الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
35 -
كتاب في أحاديث متفرقة
774 - (18) باب خلق الملائكة والجان وآدم وأن الفأر مسخ ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين والمؤمن أمره كله خير والنهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وتقديم الأكبر في مناولة الشيء وغيرها والتثبت في الحديث وحكم كتابة العلم وقصة أصحاب الأخدود
7318 -
(2976)(143) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ. (قَال عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا. وَقَال ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا) عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورِ،
ــ
35 -
كتاب في أحاديث متفرقة
774 -
(18) باب خلق الملائكة والجان وآدم وأن الفأر مسخ ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين والمؤمن أمره كله خير والنهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وتقديم الأكبر في مناولة الشيء وغيرها والتثبت في الحديث وحكم كتابة العلم وقصة أصحاب الأخدود
واستدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الأول من الترجمة وهو خلق الملائكة والجان وآدم بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها فقال:
7318 -
(2976)(143)(حدثنا محمد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة، من (11) روى عنه في (11) بابا (وعبد بن حميد) بن نصر الكسي، ثقة، من (11)(قال عبد أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبد الرزاق) بن همام الحميري الصنعاني، ثقة، من (9)(أخبرنا معمر) بن راشد الأزدي البصري (عن الزهري عن عروة عن عائشة) رضي الله تعالى عنها. وهذا السند من سداسياته (قالت) عائشة (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خُلقت الملائكةُ من نور) أي من جواهر مضيئة نيرة فكانت خيرًا محضًا (قلت)
وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ".
7319 -
(2977)(144) حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ. جَمِيعًا عَنِ الثَّقَفِيِّ، (وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى)، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ. حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، قَال:
ــ
والحديث يشهد القول بأن النور جوهر لا عرض وهو الصحيح اهـ من الأبي (وخُلق الجان) قيل المراد به إبليس، وقيل جنس الجن وقيل الجان اسم لأبي الجن كما أن آدم عليه السلام أب لنوع البشر (من مارج من نار) وهو اللهب المختلط بالدخان فكانوا شرًّا محضًا والخير فيهم قليل اهـ أبي، وقيل المارج هو اللهب المختلط بسواد دخان النار اهـ تكملة، وهو الموافق لظاهر الحديث (وخُلق آم) أبوكم (مما وُصف) وذُكر (لكم) أي من العنصر الذي ذكره الله تعالى في كتابه وبينه لكم يعني من تراب، قال القرطبي: أي من تراب ثم صُيِّر طينًا ثم صُيّر فخارًا، والفخار الطين اليابس أي مما وصفه الله تعالى بقوله:{خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] وبقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)} وبقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} وفي الحديث "إن الله لما أراد خلق آدم عليه السلام أمر جبريل بقبض قبضة من جميع أجزاء تراب الأرض فأخذ من حزنها وسهلها وأحمرها وأسودها فجاء ولده كذلك".
وهذا الحديث مما انفرد به المؤلف من بين أصحاب الأمهات ولكنه شاركه أحمد [6/ 153 و 168]، وابن حبان كما في الإحسان [8/ 9].
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الثاني من الترجمة وهو أن الفأر مسخ من بني آدم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
7319 -
(2977)(144)(حدثنا إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي (ومحمد بن المثنى العنزي) البصري (ومحمد بن عبد الله الرزي) بضم المهملة وكسر الزاي المشددة نسبة إلى الرز لغة في الأرز حب مقتات معروف، نُسب إليه لبيعه، أبو جعفر البصري، نزيل بغداد، ثقة، من (10) روى عنه في (7) أبواب (جميعًا عن) عبد الوهاب بن عبد المجيد (الثقفي) البصري، ثقة، من (8)(واللفظ لابن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد) بن مهران المجاشعي أبو المنازل الحذاء البصري، ثقة، من (5) روى عنه في (15) بابا (عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة) رضي الله عنه. وهذا السند من خماسياته (قال) أبو
قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ. وَلَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ. أَلا تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ. وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ؟ ".
قَال أَبُو هُرَيرَةَ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ كَعْبًا
ــ
هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدت) أي مُسخت (أمة) أي جماعة (من بني إسرائيل لا يدرى) ولا يُعلم (ما فعلت) تلك الأمة أي لا يعلم أحد أين ذهبت هل ماتت أو مُسخت بحيوان آخر (ولا أُراها) بضم الهمزة أي ولا أظن تلك الأمة (إلا) أنها (الفأر) وهذا اللفظ صريح أنه كان ظنًّا منه صلى الله عليه وسلم، ولم يقر عليه كما سيأتي بيانها له بالوحي أن الفأر غير تلك الأمة المفقودة من بني إسرائيل، قال الأبي: ظاهره أنه لم يوح إليه بأنها هي وإنما قاله صلى الله عليه وسلم بظنه الصادق ولذلك استدل عليه بامتناع الفأر من شرب ألبان الإبل وشربها من لبن الغنم. قال (ط) لأن بني إسرائيل حُرمت عليهم لحوم الإبل وألبانها (قلت) وهو يدل على أن للممسوخ تمييزًا كما هو للقرد، ذكر الرشاطي أن قردًا اطلع على قرد مضطجع مع قردة فأتى بجماعة من القرود بيد كل واحد منها حجر فرجموا بها القرد والقردة حتى قتلوهما كرجم الزانيين اهـ من الأبي.
واستدل النبي صلى الله عليه وسلم على ما ظنه أولًا بقوله (ألا ترونها) أي ألا ترون الفأرة (إذا وُضع لها ألبان الإبل لم تشربه) أي لم تشرب ما وُضع لها من الألبان والظاهر أن يقال لم تشربها بضمير المؤنث العائد إلى الألبان (وإذا وُضع لها ألبان الشاء شربته) أي شربت ما ذكر من ألبان الشاء وعدم شرب الفأر من ألبان الإبل جُعل علامة على كونها أمة ممسوخة من بني إسرائيل لأن بني إسرائيل كان قد حُرم عليهم لحوم الإبل وألبانها فاحتمل أن تكون الفأر تجتنب من شرب ألبانها لكونها أمة مُسخت من بني إسرائيل.
وذكر الحافظ في الفتح [6/ 353] أن ذلك كان ظنًّا من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم بالوحي أن الممسوخ لا نسل له ولا عقب كما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه (قال أبو هريرة) بالسند السابق (فحدّثت هذا الحديث كعبًا) بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار أدرك الجاهلية، وأسلم أيام أبي بكر كان على دين
فَقَال: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَال ذلِكَ مِرَارًا. قُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟
قَال إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتهِ: "لَا نَدْرِي مَا فَعَلَتْ"
ــ
يهود، فأسلم وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص، حتى تُوفي بها سنة (32) هـ في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد بلغ مائة وأربع سنين، وقد أخرج ابن سعد قصة إسلامه راجع لها الإصابة [3/ 298] وكان عالمًا بكتب بني إسرائيل وقصصهم (فقال) لي كعب (آنت) أي هل أنت (سمعته) أي سمعت هذا الحديث (من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت) له (نعم) سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال) لي كعب (ذلك) السؤال (مرارًا) أي مرات كثيرة يعني قوله آنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فـ (قلت) له لما أكثر السؤال عليّ (أأقرأ التوراة) بهمزة الاستفهام الإنكاري. وفي الرواية الآتية (أفأنزلت عليّ التوراة) أي لا علم عندي إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أقرأ التوراة ولا غيرها ولا أُنزلت عليّ حتى أحدثكم عنها إنما أحدثك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلِمَ تكرر عليّ السؤال عن ذلك؟ قال القاضي عياض: قوله (أأقرأ التوراة) هو استفهام إنكار أجاب به كعبًا حين استفهمه هل سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى لا علم عندي إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنقله من التوراة ولا من غيرها من الكتب السابقة كما يُحدّث عنها كعب.
واستدل الحافظ في الفتح على أن الصحابي إن ذكر خبرًا لا يُدرك بالقياس والعقل فهو في حكم المرفوع، وقد وقع في مسند أحمد [2/ 507] أن أبا هريرة ذكر أن الفأر مما مُسخ ولم ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سؤال كعب اهـ.
(قال إسحاق) بن إبراهيم (في روايته) لفظة (لا ندري) ولا نعلم (ما) ذا (فعلت) تلك الأمة المفقودة هل مُسخت أو أُهلكت بدل رواية غيره (لا يُدري ما فعلت).
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري في بدء الخلق باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال [3305]، وأحمد [2/ 234 و 507]، والبغوي [12/ 200].
