الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظام النحوي
مدخل
…
النظام النحوي
قلنا من قبل: إن النظام النحوي للغة العربية الفصحى ينبني على الأسس الآتية:
1-
طائفة من المعاني النحوية العامة التي يسمونها معاني الجمل أو الأساليب.
2-
مجموعة من المعاني النحوية الخاصة أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والإضافة إلخ.
3-
مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها، وذلك كعلاقة الإسناد والتخصيص "وتحتها فروع"، والنسبة "وتحتها فروع"، والتبعية "وتحتها فروع أيضًا"، وهذه العلاقات في الحقيقة قرائن معنوية على معاني الأبواب الخاصة كالفاعلية والمفعولية.
4-
ما يقدمه علما الصوتيات والصرف لعلم النحو من قرائن صوتية أو صرفية كالحركات والحروف ومباني التقسيم ومباني التصريف، وما اصطلحنا من قبل على تسميته مباني القرائن اللفظية.
5-
القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفرد كل عنصرمما سبق وبين بقية أفراده.
ولقد أشرنا من قبل إلى أنَّ النحو لا يتخذ لمعانيه مباني من أي نوع إلّا ما يقدمه له الصرف1 من المباني، وهذا هو السبب الذي جعل النحاة يجدون في أغلب الأحيان أنه من الصعب أن يفصلوا بين الصرف والنحو فيعالجون كلًّا منهما علاجًا منفصلًا، ومن هنا جاءت متنون القواعد مشتملة على مزيج من هذا وذاك يصعب معه إعطاء ما للنحو وما للصرف للصرف.
يقول ابن مالك مثلًا:
وتاء تأنيث تلي الماضي إذا
…
كان لأنثى كأبت هند الأذى
1 الصرف يستعين بالأصوات أيضًا، ثم يقدِّم العناصر الصوتية إلى النحو باعتبارها عناصر صرفية.
وهذا الكلام يفهم على وجهين أحدهما صرفي والآخر نحوي، ويمكن لنا أن نضع خطة الفهم الصرفي على النحو الآتي:
المعنى المبنى العالمة
التأنيث التاء على إطلاقها التاء في أبت
فالتأنيث معنًى صرفي من معاني التصريف على نحو ما أسلفنا، ففهم بيت الألفية على هذا النحو فهم صرفي، ولكننا نستطيع أن نفهم هذا البيت أيضًا من زاوية النحو وهي زاوية العلاقات السياقية، ويكون ذلك كما يأتي:
المعنى المبنى العلامة
المطابقة في التأنيث بين الفعل والفاعل التاء على إطلاقها التاء في أبت
ويبدو أن ابن مالك أحسَّ ضرورة وزن الشعر فجعل كلمة "أنثى" في مكان كلمة "التأنيث" أو حتى "المؤنث"، فالتأنيث هو المعنى والمؤنث مبنًى له، ولكن تحته فروعًا هي مبانٍ فرعية أيضًا، فقد يعبر عن المؤنث بالتاء أو بالألف المقصورة أو الممدودة، أمًّا الأنثى فلا علاقة لها بكل ذلك؛ لأن معناها الأكبر هو "الأنوثة" وليس التأنيث، والأنوثة ضد الذكورة وهما في الطبيعة، والتأنيث ضد التذكير وهما في اللغة. أما قول بن مالك في مكان آخر:"أو مفهم ذات حر" فليس مردّه إلى ضرورة وزن الشعر كما كان الاحتمال هنا، وإنما مرده إلى الخطأ الموروث من تفكير النحاة، ويتضح الفرق بين التأنيث والأنوثة من أن "الأرض" مؤنثة وليست أنثى.
والذي يبدو من هذا التصوير للصلة بين المعنى النحوي والمبنى الصرفي والعلامة المنطوقة أو المكتوبة ما يأتي:
1-
إن جميع ما نسميه المعاني النحوية هو وظائف للمباني التي يتكوّن منها المبنى الأكبر للسياق.
2-
إن المباني المتعددة في السياق هي مفاهيم صرفية لا نحوية.
