الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشُّبهاتُ الواردةُ على صفَّةِ النزولِ
قبلَ البدءِ بذكرِ الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ النزولِ والردِّ عليها أذكرُ كلامًا نفيسًا يزيلُ كثيرًا منَ الشُّبهاتِ في هذا البابِ وغيرهِ.
اعلمْ رحمكَ اللهُ بأنَّ صفاتِ الله لا يتوهَّمُ فيها شيءٌ منْ خصائصِ المخلوقينَ لا في لفظهَا ولا في ثبوتِ معناهَا. فإثباتهَا للرَّبِّ تعالى لا محذورَ فيهِ بوجهٍ، بلْ تثبتُ لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، ولا يشابههم، فمنْ نفاها عنهُ لإطلاقهَا على المخلوقِ ألحدَ في أسمائهِ، وجحدَ صفاتِ كمالهِ. ومنْ أثبتهَا على وجهٍ يماثلُ فيها خلقهُ فقدْ شبَّههُ بخلقهِ، ومنْ شبَّهَ الله بخلقهِ فقدْ كفرَ، ومنْ أثبتهَا لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، بلْ كما يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ فقد برىءَ من فرثِ التَّشبيهِ ودمِ التَّعطيلِ، وهذا طريقُ أهلِ السنَّةِ.
فما لزمَ الصفَّة لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيهُ عَنِ الله كما يلزمُ حياةُ العبدِ منَ النَّومِ والسِّنةِ والحاجةِ إلى الغذاءِ والمرضِ والموتِ، وكذلكَ علمهُ محفوفٌ بنقصينِ: جهلٌ سابقٌ، ونسيانٌ لاحقٌ؛ وكذلكَ ما يلزمُ إرادتهُ عنْ حركةِ نفسهِ في جلبِ ما ينتفعُ بهِ ودفعِ ما يتضررُ بهِ، وكذلكَ ما يلزمُ علوُّهُ من احتياجهِ إلى ما هو عالٍ عليهِ وكونهِ محمولًا بهِ مفتقرًا إليهِ محاطًا بهِ، كلُّ هذا يجبُ نفيهُ عنِ القدُّوسِ السَّلامِ تبارك وتعالى.
فإذا أحطتَ بهذهِ القاعدةِ خبرًا وعقلتهَا كما ينبغي خلصتَ مِنَ الآفتينِ اللتينِ هما أصلُ بلاءِ المتكلِّمينَ، آفةُ التَّعطيلِ وآفةُ التَّشبيهِ، فإنَّكَ إذا وفَّيتَ هذا المقامَ حقَّهُ أثبتَ لله الأسماءَ الحسنى والصفِّاتِ العلى حقيقةً، فخلصتَ مِنَ التَّعطيلِ ونفيتَ عنهَا خصائصَ المخلوقينَ ومشابهتهم فخلصتَ مِنَ التَّشبيهِ.
فعليكَ بمراعاةِ هذا الأصلِ والاعتصامِ بهِ، واجعلهُ جُنَّتَكَ التي ترجعُ إليهَا في كلِّ ما يطلقُ على الرَّبِّ تعالى وعلى العبدِ (1).
وبعدَ هذا الكلامِ النَّفيسِ نذكرُ شبهاتِ القومِ ونأتي عليهَا مِنَ القواعدِ بإذنِ العليِّ الأعلى الكبيرِ المتعالِ سبحانه وتعالى.
الشُّبهةُ الأولى
الليلُ ينتقلُ منْ مكانٍ إلى آخرَ فثلثُ الليلِ مثلًا في الشَّرقِ ينتقلُ حتَّى يكونَ في الغربِ، ويختلفُ الزمنُ فكيفَ نوفِّقُ بينَ هذا وبينَ تقييدِ نزولِ الله عز وجل بثلثِ الليلِ؟
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: ومعلومٌ بالضَّرورةِ منْ دينِ الإسلامِ قبحُ هذا الاعتراضِ، وأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ الرَّاشدينَ لَوْ سمعوا مَنْ يعترضُ بهِ لما ناظروهُ، بلْ بادروا إلى عقوبتهِ وإلحاقهِ بزمرةِ المخالفينَ المنافقينَ المكذِّبينَ (2).
وقال شيخُ الإسلام?: وهذا إنما قالوهُ لتخيلهم من نزولهِ ما يتخيلونهُ من نزولِ أحدهم، وهذا عينُ التمثيل، ثمَّ إنهم بعدَ ذلك جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم، الذي لا يمكنهُ أن يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عن جمعهِ، وقد جاءتُ الأحاديثُ بأنَّهُ يحاسبُ خلقهُ يومَ القيامة كلٌّ منهم يراهُ مخليًا بهِ يتجلَّى ويناجيهِ، لا يرى أنهُ متخليًّا لغيرهِ ولا مخاطبًا لغيرهِ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا قَالَ العَبدُ: الحَمدُ لله رب العالمين يقولُ اللهُ: حمدنِي عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال اللهُ: أثنى عليَّ عبدي» (3).
فكلٌّ منَ الناسِ يناجيهِ، واللهُ تعالى يقولُ لكلٍّ منهم ذلكَ، ولا يشغلهُ شأنٌ عن شأنٍ (4).
(1) انظر: بدائع الفوائد (1/ 173)، وجلاء الأفهام (ص82 - 83).
(2)
فضل علم السلف عَلَى الخلف (ص23) تحقيق: الشيخ علي حسن عبد الحميد.
(3)
قطعة من حديث رواه مسلم (395).
(4)
بيان تلبيس الجهمية (4/ 55 - 56) طبعة مجمع الملك فهد.
