنَّها تناقضُ الأدلَّةَ السمعيةَ، فهوَ كمَا قيلَ:

فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ

وإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيْبَةُ أَعْظَمُ (1)

ومِنَ العجبَ أنَّ هؤلاءِ النُّفاةِ يعتمدونَ في إبطالِ كتابِ الله، وسنَّةِ أنبيائهِ ورسلهِ، وما اتَّفقَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، وما فطرَ الله عليهِ عبادَهُ، وجعلهم مضطرينَ إليهِ عندَ قصدهِ ودعائهِ، ونصب عليه البراهينَ العقليَّةَ الضروريَّةَ، على مثلِ هذه الحجَّةِ التي لا يعتمدونَ فيها إلَّا على مجرَّدِ خيالٍ ووهمٍ باطلٍ، مَعَ دعواهم أنهَّم هم الذينَ يقولونَ بموجبِ العقلِ، ويدفعونَ موجبَ الوهمِ والخيالِ (2).

الوجهُ الثاني:

أنْ يقالَ: أنَّهُ سبحانه وتعالى محيطٌ بكلِّ شيء، وفوقَ كلِّ شيءٍ.

قالَ سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ *} [البروج: 20] وقال عز وجل: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]. وقال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].

(1) درء تعارض العقل والنقل (6/ 329).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 332).

ص: 198

وليس المرادُ مِنْ إحاطتهِ بخلقهِ أنَّ المخلوقاتِ داخلَ ذاتهِ المقدَّسةِ، تعالى اللهُ عنْ ذلكَ علوًّا كبيرًا؛ فإنَّه العظيمُ الذي لا أعظمَ منهُ. ألا ترى أنَّ السماءَ لمَّا كانتْ «محيطةً بالأرضِ كانتْ عاليةً عليها، ولا يستلزمُ ذلكَ ممَّا هوَ محيطٌ بهِ، مماثلتهُ ومشابهتهُ لهُ، فإذا كانتِ السَّماءُ محيطةً بالأرضِ، وليستْ مماثلةً لهَا فالتَّفاوتُ الذي بين العالمِ وربُّ العالمِ أعظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ الأرضِ والسَّماءِ» (1).

ويجبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ العالمَ العلويَّ والسفليَّ بالنِّسبةِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى في غايةِ الصِّغَرِ.

قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].

وقدْ ثبتَ في الصحيحين (2) منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذهِ الآيةَ، لمَّا ذكرَ لهُ بعضُ اليهودِ أنَّ الله يحملُ السَّمواتِ على أصبعٍ، والأرضينَ على أصبعٍ، والجبالَ على أصبعٍ، والشَّجرَ والثرى على أصبعٍ، وسائرَ الخلقِ على أصبعٍ؛ فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصديقًا لقولِ الحبر (3)، وقرأ هذهِ الآية.

وهذا يقتضي أنَّ عظمتهُ أعظمُ ممَّا وصفَ ذلكَ الحبرُ، فإنَّ الذي في الآيةِ أبلغُ (4).

قال الشيخ علي بن إبراهيم بن مشيقح رحمه الله:

(1) الصواعق المرسلة (ص1308).

(2)

رواه البخاري (4811 و7414 و7415 و7451 و7513)، ومسلم (2786).

(3)

وما ذهب إليه بعض المتكلمين: أنَّ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتعجبه، وتلاوته الآية ليس تصديقًا لقول الحبر؛ بل هو ردٌّ عليه، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده أنَّ مذهب اليهود التجسيم. وأنَّه فهم منه ذلك. وهذا القول، يأباه النظم السني، ويخالفه واضح هذا الكلام.

(4)

مجموع الفتاوى (13/ 162).

ص: 199

وَفِي الصَّحيحَيْنِ أَيْضًا إقْرَارُ نَبِيِّنَا

مُصَدِّقًا لِقَوْل الْحَبْرِ وَالنَّبيُّ يَسْمَعُ

يَجْعَلُ اللهُ السَّمَوَاتِ على أَصْبُعٍ

واْلأَرضِيْنَ على أصبُعٍ والمَاء يَحمله أصْبُعُ

والشَّجر على أصْبُعَ وَالثَّرىَ عَلَى أَصْبُعٍ

وَسَائر الْخَلْقِ تَحْمِلْهَا أَصْبُعُ

ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ عز وجل قَائِلًا

أَنَا الْمَلِكُ يُكَرِّرُهَا فَبالْحَقِّ فَاقْنَعُوْا

قَالوُا ضِحْكُ النَّبِيِّ مِنْهُ تَعَجُّبًا

وَلَيْسَ تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ قلنا لَهُمُ اسْمَعُوْا

