الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
قرائن التعليق:
أ- القرائن المعنوية 1:
ذكرنا من قبل أن الغاية التي يسعى إليها الناظر في النصِّ هي فهم النص، وأن وسيلته إلى ذلك أن ينظر في العلامات المنطوقة أو المكتوبة في النصِّ ليصل بواسطتها إلى تحديد المبنى، وأن الوصول إلى المبنى بواسطة العلامة ليس من العمليات العقلية الكبرى في التحليل؛ لأنها مسألة تعرّف يعتمد على الإدراك الحسي بواسطة السمع أو البصر، كما تتعرّف على فلان بواسطة حضوره أمامك، فلا يحتاج منك ذلك إلّا إلى الاعتماد في الفهم على قرينة العهد الحضوري أو حضور المعهود. أما ما هو أكثر صعوبة من ذلك دون شكٍّ فهو القفز العقلي من المبنى إلى المعنى؛ لأن ذلك يحتاج إلى قرائن معنوية وأخرى لفظية، ويصدق على كليهما اصطلاح:"القرائن المقالية"، لأن هذين النوعين من القرائن يؤخذان "من المقال" لا من "المقام"، وتأتي الصعوبة في هذا المجال مما أشرنا إليه سابقًا من أن المبنى الصرفي الواحد يصلح لأكثر من معنى، وكانت هذه الإشارة تحت عنوان:"تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد". فإذا تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد على إطلاقه فليس معنى ذلك أنه يتعدد بالنسبة لعلامته بخصوصها في النص. فعلينا إذًا عند النظر في نصٍّ بعينه أن نقرِّر أيّ المعاني المتعددة هو الذي يتعين هنا؛ إذ لا بُدَّ في نص بعينه أن يكون المعنى محددًا، ووسيلة الوصول إلى هذا المعنى المعين هي استخدام القرائن المتاحة في المقال سواء ما كان معنويًّا وما كان لفظيًّا. فإذا كان الوصول إلى تحديد المبنى من العلامة يتمّ بحضور المعهود، وكان استحضار المعنى من المبنى لا يتمّ إلّا باستخدام القرائن، فلا شكَّ أن العملية الثانية أصعب من الأولى. والمعروف أن التحليل اللغوي "الإعراب" يحتاج إلى الأمرين جميعًا.
والعلاقات السياقية قرائن معنوية تفيد في تحديد المعنى النحوي "الباب الخاص كالفاعلية مثلًا" فعلاقة الإسناد مثلًا وهي العلاقة الرابطة بين المبتدأ
1 انظر الرسم البياني على الصفحة السابقة الذي يتضح فيه مكان قرائن التعليق من بقية القرائن، ثم تفصيل علاقة كلٍّ منها بالآخريات.
والخبر، ثم بين الفعل والفاعل أو نائبه، تصبح عند فهمها وتصورها قرينة معنوية على أن الأول مبتدأ والثاني خبر، أو على أن الأول فعل والثاني فاعل أو نائب فاعل، ويصل المعرب إلى قراره أن ذلك كذلك عندما يفهم العلاقة الرابطة بين الجزءين، ولكن علاقة الإسناد لا تكفي بذاتها للوصول إلى هذا القرار؛ لأنها يمكن أن تكون إسنادًا في جملة اسمية أو إسنادًا في جملة فعلية، ويمكن أن تكون إسنادًا خبريًّا أو إسنادًا إنشائيًّا، وهلمَّ جرّا. ومن هنا تحتاج إلى قرائن أخرى لفظية تعينها على تحديد نوعها، فنلجأ إلى مباني التقسيم لنرى إن كان طرفا الإسناد اسمين أو اسمًا وصفة أو اسمًا وفعلًا أو فعلًا واسمًا إلخ. ونلجأ أيضًا إلى مباني التصريف لنلمح الشخص والنوع والعدد والتعيين، وإلى العلامة الإعرابية لنرى ما إذا كانت الأسماء مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة، وإلى الرتبة لنرى من أي نوع هي، وإلى المطابقة بين الجزءين ما نوعها، وهلمَّ جرا مما يعتبر قرائن لفظية، وذلك إيضاح لظاهرة هامة جدًّا في التعليق هي ظاهرة تضافر القرائن لإيضاح المعنى الواحد. ومثال هذا التضافر ما رأيناه عند إعراب "ضرب زيد عمرًا" من قبل؛ إذ أعربنا "زيد" فاعلًا بشهادة سبع قرائن، واحدة منها فقط معنوية وهي الإسناد، أما البقية فلفظية. كما أعربنا "عمرًا" مفعولًا به بخمس قرائن؛ إحداهما معنوية وهي التعدية، وهكذا يكون الإسناد في اللغة العربية إحدى القرائن، أما في اللغات الغربية فهو دائمًا لا يفهم إلّا بواسطة نوع من القرائن اللفظية التي يسمونها الأفعال المساعدة copula، فلا يمكن بدون هذه القرينة أن نفهم علاقة الإسناد بهذه اللغات، ولما كانت اللغة الإنجليزية مثلًا غير مشتملة في تركيبها على ما نسميه مبنى الجملة الفعلية، بل تقع الجملة الإنجليزية في صورة ما نعرفه تحت اسم الجملة الاسمية، جاءت هذه الأفعال المساعدة لتحمل في دلالتها فكرة الإسناد والزمن، وفي رتبتها الفرق بين الإثبات والاستفهام. انظر مثلًا إلى الأمثلة الآتية وترجتمها باللغة العربية.
earth is rond الأرض كروية.
is eath round هل الأرض كروية؟
والواضح أن الجملة الاسمية في اللغة العربية لا تشتمل على معنى الزمن، فهي جملة تصف المسند إليه بالمسند، ولا تشير إلى حدث ولا إلى زمن، فإذا أردنا أن نضيف عنصرًا زمنيًّا طارئًا إلى معنى هذه الجملة جئنا بالأدوات المنقولة عن الأفعال، وهي الأفعال الناسخة، فأدخلناها على الجملة الإسمية فيصبح وصف المسند إليه بالمسند منظورًا إليه من وجهة نظر زمنية معينة، فهذه النواسخ في دلالتها على الزمن تشبه ما أشرنا إليه من الأفعال المساعدة في اللغة الإنجليزية، ولكنها لا تشبهها فيما وراء ذلك، ومن هنا كانت ترجمة earth is round بعبارة "الأرض تكون كروية" ترجمة خطأ؛ لافتئاتها على طرق التركيب العرفية باللغة العربية الفصحى، وهي لغة تفهم علاقة الإسناد دون حاجة إلى مساعد، بل تتخذها هي نفسها قرينة على معنى الباب المفرد.
ولقد حاول بعض الباحثين بالنظر إلى استغناء اللغة العربية عن هذه الضمائم الزمنية بالنسبة للجملة الاسمية وعدم الحاجة إلى النواسخ إلّا حين إرادة إدخال معنى الزمن على الجملة الاسمية أن يصوّر ذلك بصورة الميزة التي تمتاز بها اللغة العربية على لغات أخرى أجنبية؛ من حيث يمكن للمتكلم بهذه اللغة أن يلمح العلاقة لمحًا عقليًّا، وتحتاج اللغات الأخرى إلى كلمات خاصَّة للدلالة على الإسناد، ولست أحب أن أدخل في مجال حصر نواحي عبقرية اللغة العربية وامتيازها على غيرها من اللغات؛ لأن هذه القضية في نظري تعتبر مما وراء منهج اللغة meta linguistic، ولأمرٍ ما كانت هذه القضية مما اشتمل عليه كتاب لفيلسوف معاصر1. أما ما اهتم له اهتمامًا كبيرًا فهو التأكيد على علاقة الإسناد باعتبارها قرينة معنوية لتمييز المسند إليه من المسند في الجملة في ظلّ ظاهرة كبرى تحكم استخدام القرائن جميعًا هي ظاهرة "تضافر القرائن"، وهي ظاهرة ترجع في أساسها إلى أنه لا يمكن لظاهرة واحدة أن تدل بمفردها على معنى بعينه، ولو حدث ذلك لكان عدد القرائن بعدد المعاني النحوية، وهو أمر يتنافَى مع مبدأ عام آخر هو تعدد المعاني
1 فلسفة اللغة العربية للدكتور عثمان أمين.
الوظيفية للمبنى الواحد. وعلاقة الإسناد هي علاقة المبتدأ بالخبر، والفعل بفاعله، والفعل بنائب فاعله، والوصف المعتمد بفاعله أو نائب فاعله، وبعض الخوالف بضمائمها.
والملاحظ أن النحاة كانوا يلمحون قرينة الإسناد بين طرفي الجملة الاسمية والفعلية والوصفية كما كانوا يلمحونه أيضًا بين المعاني النحوية في داخل الجملة الواحدة، وهذا هو المعنى الذي نلاحظه في إعراب جملة مثل {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} حين نعرب "من" مفعولًا أولًا على رغم تأخرها، والحكمة مفعولًا ثانيًا على رغم تقدمها، ويكون ذلك بإدراك ما بينهما من علاقة شبيهة بفكرة الإسناد؛ إذ تقول: إن "من" هي الآخذ، و"الحكمة" هي المأخوذ. والخلاصة: إن مراعاة الآخذية والمأخوذية هنا هي الاعتبار الذي تَمَّ إعراب المفعولين طبقًا له، وهو اعتبار من قبيل قرينة الإسناد، ويتم كل فهم للقرينة معنوية كانت أو لفظية في حدود ما تسمح به نمطية اللغة.
والتخصيص علاقة سياقية كبرى، وإن شئت فقل: قرينة معنوية كبرى تتفرع عنها قرائن معنوية أخص منها على النحو الآتي:
وهذه القرائن الخاصة كلها تجتمع كما سبق في قرينة معنوية كبرى أعمّ منها تشملها جميعًا وتسمَّى قرينة التخصيص، وإنما سميت هذه القرينة الكبرى قرينة التخصيص لما لاحظته من أنَّ كلِّ ما تفرع عنها من القرائن قيود على علاقة الإسناد، بمعنى أن هذه القرائن المعنوية المتفرعة عن التخصيص يعبِّر كلٌّ منها عن جهة خاصة في فهم معنى الحدث الذي يشير إليه الفعل أو الصفة.
فإذا قلنا: ضرب زيد عمرًا، أو يضرب زيد عمرًا، أو زيد ضرب عمرًا، أو زيد يضرب عمرًا، أو زيد ضارب عمرًا، أو أضارب زيد عمرًا، أو فليضرب زيد عمرًا، أو اضرب عمرًا، أو ضربًا عمرًا، فإن إسناد الضرب إلى المسند إليه كان في كل مثال مما سبق مخصَّصًا بوقوعه على عمرو، أي: إن الوقوع على عمرو كان قيدًا في إسناد الضرب إلى من أسند إليه، وكان أيضًا جهة في الضرب حالت بينه وبين أن يفهم على إطلاقه فطوعته لِأَنْ يفهم من جهة وقوعه على عمرو، وهذا هو المعنى الذي قصدت إليه بقولي: إن المفعول به هنا يعتبر تعبيرًا عن الجهة، وأن التعدية تخصيص لعلاقة الإسناد التي بين الضرب وبين من أسند إليه. يقول عبد القاهر1:"كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت: ضرب زيد عمرًا، كان غرضك أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه"، ومعنى هذا في تفسيرنا لقول عبد القاهر: إن التباس الضرب بالثاني جهة في إسناد الضرب إلى الأول. وينبغي هنا أن نشير إلى أن التعدية إذا كانت معنى أحد مشتقات مادة ما فهي معنى لبقية المشتقات من هذه المادة، كما يتضح في مشتقات الضرب التي أوردناها منذ قليل؛ إذ وجدنا التعدية في الفعل والصفة والمصدر على السواء. وأود أيضًا أن أضيف أن الجهة هنا قيد في الحدث لا في الزمن، وسنرى تفصيل الكلام في النوعين عند الكلام عن الجهة، وهو آت إن شاء الله.
وإذا قلت: أتيت رغبة في لقائك أو كي ألقاك أو لألقاك إلخ. فإنك قد أسندت الإتيان إلى نفسك مقيدًا بسبب خاصٍّ وهذا القيد، وهو الغائية، يعتبر جهة في فهم الإتيان؛ لأن هذا الإتيان بدون سبب أعم منه وهو مسبب، فالإتيان
1 دلائل الإعجاز ص118.
هنا مفهوم من جهة كونه مسببًا عن الرغبة في اللقاء، وتكون الغائبة وهي قرينة معنوية دالة على المفعول لأجله، أو على معنى المضارع بعد الأدوات المذكورة، ومقيدة للإسناد الذي لولاها لكان أعمّ، وتكون أيضًا بسبب تقييدها هذا للإسناد دالة على جهةٍ في فهم الحدث الذي يشير إليه الفعل. ويقال الشيء نفسه في: أنا آتٍ رغبة في لقائك، وأنا آتي رغبة في لقائك، وسآتي رغبة في لقائك، وأآت أنا رغبة في لقائك، وهلمَّ جرا. وهي أيضًا قرينة نصب المضارع بعد الفاء واللام وكي وحتى.
وأما المعية فهي قرينة معنوية تستفاد منها المصاحبة على غير طريق العطف أو الملابسة الحالية، والعطف والملابسة معنيان آخران يعبَّر عنهما بالواو كما يعبَّر بها عن المعية، ولسنا هنا بصدد الكلام عن الواو؛ لأن الواو قرينة لفظية، وكلامنا هنا في القرائن المعنوية، وفي قرينة معنى المعية بصفة خاصة. واصطلاح المعية مقصود على قرينة المفعول معه والمضارع بعد الواو، أي: إنه خاص بهذين البابين، ومن أمثلة المضارع المذكور نحو:"لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، ومع أن معنى الواو هنا هو نفسه معنى الواو التي في المفعول معه، كما يتشابه المعنى هنا والمعنى هناك، أحب النحاة أن يفرقوا بين معنيين متشابهين بسبب الاختلاف في التضامّ بين الواو وما يتبعها، فالذي يضامّ الواو في المعية اسم منصوب، والذي يضام الواو في المصاحبة مضارع منصوب، ومن هذا يتضح أن نصب المضارع بعد الواو على المعية من نوع نصب المفعول معه بعد الواو ذاتها.