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: والليلُ يختلفُ فيكونُ ثلثهُ بالمشرقِ قبلَ أنْ يكونَ ثلثهُ بالمغربِ، ونزولهُ الذي أخبرَ بهِ رسولهُ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، وإلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، لا يشغلهُ شأنٌ عنْ شأنٍ، وكذلكَ قربُهُ مِنَ الدَّاعي المتقرِّبِ إليهِ والسَّاجدِ لكلِّ واحدٍ بحسبهِ حيثُ كانَ وأينَ كانَ. والرَّجلانِ يسجدانِ في موضعٍ واحدٍ ولكلِّ واحدٍ قربٌ يخصُّهُ لا يشركهُ فيهِ الآخرُ.
والنُّصوصُ الواردةُ فيها الهدى والشِّفاءُ، والذي بلَّغها بلاغًا مبينًا، هو أعلمُ الخلقِ بربِّهِ وأنصحهم لخلقهِ وأحسنهم بيانًا، وأعظمُ بلاغًا، فلا يمكنُ أحدٌ أنْ يعلمَ ويقولَ مثلَ ما علمهُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقالهُ. وكلُّ منْ منَّ الله عليهِ ببصيرةٍ في قلبهِ تكونُ معهُ معرفةٌ بهذا، قالَ تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 6]. وقال في ضدِّهم: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الأنعام: 39](1).
وقال العلَّامةُ ابنُ عثيمين رحمه الله: وأوردَ المتأخرونَ الذينَ عرفوا أنَّ الأرضَ كرويةٌ وأنَّ الشمسَ تدورُ عَلَى الأرضِ إشكالًا؛ قالوا: كيفَ ينزلُ فِي ثلثِ الليلِ؟! وثلثُ الليلِ إِذَا انتقلَ عَنِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ذهبَ إلى أوروبا وما قاربها؟! أفيكونُ نازلًا دائمًا؟! (2).
(1) مجموع الفتاوى (5/ 243 - 244).
(2)
شرح العقيدة الواسطية (ص401).
فنقولُ: إنَّهُ لا إشكالَ في ذلكَ بحمدِ الله تعالى، فإنَّ هذا الحديثَ منْ صفاتِ الله تعالى الفعليةِ، والواجبُ علينا نحوَ صفاتِ الله تعالى سواءٌ كانت ذاتيةً كالوجهِ واليدينِ، أم معنويةً كالحياةِ والعلمِ، أمْ فعليةً كالاستواءِ على العرشِ والنزولِ إلى السَّماء الدُّنيا، فالواجبُ علينا نحوهَا مَا يلي:
أ - الإيمانُ بهَا على مَا جاءتْ بهِ النُّصوصُ مِنَ المعاني والحقائقِ اللائقةِ بالله تعالى.
ب - الكفُّ عنْ محاولةِ تكييفها تصوُّرًا في الذهنِ، أو تعبيرًا في النُّطقِ؛ لأنَّ ذلكَ مِنَ القولِ على الله تعالى بلا علمٍ، وقدْ حرَّمهُ الله تعالى في قولهِ:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *} [الأعراف: 33]، وفي قولهِ تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا *} [الإسراء: 36].
ولأنَّ الله تعالى أعظمُ وأجَلُّ مِنْ أنْ يدركَ المخلوقُ كنهَ صفاتهِ وكيفيتهَا، ولأنَّ الشيءَ لا يمكنُ إدراكهُ إلَّا بمشاهدتهِ أو مشاهدةِ نظيرهِ أو الخبرِ الصَّادقِ عنهُ، وكلُّ ذلكَ منتفٍ بالنِّسبةِ لكيفيةِ صفاتِ الله تعالى.
ج - الكفُّ عنْ تمثيلها بصفاتِ المخلوقينَ سواءٌ كانَ ذلكَ تصوُّرًا في الذِّهنِ أم تعبيرًا في النُّطقِ، لقولهِ تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فإذا علمتَ هذا الواجبَ نحوَ صفاتِ الله تعالى، لمْ يبقَ إشكالٌ في حديثِ النزولِ، ولا غيرهِ مِنْ صفاتِ الله تعالى، وذلكَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أمَّتهُ أنَّ الله تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ، مخاطبًا بذلكَ جميعَ أمَّتهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربهَا، وخبرهُ هذا منْ علمِ الغيبِ الذي أظهرهُ الله تعالى عليهِ، والذي أظهرهُ عليه - وهو الله تعالى - عالمٌ بتغيُّرِ الزمنِ على الأرضِ، وأنَّ ثلثَ الليلِ عندَ قومٍ يكونُ نصفَ النَّهارِ عندَ آخرينَ مثلًا.
وإذا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخاطبُ الأمَّةَ جميعًا بهذا الحديثِ الذي خصَّصَ فيهِ نزولَ الله تبارك وتعالى بثلثِ الليلِ الآخرِ فإنَّه يكونُ عامًّا لجميعِ الأمَّةِ، فمنْ كانوا في الثلثِ الآخرِ مِنَ الليلِ تحقَّقَ عندهم النزولُ الإلهيُّ، وقلنا لهم: هذا وقتُ نزولِ الله تعالى بالنِّسبةِ إليكم، ومنْ لم يكونوا في الوقتِ فليسَ ثمَّ نزولُ الله تعالى بالنِّسبةِ إليهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حدَّدَ نزولَ الله تعالى إلى السَّماء الدُّنيا بوقتٍ خاصٍّ، فمتَّى كانَ ذلكَ الوقتُ كانَ النزولُ ومتى انتهى انتهى النزولُ، وليسَ في ذلكَ أيُّ إشكالٍ، وهذا وإنْ كانَ الذِّهنُ قدْ لا يتصوَّرهُ بالنسبةِ إلى نزولِ المخلوقِ، لكن نزولَ الله تعالى ليسَ كنزولِ خلقهِ حتَّى يقاسُ به ويجعل ما كانَ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى المخلوقِ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى الخالقِ.
