المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الكلام واللغة: في كتابي "مناهج البحث في اللغة" كلام مطول عن - اللغة العربية معناها ومبناها

[تمام حسان]

الفصل: ‌ ‌الكلام واللغة: في كتابي "مناهج البحث في اللغة" كلام مطول عن

‌الكلام واللغة:

في كتابي "مناهج البحث في اللغة" كلام مطول عن الفرق بين الكلام واللغة يستغرق ما يقرب من ثلاثين صفحة كاملة، وفي كتابي "اللغة بين المعيارية والوصفية" اشتملت مقدمة الكتاب على عبارات تفرِّق بين طابع عمل المتكلم وبين طابع عمل اللغوي يمكن أن نوردها فيما يلي: "اللغة إذًا بالنسبة للمتكلم معايير تراعى، وبالنسبة للباحث ظواهر تلاحظ، وهي بالنسبة للمتكلم ميدان حركة، وبالنسبة للباحث موضوع دراسة، وهي بالنسبة للمتكلم وسيلة حياة في المجتمع، وبالنسبة للباحث وسيلة كشف عن المجتمع.

المتكلم يشغل نفسه بواسطتها، والباحث يشغل نفسه بها، ويحسن المتكلم إذا أحسن القياس على معاييرها، ويحسن الباحث إذا أحسن وصف نماذجها. اختلاف الأساليب في استخدامها اختلاف في الجمال والفن والتطبيق، واختلاف الطرق في بحثها اختلاف في الدقة والتناول والبحث، والنص على لسان الأديب موضوع للتذوق، ولكنه في يد الباحث موضوع للدارسة، وأخيرًا اللغة في خدمة المجتمع والمنهج في خدمة اللغة".

ولست أجد لديّ الآن ما أعار به هذا الذي قلته في سنتي 1955 و1958، ولكن الأغراض العملية لهذا الكتاب تتطلب مني أن أخوض في موضوع التفريق بين الكلام وبين اللغة من زاوية جديدة عير الزاوية المنهجية البحتة، تلك هي زاوية طبيعة كلٍّ منهما وتكوينه. فالكلام عمل واللغة حدود هذا العمل، والكلام سلوك واللغة معايير هذا السلوك، والكلام نشاط واللغة قواعد هذا النشاط، والكلام حركة واللغة نظام هذه الحركة، والكلام يحس بالسمع نطقًا والبصر كتابة واللغة تفهم بالتأمل في الكلام. فالذي نقوله أو نكتبه كلام، والذي نقول بحسبه ونكتب بحسبه هو اللغة، فالكلام هو المنطوق وهو المكتوب، واللغة هي الموصوفة في كتب القواعد وفقه اللغة والمعجم ونحوها. والكلام قد يحدث أن يكون عملًا فرديًّا، ولكن اللغة لا تكون إلا اجتماعية.

ص: 32

وإذا كان الكلام لا يدرس منفصلًا عن اللغة إلّا عند اعتباره عملًا صوتيًّا بحتًا مقطوع الصلة بالمعنى، كما يحدث عند فحص المرضى بالحصر والعيوب النطقية والنفسية الأخرى، واختبار أصوات المغنين والمذيعين وقبولهما في الإذاعة، فإن الدراسة اللغوية للكلام تجعله -حتى على هذا المستوى الصوتي- على صلة باللغة، ولا بُدَّ أن يكون كذلك من حيث قصد به أن يدل على معنى، ودراسة أصوات الكلام "المفيد الدال على معنى" إذا اقتصرت على ملاحظة المخارج والصفات وتسجيلها فحسب، فهي مقدمة لدراسة اللغة، ولكنها ليست من صلب دراسة اللغة، أو بعبارة أخرى: هي دراسة للكلام وليست دراسة للغة، ذلك بأن هذه الملاحظات والتسجيلات لا تتصل باللغة إلّا حين يتمّ تنظيمها والربط بينها في نظام صوتي كاملٍ تعرف فيه علاقات المخارج وعلاقات الصفات إيجابًا وسلبًا، وتعرف فيه الظواهر الموقعية التي يتطلبها ورود هذه الأصوات المدروسة في السياق. ونريد الآن أن نشرح ما تردد من قبل من أن اللغة منظّمة من مجموعة من الأنظمة؛ منها: النظام الصوتي، والنظام الصرفي، والنظام النحوي، فما المقصود بالنظام هنا؟