والظرفية قرينة معنوية على إرادة معنى المفعول فيه، فلقد سبق أن ذكرنا أن الظروف في اللغة العربية قسم من أقسام الكلم قائم بذاته، وأن بعض ما ينتمي إلى الأقسام الأخرى من الكلم ينقل إلى معنى الظرف فيستعمل كما يستعمل الظرف مفعولًا فيه، ويسمَّى معظمه متصرفًا، وذلك كالمصدر وصيغتي الزمان والمكان، وبعض حروف الجر كمذ ومنذ، وبعض الضمائر الإشارية كهنا وثَمَّ، وبعض المبهمات مثل كم، والأعداد والجهات، وأسماء الأوقات المبهمة، وأسماء العلاقات المفتقرة إلى الإضافة كقبل وبعد وتحت
وفوق، وأسماء الأوقات المحددة المعينة كالآن وأمس وسحر وبكرة إلخ. كل هذه الكلمات ليست ظروفًا ولكنها تشترك مع الظروف في أمر هامٍّ، هي أنها تنقل إلى الظرفية فتفيد معنى المفعول فيه، فتخصص زمان الحدث ومكانه على معنى الاقتران. والظرفية هنا غير الظرفية التي يفيدها حرف الجر "في" أو ما يأتي بمعناها"؛ لأن الظرفية هنا قرينة معنوية على باب نحوي، ولكنها في حروف الجر علاقة احتواء بين معنى الحدث المستفاد من الفعل وبين الاسم التالي لحرف الجر، أو بعبارة أخرى يكمن الفرق في أن الظرفية هنا للتخصيص، أي: لتقييد زمن الإسناد أو مكانه، والظرفية هناك لنسبة الحدث إلى ظرف يحتويه، فالمعنيان من القرائن المعنوية، وهما على ما بينهما من تشابه شديد جدًّا لا ينبغي اعتبارهما معنى واحدًا لما بينهم من اختلاف المبنى كما يتضح في المقابلات الآتية:
1-
صحوت إذ تطلع الشمس ظرف تخصيص
2-
صحوت في طلوع الشمس حرف نسبة
3-
أصحو متى تطلع الشمس ظرف تخصيص
4-
صحوت وقت طلوع الشمس مبهم منقول إلى الظرف نسبة
5-
أصحو في وقت طلوع الشمس حرف نسبة
فظرفية الظرف وما نقل إليه أشبه شيء بمعنى الاقتران الزماني أو المكاني، أما ظرفية الحرف فهي على معنى الاحتواء الزماني أو المكاني.
فالذي أراه أن هناك طائفتين مما يستعمل مفعولًا معه، إحداهما الظروف الجامدة التي يقول النحاة إنها تضاف إلى الجمل، وهي التي جعلناها جديرة باسم الظرف عند تقسيم الكلام، وهذه ظرفيتها ظرفية اقتران حدثين، فإذا قلت: حضر زيد إذ حضر عمرو، فإن "إذ" تقرن بين الحضورين. والطائفة الأخرى هي ما ينقل إلى معنى الظرف مما ليس ظرفًا، وهذا قد يدل على ظرفية احتواء حدث واحد، فإذا قلت جاء زيد يوم الجمعة، فذلك معناه أن اليوم هو ظرف المجئ، ولا دلالة هنا على الاقتران. وأحب أن أضيف هنا أن
الظروف الدالة على الاقتران يبقى لها معناها عند استعمالها أدوات شرط، وتتحول عن هذا المعنى إلى معنى الاحتواء عند استعمالها أدوات استفهام، وأما حرف الجر "في" فهو أصل معنى الاحتواء، وتكون ظروف الاحتواء بمعناه، وهو هنا شاع في تحديد معنى الظرف أنه بمعنى "في".
وأما التحديد والتوكيد فهي القرينة المعنوية الدالة على المفعول المطلق، والمقصود بالتحديد والتوكيد: تعزيز المعنى الذي يفيده الحدث في الفعل، وذلك بإيراد المصدر المشترك مع الفعل في مادته؛ لأن المصدر هو اسم الحدث، ففي إيراده بعد الفعل تعزيز لعنصر الحدث ومعنى الفعل، وتكون التقوية بواسطة ذكره مفردًا منونًا على سبيل التأكيد، أو مضافًا لمعين لإفادة النوع، أو موصوفًا لإفادة النوع أيضًا، أو مميزًا لعدد فيكون العدد نفسه مفعولًا مطلقًا، والمصدر تمييزًا وقد يكون المصدر اسم مرة، أو مثنى اسم المرة فيفيد العدد أيضًا. والذي يهمنا من كل ذلك هو أن التقوية بالتأكيد أو التحديد قرينة معنوية على معنى المفعول المطلق، أما كونه يلزم فيه أن يكون بواسطة صيغة المصدر فذلك قرينة لفظية سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله.
وأما الملابسة للهيئات فهي قرينة معنوية على إفادة معنى "الحال" بواسطة الاسم المنصوب أو الجملة مع الواو وبدونها. فإذا قلت: "جاء زيد راكبًا"، فالمعنى جاء زيد ملابسًا لحال الركوب، وكذلك إذا قلت: جاء زيد وهو يركب، فالحال هنا عبَّر عنها بالجملة والواو -وتسمَّى هذه الواو واو الحال وواو الابتداء- وقدَّرها سيبويه والأقدمون بإذ، ولا يريدون أنها بمعناها إذ لا يرادف الحرف الاسم، بل إنها وما بعدها قيد للعامل السابق1"، وعلى هذا الاقتباس من شرح الأشموني ملاحظات:
1-
إن تقدير سيبويه والأقدمين لهذه الواو المعبِّرة عن الملابسة "بإذ" يبرر ما رأيته منذ قليل أن معنى ظرفية الظرف أقرب إلى الاقتران، ومعنى ظرفية الحرف أقرب إلى الاحتواء.
1 شرح الأشموني ص258 تحقيق محيي الدين.
2-
قوله: "إذ لا يرادف الحرف الاسم" مبنى على التقسيم التقليدي للكلم، وفيه أن الظرف من الأسماء، أما بحسب فهمي أنا للمشكلة فأَوْلَى للعبارة أن تكون:"إذ لا يرادف الحرف الظرف"، وفي هذا تبرير آخر لما زعمته منذ قليل من المغايرة بين ظرفية الظرف وظرفية الحرف.
3-
قوله: "بل إنها وما بعدها قيد للعامل السابق" ينسجم تمامًا مع رأيي أن كلَّ المنصوبات تندرج تحت عنوان التخصيص.
والتفسير للذوات قرينة معنوية على باب التمييز، وواضح أن التفسير يكون عند الحاجة إلى الإيضاح، ولا تكون هذه الحاجة إلّا عند المبهم، والمبهم الذي يفسره التمييز إما أن يكون:
1-
معنى الإسناد: نحو طاب محمد نفسًا.
2-
معنى التعدية: زرعت الأرض شجرًا.
3-
اسم مفرد دالّ على مقدار مبهم: اشتريت مترين حريرًا "فهذا مبهم من حيث المقياس والعدد".
ولا شكَّ أن الإبهام عموم، وأن التقييد تخصيص لهذا العموم، وما دام التفسير يزيل الإبهام فهو تخصيص يزيل العموم، وكون التمييز تخصيصًا هو ما نسعى إلى إثباته هنا مع دعوى أن كل المنصوبات مخصصات لعموم الدلالة في الإسناد أو في نطاق الإسناد، وهي من ثَمَّ دالة على "جهة" معينة في فهم علاقة الإسناد. ومن هنا يصدق على الأسماء المنصوبة أنها تعبيرات عن "الجهة"، وسنرى ذلك في حينه إن شاء الله.
وعلاقة الإخراج قرينة معنوية على إرادة "باب المستثنى" فالمستثنى يخرج من علاقة الإسناد حين نفهم هذه القرينة المعنوية من السياق. فإذا قلنا: جاء القوم إلا زيدًا، فإننا قد أسندنا المجيء إلى القوم وأخرجنا زيدًا من هذه الإسناد. وكما أنَّ المعية والمصاحبة والملابسة والعطف وغيرها من القرائن المعنوية تتضافر معها الواو لبيان إعراب ما بعد هذه الواو، فيكون ذلك من قبيل ما أشرنا إليه من قبل تحت اسم "تضافر القرائن" فتسمَّى الواو واو المعية
أو المصاحبة أو الحال أو العطف، فكذلك تتضافر "إلا" وهي قرينة لفظية مع معنى الإخراج وهو قرينة معنوية ليفهم من كليهما ومعهما "النصب" وغيره من القرائن معنى الاستثناء، وكذلك تتضافر "أو" مع الإخراج لنصب المضارع، فيكون نصبه على معنى نصب المستثنى، وفي الإخراج تقييد للإسناد وتخصيص له، ومن هنا ساغ لي أن أضع "المستثنى" بين الأبواب المعبرة عن معنى الجهة، وأن أطلق على ما تفيده هذه القرائن المعنوية مجتمعة عنوانًا شاملًا هو "التخصيص".
وأما المخالفة فهي مظهر من مظاهر تطبيق استخدام القيم الخلافية بجعلها قرائن معنوية على الإعرابات المختلفة، ومن قبيل اعتبار المخالفة قرينة معنوية أننا لا نحسّ ارتياحًا إلى تفسير النحاة لمعنى باب الاختصاص؛ إذ يجعلون الاسم المنصوب على الاختصاص مفعولًا لفعل محذوف تقديره "أخص" أو "أعني"، ومع أن تقدير "أخص" منسجم مع اعتبار الاسم المختص من قبيل ما يدخل تحت عنوان "التخصيص"، إلّا أنني أحسّ عزوفًا تامًّا عن هذا التقدير الذي ينقل مبدأ وجوب الاستتار من الضمائر إلى الأفعال. والذي يبدو لي هنا أن القيمة الخلافية المراعاة في نصب الاسم هي المقابلة بينه وبين الخبر الواقع بعد مبتدأ مشابه لما قبل الاسم المنصوب هنا، وانظر إلى الجملة الآتية:
نحن العربُ نكرم الضيف ونغيث الملهوف.
نحن العربَ نكرم الضيف ونغيث الملهوف.
فالعربُ في الجملة الأولى خبر، وما بعده مستأنف، والعرب في الجملة الثانية مختص، وما بعده خبر، ولو اتحد المعنى لاتحد المبنى، فأصبحت الحركة واحدة فيهما، ولكن إرادة "المخالفة" بينهما كانت قرينة معنوية تتضافر مع اختلاف الحركة لبيان أن هذا خبر وهذا مختص. وقرينة المخالفة يمكن استخدامها في عدد آخر من أبواب النحو، فتكون مثلًا هي التفسير لما يرد من تعدد حركة المضارع في نحو:"لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، وكذلك حركة
المستثنى المنقطع في ما قام القوم إلا حمارًا"1، ونصب الاسم بعد ما أفعل في التعجب وبعد الصفة المشبهة، ولكننا لسنا هنا بصدد تفصيل القول فيها، فلنكتف بالإشارة إلى اتخاذها قرينة معنوية على إطلاقها.
وكذلك المنصوبات التي يتغيّر المعنى برفعها في نحو: وعد الله حقًّا وسقيًا لك ورعيًا ورأسك والسييف والبدار البدار وندلًا زريق المال إلخ، وكذلك نصب تمييز كم الاستفهامية، وعدم الاستثناء أو العطف بلا بعدها في مقابل ما يرد من ذلك مع كم الخبرية.
ويقول الفراء في معاني القرآن عند إعراب هذا زيد أسدًا: إن أسدًا منصوب لعدم وجود رافع.
قلنا: إن المخالفة من قبيل القيم الخلافية، ونضيف هنا أن المخالفة قرينة معنوية فقط، ولكن القيم الخلافية أعمّ من أن تكون معنوية فقط. فكما نلاحظ القيم الخلافية بين المعنى والمعنى، نلاحظها كذلك بين المبنى والمبنى، وحين تكون بين المعنى والمعنى تصحب معنوية كما رأينا من أمر المخالفة، وأما حين تكون بين المبنى والمبنى فإنها تصبح قرينة لفظية؛ لأن المبنى يتحقق بالعلامة والعلامة لفظ. وسنرى فيما بعد تحت عنوان خاص ما القرائن اللفظية وكيف تدل كل منها على مدلولها وكيف تتضافر فيما بينها وتتضافر مع القرائن المعنوية للدلالة على المعاني الوظيفية.
وأما النسبة فهي قرينة كبرى كالتخصيص، وتدخل تحتها قرائن معنوية فرعية كما دخلت القرائن المعنوية المتعددة تحت عنوان التخصيص، والنسبة قيد عام على علاقة الإسناد، أو ما وقع في نطاقها أيضًا، وهذا القيد يجعل علاقة الإسناد نسبية. وواضح أن معنى النسبة غير معنى التخصيص؛ لأن معنى التخصيص تضييق ومعنى النسبة إلحاق، والمعاني التي تدخل تحت عنوان النسبة وتتخذ قرائن في التحليل والإعراب وفي فهم النصِّ بصورة عامَّة هي ما نسميه: معاني حروف الجر، ومعها معنى الإضافة. ولقد كان الكوفيون يطلقون لفظ الإضافة على المعاني المذكورة جميعًا، ولكن ما يوقر مصطلح "الإضافة"
1 والمثال للمتقطع من المقام المنفي، ويحمل نصب المثبت عليه.
