المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الدلالة: يحلو لكثيرين من أساتدة اللغة العربية في أيامنا هذه أن - اللغة العربية معناها ومبناها

[تمام حسان]

الفصل: ‌ ‌الدلالة: يحلو لكثيرين من أساتدة اللغة العربية في أيامنا هذه أن

‌الدلالة:

يحلو لكثيرين من أساتدة اللغة العربية في أيامنا هذه أن يشيروا إلى ما يعتبرونه نقطة ضعف في النحو العربي، وهو ارتباطه الشديد بطابع الصناعة، حتى إنه يعرف أحيانًا باسم "صناعة النحو"، ثم خلوّه من الارتباط بالمضمون مما جعله يبدو في نظرهم جسدًا بلا روح، والمضمون الذي يقصده هؤلاء هو موضوع علم المعاني، فهم يقولون: إن علمي النحو والمعاني لا يمكن الفصل بين أحدهما وبين الآخر إلّا مع التضحية بالمعنى على مستوى العلمين جميعًا، ويوغلون في المحاجَّة فيقولون: إن ما تركه لنا عبد القاهر الجرجاني من دراسات في دلائل الإعجاز وغيره يعتبر إشارات ذكية إلى الطريق الذي كان على النحاة أن يسلكوه بدراستهم للنحو، وبخاصة ما قام به عبد القاهر من دراسة "للنظم" في اللغة العربية. وأنا أوافق موافقة تامة على كل هذا الذي يدور في أذهان الأساتذة الكرام، وألاحظ أن هذه العبارات الصادقة كانت تدعو إلى الغوص في خِضَمّ هذه المشكلة بإيضاح الطريقة التي يمكن بواسطتها أن يصبح للنحو العربي "مضمون"، والتي يمكن بها مزج معطيات علم النحو بمعطيات علم المعاني لنصل منهما معًا ممتزجين إلى تنظيم دراسة الفصحى على أساسٍ جديد لم يخطر ببال سيبويه ولا ببال عبد القاهر، ولكن لم يحاول واحد من الأساتذة أن يمزج أحد العلمين بالآخر ليخرج منهما دراسة نحوية تعنى بالتركيب كما تعنى بالتحليل، وتختص بمعاني الجمل كما تحتفي بمعاني الأبواب الفرعية التي في داخل الجمل.

ولكن إذا فهمنا من كلمة "صناعة" الدراسة الشكلية التي تعنى بأشكال المباني المختلفة للمعاني المختلفة، فلا بُدَّ من الاعتراف بأن علوم البلاغة العربية كلها -وليس علم المعاني فقط- دراسة شكلية، ومن ثَمَّ تكون البلاغة صناعة كما كان النحو صناعة. ولهذا السبب بالذات لم تقم علوم البلاغة في أية مرحلة من مراحل تاريخها الطويل بدور المنهج النقدي الأدبي المتكامل

ص: 336

لأنها لم تتخطّ النقد الشكلي إلى نقد المضمون إلّا مع الكثير من القصور، حتى على مستوى فهم القدماء أنفسهم لفكرة النقد.

ولكنَّ البلغاء في إطار شكلية البلاغة التي ذكرناها ربما فطنوا إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية وأنها شديدة الارتباط بثقافة الشعب الذي يتكلمها، وأن هذه الثقافة في جملتها يمكن تحليلها بواسطة حصر أنواع المواقف الاجتماعية المختلفة التي يسمون كلًّا منها "مقامًا"، فمقام الفخر غير مقام المدح، وهما يختلفان عن مقام الدعاء أو الاستعطاف أو التمني أو الهجاء، وهلم جرا. وكان من رأي البلاغيين أن "لكل مقام مقالًا" لأن صورة "المقال" speech event تختلف في نظر البلاغيين بحسب المقام" context of sotuation، وما إذا كان يتطلب هذه الكلمة أو تلك، وهذا الأسلوب أو ذاك من أساليب الحقيقة أو المجاز، والإخبار أو الاستفهام، وهلم جرا. ومن عباراتهم الشهيرة في هذا الصدد قولهم: "لكل كلمة مع صاحبتها مقام"، وبهذا المعنى يصبح للعلم الجديد الذي يأتي من امتزاج النحو والمعاني "مضون"؛ لأنه يصبح شديد الارتباط بمعاني الجمل ومواطن استعمالها وما يناط بكلِّ جملة منها من "معنًى". ولقد كان البلاغيون عند اعترافهم بفكرة "المقام" متقدمين ألف سنة تقريبًا على زمانهم؛ لأن الاعتراف بفكرتي "المقام" و"المقال" باعتبارهما أساسين متميزين من أسس تحليل المعنى يعتبر الآن في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرات العقل المعاصر في دراسة اللغة.

وفكرة "المقام" هذه هي المركز الذي يدور حول علم الدلالة الوصفية في الوقت الحاضر، وهو الأساس الذي ينبني عليه الشق أو الوجه الاجتماعي من وجوه المعنى الثلاثة، وهو الوجه الذي تتمثَّل فيه العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي تسود ساعة أداء "المقال". ومن المعروف أن إجلاء المعنى على المستوى الوظيفي "الصوتي والصرفي والنحوي"، وعلى المستوى المعجمي فوق ذلك لا يعطينا إلّا "معنى المقال" أو "المعنى الحرفي" كما يسميه النقاد، "أو معنى ظاهر النص" كما يسميه الأصوليون، وهو -مع الاعتذار الشديد للظاهرية- معنى فارغ تمامًا من محتواه الاجتماعي

ص: 337

والتاريخي منعزل تمامًا عن كل ما يحيط بالنص من القرائن الحالية التي تشبه ما يسمونه في المرافعات cirumstantial evidenec، وهي القرائن ذات الفائدة الكبرى في تحديد المعنى، ولقد كان علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فاهمًا تمامًا لكل هذه الحقائق التي نحاول شرحها حين ردَّ على هتاف الخوارج "لا حكم إلّا الله" بقوله:"كلمة حق أريد بها باطل"، وكان يعني أن الناس ربما قنعوا بالمعنى الحرفي لهذا الهتاف، أي: بمعنى "ظاهر النص" فصدَّقوا أن الخوارج أصحاب قضية تستحق أن يدافع الناس عنها، وربما غفل الناس عن المقام الحقيقي الذي ينبغي لهذه الجملة أن تفهم في ضوئه، وهو مقام "محاولة إلزام الحجة سياسيًّا بهتاف ديني" فالمقام في هذا الهتاف من السياسة والمقال من الدين، وكان ينبغي للناس أن يفهموا المقال في ضوء المقام.