هَلْ يُقِرُّه المُصْطَفَى عَلَى مَقَالٍ مُخَالِفٍ

هذَا مُحالٌ حَيْثُ الإِقْرارُ مِنْهُ سُنَّةٌ تُتْبَعُ

بَلْ أَيَّد قَوْلَ الْحَبْرِ مُصَدِّقًا لِمَقَالِه

بِتِلاوَةِ آيَةٍ تُطابِقُ قَوْلَ الحبْرِ تَصْدَعُ

فهذِه أَدِلَّةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةٍ

عَلَى مُرَادِ ظَاهِرِ لَفْظِهَا دَلَالَةً تَقْطَعُ

بِلَا تَشْبيهٍ لَهَا قَطْعًا وَلَا نُكَيِّفُهَا

بَلْنَنْتَهِي حَيْثُ انْتَهَى الْوَحْيَان بِنَا وَنَقْنَعُ (1)

فقد تبيَّنَ بهذا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما بالنسبةِ إلى عظمةِ الله تعالى أصغرُ منْ أنْ تكونَ مع قبضهِ لها إلَّا كالشيءِ الصغيرِ في يدِ أحدنَا، حتَّى يدحوها كما تُدحى الكرة (2).

والمقصودُ أنَّه إذا كانَ اللهُ أعظمَ وأكبرَ وأجلَّ منْ أن يُقدِّرَ العبادُ قدرهُ، أو تدركهُ أبصارهمْ، أو يحيطونَ به علمًا، وأمكنَ أن تكونَ السماواتُ والأرضُ في قبضتهِ لم يجبْ - والحالُ هذهِ - أنْ يكونَ تحتَ العالمِ، أو تحتَ شيءٍ منهُ، فإنَّ الواحدَ مِنَ الآدميينَ إذا قبضَ قبضةً أو بندقةً أو حمصةً أو حبَّةَ خردلٍ، وأحاطَ بها، لم يجزْ أنْ يُقالَ: إنَّ أحدَ جانبيها فوقهُ.

(1) العقيدة الجامعة الكافية (1/ 42).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 562).

ص: 200

وكذلكَ أمثالُ ذلكَ منْ إحاطةِ المخلوقِ ببعضِ المخلوقاتِ، كإحاطةِ الإنسانِ بما في جوفهِ، وإحاطةِ البيتِ بما فيهِ، وإحاطةِ السَّماءِ بما فيهَا مِنَ الشَّمسِ والقمرِ والكواكبِ، فإذا كانتْ هذهِ المحيطاتُ لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها تحتَ المحاطِ، وأنَّ ذلك نقصٌ، مَعَ كونِ المحيطِ يحيطُ بهِ غيرُهُ، فالعليُّ الأعلى المحيطُ بكلِّ شيءٍ، الذي تكونُ الأرضُ جميعًا قبضتهُ يومَ القيامةِ والسَّماواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، كيفَ يجبُ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ ممَّا هوَ عالٍ عليهِ أو محيطٌ بهِ، ويكونُ ذلكَ نقصًا ممتنعًا؟!

وقدْ ذكرَ أنَّ بعضَ المشايخِ سُئِلَ عنْ تقريبِ ذَلِكَ إِلَى العقلِ، فقالَ للسَّائلِ: إِذَا كَانَ باشقٌ كبيرٌ، وقدْ أمسكَ برجلهِ حمصةً أليسَ يكونُ ممسكًا لها فِي حالِ طيرانهِ، وَهُوَ فوقهَا ومحيطٌ بِهَا؟ فإذا كانَ مثلُ هذا ممكنًا في المخلوقِ، فكيفَ يتعذَّرُ في الخالقِ؟! (1).

فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ «أنَّ ما يدَّعونهُ مِنَ العقلياتِ المخالفةِ للنُّصوصِ لا حقيقةَ لهَا عندَ الاعتبارِ الصَّحيحِ، وإنَّما هي منْ بابِ القعقعةِ بالشنانِ لمن يفزعهُ ذلكَ مِنَ الصبيانِ ومنْ هوَ شبيهٌ بالصبيانِ وإذا أُعْطيَ النَّظرُ في المعقولاتِ حقَّهُ مِنَ التَّمامِ، وجدهَا براهينَ ناطقةً بصدقِ ما أخبرَ بهِ الرَّسولُ، وأنَّ لوازمَ ما أخبرَ بهِ لازمٌ صحيحٌ، وأنَّ منْ نفاهُ نفاهُ لجهلهِ بحقيقةِ الأمرِ» (2).

(1) راجع: درء تعارض العقل والنقل (6/ 327 - 329)، ومجموع الفتاوى (6/ 564) و (6/ 581 - 583).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (4/ 181).

ص: 201