المعروف أن الجسم الإنساني جهاز حيوي واحد ذو وظيفة معينة، ربما صحَّ أن نسميها "تحقيق الوجود البيولوجي" للإنسان، ولكن هذا الجهاز الحيوي مركَّب من أجهزة فرعية كالجهاز الهضمي والعصبي والإفرازي والدوري والتنفسي وغير ذلك. وهذه الأجهزة جميعًا تقوم بوظائف يمكن فهم كلٍّ منها على حدة إذا نظرنا إلى الجهاز الذي يؤديها مستقلًّا عن بقية الأجهزة، ولكن هذه الأجهزة لا يستقلّ أحدها عن بقيتها من الناحية العملية؛ إذ يجري بينها نوع من تنسيق الوظائف والتكافل في نطاق الجهاز الحيوي الأكبر ولصالحه. وكما أنّ جسم الإنسان جهاز أكبر مكون من أجهزة فرعية نجد اللغة جهازًا أكبر مكونًا من أجهزة فرعية، والخلاف الوحيد بين هذا الجهاز الأكبر وذاك أن الجسم جهاز حيوي وأن اللغة جهاز رمزي عرفي. وكما أنّ المرء يستطيع فهم الأجهزة الفرعية في الجسم مستقلًّا بعضها عن بعض في الذهن لا في الحقيقة، يمكن أن يفهم المرء الأجهزة الفرعية في اللغة فرادى، مع أنَّ وظائفها لا تتحقق عمليًّا إلّا والأجهزة متناسقة متكاملة متكافلة في إطار

ص: 33

اللغة، فلا يقوم جهاز منها مستقلًّا عن بقيتها إلّا في مقام الوصف والتحليل. وكما أن وظيفة الجسم الإنساني هي تحقيق الوجود البيولوجي للفرد، نجد وظيفة اللغة تحقيق الوجود الاجتماعي للفرد نفسه.

فاللغة إذن منظمة عرفية للرمز إلى نشاط المجتمع، وهذه المنظمة تشتمل على عدد من الأنظمة -وقد سميناها من قبل بالأجهزة- يتألف كل واحد منها من مجموعة من "المعاني" تقف بازائها مجموعة من الوحدات التنظيمية أو "المباني" المعبرة عن هذه المعاني، ثم من طائفة من "العلاقات" التي تربط ربطًا إيجابيًّا، والفروق "القيم الخلافية" التي تربط سلبيًّا -بإيجاد المقابلات ذات الفائدة- بين أفراد كل من مجموعة المعاني أو مجموعة المباني، وكما أن "المعاني" الصرفية غير المعاني النحوية على نحو ما سنرى بعد قليل، نجد "المباني" تتنوع بين فرعٍ وآخر من فروع الدراسات اللغوية.

فالمباني المأخوذة من النظام الصوتي حروف phonemes، وهي في النظام الصرفي وحدات صرفية morphemes، ويعتمد النحو في التعبير عن معانيه وعلاقاته السياقية على هذين النوعين من المباني كالحركات والحروف والزوائد واللواصق والصيع. وأما "العلاقات" الرابطة، و"القيم الخلافية" المفرقة فهي عناصر هامة جدًّا في نظام اللغة بعامة، على أن "القيم الخلافية" وهي المقابلات، أو نواحي الخلاف بين المعنى والمعنى، أو بين المبنى والمبنى، أهم بكثير جدًّا من العلاقات الرابطة؛ لأنها أقدر من تلك العلاقات على تحقيق أمن اللبس، وهو الغاية القصوى للاستعمال اللغوي، فإنه ليمكن الزعم أن كل نظام لغوي ينبني أساسًا على مجموعة من القيم الخلافية التي يدونها لا يكون اللبس مأمونًا ولا الكلام مفهومًا. وقد كان ابن مالك محقًّا حين لخَّص هذه القضية في شطرة واحدة من ألفيته تقول:

"وإن بشكل خيف لبس يجتنب".