من تقاليد العرف الخاص في استعماله يجعلني أفضِّل للدلالة على ما يشمل معاني الحروف والإضافة مصطلح "النسبة". يقول الأشموني في باب الاستثناء1: "وإنما لم تعمل "أي "إلا" الجر؛ لأن عمل الجر بحروف تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء وتنسبها إليها، و"إلّا" ليست كذلك، فإنها لا تنسب إلى الاسم الذي بعدها شيئًا، بل تخرجه من هذه النسبة"، وأود أن أشير هنا بصفة خاصة إلى الكلمات الآتية:
تضيف - تنسب - تخرج - النسبة.
فهي تذكرنا بقرائن "الإضافة""وهي داخلة في النسبة"، و"الإخراج""وقد سبق الكلام عنها تحت عنوان التخصيص"، و"النسبة" وهي القرائن التي نتكلم في تفصيلها هنا.
وحروف الجر حتى في اصطلاح النحاة القدماء "أدوات تعليق"، ومن عباراتهم المشهورة قولهم:"والجار والمجرور متعلق"، فكلمة "متعلق" هنا تفيد أن النحاة كانوا حريصين على شرح ما تفيده معاني الجر "أي القرائن المعنوية المفهومة من حروف النسبة" من تعليق، على أن التعلق بين الجار والمجرور وبين ما تعلق به إنما يكون بمعنى الحدث لا بمعنى الزمن، فإذا قلنا: جلس زيد على الكرسي، فإن الكرسي تعلق بالجلوس بواسطة حرف الجر، ولم يتعلق بالمضي كما يتضح من الشكل الآتي.
جلس زيد على الكرسي
اسكنر
= مضى = جلوس
والجملة بهذا تعني: مضى جلوس زيد على الكرسي، فلا صلة للكرسي بالمضي، وإنما تقوم الصلة بينه وبين الجلوس، وأما العلاقة المباشرة للمضي فهي بالجلوس؛ لأن معنى الفعل يشتمل عليهما جميعًا.
1 شرح الأشموني ص228 "محيى الدين".
وأما معنى الإضافة فيكفي لبيان قوة التعليق فيه أن النحاة لم يغفلوا النصّ على أن المضاف والمضاف إليه كالكلمة الواحدة، غير أن أن هناك فرقًا بين النسبة التي يفيدها حرف النسبة، والنسبة التي تفيدها الإضافة، فالنسبة مع حرف النسبة أنها على حدِّ تعبير الأشموني "تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء وتنسبها إليها"، وعلى حد تعبيرنا نحن: إنها تجعل علاقة الإسناد نسبية، سواء كانت هذه العلاقة بين مبتدأ وخبره، أو فعل وفاعله، أو غير ذلك، على حين تكون النسبة في الإضافة بين المتضايفين الواقعين في نطاق الإسناد. ولكل حرف من حروف النسبة عدد من المعاني المتباينة على أساس ما ذكرنا من ظاهرة تعدد المعاني الوظيفية للمبنى الواحد، والذي يلتمس معاني هذه الحروف كما حددها النحاة فسيجدها في عمومها كما يأتي:
1-
ابتداء الغاية.
2-
انتهاء الغاية.
3-
البعضية.
4-
الظرفية.
5-
التعليل.
6-
المجاوزة.
7-
الاستعانة.
8-
الاستعلاء.
9-
المصاحبة.
10-
الإلصاق.
11-
القسم.
12-
التشبيه
13-
بيان الجنس.
14-
التوكيد.
15-
الملك.
16-
الاستحقاق.
17-
النسب.
18-
العاقبة.
19-
المقايسة.
20-
التعويض.
21-
التعجب.
22-
الاستدراك.
23-
التبليغ.
24-
التبيين.
25-
البعدية.
26-
البدلية.
27-
العندية.
28-
التعدية.
29-
الزيادة.
فإذا زدنا هذه القرائن المعنوية قرينة "الإضافة"، صارت هذه القرائن الداخلة تحت مفهوم النسبة ثلاثين قرينة معنوية، ومعنى النسبة واضح في كل هذه القرائن على نحو ما نرى فيما يلي:
القرينة النسبة:
ابتداء الغاية الطرف الأول: الحدث "ملابس الابتداء" الطرف الثاني: الغاية.
البعضية الطرف الأول: الحدث "ملابس البعض" الطرف الثاني: الكل.
الظرفية الطرف الأول: الحدث "المظروف" الطرف الثاني: ظرفه.
التعليل الطرف الأول: الحدث "المعلول" الطرف الثاني: العلة.
المجاوزة الطرف الأول: الحدث "المجاوز" الطرف الثاني: المجاوَز.
وكذلك الأمر في البواقي. فالتعليق بواسطة ما يفهم بالحرف من نسبة هو في حقيقته إيجاد علاقة نسبية بين المجرور وبين معنى الحدث الذي في علاقة الإسناد، وهذا النوع من التعليق بمعنى الحرف واسع حقل التطبيق في اللغة العربية الفصحى، كما يمكن أن يرى من كثرة القرائن المعنوية التي تستخدم في هذا التعليق.
وأما التبعية فهي أيضًا قرينة معنوية عامَّة يندرج تحتها أربع قرائن هي: النعت والعطف والتوكيد والإبدال، وهذه القرائن المعنوية تتضافر معها قرائن أخرى لفظية أشهرها قرينة المطابقة، ثم إن أشهر ما تكون فيه المطابقة بين التابع والمتبوع هو العلامة الإعرابية، كما أن هناك قرينة أخرى توجد فيها جميعًا هي الرتبة؛ إذ رتبة التابع هي التأخُّر عن المتبوع دائمًا أيًّا كان نوعهما.
فأما النعت فهو يصف المنعوت ويكون مفردًا حقيقيًّا وسببيًّا، وجلمة وشبه جملة، وأما التوكيد فمنه لفظي ومعنوي؛ فاللفظي بتكرار المؤكد، والمعنوي بألفاظ معينة. وأما عطف البيان فليس يتم بواسطة الحرف وإنما يفسر التابع فيه ما كان في متبوعه من إبهام، فهو مما قبله في وضع يقترب نوع اقتراب من معنى المفعول المطلق المبين للنوع من جهة، ومن معنى التمييز أو النعت من جهة أخرى، إلّا أنه يمتاز عنهما بقرينة التبعية، وبعض القرائن اللفظية، وتفسير متبوعه يكون بتخصيصه إذا كان نكره، وتوضيحه إذا كان معرفة. والنسق تتضافر فيه قرينة التبعية وقرينة الأداة ومطابقة الحركة. والبدل إما مطابق أو اشتمال أو بعض أو إضراب، وكل ما صح أن يكون عطف بيان صحَّ أن يكون بدلًا إلّا عند امتناع إعادة بناء الجملة مع حذف المبدل منه وإقامة البدل مقامه، فإذا امتنعت هذه التجربة فالتابع للبيان لا للإبدال.
ب- القرائن اللفظية:
ذكرنا عند الكلام في المباني الصرفية أن من المباني ما هو تقسيمي، ومنها ما هو تصريفي، ومنها للقرائن اللفظية، ولم يكن معنى ذلك بالطبع أن مباني التقسيم أو مباني التصريف لا تتخذ قرائن لفظية على المعنى؛ لأن مباني التقسيم -والصيغ الصرفية فروع عليها- تمنحنا قرينة الصيغة، كما أن مباني التصريف -واللواصق فروع عليها- تمنحنا أكثر المظاهر التي تظهر بها قرينة المطابقة.
ويمكن أن نعدّ القرائن اللفظية في السياق على النحو التالي:
1-
العلامة الإعرابية.
2-
الرتبة.
3-
الصيغة.
4-
المطابقة.
5-
الربط.
6-
التضام.
7-
الأداة.
8-
النغمة.
وسنحاول فيما يلي أن نتكلَّم في كل واحدة من هذه القرائن على حدة:
1-
العلامة الإعرابية: لقد كانت العلامة الإعرابية أوفر القرائن حظًّا من اهتمام النحاة، فجعلوا الإعراب نظرية كاملة سمَّوها نظرية العامل، وتكلموا فيه عن الحركات ودلالاتها، والحروف ونيابتها عن الحركات، ثم تكلموا في الإعراب الظاهر والإعراب المقدر والمحل الإعرابي، ثم اختلفوا في هذا الإعراب هل كان في كلام العرب أم لم يكن، وكان لقطرب ومن تبعه من القدماء والمحدثين كلام في إنكار أن تكون اللغة العربية قد اعتمدت حقيقة على هذه العلامات في تعيين المعاني النحوية. حدث كل ذلك في وقت لم تكن العلامات الإعرابية أكثر من نوع واحد من أنواع القرائن، بل هي قرينة يستعصي التمييز بين الأبواب بواسطتها حين يكون الإعراب تقديريًّا أو محليًّا أو بالحذف؛ لأن العلامة الإعرابية في كل واحدة من هذه الحالات ليست ظاهرة فيستفاد منها معنى الباب. حتى حين ننظر إلى مطلق العلامة كمطلق الضمة أو مطلق الفتحة أو مطلق الكسرة، فسنجد أنها لا تدل على باب واحد، وإنما تدل الواحدة منها على أكثر من باب كما شرحنا من قبل. وفيما يلي تخطيط العلامة الإعرابية واستخدامها في اللغة العربية الفصحى كما حدد ذلك النحاة:
ولا أكاد أملّ ترديد القول: إن العلامة الإعرابية بمفردها لا تعين على تحديد المعنى، فلا قيمة لها بدون ما أسلفت القول فيه تحت اسم "تضافر القرائن"، وهذا القول صادق على كل قرينة أخرى بمفردها، سواء أكانت معنوية أم لفظية، وبهذا يتضح أن "العامل النحوي"، وكل ما أثير حوله من ضجَّة لم يكن أكثر من مبالغة أدَّى إليها النظر السطحي والخضوع لتقليد السلف والأخذ بأقوالهم على علاتها.
2-
الرتبة: أميل إلى الاعتقاد أن عبد القاهر حين صاغ اصطلاحه "الترتيب" قصد به إلى شيئين؛ أولهما: ما يدرسه النحاة تحت عنوان: "الرتبة""وإن كانوا لم يعنوا بها تمامًا، وإنما فرقوا القول فيها بين أبواب النحو"، وثانيهما: ما يدرسه البلاغيون تحت عنوان التقديم والتأخير، ولكنَّ دراسة التقديم والتأخير في البلاغة دراسةً لأسلوب التركيب لا للتركيب نفسه، أي: إنها دراسة تتمّ في نطاقين أحدهما: مجال حرية الرتبة حرية مطلقة، والآخر: مجال الرتبة غير المحفوظة، وإذًا فلا يتناول التقديم والتأخير البلاغي ما يسمَّى في النحو باسم الرتبة المحفوظة؛ لأن هذه الرتبة المحفوظة لو اختلت لاختلَّ التركيب باختلالها، ومن هنا تكون الرتبة المحفوظة قرينة لفظية تحدد معنى الأبواب المرتبة بحسبها، ومن الرتب المحفوظة في التركيب العربي أن يتقدم الموصول على الصلة، والموصوف على الصفة، ويتأخر البيان عن المبين، والمعطوف بالنسق على المعطوف عليه، والتوكيد عن المؤكد، والبدل عن المبدل، والتمييز عن الفعل ونحوه، وصدارة الأدوات في أساليب الشرط، والاستفهام والعرض والتحضيض ونحوها، وهذه الرتبة "صدارة الأدوات" هي التي دعت النحاة إلى صوغ عبارتهم الشهيرة "لا يعمل ما بعدها فيما قبلها"، ومن الرتب المحفوظة أيضًا تقدم حرف الجر على المجرور، وحرف العطف على المعطوف، وأداة الاستثناء على المستثنى، وحرف القسم على المقسم به، وواو المعية على المفعول معه، والمضاف على المضاف إليه، والفعل على الفاعل أونائب الفاعل، وفعل الشرط على جوابه، ومن الرتب غير المحفوظة في النحو رتبة المبتدأ والخبر، ورتبة الفاعل والمفعول به، ورتبة الضمير والمرجع، ورتبة الفاعل والتمييز بعد نعم، ورتبة الحال والفعل المتصرف، ورتبة المفعول به والفعل.
وتقوم الرتبة في كل ذلك قرينة من القرائن المتضافرة على تعيين معنى الباب، وقد سبق في إعراب "ضرب زيد عمرًا" أن كانت الرتبة فعلًا بين القرائن المستخدمة في تعيين معنى الفاعل؛ لأنه بعد الفعل بحسب الرتبة، بل إن الرتبة غير المحفوظة قد تدعو الحال إلى حفظها إذا كان أمن اللبس يتوقف عليها، وذلك في نحو: ضرب موسى عيسى، ونحو: أخي صديقي؛ إذ يتعيِّن في موسى أن يكون فاعلًا، وفي أخي أن يكون مبتدأ، محافظة على الرتبة؛ لأنها تزيل اللبس، وهي هنا تعتبر القرينة الرئيسية على الباب النحوي.
وفيما يلي تخطيط يبين الرتبة:
ويظهر أن بين الرتبة النحوية وبين الظواهر الموقعية رحمًا موصولة؛ لأن الرتبة حفظ الموقع والظاهرة الموقعية هي تحقيق مطالب الموقع، على رغم قواعد النظام كما سيكون شرحه فيما يأتي في موضعه إن شاء الله. والملاحظ أننا لو استعرضنا أقسام الكلم وربطنا بينها وبين قرينة الرتبة، فسنجد أن الرتبة تتجاذب مع البناء أكثر مما تتجاذب مع الإعراب، وتتجاذب من بين المبنيات مع الأدوات والظروف أكثر مما تتجاذب مع أي مبنًى آخر، ومع أنني أنفر من التصدي لتعليل الظواهر اللغوية أجدني مدفوعًا هنا إلى ملاحظة أن عدم وجود قرينة العلامة الإعرابية في المبنيات قد جنح بها إلى قرينة الرتبة، وجعل الرتبة عوضًا لها من العلامة الإعرابية.
