الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظواهر السياقية
مدخل
…
الظواهر السياقية:
ذكرنا من قبل أن الأنظمة من اللغة لا من الكلام، وأن اللغة -ومنها الأنظمة- ساكنة صامتة تنشد لنفسها الاطِّراد وتسعى إلى الإطلاق، شأنها شأن كل نظام آخر. وذكرنا كذلك أن الكلام تطبيق على نظام اللغة، وأنه ديناميكي متحرك، شأنه في ذلك أيضًا شأن كل تطبيق على أي نظام، وإذا عدنا إلى المثل الذي اخترناه من قبل -وهو نظام المرور- وجدنا أن النظام يقتضي في جميع الحالات أن يكون السير على جانب معين من الطريق، وهذه قاعدة في النظام مطَّردة ومطلقة، ولكن عملية المرور التي تتم طبقًا لهذا النظام، والتي هي في الواقع تطبيق أمين له يحدث لها أن تصادف بعض المشكلات أحيانًا؛ كأن يكون الجانب المختار للمرور مشغولًا بإصلاح الطريق أو ببقايا حادث وقع، فيتحتَّم في هذه الحالة أن يتحوّل المرور إلى الجانب الآخر من الطريق على عكس ما يطلبه النظام، ولكن هذا يعتبر حلًّا من حلول مشكلات التطبيق. فإذا عبر عنه بمجموعة من القواعد تفصل ما يتبع من الإجراءات عند انشغال الجانب المختار للمرور من الطريق، اعتبر ذلك نظامًا فرعيًّا يؤيد النظام الأصلي ولا يطعن فيه، وفي نظم اللغة ما يشبه نظام المرور تمامًا، كما أن في الكلام ما يشبه حركة المرور التي يحكمها هذا النظام. فالنظام الصوتي للغة يقرر مثلًا أن الدال مجهورة وأن التاء مهموسة، ويصر النظام على اطراد هذ القاعدة وإطلاقها، ولكن الكلام وهو التطبيق العملي لنظام اللغة قد يشتمل على دال ساكنة متبوعة بتاء متحركة وهنا نجد أن تجاور الحرفين على هذا النحو يتسبب في صعوبة عضوية تتحدّى محاولة المحافظة على ما قرره النظام، كما يتسبب التقاء المتقاربين دائمًا في احتمال اللبس لو حاولنا في نطقهما عبثًا أن نرضي مطالب النظام؛ لأن جهر الدال الساكنة المتبوعة بتاء متحركة أمر ثقيل التحقيق في النطق، وهنا تظهر مشكلة من مشاكل التطبيق يحلها السياق بظاهرة الإدغام، فتكون الدال والتاء في النطق كالتاء المشددة تمامًا "قعدت -قعت"، و"الإدغام" الذي ذكرناه
واحدة من الظواهر السياقية التي تحل مشاكل النظام اللغوي، والتي سنشرحها تباعًا بعد قليل، وربما سميناها لمامًا "الظواهر الموقعية".
قلت: إن محاولة جهر الدال الساكنة المتلوَّة بالتاء تتسبب في ثقل العملية العضوية أو في اللبس، وكلاهما في مشكلة من مشكلات التطبيق، ولكن ثقل العملية العضوية ليست سببًا في حدوث الظواهر السياقية جميعًا؛ لأن بعضها لو نفذ في نطقه النظام كما هو لم نحسّ ثِقَل العملية النطقية في نطقه أبدًا، فلو أن المتكلم عرف عن الوقف بالسكون وأعطى الحرف الأخير حركته التي أعطاه النظام إياها لما كان في ذلك أي نوعٍ من أنواع الثقل من الناحية العضوية، بل على العكس من ذلك تمامًا نرى قوافي الشعر تأبى فعلًا تطبيق ظاهرة الوقف بالسكون ونحوه في الكثير جدًّا من الحالات، ولها في ذلك نظام فرعي عروضي خاص بها. ولكن الأسس التي تتحكم في تحقيق الظواهر السياقية لا يتحتّم أن تنبني جميعًا على ثقل العملية النطقية بالضرورة، وإنما تنبني كذلك على مراعاة أمن اللبس كما رأينا، وعلى الاعتبارات الذوقية في صياغة السياق العربي. فإذا أردنا أن نعبر عن جميع ذلك بعبارة شاملة قلنا: إن الأساس الذي يتحكم في تحقق الظواهر السياقية إنما هو كراهية التقاء صوتين أو مبنيَيْن يتنافى التقاؤهما مع أمن اللبس أو مع الذوق الصياغي للفصحى، فتحدث الظاهرة لعلاج موقف التقى فيه هذان الأمران فعلًا، وذلك نتيجة لما قضى به أحد أنظمة اللغة للمباني خارج السياق، وذلك على غرار ما نراه في العرض الآتي لأشهر الظواهر السياقية في الفصحى:
اتجاه الذوق العربي الظاهرة الموقعية الناتجة تفسيرها
1-
كراهية توالي الأضداد ظاهرة التأليف الضدان هنا هما الصوتان المتنافران في النطق
2-
كراهية توالي الأضداد ظاهرة الوقف الضدان هما الحركة وهي مظهر الاستمرار والصمت وهو مظهر التوقف.
3-
كراهية توالي الأضداد ظاهرة المناسبة الضدان قيمتان صوتيتان متنافران
اتجاه الذوق العربي الظاهرة الموقعية الناتجة تفسيرها
4-
كراهية توالي الأضداد ظاهرة الإعلال والإبدال الضدان صوتان في تجاورهما ثقل في النطق
5-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة التوصل المثلان هما الصمت قبل النطق والسكون في أوله
6-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة الإدغام المثلان أو المتقاربان بأن صوتان مشتركان في أكثر خصائصهما
7-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة التلخص المثلان هما الساكنان المتواليان
8-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة الحذف الأمثال نونات أو تاءات أو غير ذلك.
9-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة الإسكان الأمثال هنا حركانت متوالية
10-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة الكمية توقي الأمثال هنا بتوزيع الحركة والمد على النطق
11-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة الإشباع والإضعاف توقى الأمثال هنا بتوزيع القوة والضعف بين الأصوات وبين الكلمات
12-
كراهية توالي الأمثال ظاهر النبر توقي الأمثال يكون بتنويع المقاطع
13-
كراهية توالي الأمثال ظاهرة التنغيم توقي الأمثال يكون بتنويع النغمات.
فإذا كانت اللغة العربية تكره توالي الأضداد وتكره كذلك توالي الأمثال، فما الذي يرتضيه ذوقها إذًا؟ من الواضح أن النظام اللغوي والاستعمال السياقي جميعًا يحرصان في اللغة العربية الفصحى على التقاء المتخالفين، أو بعبارة أخرى يحرصان على التخالف ويكرهان التنافر والتماثل، فأما كراهية التنافر