فمثلًا: إذا طلعَ الفجرُ بالنِّسبةِ إلينا وابتدأَ ثلثُ الليلِ بالنِّسبةِ إلى منْ كانوا غربًا قلنا: إنَّ وقتَ النزولِ الإلهيِّ بالنِّسبةِ إلينا قَدِ انتهى، وبالنِّسبةِ إلى أولئكَ قَدِ ابتدأَ، وهذا في غايةِ الإمكانِ بالنِّسبةِ إلى صفاتِ الله تعالى، فإنَّ الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](1).
وقالَ الشَّيْخُ محمَّدُ بنُ خليل الهرَّاس رحمه الله: «المعطِّلةُ يشككونَ في حديثِ النزولِ، ويقولونَ: إنَّ علمَ الهيئةِ أثبتَ أنَّ الأرضَ في دورانها حولَ الشَّمسِ (2) - وحولَ نفسهَا - تحدثُ مشارقَ ومغاربَ في كلِّ لحظةٍ، ومعنى هذا أنَّهُ في كلِّ لحظةٍ يكونُ هناكَ ثلثُ ليلٍ آخر على سطحِ الأرضِ، وهذا يقتضي أنْ يكونَ الله عز وجل صاعدًا نازلًا في كلِّ لحظةٍ، ونحنُ نقولُ لهؤلاءِ: إنَّ الخبرَ قدْ صحَّ رغمَ أنوفكمْ، وكلامكمْ هذا ليسَ طعنًا في صحَّةِ الخبرِ، ولكنَّهُ تجهيلٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وإلحادٌ في حديثهِ» (3).
(1) الجواب المختار لهداية المحتار (ص33 - 35)، للعلاّمة: ابن عثيمين رحمه الله.
(2)
الصحيح أنَّ الشمس تدور حول الأرض.
(3)
تعليقات الشيخ محمَّد خليل الهرَّاس على كتاب «التوحيد» لابن خزيمة، (ص128).
وهذا القولُ هو ما يجبُ أنْ يكونَ في نفسِ كلِّ أحدٍ، وهو أنْ لا يتشرَّبَ بدعَ المبتدعينَ وتضليلاتهم، بل يعتصمُ بالكتابِ والسنَّةِ، ويؤمنُ بما جاءَ عَنِ الله وعَنْ رسولهِ صلى الله عليه وسلم ممَّا صحَّ عنهُ، وستكونُ هذهِ الخيالاتُ والوساوسُ التي يلقونها، أوهنَ عندهُ منْ بيتِ العنكبوتِ، وإنْ لم يعرفِ الردَّ على كلامهمْ بالتَّفصيلِ، ويكونُ قائلًا بلسانِ حالهِ ومقالهِ: آمنتُ بما جاءَ عَنِ الله على مرادِ الله، وبما جاءَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مرادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجدهُ في عقلي منْ وساوسَ أرمي بهِ عرضَ الحائطِ ولا أبالي. فالله تعالى أعلمُ بنفسهِ منْ غيرهِ، ورسولهُ أعلمُ بربِّهِ ممَّا سواهُ، وأخشاهم لهُ، وأفصحهمْ وأبلغهمْ وأعظمهمْ بيانًا للمعنى الذي يريدُ أن يعلِّمهم إيَّاهُ. فإذا قلنا: كلامُهُ لا بدَّ منْ صرفهِ عنْ ظاهرهِ لكنَّا قدْ طعنَّا إمَّا في نصحهِ وحرصهِ على أمَّتهِ، وإمَّا في بيانهِ وفصاحتهِ، وإمَّا في علمهِ بربِّه، وكلٌّ منها باطلٌ وكافٍ في الطعنِ فيهِ صلى الله عليه وسلم، حاشاهُ منْ ذلكَ.
واللهُ تعالى يثبِّتنا على الحقِّ ويعصمنَا مِنَ الزيغِ والبدعِ والردِّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ نلقاهُ إنَّه هو البرُّ الرَّحيم (1).
(1) راجع: صفة النزول الإلهي (ص550).
الشبهةُ الثانيةُ
إنَّ هذا الكلامَ تلبيسٌ على العوامِ، وتمويهٌ على الجهَّالِ، وكذبٌ ظاهرٌ.
والردُّ عليهِ منْ وجوهٍ.
الوجهُ الأوَّلُ:
هذا الكلامُ يعتبرُ مصادمةٌ صريحةٌ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واعتراضٌ واضحٌ عليهِ، فإنَّهُ هو الذي قالَ:«ينزلُ ربُّنا تبارك وتعالى إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ ويقولُ: مَنْ يدعُوني فأستجيبَ لهُ، منْ يسألني فأعطيهُ، منْ يستغفرُني فأغفرَ لهُ» .
(1) أساس التقديس (ص143 - 144).
وكلُّ منْ عارضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ فهوَ منْ خلفاءِ الشَّيطانِ وأتباعِهِ فنعوذُ باللهِ مِنَ الخِذْلانِ، نسألُهُ التَّوفيقَ والعصمةَ منْ هذا البلاءِ الذي ما رُميَ العبدُ بشرٍّ منهُ، وأنْ يَلْقَى الله بذنوبِ الخلائقِ كلِّها ما خلا الإشراكَ بهِ أسلمُ لهُ منْ أنْ يلقى اللهَ وقدْ عَارَضَ نصوصَ أنبيائِهِ برأْيِهِ ورأيِ بني جنسِهِ. وهلْ طردَ الله تعالى إبليسَ ولعنهُ وأحلَّ عليه سخطَهُ وغضبَهُ إلَّا حيثُ عَارضَ النَّصَّ بالرأيِ والقياسِ ثمَّ قدَّمهُ عليهِ؟ واللهُ يعلمُ أن شُبَهَ عدوِّ الله مَعَ كونها داحضةً باطلةً أقوى منْ كثيرٍ منْ شُبَهِ المعارضينَ لنصوصِ الأنبياءِ بآرائهم وعقولِهم، فالعالمُ يَتَدَبَّرُ سِرَّ تكريرِ الله تعالى لهذهِ القصّةِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وليحذرْ أنْ يكونَ لهُ نصيبٌ منْ هذا الرأيِ والقياسِ وهوَ لا يشعرُ (1).