والفرق بين ما يسميه الناس "نص القانون" وبين ما يسمونه "روح القانون" هو فرق ما بين الاكتفاء بمعنى "المقال" وبين عدم الاكتفاء به والغوص وراء المراد الحقيقي للمشروع وهو معنى "المقام"، يقول أحمد أمين:"بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نصَّ من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبَّر عنه بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته". وأقول أنا: إن معنى ذلك أن عمر لم يكن يكتفي بمعنى "المقال"، أو بعبارة أخرى: لم يكن يكتفي بمنطوق الآية أو الحديث، وإنما كان يتوغّل في سبيل معرفة أسباب النزول وظروفه الاجتماعية والتاريخية، أي: إنه كان يتخطَّى المعنى الحرفي إلى المعنى الاجتماعي، ولا يقف عند معنى "المقال" وإنما يضمّ إليه معنى "المقام". ومن قبيل استغلال معنى "المقال" والمراوغة بنفي "معنى المقام" ما حدث من أنَّ اليهود في المدينة حينما سمعوا الآية القائلة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا

1 فجر الإسلام ص238.

ص: 338

حَسَنًا} قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} فقال أبو الدحداح وقد فهم "المقام" فهمًا حقيقيًّا: "إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا". وهذا يذكرنا بالمستشرق الذي سمع أحد الدراويش في إحدى طرقات القاهرة يصيح "مدد! "، وكان المستشرق يعرف المعنى المعجمي للكلمة، ولكنه لا يعرف ما وراءها من "مقام" ولذلك استفسر:"أيّ نوع من المدد يريده ذلك الرجل"؟ وأخيرًا ينبغي لنا أن نشير إلى أن المفسرين قد فطنوا منذ زمن سحيق في القدم إلى الفرق بين ظاهر القرآن وباطنه، فكان فهمهم لهذا الفرق تفريقًا منهم بين المعنى "المقالي" والمعنى "المقامي"، فإذا كان المعنى الدلالي يعتمد على هاتين الدعامتين فإن الشكل التالي ربما يوضح العلاقة بينهما توضيحًا كافيًا:

وقد يستعار "المقال" المشهور "للمقام" الطارئ "وهو ما يسمَّى بالاستشهاد أو الاقتباس" أثناء الحديث، والأصل في ذلك أننا نستطيع أن نوفق بين كلام ذائع الشهرة انقضى مقامه الأصلي الذي قيل فيه وبين مقام مشابه وجدنا أنفسنا فيه الآن، فنورد الكلام القديم الشهير في المقام الجديد على سبيل التلفيق. وكلما قوي التناسب بين المقال الشهير وبين المقام الطارئ كان ذلك من حسن الاستشهاد، ولقد رزق أبو بكر رضي الله عنه القدرة على حسن

1 سبق أن ذكرنا أن القرائن المقالية منها ما هو معنوي وما هو لفظي. انظر النظام النحوي من هذا البحث.

ص: 339

الاستشهاد فمن ذلك استشهاده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ولقد قال عمر عند سماعه هذا الاستشهاد ما معناه: والله لكأني لم أسمع هذه الآية من قبل. ومن ذلك أيضًا، ولعله حدث في اليوم نفسه في اجتماع السقيفة استشهاده أمام الأنصار بقول طفيل الغنوي:

جزى الله عنا جعفرًا حين أزلفت

بنا نعلنا في الخافقين فزلت

أبو أن يملّونا ولو أن أمنا

تلافي الذي يلقون منا لملت

همو أسكنونا في ظلال بيوتهم

ظلال بيوت أدفأت وأظلت

ولقد كان لكلٍّ من هذين الاستشهادين أثره الحاسم في إصلاح مقامين من أخطر مقامات الفتنة في التاريخ الإسلامي.

وقد يستخدم النص الواحد في الاقتباس بحيث يرد جزء منه على جزئه الآخر كالذي يروى عن أحد علماء الأزهر، وكان بينه وبين زميل له ميل إلى المنافرة، فدخل المسجد الأزهر ذات يوم من أيام الشتاء فوجد زميله مستلقيًا تحت دفء الشمس وقد غطَّى وجهه بمنديلٍ فظنَّه نائمًا فوقف عنده وقال:"الفتنة نائمة" فاعتدل زميله من رقدته وقد تصنَّع صورة الذي أوقظ من نومه وقال: "لعن الله من أيقظها" فنرى من ذلك أن عبارة الحديث قد انقسمت إلى قسمين ردَّ ثانيهما على أولهما. والمغزى من وراء كل ذلك أن من المقال ما يتَّصف بصفات معينة أو ما تتوافر له مزايا معينة تجعله صالحًا للاستحضار في المقامات التي تشبه مقامه الأصلي الذي قيل فيه، فيصبح المقال القديم جزءًا من المقام الجديد، فيدخل في تحليل هذا المقام الجديد. ولقد كنَّا نسمع ونحن بعد طلبة في دار العلوم أن قبيلتين عراقيتين ذواتي آصرة حدث بينهما نزاع، فكان ممن ندب للصلح بينهما أستاذنا المرحوم الشاعر علي الجارم وكان وكيل دار العلوم في ذلك الحين، وقد سمعنا أنه نجح نجاحًا عظيمًا حين استشهد بقول البحتري:

ص: 340

شواجر أرماح تقطع دونها

شواجر أرحام ملوم قطوعها

إذا احتريت يومًا ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

فبكى لسماع هذا الشعر رجال القبيلتين وتصالحوا، وما ذلك إلّا لأنَّ المقال القديم المشهور قد قيل مرة أخرى في مقام يكاد يكون تامّ الشبه بمقامه الأصلي القديم.

وللوصول إلى معنى في صورته الشاملة لا بُدَّ أن نستخدم الطرق التحليلية التي تقدمها لنا فروع الدراسات اللغوية المختلفة التي فصَّلنا القول فيها من قبل، وهي الصوتيات والصرف والنحو "أي الفروع الخاصة بتحليل المعنى الوظيفي"، ثم المعجم "وهو الخاص بالمعنى المعجمي"، والحقائق التي نصل إليها بواسطة التحليل على هذه المستويات حقائق جزئية بالنسبة إلى المعنى الدلالي. ذلك بأن هذه الحقائق إما أن تكون وظائف "كما في الصوتيات والصرف والنحو" أو علاقات عرفية اعتباطية "كما في المعجم". فالوظائف تتضح كما سبق نتيجة للتحليل على المستويات الثلاثة الأولى، أما العلاقات العرفية الاعتباطية التي ذكرناها فالمقصود بها العلاقات بين المفردات وبين معانيها. ولقد سبق لنا عند الكلام عن الجملة الهرائية التي أوردناها في التقديم لدراسة "النظام النحوي" أن وجدنا هذه الجملة الهرائية مكتملة الوظائف ولكنها تفتقد العلاقات العرفية المعجمية؛ لأنها ليست مكونة من كلمات ذات معنى، وكذلك تفتقد العنصر الاجتماعي وهو "المقام". ولقد كان اكتمال الوظائف سببًا في قدرتنا على إعراب الجملة، ولكن قصورها معجميًّا واجتماعيًّا حال بينها وبين أن تكون نصًّا عربيًّا مفهومًا.