3-
إن العلامة المنطوقة أو المكتوبة ليست جزءًا من نظام الصرف أو نظام النحو، ولكنها جزء من الكلام، ويمكن توضيح ذلك كما يأتي:
المعنى المبنى العلامة
وظيفة للمبنى شكل مطلق نطق بعينه أو كتابة بعينها
والغاية التي يسعى إليها الناظر في النص هي فهم النص، ووسيلته إلى ذلك أن ينظر في العلامات المنطوقة أو المكتوبة، فيرى دون جهد كبير أن هذه العلامة من نوع مبنى كذا، فسيعلم مثلًا أن التاء في "أبت هند الأذى" من نوع التاء المطلقة التي تذكر القواعد أنها تلحق بالفعل، وسيعلم دون كبير عناء أن الألف في "قفا = قفن" غير الألف في "قليلًا" من قوله تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} وإن أتت كلتا الألفين قبل الوقف مباشرة وجاءت كلتاهما عن نون ساكنة، فالألف الأولي جاءت عن نون التوكيد الخفيفة والثانية عن التنوين. وسيعلم الناظر في "قام زيد" أن خصوص لفظ "زيد" هنا ينتمي إلى عموم الاسم المرفوع، فخصوص اللفظ علامة، وعموم الاسم المرفوع مبنى، وسيعلم الناظر أيضًا أن خصوص لفظ "ما" في قولنا:"ما أحسن زيدًا" ينتمي إلى مفهوم عام هو "ما" على إطلاقها.
فإدراك المبنى بواسطة النظر إلى العلامة لا يعد من العمليات العقلية الكبرى في التحليل، وإنما تأتي الصعوبة عند إرادة تعيين المعنى بواسطة المبنى، فلقد أشرنا من قبل إلى أن المعنى الوظيفي متعدد بالنسبة للمبنى الواحد، فبالنسبة لكلمة "قفا" التي أوردناها منذ قليلٍ يمكن للألف أن تكون ألف الاثنين، أما بالنسبة للاسم المرفوع فمن المعاني الصالحة له الفاعل ونائبه والمبتدأ والخبر إلخ، وأما بالنسبة لمبنى "ما" فقد رأينا من قبل أنها تصلح على إطلاقها للشرط والاستفهام والموصول والمصدرية وأن تكون كافة أو زائدة إلخ، بل إنها في هذا الموضع بالذات رأينا أن النحاة اختلفوا فيها بين أن تكون:
أ- نكرة تامَّة بمعنى "شيء".
ب- استفهامية.
جـ- معرفة ناقصة بمعنى "الذي".
د- نكرة ناقصة وبعدها صفة.
وإن كانوا اتفقوا على أنها اسم وأنها مبتدأ، والمغزى من وراء كل ذلك أنّ ما يتسم به المعنى الوظيفي للمبنى الواحد من التعدد والاحتمال يجعل الناظر
في النص يسعى دائمًا وراء القرائن اللفظية والمعنوية والحالية ليرى أيّ المعاني المتعددة لهذا المبنى هو المقصود، ومن هنا نرى التفاضل بين المعربين للجملة الواحدة.
والكشف عن العلاقات السياقية "أو التعليق كما يسميه عبد القاهر" هو الغاية من الإعراب، فإذا طلب إلينا مثلًا أن نعرب جملة مثل:"ضرب زيد عمرًا" نظرنا في الكلمة الأولى "ضرب" فوجدناها قد جاءت على صيغة "فَعَلَ"، ونحن نعلم أن هذه الصيغة تدل على الفعل الماضي سواء من حيث صورتها أو من حيث وقوفها بإزاء "يَفْعَلُ وافْعَل"، فهي تندرج تحت قسم أكبر من بين أقسام الكلم يسمَّى "الفعل". ومن هنا نبادر إلى القول بأن:"ضرب فعل ماضي"، ثم ننظر بعد ذلك في زيد فنلاحظ ما يأتي:
1-
أنه ينتمي إلى مبنى الاسم "قرينة الصيغة".
2-
أنه مرفوع "قرينة العلامة الإعرابية".
3-
أن العلاقة بينه وبين الفعل الماضي هي علاقة الإسناد "قرينة التعليق".
4-
أنه ينتمي إلى رتبة التأخر "قرينة الرتبة".
5-
أن تأخره عن الفعل رتبة محفوظة "قرينة الترتبة".
6-
أن الفعل معه مبني للمعلوم "قرينة الصيغة".