الثاني:
(1) بدائع الفوائد (4/ 952)[مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى].
فيقالُ: لو كانَ ذلكَ هوَ المقصودُ لسمعناهُ، فإنَّهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ وإنَّما المقصودُ مِنَ النِّداءِ حكمٌ عظيمةٌ يعلمها اللهُ - جلَّ وعلا - ونحنُ وإنْ لمْ نسمعْ كلامَ الله تعالى هذا بآذاننا، إلَّا أنَّا آمنَّا بذلكَ حتَّى لكأنَّ القائمَ في ذلكَ الوقتِ - الثلثُ الأخيرُ - كأنَّهُ يسمعُ أنَّهُ تعالى ينادي بذلكَ النِّداءِ، وذلكَ لعلمنَا أنَّهُ صلى الله عليه وسلم لا ينطقُ عَنِ الهوى، إنْ هوَ إلَّا وحيٌ يوحى، وهذا الخبرُ قدْ تواترَ عنهُ صلى الله عليه وسلم، ومِنَ الحكمِ التي نعلمهَا منْ هذا النِّداءِ العظيمِ: هوَ إقبالُ العبدِ بكليَّتهِ على ربِّه في هذا الوقتِ، والإلحاحُ عليهِ في الدعاءِ، والشعورُ بقربهِ وفضلهِ، فيجدُ قائمُ الليلِ مِنْ حلاوةَ المناجاةِ، وطيبِ الذِّكرِ واليقينِ بإجابةِ الدُّعاءِ مَا لا يجدهُ في غيرِ هذا الوقتِ، يعلمُ ذلكَ ضرورةً قُوَّامُ الليلِ، ولذلكَ فإنَّ قُوَّامَ الليلِ يكثرونَ مِنَ الاستغفارِ والذِّكرِ والدُّعاءِ في وقتِ السَّحرِ أشدَّ ممَّا قبلهُ، لعلمهمْ أنَّ وقتَ النزولِ يمتدُّ إلى طلوعِ الفجرِ، ولذلكَ ينتظرُ عبادُ الرحمنِ تلكَ السَّاعاتِ القليلةِ بفارغِ الصبرِ.
الثالثُ:
أنَّهُ مِنْ عادةِ الملوكِ الكرماءِ، والسَّادةِ الرُّحماءِ، إذا أرادوا أنْ يكرموا أهلَ بلدٍ، أنْ يحلُّوا عليهم قريبًا منْ بلادهمْ، أو في ديارِهِمْ، ليكرموهم بما يريدونَ، ويَسْمَعُوا حاجاتِهم، ويلبُّوا رغباتِهمْ، ولوْ عرضنَا على العقلِ مَلِكَينِ أرادا أنْ يكرما أهلَ بلدٍ، أحَدهمَا جاءَ إلى أهلِ هذا البلدِ بنفسهِ وسمِعَ حاجاتهمْ، وأكرمهمْ في بلادهمْ، ولبَّى طلباتهم، والآخرُ أرسلَ أحدَ وزرائهِ أوْ أرسلَ رسالةً مَعَ أحدِ جنودهِ، بما يريدُ أنْ يكرمهم بهِ، لقطعَ العقلُ بأنَّ الأوَّلَ أكرمُ وأجَلُّ وأعظمُ في الإكرامِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ كلَّ كمالٍ في المخلوقِ لا نقصَ فيهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ فالخالقُ أولى بهِ، وواهبُ الكمالِ أحقُّ بهِ، فالرَّبُّ تعالى، ينزلُ بنفسهِ إلى أدنى سماءٍ وهي السَّماءُ الدُّنيا، وهوَ فوقَ عرشهِ، وهي أقربُ السَّمواتِ إلى قُوَّامِ الليلِ، ويقولُ:«لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري» ، فهلْ هذا إلَّا عينُ الكمالِ، مع أنَّهُ تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فمَا أجهلَ الإنسانَ بربِّهِ، وبكرمهِ، وبعظمِ فضلهِ، فللهِ الحمدُ كمَا ينبغي لجلالِ وجههِ وعظيمِ سلطانهِ.
وبهذا يعلم أنَّ قولَهُ: بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على عرشهِ، سوءُ أدبٍ مَعَ الله تعالى.
الرابعُ:
أنَّ هؤلاءِ المعطِّلةِ كلّهم أنكروا أنْ يكونَ لله تعالى كلامٌ بحرفٍ وصوتٍ! فكيفَ يمكنُ لهم أنْ يسمعوا نداءَ الله تعالى؟! وكيفَ يقرعُ صوتَ الله تعالى أسماعهم؟! لأنَّهم قائلونَ ببدعةِ الكلام النفسيِّ الذي ليس بحرفٍ ولا بصوتٍ فهم أبشعُ حالًا وأشنعُ بدعةً في بابِ تعطيلِ صفةِ الكلامِ من الجهمِيَّةِ الأولى؛ لأنَّ الجهميَّةَ الأولى كانوا يقولونَ ببدعةِ خلقِ القرآنِ فقطْ، وأمَّا هؤلاءِ المعطِّلةِ فهمْ يقولونَ مَعَ القولِ ببدعةِ خلقِ القرآنِ، ببدعةِ القولِ بالكلامِ النفسيِّ. فخرقوا بذلكَ إجماعَ أهلِ السنَّةِ، وأتوا بما لا يقرُّه عقلٌ صريحٌ، ولا نقلٌ صحيح، ولا لغةٌ، ولا عرفٌ ولا إجماعٌ.