فالجهاز الصوتي أو النظام الصوتي للغة يدرسه علم "الصوتيات" phonology مستخدمًا في دراسته العناصر الآتية:

ص: 34

1-

معطيات علم الأصوات phonetics، وقد ذكرنا من قبل أن معطيات علم الأصوات هي أوصاف للحركات العضوية التي يقوم به الجهاز النطقي أثناء النطق، وكذلك الآثار السمعية المصاحبة لهذه الحركات، ويقوم هذا الوصف على الملاحظة الذاتية أو الخارجية من قِبَل الباحث، وقد تدعَّم هذه الملاحظة بوسائل آلية في معمل الأصوات اللغوية مثل: الحنك الصناعي والكيموكرافيا والاسيكتروجراف والأوسيلوجراف وصور الأشعة الثابتة أو المتحركة وهلم جرّا. ويستعين الباحث على تسجيل مادته تسجيلًا مسموعًا بالأشرطة والأسطوانات، وعلى تسجيلها تسجيلًا منظورًا بواسطة الكتابة الصوتية العالمية lntirnational phonetic Alphabet، وتوصف الحركات العضوية دائمًا منسوبة إلى الجهاز النطقي، كما توصف الآثار السمعية دائمًا منسوبة إلى الأذن. وهكذا يكون المتكلم والسامع هما طرفي حركة النشاط الموصوف، كما يكون النشاط الموصوف هو "الكلام"، وهذا الكلام لا يتمّ إلّا وهو مشروط عرفيًّا بمجموعة من الشروط تسمَّى "اللغة".

2-

طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية، وطائفة أخرى من المقابلات "القيم الخلافية" للتفريق بين أي صوت وصوت آخر ولو من جهة واحدة على الأقل، وقد تكون من أكثر من جهة، وذلك "كالعلاقة" بين الباء والميم إذ تشتركان بالعلاقة العضوية في المخرج الشفوي والجهر، وتفارق إحداهما الأخرى بالقيمة الخلافية إذ تكون بينهما "مقابلة" من حيث الأنفية وعدمها، والشدة وعدمها. وقديمًا أدرك الكوفيون قيمة "المقابلة" في إيضاح المعنى، فسموها:"الخالف"، كما أشرنا من قبل إلى اعتداد الأصوليين بما سموه:"مفهوم المخالفة".

فمعطيات علم الأصوات والعلاقات والقيم الخلافية هي العناصر التي يتكوّن منها النظام الصوتي للغة، ويقوم علم الصوتيات على هذه الأسس بواسطة استخدام هذه العناصر بالكشف عن هذا النظام الصوتي.

وأما النظام الصرفي للغة فهو مكوّن من ثلاثة دعائم هامة:

1-

مجموعة من "المعاني" الصرفية التي يرجع بعضها إلى "التقسيم"،

ص: 35

كالاسمية والفعلية والحرفية، ويرجع بعضها الآخر إلى "التصريف" كالإفراد وفروعه، والتكلم وفروعه، وكالتذكير والتأنيث، والتعريف والتنكير، ويرجع بعضها الثالث إلى مقولات الصياغة الصرفية كالطلب والصيرورة والمطاوعة والألوان والأدواء والحركة والاضطراب، أو إلى العلاقات النحوية كالتعدية والتأكيد، وهلم جرا.

2-

طائفة من "المباني" morphemes تتمثل في الصيغ الصرفية، وفي اللواصق والزوائد والأدوات، فتدل هذه المباني على تلك المعاني أحيانًا بوجودها إيجابًا، وأحيانًا بعدمها سلبًا، وهو ما يسمونه zero morpheme، ويسميه النحاة "الدلالة العدمية"، وهي نفسها دلالة الحذف والاستتار والتقدير والمحل الإعرابي عندهم.

3-

طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية، وأخرى من المقابلات أو القيم الخلافية بين المعنى والمعنى، وبين المبنى والمبنى، كالعلاقة الإيجابية بين "ضرب" و"شهم" من حيث تشابها في الصيغة، فهي "فَعْل" فيهما، وكالمقابلة التي تتمثل في القيمة الخلافية بين أحدهما والآخر من جهة المعنى، فأولهما "مصدر" وثانيها "صفة مشبهة". وتفرق اللغة بين الكلمة وصاحبتها بمثل هذه المقابلات كاعتبار التجرد في مقابل الزيادة، والصيغة في مقابل الصيغة الأخرى، والتكلم في مقابل الخطاب والغيبة، والاسمية في مقابل الفعلية، والتذكير في مقابل التأنيث، وكالمذكر في مقابل المؤنث، والمتكلم في مقابل المخاطب والغائب، والاسم في مقابل الفعل، فالمقابلة كما تكون بين المعنى والمعنى كالتذكير والتأنيث مثلًا، تكون بين المبنى والمبنى كالمذكر والمؤنث. وهذه المقابلات هي عصب النظام الصرفي، فلا يتصوّر نظام بدونها.