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
7320 -
(00)(00) وحدّثني أَبُو كُرَيبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ. حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، قَال:"الْفَأْرَةُ مَسْخٌ. وَآيَةُ ذلِكَ أَنَّهُ يُوضَعُ بَينَ يَدَيهَا لَبَنُ الْغَنَمِ فَتَشْرَبُهُ. وَيُوضَعُ بَينَ يَدَيهَا لَبَنُ الإِبِلِ فَلَا تَذُوقُهُ"، فَقَال لَهُ كَعْبٌ: أَسَمِعْتَ هذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَال: أَفَأُنْزِلَتْ عَلَيَّ التَّوْرَاةُ؟
7321 -
(2978)(145) حدَّثنا قُتَيبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدَّثَنَا لَيثٌ، عَنْ عُقَيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَال: "لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ،
ــ
7320 -
(00)(00)(وحدثني أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام) بن أبي عبد الله الدستوائي (عن محمد) بن سيرين (عن أبي هريرة) رضي الله عنه. وهذا السند من خماسياته، غرضه بيان متابعة هشام الدستوائي لخالد الحذاء (قال) أبو هريرة (الفأرة مسخ) أي أمة ممسوخة من بني إسرائيل (وآية ذلك) أي علامة كونها ممسوخة (أنه) أي أن الشأن والحال (يُوضع بين يديها) أي قدامها (لبن الغنم فتشربه) أي فتشرب الموضوع لها من لبن الغنم (ويُوضع بين يديها) أي قدامها (لبن الإبل فلا تذوقه) أي فلا تذوق الموضوع لها من لبن الإبل ولا تشربه حتى جرعة (فقال له) أي لأبي هريرة (كعب) الأحبار (أسمعت) أي هل سمعت (هذا) الحديث الذي أخبرتني في شأن الفأرة (من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أم من عندك (قال) أبو هريرة فقلت له (أفأُنزلت عليّ التوراة) فأخبرك عنها إن لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكارًا عليه سؤاله عن ذلك.
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الثالث من الترجمة وهو كون المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
7321 -
(2978)(145)(حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث) بن سعد الفهمي المصري (عن عقيل) بن خالد بن عقيل مكبرًا الأموي المصري (عن الزهري عن) سعيد (بن المسيب) بن حزن المخزومي المدني (عن أبي هريرة) رضي الله عنه. وهذا السند من سداسياته (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يُلدغ المؤمن) .. الخ رُوي برفع الغين
مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ، مَرَّتَينِ"
ــ
على الخبر على النفي، والمعنى لا يُخدع المؤمن المتيقظ الحازم (من جحر واحد) أي من جهة واحدة وفي سبب واحد (مرتين) أي مرة بعد أخرى أي لا يُخدع خداعًا ثانيًا بعدما خُدع أولًا بل يستيقظ من الخداع الأول فلا يستغفل ثانيًا، ورُوي بكسر الغين على النهي أي ليكن فطنًا كيسًا حاذقًا حازمًا لئلا يقع في مكروه مرتين، والأول أكثر وأصح وأوفق بما سيأتي من سبب الحديث، واللدغ في الأصل يكون من ذوات السموم كالحية والعقرب، واللذع يكون بالنار.
قال الحكيم: وهذا في المؤمن الكامل البالغ في إيمانه فالمؤمن المخلط يُلدغ مرات وهو لا يشعر ولا يجد لوعة اللدغة، وقد عُمل فيه السم، ولو أفاق وعلم كان يجتهد في الحذر فالمؤمن الكامل يندم من خطيئة ويأخذه القلق ويتلوّى كاللديغ، قال: فقوله لا يُلدغ من جحر مرتين تمثيل ومعناه لا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه.
قال القرطبي: ومعنى هذا المثل أن الذي لُدغ من جحر لا يعيد يده إليه أبدًا إذا كان فطنًا حذرًا ولا لما يشبهه فكذلك لكياسته وفطانته وحذره إذا وقع في شيء مما يضره في دينه ودنياه لا يعود إليه. وقال أيضًا: وهذا مثل صحيح وقول بليغ ابتكره النبي صلى الله عليه وسلم من فوره ولم يُسمع من غيره، وذلك أن السبب الذي أصدره عنه هو أن أبا عزيز بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه ويؤذي المسلمين فأمكن الله تعالى منه يوم بدر فأُخذ أسيرًا أو جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يُمنّ عليه ولا يعود لشيء مما كان يفعله، فمن النبي صلى الله عليه وسلم عليه فأطلقه، فرجع إلى مكة وعاد إلى أشد مما كان عليه، فلما كان يوم أحد أمكن الله منه، فأُسر فأُحضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يمن عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، والله لا تمسح عارضيك بمكة أبدًا" فأمر بقتله فقُتل.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري في الأدب باب لا يُلدغ المؤمن [6133]، وأبو داود في الأدب باب في الحذر من الناس [4862]، وابن ماجه في الفتن باب العزلة [4030]، وأحمد [2/ 115 و 379].
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
7322 -
(00)(00) وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى. قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ. ح وَحَدَّثَنِي زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ. قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ.
7323 -
(2979)(146) حدَّثنا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ
ــ
7322 -
(00)(00)(وحدثنيه أبو الطاهر) أحمد بن عمرو (وحرملة بن يحيى) التجيبي (قالا أخبرنا ابن وهب عن يونس) بن يزيد (ح وحدثني زهير بن حرب ومحمد بن حاتم) بن ميمون البغدادي (قالا حدثنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد الزهري المدني، ثقة، من (9) روى عنه في (9) أبواب (حدثنا) محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله (ابن أخي ابن شهاب) الزهري الصغير المدني، صدوق، من (6) روى عنه في (5) أبواب (عن عمه) محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري الكبير المدني، ثقة، من (4) روى عنه في (23) بابا (عن ابن المسيب عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) وهذان السندان من سداسياته، غرضه بسوقهما بيان متابعة يونس وابن أخي الزهري لعقيل بن خالد، وساقا (بمثله) أي بمثل حديث عقيل، وفائدتها بيان كثرة طرقه.
وقيل سبب هذا الحديث ما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وابن هشام في تهذيب سيرته: أن أبا عزة الجمحي الشاعر كان قد أُسر يوم بدر فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء لكونه محتاجًا ذا بنات وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدًا، ثم أُسر مرة أخرى في أُحد فقال: يا رسول الله أقلني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول خدعت محمدًا مرتين: اضرب عنقه يا زبير" قال ابن هشام: وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت" فضرب عنقه. راجع الروض الأنف للسهيلي [3/ 175] اهـ من التكملة.
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الرابع من الترجمة وهو أن المؤمن أمره كله خير بحديث صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه فقال:
7323 -
(2979)(146)(حدثنا هداب بن خالد) بن الأسود بن هدبة (الأزدي)
وَشَيبَانُ بْنُ فَرُّوخَ. جَمِيعًا عَنْ سُلَيمَانَ بنِ الْمُغِيرَةِ (وَاللَّفْظُ لِشَيبَانَ)، حَدَّثَنَا سُلَيمَانُ. حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيلَى، عَنْ صُهَيبٍ، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ. إِن أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ. وَلَيسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ"
ــ
القيسي أبو خالد البصري، ثقة، من (9) روى عنه في (8) أبواب (وشيبان بن فروخ) الحبطي الأبلي، صدوق، من (9) روى عنه في (10) أبواب (جميعًا عن سليمان بن المغيرة) القيسي البصري، ثقة، من (7) روى عنه في (9) أبواب (واللفظ لشيبان) قال (حدثنا سليمان) بن المغيرة (حدثنا ثابت) بن أسلم البناني البصري، ثقة، من (4) روى عنه في (14) بابا (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) يسار الأنصاري الأوسي الكوفي، ثقة، من (2) روى عنه في (9) أبواب (عن صهيب) بن سنان الرومي الصحابي الشهير رضي الله عنه روى عنه في (3) أبواب. وهذا السند من خماسياته (قال) صهيب (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أعجب (عجبًا لأمر المؤمن) وشأنه (أن أمره) وشأنه (كله) خيره وشره (خير وليس ذاك) أي خيرية جميع الأمور (لأحد إلا للمؤمن) الكامل (إن أصابته سراء) أي نعماء (شكر) عليها (فكان) ذلك الشكر (خيرًا له) لأنه يثاب عليه (وإن أصابته ضراءٌ) أي نقمة وضررٌ (صبر) عليها (فكان) ذلك الصبر (خيرًا له) لأنه يثاب عليه.
ففي الحديث دلالة على فضيلة الشكر والصبر ولا ينبغي للمؤمن أن تخلو أوقاته عن واحد منهما. وقوله (عجبًا لأمر المؤمن) زاد حماد بن سلمة قبله عند الدارمي في سننه [2/ 226]"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وضحك فقال: ألا تسألوني مما أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: عجبًا" .. الخ وفي إسناده روح بن سلم، قال البخاري: يتكلمون فيه، ووثقه ابن حبان. وقوله (عجبًا لأمر المؤمن) .. الخ: المؤمن هنا هو العالم بالله الراضي بأحكامه العامل على تصديق موعوده وذلك أن المؤمن المذكور إما أن يبتلى بما يضره أو بما يسره فإن كان الأول صبر واحتسب ورضي فحصل على خير الدنيا والآخرة وراحتهما، كان كان الثاني عرت نعمة الله عليه ومنته فيها فشكرها وعمل بها فحصل على نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وقوله (وليس ذلك إلا للمؤمن) أي المؤمن الموصوف بما ذكرته لأنه إن لم يكن كذلك لم يصبر على المصيبة ولم يحتسبها
7324 -
(2980)(147) حدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى. حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَال: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا، عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: فَقَال: "وَيحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ. قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ" مِرَارًا "إِذَا كَانَ
ــ
بل يتضجر ويتسخط فينضاف إلى مصيبته الدنيوية مصيبته في دينه وكذلك لا يعرف النعمة ولا يقوم بحقها ولا يشكرها فتنقلب النعمة نقمة والحسنة سيئة نعوذ بالله تعالى من ذلك اهـ من المفهم.
وهذا الحديث مما انفرد به المؤلف من بين أصحاب الأمهات رواه أحمد في [4/ 332].