الخامسُ:
أنَّ هؤلاءِ المعطِّلة لكثيرٍ مِنَ الصِّفاتِ ولا سيَّما صفةَ النزولِ، قد أوَّلُوا حديثَ النزولِ وحرَّفوه إلى: نزولِ الملكِ، فيقولونَ: إنَّ الله لا ينزلُ بنفسهِ، بلْ ينزلُ ملكٌ مِنَ الملائكةِ بأمرهِ، فينادي هذا الملكُ ويقولُ: «منْ يدعوني .. ، منْ يسألني
…
، منْ يستغفرني
…
».
أقولُ: إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، وأنَّ الملكَ ينزلُ وينادي فهلْ أهلُ التأويلِ سمعوا نداءَ هذا الملكِ؟!
وهل طرقَ صوتُ هذا الملكِ الذي ينزلُ وينادي أسماعَهم؟!
وإذا لم يسمعوا نداءَ هذا الملكِ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولِ هذا الملكِ وندائهِ؟!
ونحنُ نقلبُ كلامهم عليهم ونقولُ لهم: وإذا كانَ نزولُ هذا الملكِ مِنَ السَّماءِ الدنيا ليسمعنَا نداءهُ، فهذا الملكُ لم يسمعنا نداءهُ وصوتهُ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولهِ.
ولقدْ كانَ يمكنُ هذا الملكُ أنْ ينادينا وهو في السَّماءِ .. ، وهل هذا إلَّا مثلُ منْ يريدُ - وهو بالمشرقِ - إسماعَ شخصٍ في المغربِ، فتقدَّمَ إلى المغربِ بخطواتٍ معدودةٍ، وأخذَ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّه لا يسمعُ نداءهُ، فيكونُ نقلهُ الأقدامِ عَمَلًا باطلًا، وسَعْيهُ نحوَ المغربِ عبثًا صرفًا، لا فائدةَ فيهِ، وكيفَ يستقِّرُ مثلُ هذا في قلبِ عاقلٍ؟ (1).
وقدْ سدَّ هؤلاءِ المؤوِّلةُ على النَّاسِ طريقَ معرفةِ ربِّهم عز وجل، فحرموهمْ منْ خيرٍ عظيمٍ، بلْ منْ أعظمِ عَلَمٍ في الوجودِ، فاللهُ الموعدُ.
الشبهةُ الثالثةُ
النزولُ نقلةٌ والنقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيلزمها لوازم تمتنعُ في حقِّ الله تعالى.
لا تغترَّ أيُّها النَّاظرُ بهذهِ التلفيقاتِ المزوَّقةِ، والكلماتِ المدبَّجة، والعباراتِ المبهرجةِ. فإنَّها كلماتٌ خاليةٌ مِنَ التَّحقيقِ عاريةٌ مِنَ التَّوفيقِ.
والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأوَّل:
نقولُ: هذا جدالٌ بالباطلِ لا يرتضيهِ مَنْ هو عارفٌ بكيفيَّةِ الاستدلالاتِ، وعالمٌ بمداركِ الشَّرعِ والمدلولاتِ، «وليسَ بمانعٍ منَ القولِ بحقيقةِ النزولِ!!
هل أنتمْ أعلمُ بما يستحقُّه الله عز وجل منْ أصحابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؟!
فليسَ إجلالنا لله كإجْلالِ الصَّحابةِ ولا قريبًا منهُ.
وليسَ حرصنَا على العلمِ بصفاتِ الله كحرصِ الصَّحابةِ، وهم ما قالوا هذه الاحتمالاتِ أبدًا، قالوا: سمعنا وآمنَّا وقبلنا وصدَّقنا.
وأنتمْ أيُّها الخالفونَ المخالفونَ تأتونَ الآنَ وتجادلونَ بالباطلِ وتقولونَ: كيفَ؟! وكيفَ؟!» (2).
(1) التنبيهات السنية (ص207 - 208).
(2)
انظر: شرح العقيدة الواسطية (ص400)، للعلاّمة: ابن عثيمين رحمه الله.
الوجهُ الثاني:
إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، وأفصحُ الخلقِ في بيانِ الحقِّ، وأحْرصُ الخلقِ على هدايةِ الخلقِ، فما بيَّنهُ منْ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ هو الغايةُ في هذا البابِ «فإذا كانَ كذلكَ كانَ المتَحذْلِقُ والمنكِرُ عَلَيهِ مِنْ أضَلِّ النَّاسِ، وأجهلهمْ وأسوَئهمْ أدبًا، بل يجبُ تأديبهُ وتعزيرهُ، ويجبُ أنْ يصانَ كلامُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الظنونِ الباطلةِ، والاعتقاداتِ الفاسدةِ» (1).
الوجهُ الثالثُ:
ليسَ فِي القولِ بلازمِ النزولِ محذورٌ البتَّةَ، وَلَا يستلزمُ ذلكَ نقصًا وَلَا سلبَ كمالٍ، بلْ هوَ الكمالُ نفسُهُ. وهذهِ الأفعالُ كمالٌ ومدحٌ، فهي حقٌّ دالٌّ عليهِ النَّقلُ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ.
وقولنا: إنَّه نزولٌ لا محذورَ فيهِ، فإنَّه ليسَ كانتقالِ الأجسامِ منْ مكانٍ إلى مكانٍ كَمَا قلتم: إنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وحياتَهُ وقدرتَهُ وإرادتَهُ ليستْ كصفاتِ الأجسامِ، فليسَ كمثلهِ شيءٌ فِي ذاتهِ وَلَا فِي صفاتهِ وَلَا فِي أفعالهِ.