وأما النظام النحوي للغة فيتكون مما يأتي:

1-

طائفة من المعاني النحوية العامة كالخبر والإنشاء، والإثبات والنفي والتأكيد، وكالطلب وفيه الأمر والنهي والاستفهام والدعاء والتمني والترجي والعرض والتحضيض، وكالشرط والقسم والتعجب والمدح والذم.. إلخ.

ص: 36

2-

مجموعة من المعاني النحوية الخاصة، أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والحالية إلخ.

3-

مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة، وتكون قرائن معنوية عليها، حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها، وذلك كعلاقة الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية.

4-

والعنصر الرابع من عناصر النظام النحوي هو ما يقدمه علما الصرف والصوتيات لعلم النحو من المباني الصالحة للتعبير عن معاني الأبواب، وتلك الصالحة للتعبير عن العلاقات، فليس للنحو من المباني إلّا ما يقدمه له الصرف، ومن هنا ندرك مدى الترابط بين العلمين، حتى ليصبح التفريق بينهما صناعيًّا لا يبرره إلّا الرغبة في التحليل.

5-

وأخيرًا تأتي القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفراد كل عنصر مما سبق وبين بقية أفراده؛ كأن نرى الخبر في مقابل الإنشاء، أو الشرط الإمكاني في مقابل الشرط الامتناعي، أو المدح في مقابل الذم، أو المتقدم رتبة في مقابل المتأخر، أو الاسم المرفوع في مقابل الاسم المنصوب، أو المتعدي في مقابل اللازم وهلمّ جرا.

وهكذا يمكننا التفريق بين المفعول لأجله وبين المضاف إليه مثلًا بما يعبران عنه من علاقة، فأولهما للسبية وثانيهما للنسبة "الإضافة"، ثم نفرق بينهما من حيث الصيغة الصرفية؛ إذ يلزم في أولهما أن يكون مصدرًا ولا يلزم ذلك في الثاني، ثم من حيث الحركة الإعرابية؛ فالأول منصوب والثاني مجرور، ولا يغرنَّك أن كليهما على معنى اللام؛ لأن لام الأول للسبية ولام الثاني للملكية أو عموم الملابسة. هذه المقابلات "القيم الخلافية" ضرورية لفهم المعنى "وأمن اللبس"، ولا يمكن أن نتصور أداء اللغة لوظيفتها بدونها، وهي أهم بكثير من العلاقات الرابطة؛ لأن هذه العلاقات تعبر عن تشابه، و"خوف اللبس" يأتي عند التشابه.

هذه هي الأنظمة الثلاثة التي تشتمل عليها اللغة باعتبارها منظمة كبرى مكونة من أنظمة، ومما تقدَّم نستطيع أن ندرك إلى أيِّ حد يعتمد النحو على

ص: 37

الصرف من جهة، وعلى الأصوات من جهة أخرى، وإلى أي حد يعتمد الصرف على الأصوات، ثم إلى أي حد تترابط هذه الأنظمة في مسرح الاستعمال اللغوي، فلا يمكن الفصل بينها إلّا صناعة، ولأغراض التحليل فقط.

لقد أشرنا في ثنايا الكلام إلى المبنى الصرفي ومدى أهميته في فهم المعاني الصرفية والمعاني النحوية على السواء، بل للمعاني المعجمية أيضًا، ونودّ أن نوضِّح هنا مكان المبني في مجال خطة الكشف عن المعنى. ونبدأ ذلك بتأكيد وضعية ثلاثية في الاصطلاح لا بُدَّ من الإحاطة بها، وهي تبدو على النحو التالي:

والملاحظ هنا أن المباني تجريدات لا منطوقات ولا مكتوبات، أي: إنها أقسام شكلية ينطوي تحت كل منها ما لا حصر له من العلامات المنطوقة في استعمال المتكلمين، والمخطوطة في استعمال الكاتبين، وهذه الأقسام جزء من اللغة شأنها شأن المعاني ذاتها، على حين نجد العلامات جزءًا من الكلام بشقيه المنطوق والمكتوب. وفائدة اعتبار المبني في أنظمة اللغة وفي تحليلها في ضوء هذه الأنظمة، أن اللغة لا يمكن أن تكون نظامًا من المعاني التي لا مباني لها؛ لأن المباني رموز المعاني، ولا غنى عن الرمز في نظام كاللغة هو في أساسه نظام "رمزي". ولولا المباني وهي تجريدات وتقسيمات شكلية تندرج تحتها العلامات المنطوقة أو المكتوبة، ما كان من الممكن للباحث أن يعبر عن حقائق البحث اللغوي مستقلة عن الاستعمال الفعلي للكلام، ولأصبح الباحث في عجزه عن التبويب والتقسيم في تيهٍ لا ينتهي مداه من مفردات الاستعمال.

ص: 38

والمعاني التي في هذه الأنظمة الثلاثة "الصوتي والصرفي والنحوي" هي في حقيقتها وظائف تؤديها المباني التي تشتمل عليها وتنبني منها هذه الأنظمة. وقد رأينا من قبل كيف كان الوقف وظيفة السكون ونحوه، وكيف كان التخلص وظيفة الكسر، وكيف كانت الفاعلية وظيفة الاسم المرفوع، وكيف كانت المطاوعة وظيفة الانفعال. من هنا يكون "المعنى" وظيفة "المبنى"، ويكون "المبنى" عنوانًا تندرج تحته "العلامة". ومن ثَمَّ أطلق الباحثون على هذا المعنى الذي تكشف عنه المباني التحليلية للغة اسم "المعنى الوظيفي" functional meaning، واضعين إياه بازاء المعنى المعجمي Lexical meaning أو المعنى المقامي Contextual meaning، أي: المعنى الذي لا يكتفي بتحليل تركيب المقال ولا بمعنى كلماته المفردة، وإنما يراه فوق ذلك في ضوء المقام Context of situation.

وليس المعجم نظامًا من أنظمة اللغة، فهو لا يشتمل على شبكة من العلاقات العضوية والقيم الخلافية، ولا يمكن لمحتوياته أن تقع في جدول يمثل احتباك هذه العلاقات على نحو ما سنرى في أنظمة الأصوات والصرف والنحو. فالمعجم بحكم طابعه، والغاية منه ليس إلّا قائمة من الكلمات التي تسمَّى تجارب المجتمع أو تصفها أو تشير إليها. ومن شأن هذه الكلمات أن تحمل كل واحدة إلى جانب دلالتها بالأصالة والوضع "الحقيقة" على تجربة من تجارب المجتمع، أن تدل بواسطة التحويل "المجاز" على عدد آخر من التجارب، فإذا وضعنا كلمة "المعاني" بدل "التجارب" صحّ لنا أن نقول: إن الكلمة المفردة "وهي موضوع المعجم" يمكن أن تدل على أكثر من معنى وهي مفردة، ولكنها إذا وضعت في "مقال" يفهم في ضوء "مقام" انتفى هذا التعدد عن معناها، ولم يعد لها في السياق إلّا معنى واحد؛ لأن الكلام وهو مجلى السياق لا بُدَّ أن يحمل من القرائن المقالية "اللفظية" والمقامية "الحالية" ما يعيِّن معنًى واحدًا لكل كلمة. فالمعنى بدون المقام "سواء أكان وظيفيًّا أم معجميًّا" متعدد ومحتمل؛ لأن المقام هو كبرى القرائن، ولا يتعيّن المعنى إلّا بالقرينة، ولقد سبق أن أشرت إلى أن علم البيان "وهو علم دلالات المفردات"