وكذلك الأمر حين تنفرد العلاقات العرفية بين الكلمات ومعانيها بالوجود، فلا تكون هناك وظائف ولا مقام. إن مجرد وضوح هذه العلاقات لا يؤدي إلّا إلى فهم للكمات المفردة على المستوى المعجمي إذ أنها هنا لم توضع في سياق. ووضوح معاني المفردات لا يكشف حتى عن المعنى الحرفي الذي سميناه "ظاهر النص" أو معنى "المقال"؛ لأن الذي لدينا هنا هو "المفردات" وليس "النص"، وذلك أيضًا لأن معنى "ظاهر النص" يحتاج إلى الوظائف

ص: 341

"المعنى الوظيفي"، كما يحتاج إلى العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها "المعنى المعجمي"؛ إذ منهما معًا يكون معنى "المقال"، وانفراد العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها بالوجود يجعل الأمر بحاجة أيضًا إلى معنى "المقام" أو المعنى الاجتماعي الذي هو شرط الاكتمال "المعنى الدلالي" الأكبر، ومعنى هذا بالتالي أننا حين نفرغ من تحليل الوظائف على مستوى الصوتيات والصرف والنحو، ومن تحليل العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها على مستوى المعجم، لا نستطيع أن ندَّعي أننا وصلنا إلى فهم المعنى الدلالي؛ لأنَّ الوصول إلى هذا المعنى يتطلّب فوق كل ما تقدَّم ملاحظة العنصر الاجتماعي الذي هو المقام.

وهذا العنصر الاجتماعي ضروري جدًّا لفهم المعنى الدلالي، فالذي يقول لفرسه عندما يراها، "أهلًا بالجميلة" يختلف المقام معه عن الذي يقول هذه العبارة لزوجته، فمقام توجيه هذه العبارة للفرس هو مقام الترويض، وربما صحب ذلك ربت على كتفها أو مسح على جبينها. أما بالنسبة للزوجة فالمعنى يختلف بحسب المقام الاجتماعي أيضًا، فقد تقال هذه العبارة في مقام الغزل أو في مقام التوبيخ أو التعيير بالدمامة. فالوقوف هنا عند المعنى المعجمي لكلمتي "أهلًا" و"الجميلة"، وعلى المعنى الوظيفي لهما وللباء الرابطة بينهما، لا يصل بنا إلى المعنى الدلالي، ولا يكون وصولنا إلى هذا المعنى الدلالي إلّا بالكشف عن المقام الذي قيل فيه النص.

والذي يتكلم إلى نفسه يكشف عن مقام من نوع آخر. ولست أحب أن أشير هنا إلى الجانب النفسي والطبي لهذا المقام؛ لأن ذلك أمر لا يتصل بالدراسات اللغوية إلّا من حيث هو جزء من "مقام" ما. ومهما يكن من أمر فإن هذا المقام وأشباهه كمقام الدعاء والصلاة وتقييد المواعيد والعنوانات وأرقام التليفون في المفكرة، وكالقراءة في الخلوة ونحوها، هو مما يعوزه الطابع الاجتماعي الواضح، حتى إن هذه المواقف لتصلح أن تسمَّى "مواقف" فردية لا "مقامات" اجتماعية. ومن قبيل ذلك أيضًا أن تقود سيارتك بنفسك ثم نجد أمامك شخصًا آخر يقود سيارة فلا يلتزم بها قواعد المرور ويسبب لك شيئًا من الارتباك والضيق، فإذا بك تصب سيلًا من الاحتجاجات والشتائم المسموعة

ص: 342

بالنسبة إليك أنت فقط في سيارتك فلا يسمعها معك إنسان، فهذا موقف فردي أيضًا، ولا يتوافر له عناصر المقام الاجتماعي. ومن قبيل ذلك أيضًا من يغنِّي لنفسه دون أن يسمعه أحد، أو على الأقل دون أن يكون غناؤه للإسماع. والذي يتثاءب ويختم تثاؤبه بنداء لفظ الجلالة، فكل هؤلاء المتكلمين يقصر أمر الموقف معهم عن أن يكون مقامًا اجتماعيًّا بالمعنى الذي نقصده، ولكن وصف أيّ "موقف" من هذه المواقف بأنه "اجتماعي" لا يأتي من طبيعة تكوينه، وإنما يأتي حين ننظر إليه باعتباره نمطًا سلوكيًّا معينًا داخلًا في نسيج ثقافة اجتماعية ما، بمعنى أن أفراد المجتمع جميعًا يقفون هذه المواقف بعينها عندما تتهيأ لها المناسبة، ولكنهم يقفونها أفرادًا. وهذه الأنماط من السلوك يتلقاها الفرد عن مجتمعه فيكتسبها منه، ويصبح سلوكه مشروطًا بطرقها مفرغًا في قوالبها التي حددها المجتمع، وهذا مناط لزعمها اجتماعية في أصلها. فالفرد يتعلم من مجتمعه كيف يقرأ القرآن بصوت مسموع وبنغمات ترتيلية خاصة، ويكتسب معتقداته في طفولته من المجتمع ويتعلم منه كيف يدعو الله، وكذلك يتعلم كيف يستشهد لنفسه بالشعر أو أي شكل تعبيري آخر بحسب المناسبة دون أن يسمع الناس حوله ما يقول. ويتعلم من المجتمع كيف يختم التثاؤب بذكر الله بصوت مسموع، فهذه المواقف على رغم كونها لا تحمل طابع الاتصال الاجتماعي يمكن اعتبارها أنماطًا سلوكية لغوية، فينسب إليها -لكونها أنماطًا- قدر من الطابع الاجتماعي.