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الخاص من الترجمة وهو النهي عن الإفراط في المدح بحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي البصري رضي الله عنه فقال:
7324 -
(2980)(147)(حدثنا يحيى بن يحيى) التميمي النيسابوري (حدثنا يزيد بن زريع) التيمي العيشي البصري، ثقة، من (8) روى عنه في (12) بابا (عن خالد) بن مهران (الحذاء) المجاشعي البصري، ثقة، من (5) روى عنه في (15) بابا (عن عبد الرحمن بن أبي بكرة) الثقفي البصري، ثقة، من (2) روى عنه في (8) أبواب (عن أبيه) أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو الثقفي البصري الصحابي المشهور رضي الله عنه روى عنه في (5) أبواب. وهذا السند من خماسياته (قال) أبو بكرة (مدح رجل رجلًا عند النبي صلى الله عليه وسلم) لم أر من ذكر اسم الرجلين (قال) أبو بكرة (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم للمادح (ويحك) أي ألزمك الله الويح والرحمة أيها المادح (قطعت عنق صاحبك) يعني الممدوح أي أهلكته لأن مثل هذا المدح يورث في الممدوح إعجابًا بنفسه والعجب مهلكة له في دينه وربما يكون إهلاكًا له في دنياه أيضًا لأنه يحمله على التكبر والتعاظم فيصيبه بذلك ضرر، وقوله (قطعت عنق صاحبك مرارًا) أي مرات، تأكيد للأولى، وفي رواية (قطعتم ظهر الرجل) معناه أهلكتموه، وهذه استعارة من قطع العنق الذي هو القتل لاشتراكهما في الهلاك لكن هلاك هذا الممدوح في دينه وقد يكون من جهة الدنيا لما يشتبه عليه من حالة الإعجاب اهـ نووي. و (إذا كان
أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا. وَاللهُ حَسِيبُهُ. وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا. أَحْسِبُهُ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ، كَذَا وَكَذَا"
ــ
أحدكم مادحًا صاحبه) أي مريدًا مدحه (لا محالة) أي لا بد له من مدحه (فليقل أحسب) أي أظن (فلانًا) كذا وكذا (والله حسيبه) أي كافيه علمًا بحاله (ولا أزكي) وأطهر (على الله) أي عنده تعالى (أحدًا) من الناس من العيب، وقوله فليقل (أحسبه إن كان يعلم ذاك كذا وكذا) فيه تقديم وتأخير.
والمعنى أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ضميره لأن ذلك مغيب عني ولكن فليقل أحسب فلانًا كذا وكذا أي عالمًا كريمًا إن كان يعلم ذاك المدح من ظاهر حاله، قال النووي: ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه، قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة والإطراء في المدح والزيادة في الأوصاف أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب وكبر ونحوهما إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشاطه لفعل الخير وازدياده منه أو دوامه عليه أو اقتداء الناس به كان مستحبًا والله سبحانه وتعالى أعلم، وقال القاضي عياض: وهذا النهي فيما يتغالى فيه من المدح ووصف الإنسان بما ليس فيه أوفيمن يخاف عليه الإعجاب والفساد وإلا فقد مُدح صلى الله عليه وسلم ومُدح بحضرته فلم ينكر بل حض كعب بن زهير على بعض هذا، وأما مع القصد في المدح فلا نهي واحتج لجواز القصد في المدح بحديث "إنه لا يقبل الثناء إلا من مكافئ أو مقتصد" وبحديث "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح"(ط) الإطراء تجاوز الحد في المدح اهـ من الأبي.
قوله (لا محالة) مصدر ميمي من حال يحيل حيلة وحيلولة ومحالة أي لا حيلة له في ترك مدحه ولا غنى له عنه لتيقنه ذلك الوصف فيه بحسب ظاهر حاله. وقوله (أحسب فلانًا) من باب ضرب أي أظنه كذا وكذا (والله حسيبه) أي محاسبه على ما يظهر من حاله وعلى ما أضمره في باله، قال القاضي: وهذا أمر للمادح بأن يقول ذلك ولا يقطع بما فيه بل يمدحه بحسب ظاهره.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري في مواضع منها في الأدب باب ما
7325 -
(00)(00) وحدّثني مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. ح وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ. أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ. قَال: شُعْبَةُ حَدَّثَنَا، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ. فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنْ رَجُلٍ، بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا. فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَيحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ" مِرَارًا يَقُولُ ذلِكَ. ثُمَّ قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ، لَا مَحَالةَ،
ــ
يكره من التمادح [6061]، وأبو داود في الأدب باب في كراهية التمادح [4805]، وابن ماجه في الأدب باب المدح [3789]، وأحمد [5/ 41 و 51].
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي بكرة رضي الله عنه فقال:
7325 -
(00)(00) وحدثني محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة بن أبي رواد) العتكي مولاهم أبو جعفر البصري، صدوق، من (11) روى عنه في (11)(حدثنا محمد بن جعفر) الهذلي ربيب شعبة (ح وحدثني أبو بكر) محمد بن أحمد (بن نافع) العبدي البصري، صدوق، من (10) روى عنه في (9) أبواب (أخبرنا غندر) محمد بن جعفر (قال) غندر (شعبة) مبتدأ خبره (حدثنا عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم) وهذا السندان من سداسياته، غرضه بيان متابعة محمد بن جعفر ليزيد بن زريع (أنه) أي أن الشأن والحال (ذكر عنده) صلى الله عليه وسلم (رجل) من المسلمين بصفة مدح (فقال رجل) آخر، ولم أر من ذكر اسم الرجلين كما مر (يا رسول الله ما) نافية (من) زائدة (رجل) مبتدأ أي لا رجل (بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه) أي أكمل من هذا الرجل المذكور (في كذا وكذا) أي في صلاحه وشجاعته مثلًا (فقال النبي صلى الله عليه وسلم) لذلك المادح (ويحك قطعت عنق صاحبك) حال كونه صلى الله عليه وسلم (مرارًا يقول ذلك) أي يكرر قوله قطعت عنق صاحبك مرات كثيرة مبالغة في الزجر عن مدحه (ثم) بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل المادح ما قال في زجره (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لمن حضر عنده خطابًا عامًّا لهم وغيرهم (أن كان أحدكم) أيها المؤمنون (مادحًا أخاه) المسلم أي مريدًا مدحه بما فيه (لا محالة) أي لا حيلة له في ترك مدحه ولا غنى له عنه
فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذلِكَ. وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا".
7326 -
(00)(00) وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ. حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ. ح وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ. حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ. كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيعٍ. وَلَيسَ فِي حَدِيثِهِمَا: فَقَال رَجُلٌ: مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ
ــ
لتيقنه وصفه بذلك الوصف في ظاهر حاله (فليقل) ذلك المادح (أحسب) أي أظن (فلانًا) يعني الممدوح كذا وكذا فيما يظهر لي من حاله (أن كان) ذلك المادح (يُرى) بضم الياء وفتحها أي يظن أو يعلم (أنه) أي أن ذلك الممدوح كائن (كذلك) أي موصوف بذلك الوصف الذي مدحه به (و) ليقل أيضًا (لا أزكي على الله أحدًا) أي لا أصف أحدًا بصفة التزكية والكمال عند الله تعالى أي لا أقطع عاقبة أحد عند الله ولا أجزم بحكم الله فيه لأن الله تعالى هو العالم بما في ضميره وسريرته والتزكية هي بمعنى تصديق كونه زكي السيرة وكاملها حقيقة.
قوله (إن كان أحدكم مادحًا أخاه) .. الخ ظاهر هذا الكلام أنه لا ينبغي للإنسان أن يمدح أحدًا ما وجد من ذلك مندوحة فإن لم يجد بدًا مدح بما يعلم من أوصافه وبما يظنه ويتحرز من الجزم والقطع بشيء من ذلك بل يتحرز بأن يقول فيما أحسب أو أظن ويزيد على ذلك ولا أزكي على الله أحدًا أي لا أقطع بأنه كذلك عند الله فإن الله تعالى هو المُطلع على السرائر العالم بعواقب الأمور اهـ من المفهم.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في هذا الحديث فقال:
7326 -
(00)(00)(وحدثنيه عمرو) بن محمد بن بكير (الناقد) البغدادي (حدثنا هاشم بن القاسم) بن مسلم بن مقسم الليثي البغدادي، ثقة من (9) روى عنه في (10) أبواب (ح وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار) الفزاري مولاهم أبو عمرو المدائني، ثقة، من (9) روى عنه في (10) أبواب (كلاهما) أي كل من هاشم وشبابة رويا (عن شعبة بهذا الإسناد) يعني عن خالد عن عبد الرحمن عن أبي بكرة، غرضه بسوق هذين السندين بيان متابعتهما ليزيد بن زريع، وساقا (نحو حديث يريد بن زريع وليس في حديثهما) أي في حديث هاشم وشبابة لفظة (فقال رجل ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه).