ص: 39

يمكن أن يمثل الجانب النظري من "علم المعجم"، فيبين كيف تخرج الكلمة عن معناها الحقيقي الوضعي إلى معانٍ أخرى مجازية، ويستمد مادته من تاريخ الاستعمال في اللغة العربية، بل يحسن في هذا الجانب النظري للمعجم أيضًا دراسة أصل الدلالة الحقيقية نفسها بواسطة النظر في طرق العرف والوضع بالارتجال والاقتراض والتعريب ونحوها، مع العناية بوجهة النظر التاريخية التي تبحث في أصول الكلمات المستعملة فعلًا من ناحية البنية، وفي تطور دلالتها على مر العصور. ذلك هو الجانب النظري للمعجم، وهو موزع بين علم البيان وعلم الصرف وعلم المتن وبحوث فقه اللغة وتاريخ الأدب، ولكنه قد آن له الأوان أن يتوحد في علم واحد يسمَّى "علم المعجم"، ويتخذ موضوعًا أساسيًّا له طرق المعاجم ومادتها، والمعنى المعجمي -ذلك المتعدد المحتمل. المعجم إذًا جزء من اللغة، ولكنه ليس نظامًا من أنظمة اللغة. هو من اللغة لأنه سجّل لكلماتها ولمعاني هذه الكلمات، وهذه الكلمات ساكنة صامتة بالفعل ولكنها صالحة بالقوة لأن تصير ألفاظًا مسموعة، أو خطوطًا مكتوبة مقروءة في سياق كلام، فالمعجم إذن معين صامت ساكن هادي مستعمل بالقوة لا بالفعل، شأنه في ذلك شأن اللغة كلها؛ حيث عبر عنها أحد العلماء بقوله: إنها1 Silent reservoire وهذا المعين الاستاتيكي إذا وضع في حالة استعمال وحركة وديناميكية أصبحت النتيجة كلامًا لا لغة. فكلمة "رجل" مثلًا موجودة مختزنة في تجربة الجماعة صامتة صالحة لأن يستعملها الفرد عند الإرادة، فإذا لم يستعملها ظلت صامتة ساكنة هادئة، وهي في هذه الحالة جزء من اللغة لا من الكلام، فإذا نطقها الفرد أو كتبها أخرجها من مجال القوة إلى مجال الفعل، وجعلها جزءًا من الكلام الذي هو نشاط وسلوك.

واللغة العربية بهذا مكونة من ثلاثة أنظمة، وقائمة من الكلمات التي لا تنتظم في جهاز واحد، وهذه الأنظمة والقائمة تكون معينًا صامتًا، فإذا أردنا أن نتكلم أو أن نكتب نظرنا في هذا المعين الصامت فوضعنا محتوياته في حالة عمل وحركة، فأخذنا منه الكلمات ورصفناها على شروط الأنظمة، أي: بحسب قواعد

1 انظر كتاب ديسوسور.

ص: 40

اللغة، وخرجنا من دائرة الصمت اللغوي إلى دائرة النطق الكلامي، أي: من حيز السكون إلى حيز الحركة، ومن حيز الإمكان إلى حيز التطبيق. وحاصل جمع "المعنى الوظيفي" التحليلي، و"المعنى المعجمي" الذي للكلمات، لا يساوي أكثر من "معنى المقال" أو "المعنى اللفظي" للسياق، أو معنى ظاهر النص كما يقول الأصوليون، ولا يزال السياق حتى بعد الوصول إلى هذا المعنى اللفظي بحاجة إلى "معنى المقام" أي: المعنى الاجتماعي الذي يضم القرائن الحالية إلى ما في السياق من قرائن مقالية، وبهذا يتمّ الوصول إلى "المعنى الدلالي".

وسنرى فيما بعد أن "المقام" هو حصيلة الظروف الواردة relevant طبيعية كانت أو اجتماعية أو غير ذلك، في الوقت الذي تَمَّ فيه أداء المقال speech event، أما الظروف غير الواردة irrelevant فلا ضرورة لإرباك خطة تحليل المعنى بذكرها وشرحها، وما دام المعنى على إطلاقه مركبًا على هذا النحو الذي يبدو من تشقيقه، فإنَّ أيّ شق من المعنى لا يكفي بمفرده للإفادة والفهم، فلا يكفي مجرد فهم النظام الصوتي للغة ما لأن نفهم مقالّا بهذه اللغة، بل لا يكفي لذلك حتى فهمنا للنظام الصرفي أو النحوي للغة المذكورة، بل لا يكفي أيضًا أن نفهم المعنى المعجمي لحشدٍ كبير من كلمات هذه اللغة أيضًا لأن نفهم المعنى فهمًا كاملًا ما دام "المقام" غير مفهوم.