وهناك نوع من المقامات الاجتماعية يمكن أن نسميه مقامات اللغو الاجتماعي، أو كما يسميها مالينوفسكي phatic communication يتبادل الناس فيها الكلام، ولكنهم لا يقصدون به أكثر من شغل الوقت، وحل موقف اجتماعي لولا هذا اللغو لكان فيه حرج. والكلام الذي يقال في هذا المقام ليس مقصودًا لذاته، فقد يكون موضوعه الطقس أو السياسة أو أيّ موضوع عام آخر، والحقائق التي يشتمل عليها هذا الموضوع معروفة عند طرفي المحادثة فلا يفيد أحدهما من سماعها أيّ قدر من المعلومات الجديدة، ولكن كلًّا من الطرفين يلغو رفعًا للحرج الذي يتوقعه نتيجة للصمت. مثال ذلك أن تكون في حجرة انتظار أحد الأطباء بمفردك ولم يحضر الطبيب إلى عيادته فتظلّ بمفردك تنتظر

ص: 343

قدومه، وفجأة يقدم عليك زائر آخر للطبيب فتضمكما الحجرة ولا ثالث لكما. فلو سكتُّما ولم يفتح أحدكما بابًا للكلام لأصبح الموقف بينكما مفعمًا بنوع من الحرج الاجتماعي الذي يشعر معه كل منكما برغبة في إنهاء الموقف. والحيلة الاجتماعية لتجنُّب هذا الحرج هي فتح موضوع لتبادل الكلام. ولكن كيف يمكن لأحدكما أن يفتح موضوعًا وليس بينكما تجارب مشتركة، ولم ير أحدكما الآخر قبل اليوم. الجواب على ذلك أيضًا أن المجتمع الذي اخترع حيلة فتح الموضوع حدَّد بعض الموضوعات العامة الطابع لهذا الغرض؛ بحيث لا يتعب إنسان في البحث عن موضوع، وهذه الموضوعات ذات طابع عام غير شخصي؛ بحيث لا يتأذّى بفتحها إنسان لا غائب ولا حاضر، فمن ذلك الكلام في الطقس وما يحس المتكلم والسامع من حرّ أو برّ أو جوٍّ ربيعي أو خريفي لطيف مع تذكر تجارب سابقة عن حالات جوية تستحق التذكر. وقد تدعو مناسبة زيارة الطبيب إلى أن يفصح كل منهما للآخر عمَّا يشكو منه وعن تطور مرضه، ومن الموضوعات المفضَّلة في هذه المواقف في البلاد العربية بخاصة الكلام في السياسة وفي القضايا القومية، ويروي بعض الظرفاء أنه إذا تقابل إنجليزيان فكلاهما في الطقس، وإذا تقابل عربيان فكلامهما في السياسة، وإذا تقابل يونانيان فكلاهما في المطاعم، والكلام في أوساط النساء عن الأزياء والأولاد وبين الخدم عن أسرار المخدومين، وبين الطلبة عن الامتحان والأساتذة وهلم جرا. والكلام في كل ذلك ليس مقصودًا لذاته إلّا حين يتحول اللغو إلى مناقشة تتطلَّب أن يكون لكل من الطرفين رأي يدافع عنه، ولكن المقصود باللغو في كل هذه الحالات رفع الحرج الاجتماعي عن شريكين في موقف خلقته الصدفة.

أما نوع المقامات الذي اكتمل فيه الطابع الاجتماعي فهو الذي يتحقق فيه وجود عناصر تجعل المقام مركبًا لا بسيطًا، أي: تجعله "مقامًا" لا "موقفًا" كمالمثال الذي أوردناه من قبل عن الرجل الذي قال لزوجته: "أهلًا بالجميلة" فقد ذكرنا أن الاحتمالات التي تحتملها هذه التحية تتنوع بتنوع المقامات الممكنة من مقام غزلٍِ إلى مقام تبويخٍ إلى مقام تعيير وكيد، ولا يمكن لواحد من هذه المعاني أن يؤخذ أخذًا مباشرًا من المعنى المعجمي لكلمة "أهلًا" ولا المعنى المعجمي لكلمة "الجميلة"، ولا مع المعنى الوظيفي لأي منهما، ولا للباء التي

ص: 344

ربطت بينهما في السياق، أي: إن معنى الغزل أو التوبيخ إلخ لا يؤخذ من "المقال"، وإنما يحتاج إلى اعتبار "المقام" بالضرورة.

دعنا نتأمل مثلًا مما يوضح ضرورة اعتابر "المقام" في تحديد المعنى الدلالي، كلنا قد يعلم أن "يا" من حروف النداء، وأن كلمة "سلام" اسم من أسماء الله تعالى، وهي كذلك ضد الحرب، فإذا أخذنا بالمعنى الوظيفي لأداة النداء، والمعنى المعجمي لكلمة "سلام"، حين ننادي "يا سلام"، فإن المعنى الحرفي أو المقالي أو ظاهر النص أننا ننادى الله سبحانه وتعالى لا أكثر ولا أقل. ولكن هذه العبارة صالحة لأن تدخل في مقامات اجتماعية كثيرة جدًّا، ومع كل مقام منها تختلف النغمة التي تصحب نطق العبارة، فمن الممكن أن تقال هذه العبارة في مقام التأثّر، وفي مقام التشكيك، وفي مقام السخط، وفي مقام الطرب، وفي مقام التوبيخ، وفي مقام الإعجاب، وفي مقام التلذذ، وفي مقامات أخرى كثيرة غير ذلك، وظاهر النص في عبارة "السلام عليكم" أنها تحية إسلامية يجاب عليها بأحسن منها أو مثلها، ولكن هذه العبارة بذاتها قد تتحوّل إلى معنى المغاضبة، فقد يطول النقاش بينك وبين إنسان في موضوع ما، ويتمسَّك كلٌّ منكما برأيه، فحين تيأس من إقناع صاحبك، وتريد أن تعلن له عن انتهاء المقابلة بالمغاضبة توليه ظهرك منصرفًا وتشير بيديك إشارة الذي ينبذ شيئًا وراء ظهره من فوق كتفه، وتقول مع هذه الإشارة:"السلام عليكم" وتذهب مغاضبًا. فهذا المعنى لا يفهم من مجرد المعنى الوظيفي منفردًا، ولا المعجمي منفردًا، ولا هما معًا، ولكنه يتوقف في النهاية على "المقام" الاجتماعي المعين. وقد تقال هذه العبارة بعينها فيفهم منها معنى الهزل في مقام يتعيّن فيه ذلك، ولبيان هذا المقام وأبعاده الاجتماعية يمكن أن نتصوره على النحو التالي: الأستاذ واقف بالمدرج يلقي محاضرته على ما يقرب من مائتي طالب، وقد انهمك في شرح نقطة هامة من نقاط المحاضرة، والطلبة ينصتون بشغف واهتمام بما يقوله الأستاذ حتى ليسمع كل منهم تردد أنفاسه، وقد تعود هؤلاء الطلبة من أستاذهم عدم الرضى عن التأخر عن بدء المحاضرة، فكان الواحد منهم إذا تأخَّر دخل المدرج وهو يحس بقدر غير قليل من الخجل، فيدخل المدرج متسللًا على أطراف أصابعه، ويجلس على أقرب مقعد إلى باب الدخول نجده خاليًا. ومن الطلبة واحد عرف بينهم