7327 -
(2981)(148) حدّثني أَبُو جَعْفَرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ بُرَيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَال: سَمِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، ويُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ. فَقَال:"لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ، ظَهْرَ الرَّجُلِ"
ــ
ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث أبي بكرة بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال:
7327 -
(2981)(148)(حدثني أبو جعفر محمد بن الصباح) الدولابي مولدًا ثم البغدادي البزاز صاحب السنن، ثقة، من (10) روى عنه في (7) أبواب (حدثنا إسماعيل بن زكرياء) بن مرة الأسدي الكوفي الخلقاني، نسبة إلى بيع الخلقان من الثياب وغيرها، جمع خلق، صدوق، من (8) روى عنه في (7) أبواب (عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة) عامر بن أبي موسى الأشعري أبي بردة الصغير الكوفي، ثقة، من (6) روى عنه في (4) أبواب (عن) جده الأصل (أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه. وهذا السند من رباعياته (قال) أبو موسى الأشعري (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يثني) ويمدح من الإثناء بمعنى الثناء (على رجل) آخر (ويطريه) أي يرفعه على قدره (في المدحة) والثناء عليه والإطراء مجاوزة الحد في المدح والمبالغة فيه، والمدحة بكسر الميم اسم من المدح أي يبالغ في مدحه بأن يصفه بما ليس فيه (فقال) معطوف على سمع أي سمع ذلك المادح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ولمن معه والله (لقد أهلكتم) أيها المؤمنون صاحبكم الممدوح بمدحه في دينه ودنياه (أو) قال الراوي أو من دونه والله لقد (قطعتم ظهر الرجل) الممدوح وعنقه بوصفه بما ليس فيه وقد مر لك بيان معنى إهلاك الممدوح في حديث أبي بكرة.
قوله (رجلًا يثني على رجل) قال الحافظ في الفتح [10/ 476] لم أقف على اسم الرجلين صريحًا، ولكن أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فذكر حديثًا قال فيه: فدخل المسجد فإذا رجل يصلي فقال لي: "من هذا؟ " فأثنيت عليه خيرًا، فقال:"اسكت لا تسمعه فتهلكه" وفي رواية له: فقلت: يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا، وفي أخرى له: هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة أو من أكثر أهل المدينة .. الحديث،
7328 -
(2982)(149) حدَّثنا أَبُو بَكرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى. جَمِيعًا عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، (وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى)، قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ. عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَال: قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ. فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيهِ التُّرَابَ، وَقَال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ
ــ
والذي أثنى عليه محجن يشبه أن يكون هو عبد الله ذا البجادين المزني فقد ذكرت في ترجمته في الصحابة ما يقرب ذلك اهـ.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري في الشهادات باب ما يكره من الإطناب في المدح [2663]، وفي الأدب باب ما يكره من التمادح [6060]، وأحمد [4/ 412].
ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث أبي بكرة بحديث المقداد بن عمرو رضي الله عنهما فقال:
7328 -
(2982)(149)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى جميعًا عن) عبد الرحمن (بن مهدي) بن حسان الأزدي البصري، ثقة، من (9)(واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن) بن مهدي (عن سفيان) بن سعيد الثوري (عن حبيب) بن أبي ثابت قيس أو هند بن دينار الأسدي مولاهم أبي يحيى الكوفي، ثقة، من (3) روى عنه في (15) بابا (عن مجاهد) بن جبر المخزومي مولاهم أبي الحجاج المكي المقرئ المفسر، ثقة، من (3) روى عنه في (10) أبواب (عن أبي معمر) الأسدي عبد الله بن سخبرة الكوفي، ثقة، من (2) روى عنه في (5) أبواب (قال) أبو معمر (قام رجل) من المسلمين لم أر من ذكر اسمه (يثني) ويمدح (على أمير من الأمراء) وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه كما سيأتي في الرواية اللاحقة (فجعل) أي شرع (المقداد) بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود أبوه عمرو بن ثعلبة الكندي ولكن تبناه حليفه الأسود بن عبد يغوث القرشي الصحابي المشهور رضي الله عنه أسلم قديمًا وشهد بدرًا والمشاهد كلها. وهذا السند من سباعياته (يحثي) من باب رمى أي يحفن بكفيه (عليه) أي على ذلك الرجل المادح لعثمان (التراب، وقال) المقداد (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي) ونحفن (في وجوه المدّاحين) بفتح الميم وتشديد الدال (التراب) إنكارًا عليهم مدحهم الناس استطعامًا منهم.
7329 -
(00)(00) وحدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، (وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى)، قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ؛
ــ
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أبو داود في الأدب باب ما يكره من التمادح [4804]، والترمذي في الزهد باب ما جاء في كراهية المدحة والمدّاحين [2393]، وابن ماجه في الأدب باب المدح [3787]، وأحمد [6/ 5]، والبغوي في شرح السنة [13/ 150].
قال الخطابي: المدّاحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيبًا له في أمثاله وتحريضًا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمدّاح، وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره في تناول عين التراب وحثيه في وجه المدّاح، وقد يتأول أيضًا على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه وأحرموه، كنى بالتراب عن الحرمان كقولهم ما في يده غير التراب وكقوله صلى الله عليه وسلم "إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا" أخرجه أبو داود في البيوع باب في أثمان الكلب [3482]، وأحمد [1/ 378] أنقله البغوي في شرح السنة [13/ 151] ثم قال: وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروه لأنه قلما يسلم المادح عن كذب بقوله في مدحه، وقلما يسلم الممدوح من عجب يدخله، ورُوي أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر فقال عمر: عقرت الرجل عقرك الله.
والحاصل أن المدح بغرض تشجيع الممدوح على أفعال الخير جائز كما ذكره الخطابي لأن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبات كثيرة والمدح المكروه هو ما خيف فيه أن يُفتتن الممدوح بالعُجب أو ما قصد به التملق وأكل الأموال بالباطل وبما أن الفرق بينهما دقيق ربما لا يدركه المرء فالأحوط ما ذكره البغوي رحمه الله تعالى من الاجتناب عنه في كل موضع مشتبه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث المقداد رضي الله عنه فقال:
7329 -
(00)(00)(وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبي عثاب الكوفي، ثقة، من (5) روى عنه في (21) بابا (عن إبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي (عن همام بن الحارث) بن قيس بن عمرو النخعي الكوفي، ثقة، من (2)
أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ. فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ. فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيهِ. وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا. فَجَعَلَ يَحثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ. فَقَال لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا رَأَيتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ".
7330 -
(00)(00) وحدّثناه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ. قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ. ح وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيبَةَ. حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ، عُبَيدُ اللهِ بْنُ عُبَيدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنِ الْمِقْدَادِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ
ــ
روى عنه في (4) أبواب (أن رجلًا) من المسلمين (جعل) أي شرع (يمدح عثمان) بن عفان رضي الله عنه (فعمد) أي قصد (المقداد) بن الأسود إلى ذلك الرجل لرميه بالتراب (فجثا) المقداد (على ركبتيه وكمان) المقداد (رجلًا ضخمًا) أي سمينًا عظيم الجسم ولعل الراوي ذكر ذلك لبيان أنه مع كونه جسيمًا تكبد مشقة الجثو على ركبتيه اهتمامًا بما زعمه من الامتثال بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (فجعل) المقداد (يحثو) أي يحفن ويرمي (في وجهه) أي في وجه الرجل (الحصباء) أي الرمال (فقال له) أي للمقداد (عثمان) بن عفان (ما شأنك؟ ) وشغلك يا مقداد ترمي الرجل بالحصباء (فقال) المقداد لعثمان (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم) أيها المؤمنون (المدّاحين) جمع مدّاح جمع سلامة مبالغة مادح أي جنسهم (فاحثو) هم؛ أي فارموا (في وجوههم التراب) وهذا السند من سباعياته، غرضه بيان متابعة همام لأبي معمر.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث المقداد رضي الله عنه فقال:
7330 -
(00)(00)(وحدثناه محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن) بن مهدي (عن سفيان) الثوري (عن منصور ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الأشجعي عبيد الله بن عبد الرحمن) الكوفي، ثقة، من (9) روى عنه في (6) أبواب (عن سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن إبراهيم عن همام عن المقداد عن النبي صلى الله عليه وسلم) غرضه بيان متابعة سفيان لشعبة، وساق سفيان (بمثله) أي بمثل حديث شعبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تتمة] قال القرطبي: (وقول همام إن رجلًا جعل يمدح عثمان فجعل المقداد يحثو في وجهه الحصباء) كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مدّاح ولذلك عمل المقداد بظاهر هذا الحديث فحثا في وجهه التراب، ولعل هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة وحرفة فصدق عليه وإلا فلا يصدق ذلك على من مدح مرة أو مرتين أو شيئًا أو شيئين، وقد بين الصحابي أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث حمله على ظاهره فعاقب المدّاح برمي التراب في وجهه، وهو أقعد بالحال وأعلم بالمقال، وقد أوّله غير ذلك الصحابي بتأويلات لأن ذلك الغير رأى أن ظاهر هذا الحديث وهو الرمي بالحصى جفاء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالجفاء فقال إن معنى هذا الحديث خيبوهم ولا تعطوهم شيئًا لأن من أعطي التراب لم يُعط شيئًا كما قد جاء في الحديث الآخر "إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه ترابًا" رواه أحمد [1/ 289] أي خيبه ولا تعطه شيئًا، وقيل إن معناه أعطه ولا تبخل عليه، فإن مآل كل ما يُعطى إلى التراب كما قال أبو فراس الحمداني:
إذا صح منك الود فالكل هيّن
…
وكل الذي فوق التراب تراب
وقيل معناه التنبيه للممدوح على أن يتذكر أن المبدأ والمنتهى التراب فليعرضه على نفسه لئلا يعجب بالمدح وعلى المدّاح لئلا يفرط ويطري بالمدح وأشبه المحامل بعد المحمل الظاهر الوجه الأول وما بعده ليس عليه معول اهـ من المفهم.