7-
أن الفعل معه مسند إلى المفرد الغائب -وهذا إسناده مع الاسم الظاهر دائمًا- "قرينة المطابقة". وبسبب كل هذه القرائن نصل إلى أن "زيد" هو الفاعل، ثم ننظر بعد ذلك في "عمرًا" ونلاحظ:
1-
أنه ينتمي إلى مبنى الاسم "قرينة الصيغة".
2-
أنه منصوب "قرينة العلامة الإعرابية".
3-
أن العلاقة بينه وبين الفعل هي علاقة التعدية "قرينة التعليق".
4-
أن رتبته من كل من الفعل والفاعل هي رتبة التأخر "قرينة الرتبة".
5-
أن هذه الرتبة غير محفوظة "قرينة الرتبة".
وبسبب هذه القرائن نسارع إلى القول بأن "عمرًا" مفعول به.
ولا شكَّ أن أصعب هذه القرائن من حيث إمكان الكشف عنها هي قرينة التعليق لأنها:
1-
قرينة معنوية خالصة تحتاج إلى تأمُّل في بعض الأحيان.
2-
إن التأمل فيها يقود في الأغلب الأعمِّ من الحالات إلى متاهات الأفكار الظنية التي لا تتصل اتصالًا مباشرًا بالتفكير النحوي، ونخرج لهذا السبب عن طبيعة الالتزام بحدود المنهج.
3-
إن الكشف عن هذه القرينة هو الغاية الكبرى من التحليل الإعرابي، وما دام الناس يحسون ويعترفون بالإحساس بصعوبة الإعراب أحيانًا، فإن معنى ذلك أنّ من الصعب عليهم أن يكشفوا عن هذه القرينة المعنوية "قرينة التعليق"، وهي أم القرائن النحوية جميعًا.
ولقد سبق أن قلنا: إن المعنى على مستوى النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي هو معنى وظيفي، أي: إن ما يُسَمَّى المعنى على هذا المستوى هو في الواقع وظيفة المبنى التحليلي، ثم يأتي معنى الكلمة المفردة "المعنى المعجمي"، وما يكون بمجموع هذين المعنيين مضافًا إليهما القرينة الاجتماعية الكبرى التي نرتضي لها اصطلاح البلاغيين "المقام "context of situstion"، وكل ذلك يصنع "المعنى الدلالي".
وإذا اتضح المعنى الوظيفي المذكور أمكَنَ إعراب الجملة دون حاجة إلى المعجم أو المقام، ذلك بأن وضوح المعنى الوظيفي هو الثمرة الطبيعية لنجاح عملية "التعليق"، والذي يؤدي إليه هذا الفهم بالضرورة هو التسليم بأننا لو أبحنا لأنفسنا أن نتساهل قليلًا في أمر التمسُّك بالمعنى المعجمي فكوَّنَّا نسقًا نطقيًّا من صورة بنائية عربية لا معنى لها من الناحية المعجمية، لأمكن لنا أن نعرب هذا النسق النطقي. فمثلًا يمكننا:
1-
أن نحافظ على أن يشتمل النسق النطقي الهرائي على حروف عربية.
2-
وأن نحافظ على ظاهرة إدغام ما تماثل أو تقارب إلخ من هذه الحروف على الطريقة العربية.
3-
وأن نحافظ على أن نقلد المباني الصرفية العربية، سواء مباني التقسيم والتصريف والقرائن.
4-
وأن نحافظ بعد ذلك كله على مظهر العلاقات النحوي.
ولكننا مع المحافظة على كل هذا:
5-
نتجاهل الاعتبارات المعجمية، فنجعل المباني التي اخترناها محققة بألفاظ هرائية لا معنى لها في المعجم.
6-
ومن ثَمَّ لا يكون النسق النطقي الذي "اقترفناه" جملة عربية بآية صورة من صور الجملة.
انظر مثلًا إلى ما يأتي:
قَاصَ التَّجِينُ شِحَالَه بِتَريسِهِ
…
فاخِي فَلَمْ يَسْتَفِ بِطَاسيةِ الْبَرَنْ
إن من حسن الحظ أن ابن إسحاق رضي الله عنه لم يتأخر به زمانه حتى يقرأ ما يبدو هنا أنه أريد به أن يكون من قبيل الشعر، ولو قد حدث هذا لعده من شعر الجنّ، أو لزعم أن آدم قاله قبل أن يعلمه الله الأسماء كلها، ربما دون أن يردف ذلك بقوله: والله أعلم.