ونحنُ لم نتقدَّم بينَ يديِّ الله ورسولهِ، بلْ أثبتنا لله ما أثبتهُ لنفسهِ وأثبتهُ لهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم. فألزمتم أنتم منْ أثبتَ ذلكَ القولَ بالانتقالِ، ومعلومٌ أنَّ هذا الإلزامَ إنَّما هو إلزامٌ لله ورسولهِ، فإنَّا لمْ نتعدَّ ما وصفَ بهِ نفسهُ، فكأنَّكمْ قلتمْ: منْ أثبتَ لهُ نزولًا لزمهُ وصفهُ بالانتقالِ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم هوَ الذي أثبتَ ذلكَ لله فهوَ حقٌّ بلا ريبٍ.
فكانَ جوابنا: إنَّ الانتقالَ إنْ لزمَ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ من إثباتهِ ضرورةً، إذْ لازمُ الحقِّ حقٌّ، وإنْ لم يكنْ ذلكَ لازمًا لهُ، فأنتم معترضونَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كاذبونَ عليهِ، متقدِّمونَ بينَ يديهِ، فبطلَ إلزامكم.
(1) مجموع الفتاوى (18/ 129 - 130).
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: لا نسلِّمُ لزومهُ؛ فإنَّ نزولَهُ ليسَ كنزولِ المخلوقينَ، ولهذا نقلَ عنْ جماعةٍ من الأئمَّةِ: أنَّهُ ينزلُ، ولا يخلو منهُ العرشُ (1).
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: الصَّوابُ في حديثِ النزولِ ونحوه ما قالهُ مالكٌ وأقرانُه يمرُّ كمَا جاءَ بلا كيفيَّةٍ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ، ونفيُ الانتقالِ وإثباتُهُ عبارةٌ محدثةٌ، فإنْ ثبتَتْ في الأثرِ رويناهَا ونطقنا بهَا، وإنْ نفيتْ في الأثرِ نطقنا بالنَّفيِ، وإلَّا لزمنا السُّكوتَ وآمنَّا بما ثبتَ في الكتابِ والسنَّةِ على مقتضاه (2).
وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: والأحسنُ في هذا البابِ مراعاةُ ألفاظِ النُّصوصِ. فالألفاظُ التي جاءَ بها الكتابُ والسنَّةُ في الإثباتِ تثبتُ، والتي جاءتْ بالنَّفيِ تنفى. والألفاظُ المجملةُ كلفظِ «الحركةِ» و «النزولِ» و «الانتقالِ» يجبُ أنْ يقالَ فيهَا: أنَّهُ منزَّهُ عنْ مماثلةِ المخلوقينَ منْ كلِّ وجهٍ، لا يماثلُ المخلوقَ لا في نزولٍ، ولا في حركةٍ، ولا انتقالٍ ولا زوالٍ، ولا غيرِ ذلكَ (3). وهذه سبيلُ مَنِ اعتصمَ بالعروةِ الوثقى (4).
الوجهُ الرابعُ:
يقالُ لهم: ربُّ العالمينَ إمَّا أنْ يقبلَ الاتصافَ بالإتيانِ والمجيءِ والنزولِ وجنسِ الحركةِ، وإمَّا أنْ لا يقبلهُ؛ فإنْ لمْ يقبلْهُ كانتِ الأجسامُ التي تقبلُ الحركةَ ولم تتحرَّكْ أكملَ منهُ؛ وإنْ قبلَ ذلكَ ولمْ يفعلهُ كانَ ما يتحرَّكُ أكملَ منهُ؛ فإنَّ الحركةَ كمالٌ للمتحرِّك، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يمكنهُ أنْ يتحرَّكَ بنفسهِ أكملُ ممَّنْ لا يمكنهُ التحرُّكُ، وما يقبلُ الحركةَ أكملُ ممَّنْ لا يقبلهَا (5).
(1) الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 34).
(2)
المهذّب في اختصار السنن الكبير (2/ 470).
(3)
مجموع الفتاوى (16/ 426).
(4)
مجموع الفتاوى (16/ 432).
(5)
مجموع الفتاوى (8/ 23).
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «ومنْ نزَّههُ عنْ نزولهِ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، ودنوهِ عشيةَ عرفةَ منْ أهلِ الموقفِ، ومجيئهِ يومَ القيامةِ للقضاءِ بينَ عبادهِ، فرارًا منْ تشبيههِ بالأجسامِ، فقد شبَّههُ بالجمادِ الذي لا يتصرَّفُ ولا يفعلُ ولا يجيءُ ولا يأتي ولا ينزلُ» (1).
الوجهُ الخامسُ:
أنْ يقالَ: النزولُ والصُّعودُ والمجيءُ والإتيانُ، ونحو ذلكَ ممَّا هوَ منْ أنواعِ جنسِ الحركةِ لا نسلِّمُ أنَّهُ مخصوصٌ بالجسمِ الصناعيِّ الذي يتكلَّمُ المتكلِّمونَ فِي إثباتهِ ونفيهِ، بلْ يوصفُ بهِ ما هو أعمُّ منْ ذلكَ. ثمَّ هنا طريقانِ:
(أحدُهما): إنَّ هذه الأمورَ توصفُ بها الأجسامُ والأعراضُ فيقالُ: جاءَ البردُ، وجاءَ الحرُّ، وجاءتِ الحُمَّى، وهيَ أعراضٌ. وبهِ يُعْلمُ أنَّ أنواعَ جنسِ الحركةِ كالنزولِ ونحوه ليسَ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيجوزُ أنْ يوصفَ بهَا الله مَعَ أنَّهُ ليسَ بجسمٍ.