والحاصل أن في هذا الحديث ست تأويلات:
الأول: أنه محمول على حقيقته فينبغي أن يحثى التراب على وجه المادح حقيقة وهو الذي استعمله المقداد رضي الله عنه راوي الحديث.
والثاني: أن حثي التراب كناية عن تخييبه والمراد من المدّاحين من يتملق لأخذ المال والصلة وتخييبه أن لا يُعطى أو من يريد الفتنة بإلقاء العُجب في نفس الممدوح فتخييبه أن لا يعجب الإنسان بنفسه.
والثالث: أن المراد أن يقول الممدوح للمادح بفيك التراب والعرب تستعمل ذلك لمن تكره قوله.
والرابع: أن يأخذ الممدوح ترابًا فيبذره بين يديه ليتذكر أصله وأن مصيره إليه فلا
7331 -
(2989)(149) حدَّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ. حَدَّثَنِي أَبِي. حَدَّثَنَا صَخْرٌ، (يَعْنِي ابْنَ جُوَيرِيَةَ)، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ. فَجَذَبَنِي رَجُلانِ. أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ. فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا. فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ. فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ"
ــ
يطغى بالمدح الذي سمعه وعلى هذا فقوله في وجوه المدّاحين معناه بين أيديهم وفي مواجهتهم.
والخامس: أن المراد بحثو التراب في وجه المادح إعطاؤه ما طلب لأن كل ما فوق التراب تراب وبهذا جزم البيضاوي، وقال: شبه الإعطاء بالحثي على سبيل الترشيح والمبالغة في الاستهانة والتقليل كذا في الفتح.
والسادس: معنى الحديث أنه ينبغي للممدوح أن يقوم عن مجلس المادح ويثير -من أثار الرباعي بالمثلثة- بقيامه التراب عليه ذكره الأبي، وقال: إنه أبعد التأويلات.
ويبدو أن أولى التأويلات هو الثاني كما ذكره القرطبي آنفًا، والمقصود الحث على منعه من المدح وعدم تشجيعه على ذلك وهو الذي اختاره أكثر السلف اهـ من التكملة.
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء السادس من الترجمة وهو مناولة الأكبر أولًا بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال:
7331 -
(2989)(149)(حدثنا نصر بن علي) بن نصر (الجهضمي) البصري أبو عمر الأزدي، ثقة ثبت، من (10) روى عنه في (17) بابا (حدثني أبي) علي بن نصر بن علي الأزدي البصري، ثقة، من (9) روى عنه في (11) بابا (حدثني صخر يعني ابن جويرية) مصغرًا التميمي مولاهم البصري، ثقة، من (7) روى عنه في (5) أبواب (عن نافع أن عبد الله بن عمر) رضي الله تعالى عنهما (حدّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) وهذا السند من خماسياته (أراني) بفتح الهمزة أي أرى نفسي (في المنام أتسوك بسواك فجذبني رجلان أحدهما كبر من الآخر فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي كبر) أي ادفعه إلى الأكبر (فدفعته إلى الأكبر) منهما، قيل لعل تأويل دفعه صلى الله عليه وسلم للأكبر منهما هو منعه أصحابه مما فحش من الكلام وحثهم على السواك لأن
7332 -
(2990)(150) حدَّثنا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ. حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَال: كَانَ أَبُو هُرَيرَةَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، وَعَائِشَةُ تُصَلِّي. فَلَمَّا قَضَتْ صَلَاتَهَا قَالتْ لِعُرْوَةَ: أَلا تَسْمَعُ إِلَى هَذَا وَمَقَالتِهِ آنِفًا؟
ــ
السواك في المنام تطهير الفم من الغيبة ونحوها اهـ مبارق. والرجلان هما جبريل وميكائيل، والقائل كبّر هو جبريل عليهما السلام.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري [246].
وهذا الحديث تقدم تخريجه وشرحه في كتاب الرؤيا باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رقم [5886] فراجعه إن شئت.
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء السابع من الترجمة وهو التثبت في الحديث بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
7332 -
(2990)(150)(حدثنا هارون بن معروف) المروزي ثم البغدادي، ثقة، من (10) روى عنه في (9) أبواب (حدثنا به) أي بهذا الحديث الآتي فقط (سفيان بن عيينة عن هشام) بن عروة (عن أبيه) عروة بن الزبير (قال) عروة (كان أبو هريرة يحدّث) لنا الحديث في المسجد النبوي جنب حجرة عاشة رضي الله تعالى عنها (ويقول) مخاطبًا لها في بداية كل حديث (اسمعي) لي حديثي لتردني عن الخطأ فيه (يا ربة) هذه (الحجرة) يعني حجرة عائشة: أي اسمعي حديثي يا صاحبة هذه الحجرة (اسمعي يا ربة الحجرة) ويا مالكتها كرره للتأكيد يعني بها عائشة ولم ينادها باسمها ولا بيا أم المؤمنين بل بكناية يشركها فيها غيرها من النساء إكرامًا للحرم اهـ أبي، ومراده بذلك تقوية الحديث بإقرارها ذلك وسكوتها عليه ولم تنكر عليه شيئًا من ذلك سوى الإكثار من الرواية في المجلس الواحد لخوفها أن يحصل بسببه سهو ونحوه اهـ نووي؛ أي كان أبو هريرة يحدّث ويقول ذلك الكلام (وعائشة) أي والحال أن عائشة (تصلي) أي تشتغل بالصلاة (فلما قضت) عائشة (صلاتها) وفرغت منها (قالت لعروة) بن الزبير وهو مع أبي هريرة (ألا تسمع) يا عروة (إلى هذا) الرجل تعني أبا هريرة (ومقالته) التي قالها لي (آنفًا) أي في الزمن القريب تعني قوله: اسمعي يا ربة الحجرة مستعجلًا في حديثه، وكيف أسمع له وأنا في الصلاة كأنها أنكرت أن يناديها أبو هريرة وهي تصلي ولعل العذر لأبي هريرة أنه لم
إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ.
7333 -
(2991)(151) حدَّثنا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ. حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تَكتُبُوا عَنِّي. وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ
ــ
يعرف أنها في الصلاة لكونها محتجبة في بيتها (إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث حديثًا) مرتلًا غير مستعجل مكررًا ثلاث مرات ليُفهم غير متوان بحيث (لو عدّه العاد) وحسبه بعدد معلوم (لأحصاه) أي لحصره وضبطه في عدد معلوم تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكثر من الحديث في مجلس واحد وإنما كان يحدّث بأحاديث معدودة قليل عددها ليفهمها الناس ويحفظوها فلم تنكر عليه عائشة نفس التحديث بل إنما أنكرت عليه الإكثار منه في مجلس واحد لما مر.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري في المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم[3567 و 3568]، وأبو داود في العلم باب في سرد الحديث [3654 و 3655]، والترمذي في المناقب باب في كلام النبي صلى الله عليه وسلم[3639].
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الثامن من الترجمة وهو النهي عن كتابة العلم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال:
7333 -
(2991)(151)(حدثنا هدّاب بن خالد) بن الأسود بن هدبة (الأزدي) البصري، ثقة، من (9) روى عنه في (8) أبواب (حدثنا همام) بن يحيى بن دينار الأزدي العوذي البصري، ثقة، من (7) روى عنه في (12) بابا (عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني، ثقة، من (3) روى عنه في (13) بابا (عن عطاء بن يسار) الهلالي المدني مولى ميمونة، ثقة، من (3) روى عنه في (9) أبواب (عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه. وهذا السند من خماسياته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تكتبوا عني) الحديث (ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) أي فليمسحه لئلا يلتبس الحديث بالقرآن، قال القرطبي: كان هذا النهي متقدمًا وكان ذلك لئلا يختلط بالقرآن ما ليس منه، ثم لما أمن من ذلك أُبيحت الكتابة كما أباحها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي شاه في حجة الوداع حين قال:"اكتبوا لأبي شاه" فرأى علماؤنا حديث أبي شاه هذا ناسخًا لذلك النهي.
وَحَدِّثُوا عَنِّي، وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ -قَال هَمامٌ أَحْسِبُهُ قَال: مُتَعَمِّدًا- فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
7334 -
(2992)(152) حدَّثنا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ
ــ
(قلت) ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاهم عن كتب غير القرآن لئلا يتكلوا على كتابة الأحاديث ولا يحفظوها فقد يضيع المكتوب فلا يوجد في وقت الحاجة ولذلك قال مالك: ما كتبت في هذه الألواح قط، قال: وقلت لابن شهاب: أكنت تكتب الحديث؟ قال: لا اهـ من المفهم. وهذا النهي ظاهر في البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم حيث لم يكن مكتوبًا بصورة كتاب مدون، وإنما كان يكتب على العظام وجريد النخل والحجارة ونحوها فلو كتبت الأحاديث معها لوقع التباس القرآن بغيره فنهى عن ذلك في أول الأمر حيث يُخشى الالتباس، أما في حالة الأمن منه فقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابة بنفسه لعدة من الصحابة مثل علي وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة ورافع بن خديج وأبي شاه وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم وقد كُتبت أحاديث كثيرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في روايات كثيرة تجدها مجموعة في كتاب تقييد العلم للخطيب رحمه الله تعالى.