ونلاحظ هنا أن كل الأشراط التي حددناها منذ قليل لهذا النسق ووضعن لها أرقامًا من 1 إلى 6 قد تحققت تمامًا في هذا النسق النطقي، فحين تحقق له ما وصفنا أصبح من الممكن أن نعرب النص بنجاح تامّ فنقول:
قاص: فعل ماضي مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
التجين: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.
شحال: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
الهاء: مضاف إليه مبني على الضم في محل جر.
الباء: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب.
تريس: مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة.
الهاء: مضاف إليه مبني على الكسر في محل جر.
الفاخي: نعت "لتريس" مجرور وعلامة جره الكسرة المقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل.
الفاء: حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
لم: حرف نفي وجزم وقلب مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
يستف: فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون، والفاعل مستتر جوازًا تقديره "هو".
الباء: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب.
طاسية: مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة.
البرن: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الروي. والبيت من الكامل، وهو مستوفٍ للمطالب الشكلية حتى من الناحية العروضية.
هذا الإعراب الكامل التفاصيل يبيِّن إلى أيّ حدٍّ نستطيع الاتكال في التحليل اللغوي على ما أطلقنا عليه الاصطلاح "المعنى الوظيفي"، فهذا المعنى الوظيفي يحدد الفهم صوتيًّا من حيث إن الحرف مقابل استبدالي، وصرفيًّا من حيث إن المبنى إطار شكلي يتحقق بالعلامة، ونحويًّا من حيث إن العلاقة السياقية تكشف لنا عن ترابط المباني التي تحققت بالعلامات في سياق النص. أما ما فوق ذلك من معنى الكلمة المفردة أو معنى المقام، أي: المعنى الدلالي الكامل، فذلك ما لا يوصل إليه بواسطة المبنى فقط.
ولو كان الإعراب فرع المعنى الدلالي ما استطعنا كذلك أن نعرب قول المجنون بن جندب:
محكوكة العينين معطاء القفا
…
كأنما قدت على متن الصفا
تمشي على متن شراك أعجفا
…
كأنما ينشر فيه مصحفا
فإن أبا العلاء العماني لم يستطع تفسير ذلك، ولم يستطع ذلك أبو عبيدة ولا الأصمعي ولا أبو زيد، وقال أبو زيد: إنه كلام مجنون ولا يعرف كلام المجانين إلّا مجنون1.
1 المزهر للسيوطي، جـ1، ص140-141.
وما دام الإعراب بحاجة إلى نتائج الصوتيات والصرف، فإننا لن نستطيع إلّا لأغراض البحث أن نفصل في الفهم بين الصوتيات والصرف والنحو، وهذا هو الذي أكدته تمامًا في الفصل الأول حين عقدت تشبيهًا لأنظمة اللغة بأجهزة الجسم الإنساني. فكما أن وظيفة النموِّ تتوقف في الجسم الإنساني على جهاز الغدد الصماء والجهاز الهضمي وجهاز الدورة الدموية والجهاز التنفسي وغير ذلك من الأجهزة التي يتعذّر الفصل بين عملها من الناحية العملية، فلا يفصل بين وظيفة وأخرى من وظائفها إلا للأغراض العلمية، كذلك يتوقف إعراب نصٍّ ما على وظائف الأصوات ووظائف المباني ووظائف القرائن ونظام العلاقات، فلا يفصل في الذهن بين كل ذلك إلّا لأغراض التحليل اللغوي، أما في التركيب فلا فصل.
ولقد أكثر النحاة الكلام عن العامل باعتباره تفسيرًا للعلاقات النحوية أو بعبارة أخرى: باعتباره مناط "التعليق"، وجعلوه تفسيرًا لاختلاف العلامات الإعرابية، وبنوا على القول به فكرتي التقدير والمحل الإعرابي، وألفوا الكثير من الكتب في العوامل، سواء ما كان منها لفظيًّا أو معنويًّا، ووصل به بعضهم من حيث العدد إلى مائة عامل1، وتناول بعض النحاة كابن مضاء2 هذا الفهم لطبيعة العلاقات السياقية بالنقد والتفنيد والتجريح، ولكنه بعد أن أبان فسادها بالحجج المنطقية لم يأت بتفسيرٍ مقبول لاختلاف العلامات الإعرابية باختلاف المعاني النحوية، ولم يقم مقام العامل فهمًا آخر لهذه العلاقات غير قوله: إن العامل هو المتكلم، فجعل اللغة بذلك أمرًا فرديًّا يتوقف على اختيار المتكلم، ونفى عنها الطابع العرفي الاجتماعي الذي هو أخص خصائصها.