وقد يطرأ على الرتبة غير المحفوظة من دواعي أمن اللبس ما يدعو إلى حفظها، كما أشرنا إلى ذلك بمثالين هما: ضرب موسى عيسى، وأخي صديقي، وقد يطرأ عليها من ذلك ما يحتّم عكسها، كالذي نراه من لزوم الخبر على المبتدأ أحيانًا، وفي ذلك يقول ابن مالك:
ونحو عندي درهم ولي طر
…
ملتزم فيه تقدم الخبر
كذا إذا عاد عليه مضمر
…
مما به عنه مبنيًّا يخبر
كذا إذا يستوجب التصديرا
…
كأين من علمته نصيرا
وخبر المحصور قدم أبدًا
…
كمالنا إلّا اتباع أحمدا
ويتضح مما تقدَّم ما يأتي:
1-
إن الرتبة قرينة لفظية، وعلاقة بين جزءين مرتبين من أجزاء السياق يدل موقع كل منهما من الآخر على معناه.
2-
إن الرتبة أكثر ورودًا مع المبنيات أكثر اطرادًا منه مع غيرها.
3-
إن الرتبة بكونها قرينة لفظية تخضع لمطالب أمن اللبس، وقد يؤدي ذلك إلى أن تنعكس الرتبة بين الجزءين المرتبين بها، ويكون ذلك أيضًا إذا كانت الرتبة وعكسها مناط معنيين يتوقف أحدهما على الرتبة، والآخر على عكسها نحو:
ما أمر جاء بك وأمر ما جاء بك.
هذا الفارس "شجاع مثلًا" والفارس هذا.
رضى أخي "مطلوب مثلًا" وأخي رضى "يحبني مثلًا".
قام زيد وزيد قام.
أو زيد قائم وأزيد قائم.
أعرف كيف حدث هذا "كيف مفعول به"، وأعرف هذا كيف حدث "كيف بدل".
السلام عليكم "تحية" وعليكم السلام "رد التحية".
والذي يبدو لي أن الرتبة فرع على التضامّ بمعناه العام1، وإذ لا رتبة لغير متضامين.
3-
مبنى الصيغة: لقد سبق لنا أن ذكرنا أن الصيغ فروع على مباني التقسيم، فللأسماء صيغها، وللصفات والأفعال صيغها كذلك، والمعروف أن الفاعل والمبتدأ ونائب الفاعل يطلب فيها أن تكون أسماء، وأن الفعل نواة الجملة الفعلية، والوصف أو الصفة نواة الجملة الوصفية التي تكون بوصف معتمد على نفي أو استفهام أو مبتدأ أو موصوف أو نحوه مما يسبق الأفعال، فإذا وليته الصفات دخلت في علاقات سياقية شبيهة بما يكون للأفعال من هذه العلاقات، والمصادر من بين الأسماء تكون مفعولًا مطلقًا ومفعولًا لأجله، وتنقل إلى معنى الفعل أيضًا، والمطلوب في الخبر والحال والنعت المفرد أن تكون صفات، ويكون الخبر والحال والنعت المفرد أن تكون صفات، ويكون الخبر والحال والنعت هي العناصر التي اعتمدت عليها الصفات، والمطلوب في التمييز أن يكون اسمًا نكرة جامدة، وفي بدل ضمير الإشارة أن يكون اسمًا، وفيما بعد حرف الجر وفي المضاف والمضاف إليه أن يكون اسمًا كذلك، وفي المفعول فيه أن يكون ظرفًا أو منقولًا إلى الظرف من بين المبهمات، وفي صدر كل جملة عربية ما عدا الجملة المثبتة أن يكون ذا أداة، كما في النفي والتأكيد والاستفهام والنهي والعرض والتخصيص والتمني والترجي والشرط والتعجب والقسم والنداء إلخ. ولكن الأداة ستستقل بعلاج خاص فيما بعد إن شاء الله.
وهكذا تكون الصيغة قرينة لفظية على الباب، فنحن لا نتوقع للفاعل ولا للمبتدأ ولا لنائب الفاعل أن يكون غير اسم، ولو جاء فعل في هذا الموقع لكان بالنقل اسمًا محكيًّا كما يحدث عندما نعرب عبارة مثل:"ضرب فعل ماض" إذ يصير ضرب مبتدأ، وفعل خبر، وماض نعت؛ لأن ضرب هنا حكي وقصد لفظه فصار اسمًا كالأسماء الأخرى، وتحقق للمبتدأ أن يكون اسمًا.
على أن معاني الصيغ الصرفية تكون وثيقة الصلة بالعلاقات السياقية، فنحن نعلم أن الفعل اللازم لا يصل إلى المفعول به بغير واسطة، ونعلم أيضًا
1 انظر التضامّ فيما يلي بعد قليل.
أن بعض الصيغ معناها اللزوم، وذلك كالمطاوع والمبني للمجهول من المتعدي لواحد، وأفعال السجايا مثل فعل يفعل -بضم العين، وغير ذلك، فمعنى الصيغة الصرفية ينبئ عن علاقاتها السياقية، ونحن نعلم أيضًا أن المتعدي من الأفعال ما وصل إلى المفعول به بلا واسطة، ونحن نعلم أيضًا أن الثلاثي اللازم الذي يهمز أو يضعَّف يصير متعديًّا، ومن هنا تصير الصيغة ودلالتها ذواتي أثر نحوي يتمثل في علاقاتها السياقية، ومن قبيل ذلك أنَّ الأفعال التي تدلّ بصيغتها الصرفية على المشاركة تتطلب فاعلًا غير مفرد أو مفردين متعاطفين بالواو، ومن هنا تكون الصيغة قرينة دالة على نوع الفاعل، فلو جاء الفاعل مفردًا ليس بعده معطوف بالواو لأحسَّ السامع في نفسه ترقبًا لهذا المعطوف؛ لأن ما دلت عليه القرينة لم يتحقق. ومن قبيل ذلك أن التوكيد اللفظي يكون بترديد المؤكد بصيغته ولفظه، وأن التوكيد المعنوي يكون بصيغ وألفاظ بعينها، فلو أكدت بغير ذلك لم يكن توكيدًا. ومنه أيضًا أن الفرق بين النواسخ الفعلية وشبهاتها من الأفعال التامة نحو: زال ودام إلخ، هو فرق في الصيغة أيضًا؛ لأن إحدى الصيغتين في كل يأتي منها المصدر لدلالتها مع الزمن على الحدث؛ ولأن الأخرى لا يأتي منها المصدر؛ لأنها تدل على الزمن دون الحدث، وإذا كان المصدر بحكم تعريفه هو اسم الحدث فلا جرم أن ما زال وما دام لا يأتي منهما المصدر، فلا نتوقع أن نرى جملة مثل:"زواله قائمًا".
4-
المطابقة: مسرح المطابقة هو الصيغ الصرفية والضمائر، فلا مطابقة في الأدوات ولا في الظروف مثلًا إلّا النواسخ المنقولة عن الفعلية، فإن علاقتها السياقية تعتمد على قرينة المطابقة، وأما الخوالف فلا مطابقة فيها إلّا ما يلحق "نعم" من تاء التأنيث، وتكون المطابقة فيما يأتي:
1-
العلامة الإعرابية.
2-
الشخص "التكلم والخطاب والغيبة".
3-
العدد "الإفراد والتثنية والجمع".
4-
النوع "التذكير والتأنيث".
5-
التعيين "التعريف والتنكير".
فالعلامة الإعرابية تكون للأسماء والصفات وللفعل المضارع، فيتطابق بها الاسمان والاسم والصفة والمضارعان المتعاطفان، وأما الشخص فإنه تتمايز الضمائر بحسبه بين التكلم والخطاب والغيبة، ومن ثَمَّ تتضح المقابلات بحسبه في إسناد الأفعال، وإذا كان الفعل مسندًا إلى الاسم الظاهر فهذا الاسم في قوة ضمير الغائب، أما إذا كان الفعل نواة جملة خبرية مبتدؤها ضمير، فإن الفعل لا بُدَّ أن يطابق من حيث الشخص ما تقدمه من ضمير، وأما العدد فإنه يميز بين الاسم والاسم، وبين الصفة والصفة، وبين الضمير والضمير -سواء أكان الضمير للشخص أو للإشارة أو الموصول. ومن هنا يتطابق الاسم والاسم، والصفة والصفة، والاسم والصفة، والضمير المبتدأ، وإسناد الفعل الذي في جملة خبره من حيث الإفراد والتثنية والجمع، ثم ما يعود على كل ذلك من الضمائر يكون مطابقًا له في العدد. وأما النوع فإنه يكون أساسًا للأسماء والصفات والضمائر "بأنواعها"، وتتطابق الأفعال مع هذه الأقسام عند إسنادها إليها أو إلى ضمائرها العائدة إليها، كما تتطابق هذ الأقسام في ذلك في مواضع التطابق. وأما التعريف والتنكير فلا يكونان إلّا للأسماء، فإذا لحقت أل بالصفة كانت "أل" موصولة، والصفة الصريحة صلتها، وتكون "أل" في هذه الحالة من قبيل الضمائر الموصولة لا أداة للتعريف، ومع ذلك تتطابق بها الأسماء مع الصفات. وأما غير ذلك من أقسام الكلم فلا يقبل "أل".
ولا شكَّ أن المطابقة في أية واحدة من هذه المجالات الخمسة تقوي الصلة بين المتطابقين فتكون هي نفسها قرينة على ما بينهما من ارتباط في المعنى
وتكون قرينة لفظية على الباب الذي يقع فيه ويعبّر عنه كل منهما. فبالمطابقة تتوثق الصلة بين أجزاء التركيب التي تتطلبها، وبدونها تتفكك العرى وتصبح الكلمات المتراصّة منعزلًا بعضها عن بعض، ويصبح المعنى عسير المنال. انظر مثلًا فيما يأتي:
1-
تركيب صحيح المطابقة: الرجلان الفاضلان يقومان.
2-
مع إزالة المطابقة في الإعراب: الرجلان الفاضلين يقومان.
3-
مع إزالة المطابقة في الشخص: الرجلان الفاضلان تقومان.
4-
مع إزالة المطابقة في العدد: الرجلان الفاضل يقومون.
5-
مع إزالة المطابقة في النوع: الرجلان الفاضلتان يقومان.
6-
مع إزالة المطابقة في التعيين: الرجلان فاضلان يقومان.
7-
مع إزالة المطابقة في جميع ذلك: الرجلان فاضلاتٍ أقوم.
فقد رأينا من إزالة المطابقة من جهة واحدة أو من جهات متعددة فيما أوردنا من أمثلة أن هذه الإزالة تذهب بعلائق الكلمات وتقضي على الفائدة من التعبير، أي إنها تزيل المعنى المقصود، كما رأينا أن وجود هذه المطابقة يعين على إدراك العلاقات التي تربط بين المتطابقين، ومن هنا نصل إلى فهم طبيعة المطابقة وكونها "قرينة لفظية" على المعنى المراد.
5-
الربط: وهذا أيضًا قرينة لفظية على اتصال أحد المترابطين بالآخر، والمعروف أن الربط ينبغي أن يتم بين الموصول وصلته، وبين المبتدأ وخبره، وبين الحال وصاحبه، وبين المنعوت ونعته، وبين القسم وجوابه، وبين الشرط وجوابه إلخ. ويتم الربط بالضمير العائد الذي تبدو فيه المطابقة كما يفهم منه الربط أو بالحرف أو بإعادة اللفظ أو إعادة المعنى أو باسم الإشارة أو أل أو دخول أحد المترابطين في عموم الآخر، ويمكن أن نوضح ذلك بما يأتي:
وحين بعود الضمير يكون عوده على مذكور متقدِّم لفظًا ورتبةً، أو لفظًا دون رتبة، أو رتبة دون لفظ، ويعود بعض الضمائر على متأخِّر لفظًا ورتبة كضمير الشأن، وقد يعود على مفهوم، فإذا عاد على مذكور طابقه من حيث الشخص والعدد والنوع، ومن هنا كان الضمير في قوله تعالى:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} عائدًا على الكافرين لا على الأبواب، ولو أعاده على الأبواب لقال "منها"، وأما عوده على مفهوم من الكلام السابق فنحو قوله تعالى:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فالضمير المستتر في كان كما يقول النحاة: عائد مفهوم من الفعل "تدع" أي: ولو كان المدعو ذا قربى، وقد يكون عود الضمير على مرجعه مباشرًا نحو:"هذا الذي أعرفه"، وقد يكون بواسطة سببي نحو:"هذا الذي أعرف رجلًا يعرفه"، أو داخلًا في حيز جملة معطوفة على الجملة المراد ربطها نحو:"الذي يبكي فيضحك الناس منه هو الممثل"، ويكون العطف هنا بالفاء فقط، ومن ثَمَّ تعتبر الفاء هنا رابطًا حرفيًّا، وتتضافر في الربط مع الضمير العائد. وقد يستر الضمير العائد كما في "هذا الذي قام"، وقد يحذف إذا لم يكن ركن إسناد نحو قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: فيه، ومثله قول طرفة:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الخباء المعمد
كأن البرين والدمالج علقت
…
على عشر أو خروع لم يخضد
أي: كأنَّ البرين والدمالج عليها علقت على عشر إلخ.