(وحدّثوا عني) الحديث لغيركم (ولا حرج) ولا ذنب ولا لوم عليكم في نقل الحديث عني (ومن كذب عليّ) أي ومن نسب إليّ قولًا لم أقله ولا فعلًا لم أفعله (قال همام) بالسند السابق (أحسبه) أي أحسب زيد بن أسلم (قال) عند روايته لنا لفظة (متعمدًا) أي كذب عليّ متعمدًا (فليتبوأ) أي فليتخذ (مقعده) أي مقره ومنزله (من النار) أي من نار جهنم مخلدًا فيها إن استحل الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لأنه كفر بذلك أو غير مخلد بقدر كذبه إن لم يستحل كما بسطنا الكلام عليه في أول الكتاب.
وهذا الحديث مما انفرد به المؤلف عن أصحاب الأمهات لكنه شاركه أحمد في مسنده [1/ 98]، والدارمي في سننه في العلم [456]، والحاكم في المستدرك [1/ 127]، وابن حبان في صحيحه [1/ 142]، والبغوي [1/ 294].
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء التاسع من الترجمة وهو قصة أصحاب الأخدود بحديث صهيب بن سنان رضي الله عنه فقال:
7334 -
(2992)(152)(حدثنا هداب بن خالد) بن الأسود بن هدبة الأزدي
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيلَى، عَنْ صُهَيبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "كانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ. وَكانَ لَهُ سَاحِرٌ. فَلَمَّا كَبِرَ قَال لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كبِرْتُ. فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ. فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ، رَاهِبٌ. فَقَعَدَ إِلَيهِ وَسَمِعَ كَلامَهُ. فَأَعْجَبَهُ. فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيهِ
ــ
البصري، ويقال له هدبة، ثقة، من (9)(حدثنا حماد بن سلمة) بن دينار الربعي البصري، ثقة، من (8)(حدثنا ثابت) بن أسلم البناني البصري، ثقة، من (4)(عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) يسار الأنصاري الأوسي الكوفي، ثقة، من (2)(عن صهيب) بن سنان الرومي المدني رضي الله عنه. وهذا السند من خماسياته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان ملك فيمن كان قبلكم) من الأمم، ولم أقف على اسم هذا الملك وعلى تعيين مكانه غير أن الظاهر أنه كان في زمن الفترة بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام والظاهر على ما يفهم من كتب التفاسير أن ذو نواس اسمه زرعة بن حسان ملك حمير وما حولها وكان يسمى أيضًا يوسف بن شرحبيل في الفترة قبل أن يُولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكانت له غدائر من شعر أي ذوائب تنوس أي تضطرب فسُمي ذا نواس وأن مكانه نجران بتقديم النون وتأخير الجيم موضع باليمن فُتح سنة عشر من الهجرة سُمي بنجران بن زيدان بن سأ (وكان له) أي لذلك الملك (ساحر) يسحر له أي يعمل السحر له وكان اسم الساحر دولعان اهـ تنبيه المعلم (فلما كبر) وأسن ذلك الساحر (قال للملك) أي لذي نواس (إني قد كبرت) أي قد كبر سني فأخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه (فابعث إليّ غلامًا) أي ولدًا مراهقًا فهمًا أو قال فطنًا لقنًا فـ (أعلمه) لكم علمي (السحر فبعث) الملك (إليه) أي إلى الساحر (غلامًا) موصوفًا بالصفات السابقة (يعلّمه) لهم السحر قيل اسمه عبد الله بن الثامر كما سيأتي (فكان في طريقه) أي على طريق الغلام (إذا سلك) وذهب إلى الساحر لتعلّم السحر (راهب) اسم كان مؤخر أي متعبدًا يتعبد ربه على دين عيسى في صومعة له، اسم الراهب فيميؤن، وقيل قيشمون (فقعد) الغلام (إليه) أي عنده أي عند الراهب (وسمع) الغلام (كلامه) أي كلام الراهب من عقائد التوحيد (فأعجبه) أي أعجب الغلام كلام الراهب فأحبه (فكان) الغلام (إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه) أي عنده ليسمع
فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ. فَقَال: "إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَينَمَا هُوَ كَذلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ
ــ
كلامه (فإذا أتى) الغلام (الساحر ضربه) الساحر لتأخره (فشكا) الغلام (ذلك) أي ضرب الساحر له (إلى الراهب) أي أخبره على سبيل الشكوى إليه (فقال) الراهب للغلام (إذا خشيت) وخفت (الساحر) أي ضربه (فقل) له (حبسني أهلي) أي أخزني أهلي عن الحضور إليك في أول الدوام (وإذا خشيت أهلك) أي ضربهم (فقل) لهم (حبسني الساحر) أخرّني الساحر لشغل الدراسة عنكم.
قال القاضي عياض: في هذا الحديث جواز الكذب للضرورة لا سيما في الله تعالى والدفع عن الإيمان ومع من أراد أن يصد عنه، قال القرطبي: وجه الاستدلال به كونه صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الثناء على الراهب والغلام واستحسان فعلهما إذ لو كان غير جائز لبينه صلى الله عليه وسلم والبيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، وقال الأبي ويحتمل أن يكون ذلك تورية لا كذبًا لأن الغلام لا يصل إلى أهله إلا بعد المُكث عند الساحر والراهب، والتورية في قوله حبسني أهلي أبين وأوضح لأنه الأهل حقيقة إنما هم المرشدون له إلى السعادة فأراد بهذا اللفظ يعني لفظ الأهل الراهب وكذلك قوله لأهله حبسني الساحر يُمكن تأويله على التورية بأنه لا يصل إلى أهله إلا بعد المُكث عند الساحر والراهب جميعًا فيصدق قوله حبسني الساحر لأنه كان أحد الحابسين له اهـ من الأبي بزيادة.
(فبينما هو) أي ذلك الغلام كائن (كذلك) أي مترددًا بين أهله وبين الساحر والراهب مع كذبه بالأهل والساحر أو المعنى فبينما هو كائن كذلك أي ملازمًا للراهب مترددًا إليه، والراهب واحد رهبان النصارى وهو من اعتزل من الناس إلى دير طلبًا للعبادة، والصومعة على زنة جوهرة بيت للنصارى ينقطع فيه رهبانهم اهـ من التحفة (إذ) فجائية رابطة لجواب بينما أي فبينما أوقات تردده إلى الساحر ومروره على الراهب فاجأه أن (أتى) ومر (على دابة عظيمة) أي فاجأه إتيانه ومروره على دابة عظيمة أي شديدة الافتراس على الناس (قد حبست الناس) ومنعتهم عن المرور في الطريق أي تعرضت في الطريق فمنعت الناس من المرور ووقع في رواية الترمذي قول بعض الرواة أن الدابة
فَقَال: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَال: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ. حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا. وَمَضَى النَّاسُ. فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَال لَهُ الرَّاهِبُ: أَي بُنَيَّ، أَنْتَ، الْيَوْمَ، أَفْضَلُ مِنِّي. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى. وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى. فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلُّ عَلَيَّ. وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ. فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ. فَقَال: مَا ههُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيتَنِي
ــ
كانت أسدًا (فقال) الغلام في نفسه (اليوم) أي في هذا اليوم الحاضر (أعلم) بصيغة المضارع المسند إلى المتكلم (آلساحر) بزيادة همزة الاستفهام أي فقال اليوم أعلم جواب استفهام هل الساحر (أفضل) أي أنفع اتباعًا واقتداء به (أم الراهب أفضل) اقتداء به، قال الأبي: فليس هذا شكًّا منه وإنما هو استثبات واطمئنان منه (فأخذ) الغلام (حجرًا) من الأحجار (فقال) لربه (اللهم إن كان أمر الراهب) ودينه (أحب إليك) أي عندك (من أمر الساحر) ودينه (فاقتل) عنا (هذه الدابة) الضارية المانعة للناس عن المرور في الطريق (حتى يمضي الناس) ويمرون في طريقهم (فرماها) أي فرمى الغلام تلك الدابة (فقتلها) بحجره (ومضى الناس) أي مروا في طريقهم (فأتى) الغلام (الراهب فأخبره) أي أخبر الراهب بما قال وفعل بالدابة (فقال له) أي للغلام (الراهب أي بني) أي يا ولدي صغره تصغير شفقة (أنت اليوم) أي في هذا الوقت الحاضر (أفضل مني) أي أعظم درجة ومنزلة مني عند الله تعالى (قد بلغ) وحصل لك (من أمرك) ومنزلتك عند الله (ما أرى) وأعلم من المنزلة الرفيعة والكرامة العظيمة (و) لكن (إنك) يا بني (ستبتلى) وتختبر عند الملك (فإن ابتليت) واختبرت (فلا تدل) الناس (عليّ) فإنهم يقتلونني، وانتشر أمر الغلام في الناس (وكان الغلام يبرئ) ويشفي (الأكمه) أي من وُلد أعمى بدعائه (والأبرص) من برصه (ويداوي الناس) أي يعالجهم (من سائر الأدواء) أي من جميع الأمراض (فسمعـ) ـه أي فسمع علاج الغلام من كل الأدواء (جليس) أي صاحب (لـ) هذا (الملك) وقد كان) هذا الجليس (قد عمي) وفقد بصره (فأتاه) أي فأتى الغلام هذا الجليس الأعمى (بهدايا كثيرة) ليعالجه (فقال) الجليس للغلام (ما ها هنا لك أجمع) أي كل ما ها هنا لي من الأموال أجمعه كائن لك أيها الغلام (أن أنت شفيتني) ورددت لي بصري. وقوله (أجمع) بالرفع
فَقَال: إِنِّي لَا أَشفِي أَحَدًا. إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ. فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللهِ. فَشَفَاهُ اللهُ. فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيهِ كَمَا كَانَ يَجلِسُ. فَقَال لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيكَ بَصَرَكَ؟ قَال: رَبِّي. قَال: وَلَكَ رَبُّ غَيرِي؟ قَال: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلام. فَجِيءَ بِالْغُلام. فَقَال لَهُ الْمَلِكُ: أَي بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ. فَقَال: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا. إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ. فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ. فَقِيلَ لَهُ:
ــ