ولإبراهيم مصطفى3 محاولة مشابهة لتفسير اختلاف العلامات الإعرابية قال فيها: إن الحركات ذات معانٍ محددة؛ فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة علم الخفة، ولكنه اكتفى بهذا الفهم المبهم القاصر لطبيعة هذه الحركات، وهو فهم يبدو قصوره وإبهامه إذا وضعناه في ضوء ما ذكرنا منذ
1 انظر العوامل المائة لعبد القاهر.
2 انظر الرد على النحاة لابن مضاء.
3 إحياء النحو.
قليل عندما ذكرنا القرائن المختلفة التي أعانتنا على إعراب "ضرب زيد عمرًا" حيث رأينا أن العلامة الإعرابية ليست أكثر من واحدة من قرائن كثيرة يتوقف عليها فهم الإعراب الصحيح، بل لقد عرفنا أيضًا أن الإسناد نفسه قرينة من القرائن المعنوية، فيعتبر هو نفسه كالضمة صاحب دلالة معنية على الإعراب الصحيح.
ولعل أذكى محاولة لتفسير العلاقات السياقية في تاريخ التراث العربي إلى الآن هي ما ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني صاحب مصطلح "التعليق"، وقد كتب دراسته الجادة في كتابه "دلائل الإعجاز" تحت عنوان "النظم"، ولكن عبد القاهر أورد في هذه الدراسة أربعة مصطلحات هي:
1-
النظم.
2-
البناء.
3-
الترتيب.
4-
التعليق.
فأما "النظم" فقد جعله عبد القاهر للمعاني، أي: إن النظم في معناه عند عبد القاهر هو تصور العلاقات النحوية بين الأبواب؛ كتصور علاقة الإسناد بين المسند إليه والمسند، وتصور علاقة التعدية بين الفعل والمفعول به، وتصوّر علاقة السببية بين الفعل والمفعول لأجله، وهلمَّ جرَّا. يقول عبد القاهر1: "وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الوجوه والفروق كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا نجد لها ازديادًا بعدها.
ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في نفسها، ومن حيث هي علي الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض"، ثم يقول2: "واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم
1 دلائل الإعجاز ص69.
2 ص282.
غير أن توفي معاني النحو فيما بين الكلم قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى غاية وإلى أن تكون الزيادة عليه؛ كالتكلف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة.... إلخ.
ولنا على ذلك تعليقات:
1-
إن النظم كما فهمه عبد القاهرة هو نظم المعاني النحوية في نفس المتكلّم لا بناء الكلمات في صورة جملة، ويمكن فهم ذلك من عبارتين هما رأيه في الاقتباس الأول:"إن مدار أمر النظم على معاني النحو" وفي الاقتباس الثاني: "أنه لا معنى للنظم غير أن توفي معاني النحو فيما بين الكلم".
2-
أشار عبد القاهر إلى ما سماه: "الفروق"، وهي إشارة ذكية إلى ما شرحناه من أمر القيم الخلافية أو المقابلات بين المعنى والمعنى، أو بين المبنى والمبنى.
3-
في قوله: "موقع بعضها من بعض" إشارة إلى ما اشتهر في عرف النحاة باسم "الرتبة".
4-
في قوله: "واستعمال بعضها مع بعض" إشارة إلى ما سنشرحه من أمر التضام وهو تطلب إحدى الكلمتين للأخرى، واستدعاؤها إياها، وسنعده من القرائن اللفظية فيما سيأتي إن شاء الله.
وأما "البناء" فأنا أفهم من عرض عبد القاهر للموضوع أنه جعله للمباني بحسب المعاني النحوية "الوظيفية"، كأن "تبنى" لمعنى الفاعلية "مبنى" هو الاسم المرفوع في بعض المواطن أو ضميرًا متصلًا في موضع آخر وضميرًا مستترًا في موضع ثالث، فالبناء كما أفهمه عنه هو اختيار المباني التي يقدمها الصرف للتعبير عن المعاني النحوية، وبوضع فكرة "النظم" بإزاء فكرة "البناء" يكون عبد القاهر قد عبَّر عن الارتباط بين المعنى والمبنى كما عرضنا فهمه في هذا الكتاب.
