المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ظاهرة التأليف: - اللغة العربية معناها ومبناها

[تمام حسان]

الفصل: ‌ ظاهرة التأليف:

فلأنه ينافي الذوق العربي، وأما كراهية التماثل فلأنه يؤدي إلى اللبس. فإذا أحبت اللغة العربية التخالف فذلك لأنه يعين على أمن اللبس بواسطة ما يهيئه من المقابلات أو الفروق بين المتخالفين، أي: بواسطة استخدام القيم الخلافية التي أشرنا إليها من قبل، وقلنا: إنها لا غنى عنها للوصول إلى الوضوح أو بعبارة أخرى: للوصول إلى أمن اللبس، ومن هنا كانت الظواهر الموقعية التي ترد في السياق لتفادي ما تكرهه اللغة من تنافر أو تماثل تتجه دائمًا إلى المحافظة على التخالف على نحوٍ سنرى حين الكلام في كل ظاهرة موقعية نتناولها في الصفحات التالية. ومع أن علاج التنافر إنما يكون بالاتجاه إلى عكسه وهو التماثل، نجد الظاهرة الموقعية تكتفي -كما في ظاهرة التأليف مثلًا- بتفادي التنافر، وهو محظور أوّل دون الوصول إلى التماثل، وهو المحظور الثاني، وذلك بالوقوف عند حد التخالف.

ص: 265

1-

‌ ظاهرة التأليف:

لاحظ اللغويون منذ القِدَمِ عند النظر في تأليف الكلمة العربية من أصولها الثلاثة "الفاء والعين واللام" أن هذه الأصول يجري تأليفها حسب أساسٍ ذوقي وعضوي خاصٍّ يتصل بتجاور مخارج الحروف الأصول التي تتألف منها الكلمة أو تباعدها، بالنسبة إلى أماكنها في الجهاز النطقي. ولقد لاحظ الأقدمون أن الكلمة العربية إذا أريد لها أن تكون فصيحة مقبولة فإنها تتطلب في مخارج حروفها أن تكون متناسقة، ولا تتسامح اللغة فتتخلى عن هذا المطلب إلّا في أضيق الحدود في حالات الزيادة والإلصاق ونحوهما. وقبل أن نوغل في شرح هذه الظاهرة ينبغي أن نرسم الجهاز النطقي ونقسمه حسب تقسيمهم لمجموعات المخارج إلى ثلاث مناطق، ونسمي إحداها عليا أو قصوى، والثانية وسطى، والثالثة سفلى أو دنيا على النحو التالي:

ص: 265

تؤخذ الصورة اسكنر

1-

الشفتان.

2-

الأسنان العليا.

3-

اللثة.

4-

الغار "الحنك الصلب".

5-

الطبق "الحنك الرخو".

6-

اللهاة.

7-

التجويف الأنفي "الخيشوم".

8-

الأسنان السفلى.

9-

طرف اللسان.

10-

مقدم اللسان.

11-

وسط اللسان.

12-

مؤخر اللسان.

13-

الحلقوم.

14-

الحلق.

15-

لسان المزمار.

16-

الجدار الخلفي للحلق.

17-

الحنجرة وبها الأوتار الصوتية.

والمخارج العربية حين تنسب إلى المناطق التي حددها اللغويون القدماء بالنسبة لدراسة ظاهرة التأليف تبدو كما يلي:

أ- المنطقة الأولى "الشفتان".

ب- المنطقة الثانية "مقدم اللسان".

1-

الشفوي "ب م و".

2-

الشوفي الأسناني "ف".

3-

الأسناني "ث ذ ظ".

4-

الأسناني اللثوي "ت د ض ط س ز ص".

5-

اللثوي "ن ل ر".

6-

الغاري "ج ش ى".

ص: 266

جـ- المنطقة الثالثة "مؤخر اللسان والحلق".

7-

الطبقي "ك=g".

8-

اللهوى "الحلقومي خ غ ق".

9-

الحلقي "ع ح".

10-

الحنجري "ء هـ".

يقول السيوطي1: "قال ابن دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت؛ لأنك إذا استعملت اللسان في حروف الحلق دون حروف الفم ودون حروف الزلاقة كلَّفته جرسًا واحدًا وحركات مختلفة، ألا ترى أنك لو ألَّفت بين الهمزة والهاء والحاء فأمكن لوجدت الهمزة تتحول هاء في بعض اللغات لقربها منها، نحو قولهم: في أم والله "هم والله"، وقالوا في أراق: "هراق"، ولوجدت الهاء في بعض الألسنة تتحوّل، وإذا تباعدت مخارج الحروف حسن التأليف.

قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة لصعوبة ذلك على ألسنتهم".

ويروي الشيخ السيوطي عن الشيخ بهاء الدين صاحب عروس الأفراح أن رتَبَ الفصاحة متفاوتة، فإن الكلمة تَخِفّ وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربًا أو بعدًا، فإذا كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر:

1-

الانحدار من المخرج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو: ع د ب.

2-

الانتقال من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط نحو: ع ر د.

"ويظهر أن الراء خطأ مطبعي صحته الباء".

3-

من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو: ع م هـ.

4-

من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو: ع ل ن.

"ويظهر أن النون خطأ مطبعي صحته الهاء".

1 المزهر ص115.

ص: 267

5-

من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو: ب د ع.

6-

من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو: ب ع د.

7-

من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو: ف ع م.

8-

من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو: ف د م.

9-

من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو: د ع م.

10-

من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو: د م ع.

11-

من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو: ن ع ل.

12-

من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو: ن م ل.

ثم يقول: إن أحسن هذه التراكيب الأول فالعاشر فالسادس، وأما الخامس والتاسع فهما سيان في الاستعمال وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجحهما التاسع، وأقل الجميع استعمالًا السادس.

ويظهر أن الشيخ بهاء الدين وكذلك السيوطي لم يكلف نفسه عناء استقصاء الإمكانات التي تحتملها الكلمة العربية من هذ الناحية استقصاءً كاملًا، فكان عليهما أن ينظرا إلى القضية مثل النظرة الرياضية الإحصائية التي نظرها الخليل في كتاب العين؛ حيث حسب الطرق التي تجتمع بها الحروف في الكلمة الواحدة فضرب 28×28×28، وحصل منها على عدد المواد التي يمكن للغة العربية أن تعدد الكلمات تحت كل واحدة منها. ولا شكَّ أن الشيخ بهاء الدين والسيوطي كليهما لم يكن أمامهما عمل معقد كالذي قام به الخليل؛ لأن العدد المضروب هنا لن يكون 28 بعدد الحروف، وإنما يكون 3 بعدد أنواع المخارج فتضرب في نفسها مرتين 3×3×3، فتكون احتمالات تركيب الكلمة من هذه الأنواع سبعة وعشرين احتمالًا. فإذا دللنا على أنواع المخارج بالأرقام بدل الأوصاف، فجعلنا الرقم1 للأدنى والرقم2 للأوسط والرقم3 للأعلى، صار في وسعنا أن نعبِّر عن التواليف الممكنة وغير الممكنة على السواء، وأن نصور ذلك على النحو التالي:

ص: 268

وبالتأمل في هذا التوزيع الشامل لإمكانات تجاور أنواع المخارج "لأن مادة البحث هنا أنواع المخارج أي: مجموعاتها الثلاث لا المخارج المفردة ولا الحروف" يمكن أن نستنبط الحقائق الآتية:

1-

إن فكرة تقارب المخارج وتباعدها هي فعلًا أساس هذه الظاهرة في اللغة العربية الفصحى "ظاهرة التأليف" فبحسبها تتجاور الحروف في الكلمة أو لا تتجاور، وهذه الظاهرة هي التي استعان بها القدماء من نقّاد الأدب في الكشف عمَّا سموه "التنافر اللفظي"، وعلى أساسها بنوا نقدهم لكلمة "مستشزرات" التي وردت في معلقة امرئ القيس، ولعبارة "وليس قرب قبر حرب قبر". ومرجع كل ذلك كما ذكرنا إنما هو إلى الذوق العربي الذي يتجه إلى ما اصطلحنا على تسميته "كراهية التضاد أو التنافر".

2-

إن عبارة ابن دريد القائلة: "إذا تباعدت مخارج الحروف حسن تأليفها" أكثر صدقًا وأقل تورطًا من قوله: "اعلم أن الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت" لأن العبارة الأولى لم تتورط كما فعلت العبارة الثانية في ادِّعَاء ثقل الكلمات المؤلفة من حروف متقاربة تقاربًا لا تنافر فيه مثل:

ص: 269