ص: 345

بشيء من الغفلة وسوء التقدير وعدم فهم المواقف الاجتماعية ومطالبها فهمًا تامًّا، وذات يوم كان الطلبة والأستاذ على هذه الحال في المدرج، وكان هذا الطالب قد تأخّر، وفجأة دخل المدرج بعد ربع ساعة من ابتداء المحاضرة فلم يتسلل إلى أقرب مقعد، ولم يحس شيئًا من الخجل، وإنما بدا أزهى من طاووس وهو يلج باب المدرج متئدًا في مشيته مع شيء من تصنّع الوقار، وقال لكل من في المدرج:"السلام عليكم" ومدَّ بها صوته. لا شكَّ أن ردَّ الفعل الوحيد لهذه العبارة التي يزعمونها مجرد تحية إسلامية أن يضحك الطلبة والأستاذ كثيرًا، فهذا الضحك هو الرد الذي إن لم يناسب "المقال" فقد ناسب "المقام" تمامًا. ولقد رأينا أن العناصر التي يشتمل عليها المقام الاجتماعي هنا هي: المحاضرة -تعود الخجل من التأخر- المتكلم الذي لم يخجل السامعون الصامتون -الأستاذ الذي صمت عند سماع العبارة- الوقار الذي تظاهر به المتكلم، وأخيرًا عبارة السلام عليكم نفسها، وربما احتملت هذ العبارة تحليلًا وظيفيًّا أو معجميًّا عند الحاجة، كأن يكون هذا الطالب ألثغ في السين مثلًا، فهذا يضيف إلى دواعي الضحك داعيًا صوتيًّا لغويًّا.

وإذا كان "المقال" المكتوب لا يقع في أثناء قراءته في وقت لاحق في مقامه الاجتماعي الذي كان له في الأصل، فإن هذا المقام الأصيل من الممكن بل من الضروري أن يعاد بناؤه في صورة وصف له مكتوب، حتى يمكن للنص أن يفهم على وجهه الصحيح. وفي بناء هذا المقام الأصيل بناءً جديدًا بواسطة وصفه، كما كان لا بُدَّ من الرجوع إلى الثقافة عمومًا والتاريخ بصفة خاصة. وكلما كان وصف المقام أكثر تفصيلًا كان المعنى الدلالي الذي نريد الوصول إليه أكثر وضوحًا في النهاية حين تصبح كل عبارة من عبارات النص واضحة بما يجليها من القرائن الحالية التاريخية والقرائن المقالية التي في وصف المقام؛ فالذين يقرءون خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي على منبر الكوفة دون أن يعرفوا المقام الذي قيلت فيه هذه الخطبة، ربما اتهموا الحجاج بتهم بعيدة عنه؛ أولها: سوء السياسة ما دام قد استهلّ ولايته على قوم لم يجربهم من قبل ولم يرهم بكل هذا العنف، ولكن المقام الذي يشتمل على إيضاح العلاقة بين العراقيين وبين بني أمية ربما شمل من الحوادث الماضة حادثًا كقتل عثمان ومعركة

ص: 346

صفين ومقتل الحسين وتشيع العراقيين وكراهيتهم لبني أمية، ورغبة الأمويين في تأديب هؤلاء العراقيين حتى لا يثوروا بهم أو يعصوا ولاتهم، ومن هنا يصبح من الضروري أن يأتي وصف المقام في صورة مقدمة للخطبة تجري على نحو شبيه بما يأتي:

كان عبد الملك بن مروان قد أرسل الحجاج واليًا من قِبَلِه على العراق، وكان أهل العراق من الشيعة يكرهون الأمويين ويعصون ولاتهم، فلمَّا دخل الحجاج المسجد وكان ضئل الجسم صعدَ المنبر وأرخى فضل عمامته على وجهه وصمت صمتًا طويلًا حتى همَّ بعض الناس أن يحصبه، وقال عمير بن ضابئ البرجمي وكان بين الناس في المسجد، قبَّح الله بني أمية إذ يرسلون إلينا مثل هذا، فرفع الحجاج ما كان أرخى من عمامته وحسرها عن وجهه وقال:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العامة تعرفوني

فكل هذه العبارات التي قدَّمنا بها للخطبة ليست أكثر من وصف المقام الاجتماعي التاريخي الذي قيلت فيه هذه الخطبة، وبواسطته ينتفي عن الخطبة أن يكون معناها سوء السياسة، إلى أن يكون معناها الحزم. على أن هذا المقام الذي وصفناه بكلمات قليلة يمكن أن يكون وصفه هو كل ما قيل في تاريخ الفتنة الكبرى وما بعدها، ولكن الاكتفاء بهذا الوصف المختصر يفترض أن القارئ على علم بهذا التاريخ.

ولعل السبب الرئيسي في ضرورة التزام طلاب اللغة العربية وأدبها بدراسة مقررات من التاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية والتفسير والحديث والأدب والشريعة وغيرها، إن طالب اللغة العربية حين ينظر في نص أدبي معيّن ينبغي أن يكون له من المعلومات الشاملة في هذه الفروع جميعًا ما يعينه على فهم "المقام" الذي قيل فيه هذا النص حين يلخِّص له هذا المقام. وقد تعوَّدنا أن نقول لطلبتنا دائمًا عن هذه الفروع التي يطلقون عليها "العلوم المساعدة": إنها فروع إيضاح المقام النصوص التي نصادفها في التراث العربي، ويمكن إيضاح هذه النقطة بالمثال الآتي:

ص: 347

إذا وقف معلم اللغة العربية يشرح لطلابه بيتًا لمروان بن أبي حفصة يقول فيه:

أنَّى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

فلن يستطيع أن يشرح هذا البيت أيّ قدر من الشرح إلّا إذا مسَّ علم الميراث ولو مسًّا خفيفًا، وشرح لهم رسالة إخوانية يقول مرسلها لمن يرسلها إليه:"أنت جوهر الفضل وهيولاه" فلن يعرف كيف يشرح هذه العبارة لتلاميذه إلّا إذا ألَمَّ إلمامًا يسير بالمقولات وبالفلسفة، وإذا أراد أن يشرح لهم الرسالة الهزلية لابن زيدون فإنه سيضَّطر إلى معرفة الكثير من فروع المعرفة؛ لأن الرسالة مليئة بالإشارات التاريخية والفلسفية والشرعية واللغوية وغيرها. فكل هذه العلوم المترابطة تتحد في كلٍّ متماسك لتوضح "المقام" للنص المكتوب.