وأما الترتيب فإنه وضع العلامات المنطوقة أو المكتوبة في سياقها الاستعمالي حسب رتب خاصة تظهر بها فوائد التقديم والتأخير اللذين كانا موضع عناية فائقة من لدن عبد القاهر، وكذلك يظهر بهذا الترتيب ما كان من الرتب محفوظًا أو غير محفوظ.
وأما أخطر شيء تكلم فيه عبد القاهر على الإطلاق فلم يكن النظم ولا البناء ولا الترتيب، وإنما كان "التعليق"، وقد قصد به في زعمي: إنشاء العلاقات بين المعاني النحوية بواسطة ما يسمَّى بالقرائن اللفظية والمعنوية والحالية، ولعل من المؤسف حقًّا أن نضَّطر اضطرارًا إلى أن نفهم من مصطلح عبد القاهر ما لم ينص هو على معناه نصًّا صريحًا، ذلك بأن عبد القاهر لم يقصد قصدًا مباشرًا إلى شرح ما يعنيه بكلمة "التعليق"، ولكن إشارات عامة جاءت في سياق نصّ كتابه تشير عن بعد أو قرب إلى فهمناه عنه بهذا الاصطلاح. فمن ذلك عبارته المشهورة التي يرى أن الكلمات في النص "يأخذ بعضها بحجز بعض"، وكذلك قوله1:"هذا هو السبيل. فلست بواجد شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا، أو خطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم إلّا وهو من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلامًا قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية أو فضل فيه إلّا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصلٍ من أصوله، ويتَّصل بباب من أبوابه"، وإن عبد القاهر حين ينصّ على أن معاني النحو -التي نسمي جمورها أبوابًا- وأحكامه التي هي ضوابط
1 دلائل الإعجاز ص65.
العلاقات السياقية، أو بعبارة أخرى:"التعليق"، هي مرجع الصحة والفساد والمزية والفضل، يشير إلى أهمية التعليق ويلقي ضوءًا ما على ما يقصده بهذا الاصطلاح"1.
وفي رأيي -كما كان في رأي عبد القاهر على أقوى احتمال- أن التعليق هو الفكرة المركزية في النحو العربي، وأن فهم التعليق على وجههٍ كافٍ وحده للقضاء على خرافة العمل النحوي والعوامل النحوية، لأن التعليق يحدد بواسطة القرائن معاني الأبواب في السياق، ويفسر العلاقات بينها على صورة أوفى وأفضل وأكثر نفعًا في التحليل اللغوي لهذه المعاني الوظيفية النحوية. وليس يكفي في شرح فكرة التعليق أن نقول كما قال عبد القاهر: إن الكلمات "يأخذ بعضها بحجز بعض"، ولا أن نرجع الفضل والمزية إلى معاني النحو وأحكامه في عمومٍ يشبه عموم عبارته، وإنما ينبغي لنا أن نتصدَّى للتعليق النحوي بالتفصيل تحت عنوانين؛ أحدهما:"العلاقات السياقية"، أو ما يسميه الغربيون syntagmatic relations والثاني هو:"القرائن اللفطية". فإذا علمنا أن العلاقات السياقية التي تربط بين الأبواب وتتضح بها الأبواب هي في الحقيقة "قرائن معنوية"، فقد علمنا أن العنوانين المذكورين جميعًا يتناولان القرائن من الناحيتين المعنوية واللفظية، وهما مناط التعليق مع ترك القرائن الحالية لوضعها من هذا الكتاب إن شاء الله، فالتعليق إذًا هو الإطار الضروري للتحليل النحوي، أو كما يسميه النحاة:"الإعراب".
وفيما يلي جدول يمثل النظام النحوي ويبين التشابك العضوي بين المعاني العامة "معاني أساليب الجمل"، وبين المعاني الخاصة "معاني الأبواب المفردة"، وهو تشابك يتمُّ بواسطة العلاقات السياقية "القرائن المعنوية".
1 يستعمل ابن مضاء اصطلاح "التعليق" بمعنى قريب مما نقصد به "الرد على النحاة ص117.