والربط بالحرف يكون كوقوع الفاء في جواب الشرط "ومثلها إذا المفاجأة"، فتكون قرينة لفظية على أنّ ما اقترن بها هو جواب الشرط، فإذا قلنا مثلًا:"إن رجل منهم كلمك فكلمه" فإن الفاء هنا رابطة بين الجواب والشرط، ولو أزيلت لصحَّ في أن التي في صدر الجملة أن تكون مخففة من الثقيلة، وأن يكون فعل الأمر بغير الفاء على سبيل الاستئناف، ولكن وجود الفاء أزال هذا اللبس الممكن، ولا شك أن الفاء حين تزيل هذا اللبس تكون قرينة لفظية على المعنى بربطها بين الشرط والجواب1. ومثل ذلك يقال في اللام الواقعة في جوب لولا، والواقعة في جواب القسم، والفاء الواقعة في جواب
1 الأشموني ص588.
أما، ومن هذا يبدو أن الأجوبة تفتقر إلى هذه الروابط الحرفية حتى يعلم بهذه القرائن اللفظية أنها أجوبة.
والربط يكون أيضًا بإعادة اللفظ نحو قول القائل: "الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان"، وقوله تعالى:{الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ} فإعادة المرجع بلفظه رابط أقوى من إعادة ضميره عليه؛ لأن لفظه أقوى من الكناية عنه، ويكثر ذلك في الشعر مثل:
يهيم بهند وهند تهـ
…
يم تأخر علق من لا تهيم1
وكذلك يكون الربط بإعادة معنى اللفظ، وقد مثَّل ابن مالك لكسر همزة إنَّ بمثال يصلح لذلك هو جملة "خير القول إني أحمد"، من ذلك أيضًا "شعاري لا إله إلا الله" و"ديدني لا نجاح بلا تعب" ومثل:"محمد شفيعي نبي الله"، وكان الكلام الذي قبل البيان على نية التمام، ثم جاء البيان للإيضاح، فكان من قبيل الربط، ويكون أيضا بالعهد الذكرى نحو:"زيد نعم الرجل" و"أعطيت سائلًا فما قنع السائل" وأل هنا في قوة الضمير أي: فما قنع ذلك أو المذكور أو هو، والذي يبدو إلي أن إعادة اللفظ وإعادة المعنى والعهد للذكرى جميعًا من وادٍ واحد.
ومن استعمال اسم الإشارة في الربط قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
…
} .
ويعود على الاسم الظاهر ضمير الغائب نحو: "زيد رأيته"؛ لأنه في قوته في حقل المطابقة إلّا أن يكون الظاهر منادى فيكون في قوة ضمير الخطاب نحو: "يا زيد بشراك"، فإن الكاف هنا تقف بإزاء زيد أو مختصًّا، فيكون في قوة ضمير التكلم نحو:"نحن العرب نكرم الضيف" إذ إن حرف المضارعة هنا وهو النون للمطابقة، كما يقف الاسم الظاهر هنا بإزاء نحن.
6-
- التضام: يمكن فهم التضام على وجهين نلخصهما فيما يأتي:
أ- الوجه الأول: إن التضام هو الطرق الممكنة في وصف جملة ما، فتختلف طريقة منها عن الأخرى تقديمًا وتأخيرًا وفصلًا ووصلًا وهلم جرا، ويمكن أن نطلق على هذا الفرع من التضامّ اصطلاح "التوارد"
2 البيت مثال صنعه المؤلف.
وهو بهذا المعنى أقرب إلى اهتمام دراسة الأساليب التركيبية البلاغية الجمالية منه إلى دراسة العلاقات النحوية والقرائن اللفظية، ومن ثَمَّ نتخطاه ونتركه لمن شاء أن يوغل فيه.
ب- الوجه الثاني: إن المقصود بالتضامِّ أن يستلزم أحد العنصرين التحليليين النحويين عنصرًا آخر فيسمَّى التضام هنا "التلازم"، أو يتنافى معه فلا يلتقي به ويسمَّى هذا "التنافي"، وعندما يستلزم أحد العنصرين الآخر، فإن هذا الآخر قد يدل عليه بمبنى وجودي على سبيل الذكر، أو يدل عليه بمبنى عدمي على سبيل التقدير بسبب الاستتار أو الحذف، وهذا هو المعنى الذي نقصد إليه بهذه الدراسة.
قلنا: إن التلازم إمَّا أن يكون بالمبنى الوجودي وهو المذكور، وإما أن يكون بالمبنى العدمي وهو لا يتحقق بعلامة، والملاحظ أن الأكثر في أمن اللبس أن يكون نتيجة الذكر، فيكون الذكر قرينة على المعنى المراد، ويتم ذلك الذكر على طريق الافتقار أحيانًا كما في تلازم الموصول صلته، وتطلب كلا وكلتا مضافًا إليه معرفة مثنى، ويطلب العائد مرجعًا، والتلازم بين حرف الجر ومجروره، والمبهم وتمييزه، وواو الحال وجملة الحال، وحرف العطف والمعطوف، والنواصب والجوازم والفعل المضارع، والجواب الذي لا يصلح شرطًا، والحرف الرابط، وهلم جرا. ويتم الذكر أحيانًا أخرى على طريق الاختيار، فتذكر الضميمة إذا لم تعن القرائن الأخرى على تقديرها، وتستتر أو تحذف عند وجود القرينة الدالة عليها لقصد الإيجاز والانصراف عن إطناب غير مطلوب، يقول ابن مالك:
وبعد فعل فاعل فإن ظهر
…
فهو وإلّا فضمير استتر
ولا يكون استتار العلامة التي يتحقق بها المبنى الذي يشير إليه التضام إلّا بقرينة، فتكون القرينة في الماضي هي وضع صورة الفعل الذي استتر فيه الضمير بازاء صور الأفعال الأخرى ذوات الضمائر المتصلة، فتكون المقابلة "أي: القيمة الخلافية أو المخالفة" أساسًا لفهم خصوص الضمير المستتر بواسطة صورة فعله دون حاجة إلى ذكر الضمير، ودلالة الفعل بصورته الإسنادية في نطاق الجدول على ضمير ما هو التفسير المضبوط لما قصده
النحويون باصطلاح "الاستتار"، فليس في المسألة ما يشبه الكلام في الغيبيات والظنيات كما زعم البعض. على أنَّ الاستتار في السياق لا يتَّكل على الصورة في الجدول فحسب، وإنما يعززه أيضًا وجود مرجع في الجملة يدل على خصوص المستتر؛ فالفاعل يذكر اختيارًا مع بعض الماضي لدلالة القرائن عليه عند الاستتار، أما في المضارع فإن حروف المضارعة تفيد المعاني التصريفية التي تؤخذ في الماضي من الضمائر المتصلة، فإذا استتر الضمير في المضارع فإن حرف المضارعة إحدى قرائن تقديره، بل أهمّ هذه القرائن. والاستتار في الأمر في صورة واحدة هي المخاطب المفرد، فوقوفها بإزاء بقية الصور يدل من طريق القيمة الخلافية على خصوص الضمير المستتر، وهكذا تعيّن القرائن كالقيمة الخلافية والربط بالمرجع وحروف المضارعة على تحديد معنى الضمير المستتر. ويكون الاستتار في ضمير الفاعل ونائب الفاعل واسم كان، وقد سبق عند الكلام عن الإلصاق أن بَينَّا متى يكون الاستتار مطردًا "واجب"، ومتى يكون غير مطرد "جائز"، فلا حاجة بنا إلى تكرار ذلك هنا. ذلك أمر الذكر والاستتار.
أما الذكر والحذف: فإنهما يكونان فيما عدا ذلك من الضمائر وغيرها من أقسام الكلم جميعًا، على أن يكون الحذف دائمًا مع وجود القرينة الدالة على المحذوف؛ فالمضاف والمضاف إليه يتطلب أحدهما الآخر، ويحذف كل منهما مع وجود القرينة نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} والمبتدأ والخبر متلازمان، ويحذف كل منهما بالقرينة.
وحذف ما يعلم جائز كما
…
تقول زيد بعد من عندكما
وفي جواب كيف زيد قل دنف
…
فزيد استغنى عنه إذ عرف
والموصوف وصفته متلازمان، ولكن كلًّا منهما يحذف فتدل عليه القرينة عند حذفه نحو:"صليت بالجامع"، والمراد المسجد الجامع، ونحو:{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة} والمراد المسجد الأقصى، والضمير العائد يذكر فيكون قرينة دالة على الارتباط بين جملة فرعية أو نحوها، وبين بقية أجزاء الجملة الكبرى، ولكنه إذا قامت قرينة أخرى تفيد ما يفيده هذا الضمير، أو تدل على هذا الضمير العائد أمكن حذفه نحو:"ما هذا الذي صنعت"
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . ويحذف هذا العائد إذا كان أول مفعولي ظنَّ نحو: "زيد ظننت قائمًا" لوجود القرينة الدالة عليه وهي "المبتدأ" الذي هو مرجع هذا الضمير.
والفعل يذكر أو يحذف إذا دلّت عليه القرينة بالتفسير نحو: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت} أو دخول الأدوات التي تتطلب الأفعال على الاسم المنصوب نحو: $"التمس ولو خاتمًا من حديد" أو أن يذكر ما يطلب المحذوف من غير ذلك نحو: "إن زيدًا هلك أو كاد" فالحذف لا يتم إلّا بقرينة تدل على المحذوف، ولا مانع في كل ذلك من ذكر المحذوف. وأما ما يسميه النحاة "وجوب حذف الفعل" فالمعنى في جميعه على غير تقدير الفعل، لقد قال النحاة بحذف الفعل وجوبًا في النداء، ولا يستقيم معنى النداء وهو إنشائي مع تقدير الفعل؛ لأن الكلام مع تقديره سيصبح خبًرا، والأوضح فيه أنه من الجمل التي تعتمد على الأداة ومعناها، وقال النحاة بحذف الفعل وجوبًا في الاختصاص، والأوضح فيه أن نصب الاسم المختص على المخالفة أي: أن النصب قيمة خلافية تفرق بينه وبين الخبر في نحو: "نحن العرب نكرم الضيف".
وقال النحاة بوجوب حذف الفعل مع الصفات المقطوعة والبيِّن فيه أن القرائن الأخرى دلَّت على الربط بين الصفة والموصوف حتى لم تعد الحركة الإعرابية مناط المعنى فصحَّ الاستغناء عنها اتكالًا على بقية القرائن، وهذا شبيه بما في "خرق الثوب المسمار" و"جحر ضب خرب"، وقال النحاة بوجوب حذف الفعل في التحذير، والأوضح فيه أن ضمير النصب المنفصل يتعدَّد معناه بين التعدية وهي معنى المفعول به وبين معنى الأداة، فيرجع ذلك إلى ما درسناه تحت تعدد المعاني الوظيفية للمبنى الواحد، وإذا كان "إياك" منقولًا إلى معنى الأداة هنا، فلا سبيل إلى فهم معنى الفعل المحذوف. وأما "إن زيدًا ضربته" فأراها من مسائل الرتبة والفصل والربط بالضمير، وليست من مسائل حذف الفعل وجوبًا.
وأورد النحاة عبارات محفوظة قالوا: إنها على حذف الفعل وجوبًا، وأكثر ما يرد من هذه المنصوبات يمكن تفسيره على معنى المخالفة، فتكون الفتحة قيمة خلافية تفرّق بين معنى هذه المنصوبات في حالة النصب وبين
معناها في حالة الرفع نحو: شأنك والحج، امرأ ونفسه، أهلك والليل -عذيرك- هذا ولا زعماتك كليهما وتمرًا، كل شيء ولا شتيمة حر. انتهوا خيرًا لكم، الأسد الأسد، سقيًا لك ورعيًا ويحك، حمدًا وشكرًا، إنما أنت سيرًا سيرًا، له صوت صوت حمار، هو عبد الله حقًّا، له ألف عرفًا، حنانيك، هنيئًا مريئًا، أقائمًا وقد قعد الناس إلخ.
وأما الأدوات فبعضها يتطلب الأسماء كليتما وإذا الفجائية وإن وأخواتها والنواسخ الأخرى الداخلة على الجملة الاسمية، وبعضها يتطلب الأفعال كان ولو ولولا وألا وهلا، وكذلك تنقسم بحسب الدخول على المفردات، والدخول على الجمل، ولكل أداة معناها في التعليق النحوي، ولذلك تعتبر الأداة قرينة من هذه القرائن على نحو ما سنرى بعد قليل، ولكنّ قرينة الأداة ككل قرينة أخرى لا تقف وحدها في نظام إفادة القرائن، وإنما تكون إفادتها في إطار مبدأ عام سبقت الإشارة إليه هو مبدأ تضافر القرائن، فإذا كانت القرائن الأخرى بحيث تغني عن ذكر الأداة، فلا تكون الأداة بمفردها مناط المعنى، فإن النص حينئذ يمكن أن يؤمن فيه اللبس بدون ذكر الأداة. فمن ذلك أن التلازم الذي بين همزة التسوية وبين "أم" يجعل "أم" هذه قرينة على الهمزة فيستغنى أحيانًا عن الهمزة بقرينة ذكر "أم" نحو:"سواء علا قمت أم قعدت"، والأمر كذلك مع همزة التعيين نحو:"قائم زيد أم قاعد"، وبذا يكون الاستفهام قد تَمَّ بدون الأداة، وقد تغني النغمة عن الأداة كما في قولك عند عرضك الطعام على مخاطب:"تأكل"، والمعنى المراد "ألا تأكل" وقد يستغنى عن أداة النداء بقرينة قصده ونغمته أيضًا.
والجمل الفرعية كذلك تحذف عند أمن اللبس، أي: عند إغناء القرائن عن ذكرها، وذلك كحذف جملة جواب الشرط في نحو قوله تعالى:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} إلخ، وكذلك قوله تعالى:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . بل قد تحذف الجملة الشرطية بجزءيها عند دلالة القرينة إذ يؤمن اللبس نحو:
قالت بنات العم يا سلمى وإنن
…
كان فقيرًا معدمًا قالت وإنن1
وإذا دلت القرائن على جملة الخبر فأمن اللبس مع حذفها، فمن الممكن أن تحذف، نحو الجواب على قوله: من الذي حفظ الدرس؟ بقولك: "علي"، أي: عليٌّ حفظ الدرس، وتحذف الجملة التي قطع عنها الظرف بقرينة دالة عليها كسبق الذكر وتنوين الظرف للقطع كقوله تعالى:{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُون} أي: "حين إذ بلغت الروح الحلقوم"، وقد جاء تقدير هذه الجملة على هذه الصورة بخصوصها بقرينة سبق الذكر في قوله تعالى:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم} .