ويحتّم الأصوليون على مَنْ يتصدَّى لاستخراج الأحكام من القرآن أمورًا لا ينبغي أن يغفل عنها، هي في الواقع "مقام" للفهم، فعليه مثلًا:

1-

ألّا يغفل عن بعضه في تفسير بعضه.

2-

ألّا يغفل عن السنة في تفسيره.

3-

أن يعرف أسباب نزول الآيات.

4-

أن يعرف النظم الاجتماعية عند العرب.

فهذه العناصر الأربعة يمكن اختصارها في كلمة "المقام"، فلا ينبغي لمن يتصدَّى لتفسر آية أن يغفل عن مقامها، يقول صاحب أصول التشريع الإسلامي1: "فإذا غفل عن بعضه لم يسلم استنباطه من الزلل، وتعرض عمله للفساد، فلا ينبغي مثلًا أن يفسر قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} مع الغفلة عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ، ولا قوله تعالى:

1 الأستاذ علي حسب الله.

ص: 348

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} مع الغفلة عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، ولا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} مع نسيان قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، ولا قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} مع إهمال قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} . فالآيات التي نهى عن الغفلة عنها من "مقام" فهم الآيات التي اقترنت بها وأريد تفسيرها والاستنباط منها.

ومن قبيل ذلك أيضًا أننا لو نظرنا إلى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فاكتفينا بظاهر نصِّ هذه الآية عمَّا يحيط بهذا النص من ظروف أخرى، فقطعنا فهمنا لهذا النص عن مقامه، لكان هذا الفهم فهمًا خاطئًا لرأي الإسلام في الخمر، ولبدا الأمر في النهاية وكأنَّ الإسلام لم يحرِّم الخمر؛ إذ هو يفاضل بين المنافع والإثم في تناولها وفي اجتنابها. ولكن المقام اللازم للفهم الصحيح لهذا النص القرآني يمكن وصفه بعناصر متنوعة منها: حب العرب للخمر، واقترانها في أذهانهم بمفاهيم موقرة جدًّا عندهم؛ كفكرة "المروءة" والسؤود "والعز"، كما يمكن فهم ذلك من أشعارهم كمعلقة طرفة ومعلقة عنترة ومعلقة عمرو بن كلثوم، ثم كراهية الإسلام للخمر وعزمه على صرف العرب عنها بغير طفرة، ثم رغبة الإسلام في تألّف القلوب وفي تحبيب المشركين في الدخول في حظيرته، وكذلك رغبته في توقي شحذ المقاومة في نفوسهم مما حدا بالإسلام إلى تجنب تحريم الرق دفعة واحدة، كما تجنَّب تحريم الخمر دفعة واحدة؛ إذ بدأ بالموازنة بين إثمها ونفعها فابتهل الضائقون بالخمر كعمر بن الخطاب إلى الله أن ينزل في الخمر حكمًا شافيًا، فنزل قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ذلك هو المقام الذي ينبغي أن نفهم المقال في ضوئه على أننا لا ينبغي لنا أن ننسى عنصرًا هامًّا من عناصر المقام هنا

ص: 349

جاء لاحقًا "أو ملحقًا" لنزول الآية الثانية، وهو القاعدة الأصولية التي تقول:"الأمر يفيد الوجوب"؛ إذ لا يكمل فهمنا للنصِّ هنا إلّا مع اعتبار هذه القاعدة.

وإذا كان المقام ضروريًّا للفهم فإنه يكون أحيانًا ضروريًّا لعدم تحديد فهمٍ بعينه؛ كالذي نلمحه في مقام التعمية والإبهام والإلغاز؛ إذ يكون اللبس الذي تسببه التعمية، أو يأتي عن الإبهام والإلغاز مقصودًا لذاته فلولا فهم المقام هنا والمعرفة بأنه مقام تعمية ما قبل الناس المقال، ولا أقبلوا عليه ولا اعترفو بأنه نص يستحق عناء النظر الجاد. ويتضح ذلك مثلًا في قول الشاعر في خياط أعور خاطه له قباء:

خاط لي عمرو قباء

ليت عينيه سواء

فاسأل الناس جميعًا

أمديح أم هجاء

فلا سبيل إلى معرفة التمني بلفظ "ليت"، أكان للخياط أم عليه إلّا بمعرفة ما إذا كان الشاعر قد رضي عن قبائه أو سخط عليه، ولكن إخفاء هذا الجانب من الرضى أو السخط في بطن الشاعر حال بين الرضى أو السخط وبين أن يكون مقامًا لفهم النص، وأحل محله مقام التعمية فأصبحت التعمية جزءًا من المعنى، وأصبح اللبس الذي فيها مقصودًا لا يراد دفعه.

وهل لنا أن نزعم قصد التعمية أو عدم القصد إلى تحديد شق بعينه من شقين ممكنين للمعنى، أو بعبارة أخرى: عدم القصد إلى تحديد أحد الاحتمالين في الفهم عندما نقرأ قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُن} ؟ إن هذا النص يحتمل حرفي الجر: "في" و"عن" فيصبح المعنى صالحًا لأن يكون: "وترغبون في نكاحهن" أو على العكس من ذلك "وترغبون عن نكاحهم"، فهل لنا أن نزعم هنا أن التعمية مقصودة في النص؛ لأن بعض يتامى النساء كنَّ من الجميلات اللاتي يرغب الأولياء في نكاحهن، وكان البعض من الدميمات اللاتي يرغب هؤلاء الأولياء عن نكاحهن؟ إن الزمخشري1 يلمح تلميحًا إلى قصد التعمية

1 الكشاف: تفسير الآية رقم 127 من سورة النساء.

ص: 350

ولا أريد أن أصرح وقد لمح هو. وإن كنت أحب أن أشير إلى أن إسقاط حرفي الجر هنا يجعل الآية صالحة للمعنيين في وقت واحد.