ويقع في تجاربنا أحيانًا أن نرى اثنين يعمدان إلى التخصص في لغة أجنبية، فيتخصص أحدهما في اللغة ذاتها، ويتخصص الثاني في أدبها، فأما الذي تخصّص في اللغة فقد طلب موضوعًا يخضع للتقعيد، ومن ثَمَّ للفهم السريع وللتحصيل السريع أيضًا، فينجح في مهمته بيسر نسبي، وأما الذي تخصَّص في الأدب فسيجد نفسه وجهًا لوجهٍِ مع التحدي الهائل الذي يفرضه فهم المقامات المختلفة التي تقع في إطار ثقافة أجنبية عنه بما تشتمل عليه هذه المقامات من علاقات اجتماعية وعقلية وذوقية وعاطفية دقيقة متشعبة لا يفهمها وينفعل بها إلّا أبناء البيئة ذاتها، ولا يمكن الحصول على بعضها من مجرد قراءة تاريخ هذا المجتمع ولا أدبه، ذلك بأن إطار الثقافة الاجتماعية لكلِّ أمة يفرض

ص: 41

من تلك العلاقات والارتباطات بالمواقف وبالموضوعات ما لا يفهمه تمامًا إلّا الناشئون في المجتمع ذاته والثقافة ذاتها، ولو أن المتخصص الأجنبي تمكّن من تحصيل فهم الارتباطات العقلية أو حتى الاجتماعية بالموضوعات والمواقف، فكيف يتسنَّى له مهما حاول أن يفهم الارتباطات الذوقية والعاطفية في المجتمع. وهل يجد غير المسلم وغير العربي في نفسه ما يجده العربي المسلم من فهمٍ وانفعالٍ وارتباطٍ بالقرآن أو الحديث عند قراءتهما مثلًا، فلا شكَّ أن المعنى دون ملاحظة هذه الارتباطات التي يتضح بها المقام ناقص كل النقص.

وهذه المقامات الاجتماعية هي نسيج الثقافة بمعناها الأنثربولوجي الأعمِّ لا بمعناها التربوي الأخص، أي: إنها هي نسيج العادات والتقاليد والأعمال اليومية والفولكلور الشعبي والذاكرة الشعبية، ثم الإحساسات والعواطف الشعبية، ومن ثَمَّ لا تخضع هذه المقامات للتقعيد والضبط كما يخضع تقعيد الأنظمة اللغوية، ولكن الباحث مع ذلك يستطيع أن يصل إلى أنواع منها، وأن يرصد ما يستعمل من "مقال" في كل "مقام" بحسب العادة دون أن يدعى لارتباط هذا المقال بما نسب إليه من مقام أي نوع من أنواع الحتمية؛ لأن المقامات والمقالات جميعًا من عمل الإنسان، والإنسان أكثر شيء استعصاء على الضبط والتقعيد، ويكفي للدلالة على ذلك ما ورد في الأثر من قوله:"اتق شر من أحسنت إليه"، فلو خضع الإنسان لقاعدة لتوقع المحسن ممن أحسن إليه الخير، ولم يتق منه الشر.

بقي أن نشير إلى أن النظر في المعنى الدلالي نظر في معنى الكلام "لفظًا أو كتابة" بواسطة علمي اللغة والاجتماع، ذلك بأن المعنى الذي ننظر فيه هنا معنى مقالٍ جرى استعماله فعلًا في مقام ما، بالنطق أو بالكتابة، والاستعمال هو الأداء، وهو الكلام بنوعية السمعي النطقي والبصري الكتابي. هذا هو تشقيق المعنى، وقد رأينا أنه ينبني على تشقيق اللغة نفسها، وعلى النظر إلى كل شقٍّ منها باعتباره فرعًا من فروع البحث في المعنى، مما يؤدي في النهاية إلى أن تكون اللغة في عمومها نظامًا عرفيًّا يشرح العلاقة الاعتباطية بين الرمز وبين المعنى من حيث عرفيتها واطرادها. أما تحليل المعنى على المستويات المختلفة فإنه

ص: 42

يشغل كل ما يتلو ذلك من صفحات هذا الكتاب، فسننظر أولًا في الطبيعة العملية للدراسة الصوتية، وفي الصلة بين علم الأصوات وبين الدراسات اللغوية، مقدِّمين بذلك لدراسة الفروع التي تتناول المعنى على مستوياته المختلفة؛ كالصوتيات والصرف والنحو، وهي الفروع التي تدرس المعنى الوظيفي، موضحين بعد ذلك طبيعة المعنى المعجمي، ثم معنى المقام، واصلين من كل ذلك إلى المعنى الدلالي.

ص: 43