فالذكر قرينة لفظية، والحذف إنما يكون بقرينة لفظية أيضًا، ولا يكون تقدير المحذوف إلّا بمعونة هذه القرينة، وأهم القرائن الدالة على المحذوف هي الاستلزام وسبق الذكر، وكلاهما من القرائن اللفظية الداخلة في مفهوم التضام.
والتنافي عكس التضامِّ وإن أدخلناه تحته باعتباره قسيمًا للتلازم، وهذا التنافي قرينة سلبية على المعنى يمكن بواسطتها أن نستبعد من المعنى أحد المتنافيين عند وجود الآخر. فإذا وجدنا "أل" استبعدنا معنى الإضافة المحضة، وإذا وجدنا التنوين استبعدنا معنى الإضافة بقسميها، وإذا وجدنا المضمر استبعدنا نعته، وإذا وجدنا إن المكسورة الهمزة مخفَّفَة من الثقيلة استبعدنا المضمر أن يكون اسمًا لها، وإذا وجدنا كلا وكلتا استبعدنا فيما أضيف إليهما أن يكون مفردًا أو جمعًا أو نكرةً، وإذا وجدنا "ذو" استبعدنا فيما أضيف إليها أن يكون ضميرًا، وإذا وجدنا حرف الجر استبعدنا فيما يتلوه أن يكون جملة محكية، وإذا وجدنا أداة النداء لم نتوقع بعدها الاسم المقترن بأل إلّا بواسطة "أي"، وإذا وجدنا لولا استبعدنا أن يكون لمبتدئها خبر، وهلمَّ جرا. وهكذا يكون التنافي قرينة لفظية سلبية لا إيجابية.
وفيما يلي تخطيط العلاقة بين القرائن الداخلة تحت عنوان التضام:
1 انظر شرح الأشموني: باب جوازم الفعل.
ويتفرع عن التضام أيضًا مسألة أخرى هي الفصل أو عدم الفصل بين المتلازمين، فمن الفصل مثلًا ما يحدث من:
1-
الفصل بضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وبين جزئي الجملة المنسوخة.
2-
الفصل بكان الزائدة بين ما والتعجب.
3-
الفصل بما الكافة بين إن واسمها.
4-
الفصل بإن الزائدة بين ما النافية ومنفيها.
5-
الفصل بما بين ليت ومدخولها.
6-
الفصل بالقسم والظرف والمجرور بين إذا والمضارع.
والملاحظ أن الفواصل هنا أكثرها من الأدوات، فلا نخرج عن ذلك إلّا ضمير الفصل وجملة القسم وشبه الجملة، وهو الظرف أو الجار والمجرور.
أما عدم الفصل فيتضح من منعه في الحالات الآتية:
1-
منع الفصل بين لا ومدخولها.
2-
منع الفصل بين الصفة والموصوف.
3-
منع الفصل بين العاطف والمعطوف.
4-
منع الفصل بين النواصب "إلّا إذ" والمضارع.
5-
منع الفصل بين الموصول وصلته.
6-
منع الفصل بين الجار والمجرور إلّا ما شذَّ من الفصل بكان الزائدة.
وما سبق هو أشهر الأمثلة لظاهرة التضام على وجه استخدامها قرينة لفظية، فلا ينبغي أن يؤخذ كما لو كان استقصاء لكلِّ حالات التضامِّ من هذا النوع، فحسبنا أن نشرح الظاهرة هنا، وأن نترك الاستقصاء لمناسبة أخرى مقبلة، ومعنى أن التضامِّ قرينة لفظية هنا أن الموصول مثلًا قرينة على أن الجملة التي بعده صلة، وأنه لو لم يتقدمها الموصول لصلحت بصورتها الخبرية أن تكون
صفة إذا تطلبها الموصوف، أو حالًا إذا تطلبها صاحب الحال، أو خبرًا إذا تطلبها المبتدأ، أو في محل جر بالإضافة إذا تطلبها الظرف، فالذي يتطلب هذه الجملة هو الذي يحدد معناها، ومن مظاهر قرينة التضامّ أيضًا أن الاسم الواقع بعد الأدوات التي لا تدخل إلّا على الأفعال في الاشتغال لا يكون إلًا منصوبًا على المفعولية لفعل محذوف مقدَّر يفسره المذكور؛ لأنه لو ارتفع لكان مبتدأ، ولعدت هذه الأدوات داخلة على الأسماء على عكس حظِّها من التضام، وفي ذلك يقول الأشموني:"ولا يجوز رفع الاسم السابق على أنه متبدأ؛ لأنه لو رفع والحالة هذه لخرجت هذه الأدوات عَمَّا وضعت له من الاختصاص بالفعل1".
ولا شكَّ أن التضامّ مبرر قبول التقدير سواء عند الاستتار أو عند الحذف، فالاستتار والحذف إنما يكونان للعناصر التي تتطلبها عناصر أخرى، فيكون هذا التطلب أساسًا لقبول تقدير المستتر أو المحذوف أو متعلق الظرف والجار والمجرور، وتتضافر معه بالطبع قرائن أخرى كسبق الذكر عند الحذف، وكدلالة الصيغة عند الاستتار، وقد سبق لنا أن أشرنا إلى ظاهرة "تضافر القرائن".
7-
الأداة: وهذه القرينة اللفظية المستخدمة في التعليق تعتبر من القرائن الهامة في الاستعمال العربي، ولقد سبق أن ذكرنا أن الأدوات في مجموعها من المبنيات فلا تظهر عليها العلامة الإعرابية، ومن ثَمَّ أصبحت كلها ذات رتبة شأنها في ذلك شأن المبنيات الأخرى التي تعينها الرتبة على الاستغناء عن الإعراب.
وهذه الأدوات على نوعين: أحدهما الأدوات الداخلة على الجمل، والثاني الأدوات الداخلة على المفردات، فأما الأدوات الداخلة على الجمل فرتبتها على وجه العموم الصدارة، وأما الأدوات الداخلة على المفردات فرتبتها دائمًا رتبة التقدم، ومثال أدوات الجمل النواسخ جميعًا وأدوات النفي والتأكيد والاستفهام والنهي والتمني والترجي والعرض والتحضيض والقسم والشرط
1 ص188 "محيي الدين".
والتعجب والنداء، ومثال الأدوات الداخلة على المفردات حروف الجر والعطف والاستثناء والمعية والتنفيس والتحقيق والتعجب والتقليل والابتداء والنواصب والجوازم التي تجزم فعلًا واحدًا، ولكل أداة من هذه الأدوات ضمائمها الخاصة، فهي تتطلّب بعدها شيئًا بعينه، فتكون قرينة متعددة جوانب الدلالة حيث تدل بمعناها الوظيفي وبموقعها وبتضامّها مع الكلمات الأخرى، وربما قد يكون متفقًا مع وجودها من علامات إعرابية على ضمائمها. وهذا التعدد في جوانب الدلالة بقرينة الأداة يجعلها في التعليق النحوي قرينة لفظية هامَّة جدًا.
ومن الأمثلة التي يمكن أن نضربها هنا للتعليق بقرينة الأداة ما يمكن أن يستفاد مثلًا من واو المعية من التفريق بين المفعول به الذي تدلّ عليه أساسًا قرينه التعدية، وبين المفعول معه وهو تدل عليه أساسًا قرينتان: إحداهما المعية والأخرى الواو. لاحظ مثلًا الفرق بين الجملتين الآتيتين:
فهمت الشرح في مقابل فهمت والشرح.
وكذلك غنيت زيدًا أغنية. في مقابل غنيت وزيدًا أغنية.
فلا الفتحة بمفرها أغنت فتيلًا في تمييز المعنيين، ولا هي والمرتبة معًا لاتحادهما في البابين، وإنما يكون التفريق بينهما بأمرين:
أ- القيمة الخلافية الناتجة من مقابلة التعدية بالمعية.
ب- القيمة الخلافية الناتجة من مقابلة وجود الواو وعدمه.
ولما كانت الواو هي مطية المعية هنا فلا يفهم معنى المعية بغير الواو، اجتمع في الواو أمر التفريق بين المعنيين فصارت هي القرينة الوحيدة الدالة على المفعول معه، وأصبح عدمها قرينة المفعول به، ومثل ذلك ما تفيده أداة الاستثناء من فرق بين البدل والمستثنى في نحو المقابلة الآتية:
حييت القوم زيدًا في مقابل حييت القوم إلّا زيدًا.
والنفي والقصر في: ما قام زيد في مقابل ما قام إلّا زيد.
وممن اعترف بقيمة الأداة اعترافًا ضمنيًّا ابن مالك حيث يقول في أدوات الشرط:
فعلين يقتضين فعل قدما
…
يتلو الجزاء وجوابًا وسما
فقصَّ قصة التضام فيها صراحة وقصة دالة الأداة ضمنيًّا؛ حيث جعل ضميمتها الأولى فعلًا للشرط والثانية جوابًا وجزاء.
8-
النغمة:
ومن قرائن التعليق اللفظية في السياق التنغيم، وهو الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السياق، ولقد ذكرنا من قبل كيف تأتي الكلمات العربية على مثال صيغ محددة تعتبر قوالب لها. ونحب هنا أن نعقد شبهًا بين هذه الصيغ الصرفية التي للكلمات، وبين صيغ أخرى تنغيمية تتَّصل بالمعاني النحوية التي للجملة لا للباب المفرد. فالجمل العربية تقع في صيغ وموازين تنغيمية هي هياكل من الأنساق النغمية ذات أشكال محددة، فالهيل التنغيمي الذي تأتي به الجملة الاستفهامية وجملة العرض غير الهيكل التنغيمي لجملة الإثبات، وهنَّ يختلفن من حيث التنغيم عن الجملة المؤكدة. فلكل جملة من هذه صيغة تنغيمية خاصة فاؤها وعينها ولامها وزوائدها وملحقاتها نغمات معينة، بعضها مرتفع وبعضها منخفض، وبعضها يتفق مع النبر وبعضها لا يتفق معه، وبعضها صاعد من مستوى أسفل، وبعضها هابط من مستوى أعلى، فالصيغة التنغيمية منحنى نغمي خاصّ بالجملة يعين على الكشف عن معناها النحوي، كما أعانت الصيغة الصرفية على بيان المعنى الصرفي للمثال، وأنا أتصور أنك لو طلبت إلى أحد المتكلمين أن يحاول نطق بعض الجمل وهو مقفل الشفتين لاستطعت في هذه الحالة أن تستمع الهيكل التنغيمي للجملة المرادة دون أن تسمع ألفاظ الجملة نفسها، وسيكون في مقدورك في هذه الحالة أن تقول ما إذا كانت الجملة المرادة التي لم تسمع ألفاظها استفهامًا أو إثباتًا أو تأكيدًا. تفعل ذلك دون حاجة إلى تفكير أو استنتاج؛ لأن سياق النغمات في كل جملة له من الطابع العرفي المشروط المحدد ما للكلمة في دلالتها على معناها، وما للحركة أو الرتبة في دلالتها على الباب النحوي الخاص.
والتنغيم في الكلام يقوم بوظيفة الترقيم في الكتابة، غير أن التنغيم أوضح من الترقيم في الدلالة على المعنى الوظيفي للجملة، وربما كان ذلك لأنَّ ما يستعمله
التنغيم من نغمات أكثر مما يستعمله الترقيم من علامات؛ كالنقطة والفاصلة والشرطة وعلامة الاستفهام وعلامة التأثر، وربما كان ذلك لسبب آخر. ولكن الذي لا شكَّ فيه أن الكتابة إذا كان لها على النطق ميزة الدوام وإمكان الاستحضار مرة أخرى وإعادة التجربة وتخطي حدود الزمان والمكان، فإن النطق له عليها ميزة الحياة والحركة والموقف الاجتماعي، وربما أصحبت له قدرة مشاركتها عنصر الدوام وإمكان الاستحضار مرة أخرى، وإعادة التجربة، وتخطي حدود الزمان والمكان بعد اختراع أشرطة التسجيل والإذاعة والتليفزيون، وفي كل هذه المخترعات يحتفظ النص بدلالة النغمة وبالموقف الاجتماعي، ويزيد التليفزيون عليها الاحتفاظ بتعبيرات الملامح وحركات أجزاء الجسم كالرأس واليدين، مما يجعل الموقف أقرب شيء إلى الحياة.
لقد وصلنا التراث العربي مكتوبًا ففقد بذلك عنصر المقام الاجتماعي، ولذلك أصبح لزامًا على الكاتب قبل إيراد أيّ نص أدبي أن يعيد تكوين هذا المقام بوصف الأحداث كالذي نلاحظه في التقديم لخطبة الحجّاج في أهل العراق مثلًا.