على أنه تأكيد لما الموصولة الواقعة مبتدأ خبره لك فالمعنى إن أنت شفيتني فإن هذا المال الذي هو موجود ها هنا أجمعه لك في مقابلة شفائي يعني به الهدايا الكثيرة التي أتى بها اهـ (فقال) الغلام (إني لا أشفي أحدًا) من الناس من مرضه ولا أرد بصرك (إنما يشفي الله) أي فإنما الشفاء ورد البصر من الله تعالى لا من أحد من الناس (فإن أنت آمنت) وصدقت (بالله) أي بوحدانية الله تعالى وأقررت بربوبيته (دعوت الله) تعالى لك بالشفاء (فشفاك) بقدرته ورد بصرك إليك (فآمن) الأعمى (بالله) تعالى فدعا له الغلام (فشفاه الله) تعالى ببركة الإيمان بالله تعالى (فأتى) الجليس (الملك فجلس إليه) أي عند الملك كعادته أي (كما كان يجلس) عنده وهو أعمى (فقال له الملك من رد بصرك) وشفاك (قال) الجليس شفاني (ربي) الذي خلقني ورباني (قال) الملك له أ (ولك رب غيري؟ قال) الجليس: نعم لي رب غيرك لأن (ربي وربك الله) أي المعبود الحق. وفي هذا دليل على أن الملك كان يدّعي الألوهية ففيه رد على من زعم أن هذا الملك كان يهوديًّا (فأخذه) أي فأخذ الملك جليسه الأعمى (فلم يزل) الملك (يعذبه حتى دل) الجليس الملك (على الغلام) فأرسل الملك إلى الغلام (فجيء بالغلام) بين يدي الملك (فقال له) أي للغلام (الملك أي بني) صغره تصغير إهانة وتحقير (قد بلغ) وحصل (من سحرك) الذي أمرتك بتعلمه (ما تبرئ) به (الأكمه والأبرص وتفعل) به كذا وكذا (وتفعل) به كذا وكذا من دعوة الناس إلى الإيمان (فقال) الغلام للملك (إني لا أشفي أحدًا) من الناس (إنما يشفيـ) ـهم (الله) تعالى ببركة الإيمان به (فأخذه) أي فأخذ الملك الغلام (فلم يزل) الملك (يعذبه) أي يعذب الغلام بأنواع التعذيب (حتى دل) الغلام الملك (على الراهب) فأرسل الملك إلى الراهب (فجيء بالراهب) إلى الملك (فقيل له)
ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى. فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ. فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ. فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى. فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ. فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَال: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا. فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ. فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلّا فَاطْرَحُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ
ــ
أي للراهب (ارجع عن دينك) الذي هو التوحيد (فأبى) الراهب وامتنع عن الرجوع عن دينه (فإن قلت) كيف يجوز للغلام في شرعنا ما فعل بالراهب من دلالته عليه للقتل (قلت) إن الغلام غير مكلف لأنه لم يبلغ الحلم ولو سُلِّم أنه مكلف فيُعذر له عن ذلك بأنه لم يعلم أن الراهب يُقتل فلا يلزم من دلالته عليه قتله اهـ من المفهم (فدعا) الملك (بالمئشار) هو مهموز في رواية الأكثرين ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ياءً، ورُوي المنشار بالنون وهما لغتان سبق بيانهما وهي آلة يُقطع بها الخشب ويُنشر، قال في التحفة (والمئشار) بكسر الميم آلة ذات أسنان يُنشر بها الخشب ونحوه، قوله (على مفرق أحدهما) والمفرق كمقعد ومجلس وسط الرأس وهو الذي يفرق فيه الشعر اهـ منه (فوضع) الملك (المئشار) أي أمر بوضعه (في مفرق رأسه) أي في وسط رأس الراهب وهو موضع فرق الشعر (فشقه) نصفين طولًا (حتى وقع) وسقط (شقاه) أي جانباه من الجانبين (ثم جيء بجليس الملك فقيل له) أي للجليس (ارجع عن دينك) الذي هو دين التوحيد (فأبى) الجليس وامتنع من الرجوع عن دينه (فوضع) الملك (المئشار) أي أمر بوضعه (في مفرق رأسه فشقه) أي فشق الملك جليسه (به) أي بالمئشار (حتى وقع شقاه) على الأرض (ثم جيء بالغلام فقيل ارجع عن دينك فأبى) أي امتنع من الرجوع عنه (فدفعه) أي فدفع الملك الغلام (إلى نفر) أي إلى جماعة (من أصحابه) أي من خواصه وأعوانه (فقال) الملك لهم (اذهبوا به) أي بهذا الغلام (إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم) أي وصلتم به (ذروته) أي ذروة الجبل وأعلاه، وذروة كل شيء بتثليث الذال أعلاه (فإن رجع) أي الغلام (عن دينه) أي عن دين التوحيد إلى دين الشرك فاتركوه (وإلا) أي وإن لم يرجع عن دينه (فاطرحوه) أي فارموه من أعلى الجبل ليموت مترديًا فأخذ أولئك النفر الغلام من الملك (فذهبوا به) إلى الجبل (فصعدوا به الجبل) وطلبوا
فَقَال: اللَّهُمَّ اكفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا. وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. فَقَال لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَال: كَفَانِيهِمُ اللهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَال: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَن دِينِهِ وَإِلّا فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ. فَقَال: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ
ــ
منه الرجوع عن دينه فتضرع إلى الله تعالى (فقال) في تضرعه (اللهم اكفنيهم) أي يا آلهي كن كافيًا لي ودافعًا عني شرّهم (بما شئت) من مكرك وحفظك (فرجف بهم الجبل) أي اضطرب وتحرك بهم حركة شديدة، قال الأبي: أي تحرك بهم الجبل وزلزل زلزلة شديدة، ومنه {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} قال القاضي: وهو عند الصدفي بالزاي والحاء المهملة والصواب الأول وإن كان الزحف بمعنى الحركة يقال زحف القوم إلى عدوهم أي نهضوا اهـ منه (فسقطوا) من الجبل وهلكوا (وجاء) الغلام (يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك) الذين ذهبوا معك فـ (قال) الغلام للملك (كفانيهم الله) أي كفاني شرهم ودافعه عني بحفظه وحوله (فدفعه) الملك (إلى نفر) آخرين (من أصحابه، فقال) لهم الملك (اذهبوا به) إلى جهة البحر (فاحملوه) أي فاحملوا هذا الغلام (في قرقور) وسفينة، والقرقور بضم القافين بينهما راء ساكنة، وذكر بعض العلماء أن القرقور سفينة كبيرة، وذكر بعضهم أنها سفينة صغيرة، والراجح في سياق الحديث أنها الصغيرة لأنها هي التي تستعمل في مثل هذه المواقع لا الكبيرة، وقال ابن دريد وصاحب العين: القرقور ضرب من السفن والمناسب للحال والحديث أنه الصغير لأنه هو الذي يستعمل في مثل هذا الحمل، وفي حديث قصة موسى عليه السلام فلما رأوا التابوت في اليم ركبوا القراقير حتى أتوا به، والكبير إنما يُستعمل في عظام الأمور، ولعل الملك قصد الكبير ليتوسطوا به البحر ويبعدوه اهـ من الأبي، وقال القرطبي: القرقور ضرب من السفن عربي معروف والمعروف عند الناس فيه استعماله فيما صغر منها وخف للتصرف فيه اهـ مفهم (فتوسطوا به البحر) أي فادخلوا به وسط البحر (فإن رجع عن دينه) فاتركوه وارجعوا به (وإلا) أي وإن لم يرجع عن دينه (فاقذفوه) أي فارموه في البحر، وفي رواية الترمذي "فانطلق به إلى البحر فغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه"(فذهبوا به) إلى البحر (فقال) الغلام (اللهم اكفنيهم بما شئت) من مكرك وحولك وقوتك (فانكفأت) أي فانقلبت (بهم) أي بأولئك النفر (السفينة) في البحر، يقال كفأه كمنعه وأكفأه إذا قلبه وكبه
فَغَرِقُوا. وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. فَقَال لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَال: كَفَانِيهِمُ اللهُ. فَقَال لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَال: وَمَا هُوَ؟ قَال: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ. وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ. ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي. ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلامِ. ثُمَّ ارْمِنِي. فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ. وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ. ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ. ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَال: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلامِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ. فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغهِ فِي مَوْضِعِ السِّهْمِ. فَمَاتَ
ــ
فانكفأ اهـ (فغرقوا) فماتوا في البحر (وجاء) الغلام حالة كونه (يمشي) على رجليه بعد نجاته بالسباحة أو بما شاء الله تعالى (إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك) الذين أرسلناهم معك (فقال) الغلام (كفانيهم الله) تعالى شرهم (فقال) الغلام (للملك إنك) أيها الملك (لست بقاتلي) أي بقادر على قتلي (حتى تفعل ما آمرك به) في قتلي (قال) الملك (وما هو) أي وما الأمر الذي تأمرني به (قال) الغلام للملك (تجمع الناس في صعيد واحد) أي في أرض بارزة واسعة (وتصلبني) أي تعلقني (على جذع) من جذوع النخل أي على خشب من الأخشاب (ثم خذ سهمًا) أي نبلًا (من كنانتي) أي من كيس سهامي (ثم ضع السهم في كبد القوس) أي في مقبضها عند الرمي (ثم قل باسم الله رب الغلام) أقتل هذا الغلام (ثم ارمني) بالسهم (فإنك إن فعلت ذلك) الفعل الذي أمرتك به (قتلتني) أي تقدر على قتلي وإلا فلا تقدر على قتلي (فجمع) الملك (الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته) أي من كيس سهام الغلام (ثم وضع السهم في كبد القوس) أي في مقبضه (ثم قال) الملك (باسم الله رب الغلام) أرميه (ثم رماه فوقع السهم في صدغه) أي في صدغ الغلام، والصدغ الموضع المنخفض بين اللحاظ، والأذن فوق العذار (فوضع) الغلام (يده في صدغه في موضع السهم فمات) الغلام، قال القاضي: سعيه أي تسببه في قتل نفسه إنما هو ليشهر أمر الإيمان في الناس ويروا برهانه كما وقع قال القرطبي ويجاب أيضًا بأنه غير بالغ أو علم أنه لا بد أن يقتل اهـ من الأبي، وعبارة التكملة: قوله (فمات) فإن قيل كيف أمر الغلام ذلك الملك بقتل نفسه وهو
فَقَال النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ. آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ. آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ. فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ، وَاللهِ، نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ. قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالأُخدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ. وَقَال: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ
ــ
حرام؟ فالجواب أنه قد علم أنه لا بد أن يُقتل وإنما نجاته الآن بطريق الكرامة لإحقاق الحق فأمره بما يتضح به الحق على جميع الناس فيؤمنوا فيكون سببًا لهدايتهم وهذا كالمجاهد يقحم نفسه في معركة القتال لإعلاء كلمة الله تعالى اهـ منه.