(الطريقُ الثاني): أنْ يقالَ: المجيءُ والإتيانُ والصُّعودُ والنُّزولُ توصفُ بهِ روحُ الإنسانِ التي تفارقهُ بالموتِ، وتسمَّى النَّفسُ، وتوصفُ بهِ الملائكةُ. وليسَ نزولُ الرُّوحِ وصعودهَا منْ جنسِ نزولِ البدنِ وصعودهِ، فإنَّ روحَ المؤمنِ تصعدُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ تهبطُ إلى الأرضِ فيما بينَ قبضهَا ووضعِ الميِّتِ فِي قبرهِ. وهذا زمنٌ يسيرٌ لا يصعدُ البدنُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ ينزلُ إلى الأرضِ فِي مثلِ هذا الزمانِ (2).
(1) طريق الهجرتين (ص295).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 436 - 437).
وإذا كانتِ الروحُ تعرجُ مِنَ النَّائمِ إلى السَّمَاءِ مَعَ أنَّهَا فِي البدَنِ كَمَا قَالَ تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]، عُلِمَ أنَّهُ ليس عروجُهَا منْ جنسِ عروجِ البدنِ الذي يمتنعُ هذا فيهِ.
وعروجُ الملائكةِ ونزولُهَا منْ جنسِ عروجِ الرُّوحِ ونزولها، لا منْ جنسِ عروجِ البدنِ ونزولهِ.
و «نزولُ» الرَّبِّ عز وجل فوقَ هذَا كلِّهُ وأجلُّ من هذا كلِّهِ؛ فإنَّهُ تَعَالَى أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ مِنْ مماثلةِ مخلوقٍ بمخلوقٍ.
وإذا عرفَ هَذَا: فإنَّ للملائكةِ منْ ذلكَ ما يليقُ بهم، وأنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى: هو أكملُ وأعلى وأتمُّ منْ هذا كلِّهِ (1)، وأولى بالإمكانِ، وأبعدُ عنْ مماثلةِ نزولِ الأجسامِ، بلْ نزولهُ لا يماثلُ نزولَ الملائكةِ وأرواحِ بني آدمَ (2).
ومنْ ظنَّ أنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ عز وجل لا يكون إلَّا مثلَ ما توصفُ بهِ أبدانُ بني آدم؛ فغلطهُ أعظمُ منْ غلطِ منْ ظنَّ أنَّ ما توصفُ بهِ الرُّوحُ مثل ما توصفُ بهِ الأبدانُ (3).
(1) مجموع الفتاوى (5/ 527).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 527).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 458 - 459).
وخلاصةُ هذهِ الشبهةِ وما تدورُ عليهِ عندَ جميعِ منْ يحتجُّ بها سواءٌ مِنَ الجهميَّةِ أو مِنْ غيرهمْ «إنَّ النزولَ نقلةٌ، والنُّقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ فيلزمهَا لوازمٌ تمتنعُ في حقِّ اللهِ تعالى» ، وهذهِ اللوازمُ التي يذكرونها تلزمُ فيمنْ ليسَ بإلهٍ، وربٍّ للخلقِ. والله سبحانه وتعالى «منزَّهٌ أنْ تكونَ صفاتهُ مثلَ صفاتِ الخلقِ كما كانَ منزَّهًا أنْ تكونَ ذاتُهُ مثلَ ذواتِ الخلقِ فمجيئهُ وإتيانهُ ونزولهُ على حسبِ ما يليقُ بصفاتهِ منْ غيرِ تشبيهٍ وكيفٍ» (1).
وما أحسنَ قول الشاعرِ:
الرَّبُّ ربٌّ وإنْ تنزَّل
…
والعبدُ عبدٌ، وإنْ ترقَّى! (2)
الشبهةُ الرابعةُ
قالَ السَّقَّافُ: لا يمكنُ أنْ ينزلَ بذاتهِ كما تتخيَّلُ المجسِّمةُ إلى السَّماء الدنيا؛ لأَنَّ في ذلكَ حلولُ الخالقِ في المخلوقِ، وهوَ كفرٌ بواحٌ (3).
اعلمْ - سلَّمكَ الله مِنَ الشبهاتِ والشهواتِ - بأنَّ «الأوهامَ الباطلةَ والعقولَ الفاسدةَ لمَّا فهمتْ منْ نزولِ الرَّبِّ مَا يُفهمُ منْ نزولِ المخلوقِ - وهو أنْ يفرغَ مكانًا ويشغلَ مكانًا - نفتْ حقيقةَ ذلكَ فوقعتْ فِي محذورينِ: محذورُ التَّشبيهِ ومحذورُ التَّعطيلِ. ولوْ علمتْ هذهِ العقولُ الضعيفةُ أنَّ نزولَهُ سُبْحَانهُ لا يشبهُ نزولَ المخلوقِ كَمَا أنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وعلمَهُ وحياتَهُ كذلك. وإذا كانَ نزولًا لَيْسَ كمثلهِ نزولٌ فكيفَ تنفِي حقيقتَهُ» ؟! (4).
والكلماتُ المذكورةُ باطلةٌ وعنْ حلى التحقيقِ عاريةٌ.
وزَعْمُ السَّقَّافِ أَنَّ مَنْ قالَ ينزلُ بذاتهِ أنَّهُ مجسمٌ حلوليُّ: قولٌ بلا علمٍ وكذبٌ وافتراءٌ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
(1) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص59)، تحقيق: بدر البدر.
(2)
السراج الوهاج (10/ 514 - 515).
(3)
دفع شبه التشبيه (ص35).
(4)
مختصر الصواعق (2/ 228 - 229).
والسَّقَّافُ وأمثالهُ لمْ يفهموا منْ نزولِ الخالقِ إلى السَّماءِ الدنيا إلَّا كمَا فهموا منْ نزولِ المخلوقاتِ، «وهذا عينُ التمثيلِ، ثَّم إنَّهم بعدَ ذلكَ جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم الذي لا يمكنهُ أنْ يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عنْ جمعهِ» (1). وكذبوا في هذا الفهمِ، وضلُّوا في هذا الظنِّ والوهمِ الكاسدِ.
فإنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: «يطوي الله عز وجل السمواتِ يومَ القيامةِ ثمَّ يأخذهنَّ بيدهِ اليمنى، ثمَّ يقول: أنا الملكُ. أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتكبِّرونَ؟ ُثمَّ يطوي الأرضينَ بشمالهِ ثمَّ يقولُ: أنا الملكُ أينَ الجبَّارونَ أينَ المتكبرونَ؟!» (2).
فمنْ هذهِ عظمتهُ، كيفَ يحصرهُ مخلوقٌ مِنَ المخلوقاتِ. سماءٌ أو غيرُ سماءٍ؟! حتَّى يقال: إنَّهُ إذا نزلَ إلى السماء الدنيا صارَ العرشُ فوقهُ، أو يصيرُ شيءٌ مِنَ المخلوقاتِ يحصرهُ ويحيطُ بهِ سبحانه وتعالى (3).
واللهُ - ولله المثلُ الأعلى - أعظمُ منْ أنْ يظنَّ ذلكَ بهِ، وإنَّما يظنُّهُ الذينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67] (4).
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 228 - 229).
(2)
رواه مسلم (2788).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 482).
(4)
مجموع الفتاوى (6/ 582 - 583).
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: العليُّ الأعلى العظيمُ، فهو أعلى منْ كلِّ شيءٍ، وأعظمُ منْ كلِّ شيءٍ. فلا يكونُ نزولهُ وإتيانهُ بحيثُ تكونُ المخلوقاتُ تحيطُ بهِ، أو تكونُ أعظمَ منهُ وأكبرَ، وهذا ممتنعٌ (1).
فالمخلوقُ إذا نزلَ من علوٍّ إلى سفلٍ زالَ وصفهُ بالعلوِّ وتبدَّلَ إلى وصفهِ بالسُّفولِ، وصارَ غيرهُ أعلى منهُ.
والرَّبُّ تعالى لا يكونُ شيءٌ أعلى منهُ قطُّ، بلْ هوَ العليُّ الأعلى، ولا يزالُ هوَ العليُّ الأعلى مع أنَّهُ يقربُ إلى عبادهِ ويدنو منهم، وينزلُ إلى حيثُ شاءَ، ويأتي كما شاءَ. وهو في ذلكَ العليُّ الأعلى، الكبيرُ المتعال، عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّهِ.
فهذا وإنْ لمْ يتَّصفْ بهِ غيرهُ فلعجزِ المخلوقِ أنْ يجمعَ بينَ هذا وهذا. كمَا يعجزُ أنْ يكونَ هو الأولَ والآخرَ والظاهرَ والباطنَ (2).
وقَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ونزولهُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا سلامٌ ممَّا يضادُّ علوَّهُ، وسلامٌ مما يضادُّ غناهُ وكمالهُ، سلامٌ منْ كلِّ ما يتوهَّمُ معطِّلٌ أو مشبِّهٌ، وسلامٌ منْ أنْ يصيرَ تحتَ شيءٍ أو محصورًا في شيءٍ. تعالى الله ربُّنا عن كلِّ ما يضادُّ كمالَهُ (3).
فتبيَّنَ بهذا الكلامِ النفيسِ، بطلانُ ما ذكرهُ السَّقافُ؛ وأنَّهُ مبنيٌّ على شفا جرفٍ هارٍ منَ الخيالاتِ والأوهامِ.
وليتأمَّل السَّقافُ وأمثالهُ منْ أهلِ الكلامِ الأثرَ التالي:
(1) مجموع الفتاوى (16/ 422).
(2)
مجموع الفتاوى (16/ 424).
(3)
بدائع الفوائد (2/ 136).
قالَ محمَّدُ بنُ حاتمٍ المظفريُّ: سمعتُ عمرو بن محمد يقولُ: كانَ أبو معاوية الضريرُ يحدِّثُ هارونَ الرشيد، فحدثَّهُ بحديثِ أبي هريرةَ:«احتجَّ آدمُ وموسى» (1) فقالَ عليُّ بنُ جعفرٍ: كيفَ هذا وبينَ آدمَ وموسى ما بينهما؟! قالَ: فوثبَ بهِ هارونُ وقالَ: يحدِّثكَ عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضهُ بكيفَ؟! فما زالَ يقولُ حتَّى سكتَ عنهُ (2).
قالَ المحدِّثُ الصابونيُّ معقِّبًا: هكذا ينبغي للمرءِ أنْ يعظِّمَ أخبارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبولِ والتسليمِ والتَّصديقِ، وينكرُ أشدَّ الإنكارِ على منْ يسلكُ فيها غيرَ هذا الطريقِ الذي سلكهُ هارونُ الرشيدُ رحمه الله معَ مَنِ اعترضَ على الخبرِ الصَّحيحِ الذي سمعهُ بـ «كيف» ؟! على طريقِ الإنكارِ لهُ، والابتعادِ عنهُ، ولمْ يتلقَّهُ بالقبولِ كمَا يجبُ أنْ يتلقَّى جميعُ ما يردُ مِنَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
جعلنا الله سبحانهُ مِنَ الذينَ يستمعونَ القولَ ويتَّبعونَ أحسنهُ ويتمسَّكونَ في دنياهم مدَّةَ حياتهم بالكتابِ والسنَّةِ، وجنَّبنا الأهواءَ المضلَّةَ والآراءَ المضمحلةَ والأسواءَ المذلَّةَ، فضلًا منهُ ومنَّةً (3).
(1) رواه البخاري (3409 و6614 و7515) ومسلم (2652).
(2)
أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/ 181)، وعنه الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 243) من طريق آخر وبألفاظ مختلفة، وإسناده صحيح. انظر:«عقيدة السلف أصحاب الحديث» (ص127)، تحقيق: بدر البدر.
(3)
عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص127 - 128) تحقيق: بدر البدر.