ولم يكن لدى العرب نظام الترقيم كالذي نعرفه الآن، لقد كانت اللغة العربية الفصحى في عصرها الأول ككل لغات العالم، ربما أهملت أن تذكر الأدوات في الجملة اتكالًا على التعليق بالنغمة، فكان من الممكن مثلًا أن نفهم معنى الدعاء من قولهم:"لا وشفاك الله"" بدون الواو اتكالًا على ما في تنغيم الجملة من وقفة واستئناف، ومع ذلك لم يكن ثَمَّةَ مفر لمن دوَّنوا التراث من الاحتفاظ دائمًا بهذه الأدوات بسبب عدم وجود ذلك الترقيم أو التنغيم في الكتابة، فكان لا بُدَّ لهم من ضمان أمن اللبس في المعنى بواسطة اطراد ذكر الأدوات. ولكن شاعرًا كابن أبي ربيعة استطاع أن يحذف الأداة بلا لبس حين قال:
ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهرًا
…
عدد النجم والحصى والتراب
فقد أغنت النغمة الاستفهامية في قوله: تحبها؟ " بما له من صفة وسيلة التعليق عن أداة الاستفهام، فحذفت الأداة وبقي معنى الاستفهام مفهوم من البيت، وإنصافًا للحق هنا لا بُدَّ أن نشير إلّا أنه يمكن في بيت ابن أبي ربيعة
هذا مع تغيّر النغمة أن يفهم منه معنى التقرير للتأنيب أو التعبير أو الإلجاء إلى الاعتراف، وإن مجرَّد قبول احتمال من هذا النوع ليبرر موقف الأقدمين حين حافظوا على ذكر الأدوات باطراد؛ لأن التراث مكتوب تتضح فيه العلاقات بالأدوات، وليس منطوقًا تتضح فيه العلاقات بالنغمات.
ومما يتَّصل بقولنا في: "لا وشفاك والله" ما أخطأ النحاة التوفيق في فهمه من قول جميل بن معمر:
لا لا أبوح بحب بثنة إنها
…
أخذت عليّ مواثقًا وعهودًا
فلو اصطنع النحاة لأنفسهم علامات للترقيم لوجد القارئ نقطة للوقف بعد "لا" الأولى، ولأدركوا أن "لا" هذه بنفسها تكون جملة مفيدة يستحسن في تنغيمها أن نقف عليها لتمام الفائدة، ولو تورَّطوا في اعتبارها حرف نفي مؤكدًا توكيدًا لفظيًّا بحرفٍ على مثل صورته قال له. ومن الواضح أن هناك فرقًا بين أن تكون "لا" الأولى حرف نفي مؤكدًا أو جملةً كاملة الإفادة يستحسن السكوت عليها، ويتطلب التنغيم في حالة التوكيد وصل الكلام، وفي حالة المفيدة وقفة واسئنافًا.
وللنغمة دلالة وظيفية على معاني الجمل تتضح في صلاحية الجمل التأثرية exciamatcry المختصرة نحو: لا! نعم! يا سلام!، الله! إلخ. لأن تقال بنغمات متعددة ويتغيّر معناها النحوي والدلالي مع كل نغمة بين الاستفهام والتوكيد والإثبات لمعانٍ مثل: الحزن والفرح والشكّ والتأنيب والاعتراض والتحقير، وهلمَّ جرا حيث تكون النغمة هي العنصر الوحيد الذي تسبَّب عنه تباين هذه المعاني؛ لأن هذه الجملة لم تتعرَّض لتغيّر في بنيتها، ولم يضف إليها، أو يستخرج منها شيء مؤلم يتغير فيها إلّا التنغيم، وما قد يصاحبه من تعبيرات الملامح وأعضاء الجسم مما يعتبر من القرائن الحالية.
والتنغيم في اللغة العربية الفصحى غير مستحيل ولا مدروس، ومن ثَمَّ تخضع دراستنا إياه في الوقت الحاضر لضرورة الاعتماد على العادات النطقية في اللهجات العامية. وفي دراستي للهجة عدن وقفت بواسطة الملاحظة التي أيدتها تجارب المعمل في بعض نتائجها على نظام التنغيم في اللهجة، ثم حاولت
أن أقارنه بكلامي أنا باللغة الفصحى، فوجدت الفروق طفيفة جدًا بحيث يمكن مع قليل من التعديلات أن يمثل هذا التنغيم كلامي بالعربية الفصحى. ويمكن وصف هذا النظام التغيمي بواسطة تقسيمه من وجهتي نظر مختلفتين: إحداهما: شكل نغمة آخر مقطع وقع عليه النبر في الكلام، والثانية: هي المدى الذي بين أعلى نغمة وأخفضها في الصوت سعةً وضيقًا. فأما من حيث وجهة النظر الأولى فينقسم نظام تنغيم الفصحى إلى لحنين: الأول: وينتهي بنغمة هابطة على آخر مقطع وقع عليه النبر، والثاني: وهو ينتهي بنغمة صاعدة على المقطع المذكور. وأما من حيث وجهة النظر الثانية فينقسم إلى ثلاثة أقسام هي: الواسع، والمتوسط، والضيق، ومن ج جميع هذه الاعتبارات معًا نرى أن اللحن العربي للكلام يمكن أن يكون على أحد النماذج التنغيمية الستة الآتية:
الأول: الواسع الثاني: الواسع
الأول: المتوسط الثاني: المتوسط
الأول: الضيق الثاني: الضيق
والواسع ما كان نتيجة إثارة أقوى للأوتار الصوتية بواسطة الهواء المندفع من الرئتين، فيسبب ذلك اهتزازًا أكبر في الأوتار الصوتية، ومن ثَمَّ يعلو الصوت، ومن أمثلة استعماله الخطابة والتدريس لأعداد كبيرة من الطلاب، والصياح الغاضب، ونحو ذلك. والمتوسط يستعمل للمحادثات العادية وهو أقل تطلبًا لكمية الهواء وما يصحبها من علوِّ صوت. وأما الضيق فهو المستعمل في العبارات اليائسة الحزينة، وفي الكلام بين شخصين يحاولان ألّا يسمعها ثالث على بعد قليل منهما. فالسعة والتوسط والضيق تتصل باصطلحات علوِّ الصوت وانخفاضه هنا.
وأما الاصطلاحان: "الأول" و"الثاني" فلا يصفان إلّا نغمة آخر مقطع وقع عليه النبر في الجملة من الكلام، فإذا كان هذا المقطع منحدرًا من أعلى إلى أسفل فذلك هو الشكل الأول للحن العربي، وإن كان صاعدًا من أسفل إلى أعلى فهو الشكل الثاني، ومع أنَّ الشكل الأول هو المستعمل في
الإثبات والنفي والشرط والدعاء وجميع الجمل، حتى إنه يشارك الثاني في مجاله وهو الاستفهام والعرض، فيشمل الاستفهام بالظروف ونحوها دون الأداتين "هل والهمزة"، نرى الشكل الثاني قاصرًا على الاستفهام بالأداتين فقط، وهو النوع الوحيد من أنواع الاستفهام الذي ينتهي بنغمة صاعدة. قارن العبارتين:
هل جاء زيد؟
متى جاء زيد؟
تجد اختلافًا في النغمة الأخيرة في الجلمتين، ولا تصعد النغمة الأخيرة مع الظروف إلّا عند إرادة التعبير بجملة الاستفهام عن معانٍ إضافية كالدهشة أو التعالي أو نحوهما، وفي هذه الحالة نجد جملة "متى جاء زيد" السابقة تنتهي بنغمة صاعدة. وينبغي لنا أنَّ نشير هنا إلى أنَّ هبوط النغمة أو صعودها أو تحولها عن المستوى السابق في وسط الكلام أو في آخره لا يكون إلّا متفقًا مع موقع النبر، فلا تتحوّل النغمة هذا التحوّل إلّا على مقطع منبور، وهذه الصلة الوثيقة بين النبر وبين التنغيم لا يمكن انفكاكها، ولذلك يكثر أن يقف المرء عند أحد المعاني باحثًا عَمَّا إذا كان هذا المعنى وظيفة النبر بمفرده أو التنغيم بمفرده، ثم لا يستطيع الجزم بأنه وظيفة أحدهما على انفراد.
وإذا وقف المتكلم قبل تمام المعنى وقف على نغمة مسطَّحة لا هي بالصاعدة ولا بالهابطة، ومن أمثلة ذلك الوقف عند كل فاصلة مكتوبة في الآيات الآتية:
فالوقف على "البصر" و"القمر" أولًا، و"القمر" ثانيًا، وقف على معنى لم يتمّ فتظل نغمة الكلام مسطحة دون صعود أو هبوط، أما الوقف عند "المفر" فالنغمة فيه هابطة؛ لأنه وقف عند تمام معنى الاستفهام بغير الأداة، أي: الاستفهام بالظرف. وكثيرًا ما يرى المتكلم أن المعنى يتطلب تقسيم الجملة تنغيميًّا بحسب الاعتبارات الإلقائية إلى فقر تنفسية تتصل بوجود
مفاصل من الألفاظ كأدوات العطف وغيرها، فيقف المتكلم عند كل فقرة تنفسية منها بنغمة مسطَّحة على نحو ما حدث في الآيات التي أوردناها.
وفي كلٍّ من هذه الأشكال الستة للحن التنغيمي العربي يمكن أن يكون الكلام عاديًّا أو مؤكدًا، ويأتي التأكيد أيضًا من زيادة نسبية في كمية الهواء المسلَّط على الأوتار الصوتية عند النطق بالمقطع الذي وقع عليه النبر وأُرِيدَ تأكيده، فتأتي النتيجة في صورة نبر أقوى، ومدى تنغيمي أوسع، فمثلًا تقول لمن يعرف أنه حدث قيام ويشك في شخص القائم:"محمد قائم" بتوكيد المقطع المنبور من "محمد"، وهو"حم"؛ بحيث يصبح المقطع أقوى نطقًا وأعلى صوتًا منه في الكلام العادي، أما إذا كان يعرف أن محمدًا قد فعل شيئًا ويشك في أنه قيام أو قعود، فكل ما تقدَّم إجراؤه بالنسبة للمقطع "حم" يصبح ضروريًّا بالنسبة للمقطع "قام".
جـ- القرائن تغني عن العوامل:
بعد أن بينت طبيعة القرائن المقالية معنوية كانت أو لفظية في دلالتها على المعنى الوظيفي النحوي، أحب أن أضيف إليها كلمة أخرى تتصل بإغناء فهم القرائن المقالية عن فكرة العامل النحوي الذي قال به النحاة. لقد اتجه النحاة بقولهم بالعامل النحوي إلى إيضاح قرينة لفظية واحدة فقط هي قرينة الإعراب أو العلامة الإعرابية، فجاء قولهم بالعامل لتفسير اختلاف هذه العلامات بحسب المواقع في الجملة، فكانت الحركات بمفردها قاصرة عن تفسير المعاني النحوية لأمور:
1-
إن المعربات التي تظهر عليها الحركات أقلّ بكثير جدًّا من مجموع ما يمكن وروده في السياق من الكلمات، فهناك الإعراب بالحذف، والإعراب المقدَّر للتعذر أو للثقل أو لاشتغال المحل، وهناك المحل الإعرابي للمبنيات، والمحل الإعرابي للجمل، وكل هذه الإعرابات لا تتمُّ بواسطة الحركة الإعرابية الظاهرة.
2-
إننا لو افترضنا أن كل الإعرابات تَمَّت على أساس الحركة الظاهرة فلم يكن هناك إعراب تقديري ولا إعراب محلي، فإننا سنصادف صعوبة أخرى تنشأ عن أنَّ الحركة الواحدة تدل على أكثر من باب واحد، ومن هنا تصبح دلالتها بمفردها على الباب الواحد موضع لبس.
ومن هنا كان الاتكال على العلامة الإعرابية باعتبارها كبرى الدوالّ على المعنى، ثم إعطاؤها من الاهتمام ما دعا النحاة إلى أن يبنوا نحوهم كله عليها عملًا يتسم بالكثر من المبالغة وعدم التمحيص، وقد سبق لنا مثل هذا القول عند بداية الكلام عن القرائن اللفظية، ويكفي لإظهار اهتمامهم بهذه العلامة الإعرابية أن أطلقوا على تحليل النص تحليلًا نحويًّا اسم "الإعراب" وهو -كما علمونا- اسم يطلق على تفسير أواخر الكلمات بحسب العوامل.
وإذا كان العامل قاصرًا عن تفسير الظواهر النحوية والعلاقات السياقية جميعها، فإن فكرة القرائن توزع اهتمامها بالقساطس بين قرائن التعليق النحوي معنويها ولفظيها، ولا تعطى للعلامة الإعرابية منها أكثر مما تعطيه لأية قرينة أخرى من الاهتمام. فالقرائن كلها مسئولة عن أمن اللبس وعن وضوح المعنى، ولا تستعمل واحدة منها بمفردها للدلالة على معنًى ما، وإنما تجتمع القرائن متضافرة لتدل على المعنى النحوي، وتنتجه لا كما يأتي حاصل الجمع من اجتماع مفردات المعدودات، بل كما يأتي المركب الكيماوي من عناصر مختلفة، أي إنه إذا صحَّ أن تُسمَّى مفردات القرائن عند إرادة التحليل فإن الاستعمال اللغوي لا يعرف من أمر ذلك شيئًا، ولا يعرف إلّا قرينة كبرى واحدة يسميها "وضوح المعنى"، ويسميها اللغويون "أمن اللبس"، وتقوم هذه القرينة الكبرى من قرائنها الفرعية مقام ناتج التفاعل الكيميائي من العناصر التي نتج عنها؛ إذ لا يشبه منها واحدًا بمفرده.
وفائدة القول بالاعتماد على القرائن في فهم التعليق النحوي أنه ينفي عن النحو العربي:
أ- كل تفسير ظني أو منطقي لظواهر السياق.
ب- كل جدل من نوع ما لَجَّ فيه النحاة حول منطقية هذا "العمل" أو ذاك، وحول أصالة بعض الكلمات في العمل وفرعية الكلمات الأخرى، وحول قوة العامل وضعفه أو تعليله أو تأويله مما ازدحمت به كتب النحو دون طائل يكون تحته. ويكفي للاقتناع بحسن تحليل النص بحسب قرائن التعليق مجتمعة أننا نستطيع بواسطة ذلك أن نلمح الصلة أو الرابطة أو العلاقة إن شئت بين كل جزء من أجزاء السياق وبين الأجزاء الأخرى من حيث المعنى ومن حيث المبنى في الوقت نفسه. ويستتبع القول بالقرائن واختياره بديلًا للقول بالعوامل أننا سنكتفي في تحليل الكلمات المعربة بقولنا: مرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجزوم فقط، دون قولنا: مرفوع بكذا أو منصوب بكذا إلخ، بل يمكننا إذا أردنا أن نقول مثلًا:"مرفوع على الفاعلية" و"منصوب على المفعولية" وهلمَّ جرا.