(فقال الناس) المجتمعون في الصعيد (آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام) بالتكرار ثلاثًا للتأكيد (فأتي الملك فقيل له) بالبناء للمجهول في الفعلين أي أتاه آت فقال له (أرأيت ما كنت تحذر) منه من إيمان الناس أي أخبرني عما كنت تحذر وتخاف منه من الإيمان بالله فإنه (قد والله نزل بك حذرك) أي قد وقع ما كنت تحذر وتخاف منه، فإنه (قد آمن الناس) كلهم، وفي رواية الترمذي "ثم مات، فقال أناس: لقد علم هذا الغلام علمًا ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام، قال: فقيل للملك: أجزعت أن خالفك ثلاثة -أي الأعمى والراهب والغلام- فهذا العالم كلهم قد خالفوك، قال: فخدّ أخدودًا" الحديث (فأمر) الملك (بـ) شق (الأخدود) بضم الهمزة وسكون المعجمة الشق العظيم يُجمع على أخاديد (في أفواه السكك) أي على أبواب الطرق ومداخلها (فخُدّت) الأخدود وشقت وحُفرت على أفواهها بضم الخاء المعجمة على صيغة المبني للمجهول والسكك بكسر السين المهملة جمع سكة وهي الطريق وأفواهها أبوابها ومداخلها، وإنما شق الأخدود على مداخل الطريق لئلا يتمكن الناس من الهروب (وأضرم النيران) أي أوقدها وأشعلها (وقال) ذلك الملك (من لم يرجع عن دينه) دين التوحيد (فأحموه) أي فأحرقوه (فيها) أي في هذه النيران التي اضرمت في الأخدود، قوله (فأحموه فيها) بفتح الهمزة من الإحياء أي ارموه فيها من قولهم أُحميت الحديدة وغيرها إذا أدخلتها النار لتحمى أي لتصير حارة، قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ "فاحموه" بهمزة قطع بعدها حاء ساكنة، ونقل القاضي اتفاق النسخ على هذا، ووقع في بعض نسخ بلادنا (فأقحموه) بالقاف وهذا ظاهر ومعناه اطرحوه فيها كرهًا اهـ وبهذا اللفظ رواه النسائي (أو قيل له) أي لمن لا يرجع عن دينه (اقتحم) أي ادخل هذه النار فيدخل
فَفَعَلُوا. حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا. فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا. فَقَال لَهَا الْغُلامُ: يَا أُمَّهِ، اصْبِرِي. فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ"
ــ
إن لم يرجع (نفعلوا) أي ففعل أصحاب الملك ما أمرهم به الملك من قذف من لم يرجع عن دينه في تلك النار (حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها) فأمروها بدخول النار (فتقاعست) تلك المرأة لأجل ولدها أي توقفت وامتنعت عن دخولها ولزمت موضعها وكرهت الدخول في النار أي تباطأت وتأخرت عن (أن تقع) وتسقط (فيها) أي في النار (فقال لها الغلام) أي صبيها (يا أمه) بكسر الميم على حذف ياء المتكلم اجتزاء عنها بالكسرة وبهاء السكت وبفتح الميم مع هاء السكت على قلب ياء المتكلم ألفًا وحذفها اجتزاء عنها بالفتحة، وعلى كلا التقديرين حركت هاء السكت لالتقاء الساكنين أي يا أمي (اصبري) على هذه النار فادخليها (فإنك على الحق) الذي هو التوحيد، قيل إن هذا الغلام الذي كلم الأم أحد الستة الذين تكلموا في المهد كما في شرح الأبي وكونه في المهد ليس صريحًا في رواية المؤلف ولكن وقع عند النسائي في السنن الكبرى "فجاءت امرأة بابن لها ترضعه" وهو صريح في كون الصبي رضيعًا ولم أر من ذكر اسم هذا الغلام. وفي رواية الترمذي في آخر هذا الحديث زيادة وهي قال:"فأما الغلام فإنه دُفن، قال: فيذكر أنه أُخرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قُتل" قال صاحب التحفة: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حُدّث أن رجلًا من أهل نجران كان زمن عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته فوجد عبد الله بن الثامر تحت مقبرة دُفن فيها قاعدًا واضعًا يده على ضربة في رأسه ممسكًا عليها بيده فإذا أخذت يده عنها انبعث دمًا وإذا أُرسلت يده رُدّت عليها فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله، وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا اهـ من التحفة.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث الترمذي في تفسير سورة البروج [3340]، والنسائي في الكبرى [6/ 510]، وأحمد [6/ 17]، وابن حبان [2/ 116 و 117].
وهذا الحديث إنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليصبروا على ما يلقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في الحق وتمسكه به وبذله نفسه في حق إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظيم صبره، وكذلك الراهب صبر عى التمسك حتى نُشر بالمنشار، وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا عن دينهم وهذا كله فوق ما كان يفعل بمن آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن فيهم من فُعل به شيء من ذلك لكفاية الله تعالى لهم ولأنه تعالى أراد إعزاز دينه وإظهار كلمته، على أني أقول: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم أقوى الأنبياء في الله تعالى، وأصحابه أقوى أصحاب الأنبياء في الله تعالى فقد امتحن كثير منهم بالقتل وبالصلب وبالتعذيب الشديد ولم يلتفت إلى شيء من ذلك وتكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقي أصحابه من الحروب والمحن والأسر والحرق وغير ذلك فلقد بذلوا في الله نفوسهم وأموالهم وفارقوا ديارهم وأولادهم حتى أظهروا دين الله تعالى ووفّوا بما عاهدوا عليه الله فجازاهم الله تعالى أفضل الجزاء ووفّاهم من أجر من دخل في الإسلام بسببهم أفضل الإجزاء والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ من المفهم.
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب من الأحاديث أحد عشر: الأول حديث عائشة ذكره للاستدلال به على الجزء الأول من الترجمة، والثاني حديث أبي هريرة الأول ذكره للاستدلال به على الجزء الثاني من الترجمة وذكر فيه متابعة واحدة، والثالث حديث أبي هريرة الثاني ذكره للاستدلال به على الجزء الثالث من الترجمة وذكر فيه متابعة واحدة، والرابع حديث صهيب الأول ذكره للاستدلال به على الجزء الرابع من الترجمة، والخامس حديث أبي بكرة ذكره للاستدلال به على الجزء الخامس من الترجمة وذكر فيه متابعتين، والسادس حديث أبي موسى الأشعري ذكره للاستشهاد به، والسابع حديث المقداد بن الأسود ذكره للاستشهاد وذكر فيه متابعتين، والثامن حديث ابن عمر ذكره للاستدلال به على الجزء السادس من الترجمة، والتاسع حديث أبي هريرة الثالث ذكره للاستدلال به على الجزء السابع من الترجمة، والعاشر حديث أبي سعيد الخدري ذكره للاستدلال به على الجزء الثامن من الترجمة، والحادي عشر حديث صهيب الثاني ذكره للاستدلال على الجزء التاسع من الترجمة والله سبحانه وتعالى أعلم.
***