إنَّ مجموع الأشخاص المشاركين في المقال إيجابًا وسلبًا، ثم العلاقات الاجتماعية والظروف المختلفة في نطاق الزمان والمكان هو ما أسميه "المقام"، وهو بهذا المعنى يختلف بعض اختلاف عن فهم الأولين الذين رأوه حالًا ثابتة state، ثم جعلوا البلاغة مراعاة مقتضى الحال. ويؤخذ المقام -كما فهمناه هنا- دائمًا من نسيج الثقافة الشعبية زمانيًّا في تطورها من الماضي إلى الحاضر؛ إذ يرثها جيل عن جيل، فتكون عنصر ربط بين هذه الأجيال، ومن ثَمَّ تكون الضمان الوحيد لاستمرار المجتمع في التاريخ، ثم مكانيًّا حيث يترابط بها أفراد الجيل الواحد من هذا المجتمع ما دام كلّ منهم قد نشأ في خضم هذه الثقافة وجعل منها منهجًا لحياته في المجتمع، أو بعبارة أدق: جعل منها مجرى لسلوكه لا يملك التحوّل عنه، حتى إنه ليتصرف في ظرفٍ بعينه تصرفًا بعينه، وكلما تكرر الظرف تكرر التصرف نفسه. وليس المقصود بالثقافة هنا أيّ معنى يرتبط بالتعليم والتثقيف، وإنما المقصود بها هنا ما يشمل مجموع العادات وطرق السلوك والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات والفلكلور الشعبي والأحاجي ووسائل التكسب والعواطف الجماعية والنظرة الجماعية إلى الأحداث والأشياء. وبحسب هذا الفهم الشامل لفكرة "المقام" يعتبر النص "المقال" -منطوقًا كان أم مكتوبًا- غير منبت عمن ساقه ومن سيق إليه، ولو أننا حاولنا فهم المقال منفصلًا عن المقام لجاء فهمنا إياه قاصرًا مبتورًا أو خاطئًا. إن من يقرأ قول شوقي:

وما للمسلمين سواك ذخر

إذا ما الضر مسهمو ونابا

ليرى في "مقال" البيت حين يقطعه عن "مقامه" أن شوقيًّا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم "وهو ميت في ضريحه الطاهر" ملاذًا للشعوب الإسلامية "وهي تعيش وتسعى وتكافح وتستطيع من الحيلة والحركة والفاعلية ما لا يستطيعه ميت في جدثه" فكيف هذا؟ إن معنى البيت يتضح في ضوء المقام" ما لا يتضح بدونه، ففي المقام أنَّ المسلم يتوسّل إلى الله وهو

ص: 351

القادر المعين بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الوسيلة وهو المشفع عند الله. والله يجيب المضطر إذا دعاه وتوسَّل إليه "لاحظ كلمة الضر في البيت"، والمسلمون في حاضرهم هم مضطرون ضعاف بين الأمم، وهم لا يصلون في مراتب التقوى إلى مرتبة المجتمع الصالح، ومن ثَمَّ فهم بحاجة إلى شفيع ووسيلة قربى وزلفى إلى الله مخافةَ ألا تجاب دعواتهم بدونه. وكل هذه الحقائق تأتي من خارج النص، ويشير إلى أن المعنى بدون هذه الاعتبارات الاجتماعية والدينية غير مكتمل. وليس الفرد الذي نشأ في إطار هذه الثقافة بحاجة في فهم البيت إلى كل هذا الشرح الطويل، وإنما يتقبله ويفهمه فهمًا سريعًا بما لهذا الفرد من نشأة في إطار هذه الثقافة.

هذا هو المقصود بفكرة "المقام"، فهو يضمّ المتكلم والسامع، أو السامعين والظروف والعلاقات الاجتماعية والأحداث الواردة relevant في الماضي والحاضر، ثم التراث والفلكور والعادات والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات، ولولا هذا المقام وما يقدمه العنصر الاجتماعي من قرائن حالية حين يكون المقال موضوعًا للفهم؛ لاعتبر الناس التمائم والأحجبة والسحر وهي مما يشتمل على كلمات لا تفهم ضربًا من ضروب الهراء، أو لما أعطوه ما يعطونه من تقبّل وتسامح على الأقل. ولقد سبق أن سقنا نصًّا هرائيًّا في الكلام عن النظام النحوي، وأشرنا إليه في سياق ذلك الفصل، وبرهنا من وضوح الوظائف فيه على إمكان إعرابه على رغم خلوه من عنصري المعنى المعجمي والمقام الاجتماعي. أما في السحر والتمائم والتعاويذ، فإن المعنى الدلالي يتوقف على المقام الاجتماعي لهذه النصوص غير المفهومة بسبب حاجتها إلى الوضوح الوظيفي والمعجمي، فمعنى السحر والتميمة والتعويذة هو قبولها في مقامها الخاص في إطار الثقافة الشعبية.

سبق أن وضعنا تخطيطًا للمعنى الدلالي في أوّل هذا الفصل فجعلناه يشتمل على عنصرين لا غنى له عن أحدهما، وذانك هما المعنى المقالي "ويشمل المعنى الوظيفي -المعنى المعجمي -القرائن المقالية الأخرى"، والمعنى المقامي

ص: 352

"ويشمل ظروف أداء المقال + القرائن الحالية". ومعنى اشتمال "المعنى الدلالي" وهو قمّة تحليل المعنى اللغوي على كل هذه العناصر، أنّ كل دراسة تحليلية سبقت في هذا الكتاب تتجه أساسًا إلى المعنى كما ذكرنا لك في المقدمة سواء في ذلك النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي والظواهر الموقعية والمعجم وتحديد المقام، ثم ما يرتبط بكل ذلك من قرائن حالية أو مقالية كإشارة اليدين وتعبيرات الملامح وغمزات العينين ورفع الحاجب وهز الرأس وجميع الحركات العضوية مما يعتبر قرائن حالية في أثناء الكلام، ثم التعبيرية بخوالف الأصوات وبالتأفف والفحفحة والتأوه وأصوات الشفتين المختلفة، مما يعتبر من القرائن المقالية في أثناء الكلام أيضًا.

وقد يتوقّف المعنى الدلالي أحيانًا على الوظائف التحليلية كدلالة الحرف باعتباره "مقابلًا استبداليًّا" يؤثر عدم وضوحه على المعنى، فإذا نادى المزكوم الشديد الزكام على شخص يدعى "مأمون" فهذا مظنّة لسوء الفهم. فالمعروف أن الميم تتفق مع الباء في المخرج، ولكنها تختلف عنها من حيث توجد الغنة في الميم ولا توجد في الباء، وغنة الميمن يمكن نطقها في الأنف الصحيح ويتعذر نطقّها في الأنف المزكوم، وحين تتعذَّر الغنة تصير الميم إلى الباء، ومن ثَمَّ يصير النداء "يا بأبون"، ولما كانت الباء الأولى واقعة في مقطع غير منبور، وكانت الثانية بداية مقطع وقع عليه النبر كما عرفنا من القواعد التي ذكرناها في حينها، أصبحت الباء الأولى غير واضحة في السمع كوضوح الباء الثانية، وأصبحت الباء الثانية أوضح أجزاء الكلمة في النطق. وهذا هو مناط اعتماد المعنى الوظيفي؛ لأن الميم الأولى لم تتضح في السمع فبقيت وظائف موقعها كما هي، وتفترض الأذن خطأ في هذه الحالة وجود الميم الأولى على حالها، ولكن الميم الثانية اتضحت في الأذن على صورة الباء، فإذا غضب المنادي لظنه أنه نودي "يا مأبون" فذلك دليل اعتماد المعنى الدلالي على الوظيفة التي تناط بالحرف باعتباره "مقابلًا استبداليًّا".