وأخيرًا أحب أن أضيف أيضًا لما يترتب على "تضافر القرائن" من أنَّ بعض القرائن قد يغني عن بعض عند أمن اللبس. ولقد كررنا القول إن اللغة العربية -وكل لغة أخرى في الوجود- تنظر إلى أمن اللبس باعتباره غاية لا يمكن التفريط فيها؛ لأن للغة الملبسة لا تصلح واسطة للإفهام والفهم، وقد خلقت اللغات أساس للإفهام والفهم، وإن أعطاها النشاط الإنساني استعمالات أخرى فنية ونفسية. فإذا كان من الممكن الوصول إلى المعنى بلا لبسٍ مع عدم توفُّر إحدى القرائن اللفظية الدالة على هذا المعنى، فإن العرب كانت تترخص أحيانًا في هذه القرينة اللفظية الإضافية؛ لأن أمن اللبس يتحقق بوجودها وبعدمها. ولقد وجدنا في مأثور التراث العربي الكثير من الشواهد والأمثلة على هذ الظاهرة، وسنحاول فيما يلي أن نضرب أمثلة تطبق هذه الظاهرة على القرائن اللفظية كل على حدة:
1-
العلامة الإعرابية: لقد وقع النحاة ضحايا اهتمامهم الشديد بالعلامة الإعرابية حين رأوا النصوص العربية تهمل الاعتماد على قرينة
الحركة أحيانًا فتضحي بها لأن المعنى واضح بدونها اعتمادًا على غيرها من القرائن المعنوية واللفظية. ومن أمثلة ذلك ما يأتي1:
- قالت العرب: خرق الثوب المسمار، فاعتمدوا على القرينة المعنوية وهي "الإسناد"، وأهملوا الحركة إذ لا يصح أن يسند الخرق إلى الثوب، وإنما يسند إلى المسمار، فعلم أيهما فاعل وأيهما مفعول.
- قالت العرب: "جحر ضب خرب" فأغنت عندهم قرية التبعية وهي معنوية، عن قرينة المطابقة في العلامة الإعرابية وهي لظفية، وكان الداعي إلى ذلك داعيًا موسيقيًّا جماليًّا هو المناسبة بين المتجاورين في الحركة الإعرابية، وقد سماه النحاة "المجاورة".
- العرب تقطع النعت فتختلف حركته الإعرابية عن حركة متبوعه، ويستبدل السياق بالمطابقة في الحركة قرينة التبعية، وقد قال الشاعر:
قد سالم الحيات منه القدما
…
للأفعوان والشجاع الشجعا
- قال الله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} بجر "خضر" على قراءة، وفي هذا يقال ما قيل في إعراب المجاورة من قبل، وهو إعراب تدعو إليه أسباب جمالية خالصة لا صلة بينها وبين مطالب المعنى الوظيفي، ومثله {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} .
1 قال الشاعر:
يا ليت أم الصبا رواجعا
…
إن العجوز حية جزورا
كان أذنية إذا تشوفا
…
قادمة أو قلمًا محرفا
قال صلى الله عليه وسلم: "إن قعر جهنم لسبعين خريفًا".
وسمع بعضهم يقول: لعل زيدًا أخانا.
وأورد ابن سيدة:
إذا أسودَّ جنح الليل فلتأت ولتكن
…
خطاك خفاقًا أن حراسنا أسدًا
وقال ذو الذمة:
كأن جلودهن هموهات
…
على أبشارها ذهبًا زلالًا
في قولنا: "ما قام الناس إلّا زيد" أغنت قرينة الأداة عن قرينة الإعراب، وساغ أن يكون هناك مناسبة صوتية، ومثله في "ما مررت بأحد إلّا زيد" فالانصراف عن النصب هنا جاء إيفاءً للمناسبة، وهي مطلب من مطالب الأداء.
قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
قال امرؤ القيس:
كأن ثبيرًا في عرانين وبله
…
كبير أناس في نجاد مزمل
حكى الحياني أن من العرب من يجزم بـ"لن" وينصب بـ"لم".
- قال الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 بجر المعطوف على قراءة، وهو اتباع في الموسيقى اللفظية لا في المعنى.
- قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} 2. فالموفون معطوف على مَنْ بقرينة الإسناد والتبعية والرفع وموصولية "أل"، فكان ذلك عطف موصول على موصول، ولكن ماذا نقول في "الصابرين"؟ إن قرينة الإسناد والتبعية وهما معنويتان يقولان: إن "الصابرين" معطوفة أيضًا على "مَنْ آمن"، ولكن القرينة اللفظية وهي الواو غير موجودة إذ حلَّت محلها الياء، فكيف يمكن فهم ذلك إلّا على أساس إغناء بعض القرائن عن بعض؟ فالقرائن تتضافر كما ذكرت.
- قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} 4 فما الذي رفع "الصابئون"؟ الجواب: إن قرينة التبعية لوضوحها أغنت عن قرينة العلامة الإعرابية.
- قالت العرب "ما رأيته مذ يومان" فأغنت قرينة التضام وما تضافر معها عن قرينة الإعراب التي تكون فيما جاء بعد حرف الجر.
1 براءة: 3.
2 البقرة: 177.
3 النساء: 162.
4 المائدة: 69.
ومما نلاحظه جميعًا حين نستمع إلى نشرة الأنباء مثلًا أو إلى خطيب أو متكلِّم أو معلِّق أننا على رغم ما نسمعه في النشرة أو الخطبة أو الكلام أو التعليق السياسي من أخطاءٍ في الإعراب فإننا نفهم الكلام الذي يقال، ويستتبع ذلك بالضرورة أننا نفهم علاقات الكلمات بعضها مع بعض، لا فرق في ذلك بين أميّ منَّا ومثقَّف، فنعلم من قول المديح مثلًا:"أجمعت وكالات الأنباء على أن الصين الشعبية أجرت اليوم تفجيرًا نوويًّا" ندرك المعنى العام الذي ينبني على صلات الكلمات بعضها مع بعض دون الحاجة إلى التحليل، ودون الحاجة إلى دلالة العلامات الإعرابية؛ لأن قرائن أخرى قد أغنت عنها. ومن هذا نرى فداحة الخطأ الذي يمكن في اعتبار الحركات الإعرابية أهمّ ما في النحو العربي.
2-
الرتبة: يتضح الترخص في الرتبة أولًا في عدم حفظها والاعتراف بوجود رتبة غير محفوظة في النحو، وكذلك عندما تغني عنها القرائن الأخرى في قول الشاعر:
عليك ورحمة الله السلام
فالذي أغنى عن رتبة المتعاطفين هنا:
أ- ما بين المتعاطفين من شهرة التعاطف على نسقٍ خاصٍّ حتى أصبحا كالمثل وذلك هو التضام.
ب- حفظ الرتبة بين حرف العطف والمعطوف.
جـ- توسُّط المعطوف بين الخبر المقدَّم والمبتدأ المؤخَّر مما جعله لا يزال في حيز الجملة، فكذلك تغني القرائن حين تتضافر عن قرينة أخرى يَصِحُّ المعنى بدونها.
ومن قبيل إغناء القرائن الأخرى عن الرتبة ما نراه أحيانًا من عود الضمير على متأخّرٍ رتبة كضمير الشأن.
ونحو: خاف ربه عمر، وزان نوره الشجر، وفي بيته يؤتى الحكم.
ومن ذلك أيضا قول الشاعر:
لعن الإله وزوجها معها
…
هند الهنود طويلة البظر
ومشنوء من يشنوءك وتميمي أنا
3-
مبنى الصيغة:
ويبدو الترخص في الصيغة فيما نجده كثيرًا في الرجز من نحو قوله:
الحمد لله العلي الأجلل "والمقصود الأجل".
أو قوله:
أو ألفا مكة من ورق الحمى "والمقصود الحمام".
ومن ذلك أيضًا مجيء الحال جامدة، والنيابة عن المفعول المطلق بغير مصدر أو بمصدر فعل غير فعله، وإضافة المتفرقين إلى كلا وكلتا.
وكل ضرورة شعرية فهي ترخص في قرينة ما وإغناء غيرها عنها، وكثير من ذلك يندرج تحت عنوان الصيغة مثل: قصر الممدود، وحذف النون من اللذين واللتين، وحذل الألف من لفظ الجلالة، وواو هو، وياء وهي، وحذف الألف من ضمير المتكلم، وتخفيف المشدد في القوافي، وإبدال حركة من حركة، وحرف من حرف، أو حذف حرف الجر نحو:"تمرون الديار ولم تعوجوا" وهلمَّ جرا1. هذا على المستوى الصرفي، أما على المستوى النحوي: فقد تأتي الحال الجامدة والنعت كذلك والخبر، وقد يأتي المفعول المطلق بغير صيغة المصدر، وغير ذلك.
4-
المطابقة: سبق أن ذكرنا أن المطابقة تكون في الشخص والنوع والعدد والتعيين والعلامة الإعرابية، وقد مر بنا الترخُّص في المطابقة في العلامة الإعرابية بين التابع ومتبوعه، وأما ترك المطابقة في الشخص فمنها:
- إن ضمير الموصول دالّ على الغيبة، فيعود إليه من الصلة رابط في صورة ضمير الغائب، ولكن الموصول إذا كان خبرًا ضمير متكلم أو مخاطب، فقد سُمِعَ عن العرب ترك المطابقة بين العائد والموصول كقوله:
أنا الذي سمتن أمي حيدرة
1 ارجع إلى الضرائر للألوسي.
وقوله:
أأنت الهلالي الذي كنت مرة
…
سمعنا به والأرحبي المعلق
فهنا حمل العائد على المعنى لا على اللفظ كما يقول النحاة "ويمكن أن يفهم بإعادة الضمير على "أنت" لا على "الذي"، وفي ذلك إهمال للمطابقة وهي قرينة لفظية لوضوح المعنى بدونها، وأما إهمال المطابقة في النوع فمنها:
- إن الصفات التي لا يوصف بها إلّا المؤنث يترك تأنيثها لعدم توهم أنها لمذكر، ومن ذلك حائض وطالق وناشز ومرضع إلخ، وقد تحذف التاء عند أمن اللبس "كإقام الصلاة" و"عِدَ الأمر" و {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِم} .
- إن بعض الصفات على وزن فعيل تصدق على المذكر والمؤنث كقتيل وجريح.
- إن الفعل لا يطابق فاعله المؤنث إذا فُصِلَ بينهما نحو: "أتى القاضي بنت الفاضل".
ومن الترخص في المطابقة في العدد قول الشاعر:
فمن يك أضحى بالمدينة رحله
…
فإني وقيار بها لغريب
إلّا أن نجعل جملة "وقيار بها" جملة حالية حذف منها العائد لمعرفة أن قيارًا هو جمل الشاعر، فكأنه قال: وجملي بها، ويكون البيت حينئذ شاهدًا على إسقاط الرابط لا على إساقط المطابقة في العدد.
- قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فانفكت المطابقة بين الواو وبين كافر دون أن يتأثّر المعنى؛ لأن القرائن الأخرى ضمنت هذا المعنى.
5-
الربط: يعتبر عود الضمير من الروابط الهامة في الجملة، ولكن الارتباط قد يتمّ بقرائن أخرى فيصبح المعنى واضحًا دون حاجة إلى الضمير الرابط، ومن ذلك قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: "فيه"، وقول بعضهم:"مررت بالبر قفيز بدرهم" أي: "منه"، فترخص في الرابط لضمان الربط بدونه، أي: بقرائن أخرى.
6-
التضام:
من أمثلة الترخُّص في التضام باعتباره قرينة ما يأتي:
- كل ما دلَّت عليه قرينة أمكن حذفه، وقد رأينا من قبل كيف يمكن حذف المضاف والموصوف والمبتدأ والخبر والفعل إلخ، والحذف إسقاط قرينة أغنت عنها قرائن أخرى.
- ورد إسقاط صلة الموصول في قول الشاعر:
نحن الأولى فاجمع جمو
…
عك ثم وجههم إلينا
- ورد حذف المبتدأ من الجملة الحالية في قول الشاعر:
فلما خشيت أظافيرهم
…
نجوت وأرهنهم مالكًا
- قد تسقط الضميمة التي بعد الظرف وينوّن الظرف نحو: "حينئذ"، وقول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلًا
…
أكاد أعل بالماء الفرات
- قد تسقط ضميمة المرجع كما في ضمير الشيء نحو: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُون} .
7-
الأداة:
يسقط حرف النداء ويبقى النداء مفهومًا بواسطة قرائن أخرى، ويسقط حرف العطف ويبقى العطف مفهومًا بقرينة النغمة كقولك: يستمر الامتحان في الأيام الآتية:
السبت - الأحد - الأثنين - الثلاثاء إلخ، وتغني نغمة الكلام عن حرف العطف، وقد تسقط "ربَّ" ويفهم معناها لإغناء الواو عنها، أي: إن قرينة التضام "بين الواو وربَّ" قد أغنت عن قرينة الأداة، وقد ينزع الخافض ويبقى المعنى مفهومًا، وقد سبق أن ذكرنا أن أداة الاستفهام قد أسقطت من بيت عمر بن أبي ربيعة الذي يقول فيه:
ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرًا
…
عدد النجم والحصى والتراب
لأن قرينة النغمة أغنت عن قرينة الأداة، ومن قبيل حذف الأداة حذف "لا" في قوله تعالى:{تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ؛ حيث دلَّت قرينة التضام على المعنى فأمن معها اللبس.