وأما قيمة الظاهرة الموقعية في السياق فتبدو عند التأمل في كلمة "الأمان"، وتحديد المقصود من الهمزة في البداية أهي همزة قطع فتكون الكلمة مثنى "ألأم"، أم هي همزة وصل وتكون الكلمة كلمة "أمان" ألحقت بها أداة

ص: 353

التعريف. ومثل ذلك ما أشرنا إليه في دراسة النبر من اختلاف فيهم الإسناد بين "اذكر الله" و"اذكري الله" بحسب اختلاف مكان النبر في السمع، وكذلك ما أشرنا إليه عند الكلام في الصلة بين النغمة وبين المعنى النحوي في بيت عمر بن أبي ربيعة وفي بيت جميل بن معمر. وأما اختلاف المعنى باختلاف الصيغة ووظيفتها، فهذا واضح من كل سطر خططته في الكلام عن النظامين الصرفي والنحوي تقريبًا. ونستطيع هنا كذلك أن نعطي مثالًا بأن نسوق جملة:"هذا محرَّم شرعًا" لأن فهم المنصوب هنا يتوقف على القرينة المعنوية التي تؤخذ عادة من السياق بمعونة القرائن الحالية التي في المقام، فإذا فهمنا من المقام معنى السببية كان هذا المعنى قرينة معنوية على أن هذا المنصوب مفعول لأجله، وإذا فهمنا منه معنى الواسطة كانت الواسطة قرينة معنوية على أن المنصوب هنا إنما هو على نزع الخافض، وإذا فهمنا من المقام معنى الظرفية فالنصب كذلك على نزع الخافض، وإذا فهمنا منه بيان النوع كان النصب على معنى النائب عن المفعول المطلق. ويمكن عند النظر في جملة:"صعدت علوًّا" أن تختلف معاني المنصوب على النحو التالي:

1-

المفعول به إذا فهمنا من المقام "تعدية"، ويكون المعنى:"صعدت مكانًا عاليًا".

2-

نائب المفعول المطلق إذا فهمنا من المقام "توكيدًا"، والمعنى حينئذ:"علوت علوًّا".

3-

المفعول لأجله إذا فهمنا من المقام "سببية"، والمعنى على ذلك:"صعدت لأعلو".

وكما أن المعنى الوظيفي يحدِّده النظام في اللغة، والموقع في السياق، كما يحدد العرف الاعتباطي المعنى المعجمي الذي يربط بين الكلمة ومدلولها، فكذلك يعين المقام أولًا على تحديد هذه المعاني جميعًا بما يستفاد منه من القرائن المعنوية، ويعين ثانيًا على استكمال المعنى الدلالي الأكبر في إطار الثقافة الشعبية. ولإيضاح هذه النقطة الأخيرة يمكن أن نضرب مثلًا بكلمة "خليفة" التي يختلف معناها باختلاف المقام من مقارنة العبارات الآتية:

ص: 354

1-

قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة} .

2-

قال الشاعر: "خليفة الله يستسقى به المطر".

3-

"زرت مولد السيد البدوي فرأيت الخليفة على ظهر حصانه".

المعنى المعجمي لهذه الكلمة المفردة حين تكون خارج السياق يكاد يكون واحدًا في عموعمه وهو "الخليفة، من يخلف سلفًا في عمل أو نحوه"، ولكن المعنى الدلالي له في هذه الجمل على الترتيب هو:

1-

الجنس الإنساني.

2-

أمير المؤمنين.

3-

شيخ الضريح.

على أن الثقافة الشعبية من السعة والتشعُّب بحيث يصعب اتخاذها على حالها أداة لتحديد المقام، وإنما يستحسن أن نجري لعناصرها المفيدة في تحليل المعنى نوعًا من التنظيم والتبويب الذي نتمكن به من الوصول إلى تحديد المقام، وسنرى أنَّ نسيج الثقافة الشعبية تلتقي فيه أوضاع مقررة وتجارب ذات أنواع محددة، ومسالك معيارية لا حرية للفرد في تطبيقها أو عدمه، ومطابقتها أو عدمها، فمثل حرية الفرد في إطار هذه الجبرية الاجتماعية كمثل ما يراه المعتزلة من حرية إرادة الفرد في مجالها الضيق في نطاق إرادة الله سبحانه وتعالى، فهو يحاسب لما له من إرادة فردية واختيار فردي، ولكن هذه الإرادة الفردية لا تغير ما أراده الله من نظم وقوانين في هذا الكون.

والحياة الاجتماعية مسرح أكبر لكل ممثل فيه دور خاص ذو كلمات محددة وحركات معينة، فإذا لم يحسن الفرد أداء كلماته وحركاته أصابه من الخيبة ومرارة الفشل ما يصيب الممثل الفاشل الذي يئول أمره إلى سماع الاستهجان من النظارة والمتفرجين. وقد يؤدي سوء الأداء لدور أد الممثلين إلى إصابة غيره من الممثلين بعدوى الفشل؛ لأن دور كل من الممثلين ينبنى من حيث الأداء الكلامي والحركي على دور غيره من الممثلين على المسرح، وهو من ثَمَّ يتأثر إجادةً أو تقصيرًا بأداة الأدوار الأخرى. وسنحاول فيما يلي

ص: 355

أن نشرح الطريقة التبويبية التي يمكننا بها تبويب المقامات في إطار الثقافة الشعبية.

وأول ما نلاحظه أن التحليل والتبويب يمكن أن ينبني على الأسس الآتية:

1-

دور الفرد في المجتمع.

2-

دور الفرد في الأداء.

3-

غاية الأداء.

وسنفصل القول في كل واحد من هذه الأسس على حدة:

1-

دور الفرد في المجتمع:

ذكرنا أن الحياة الاجتماعية مسرح أكبر، وأن لكل فرد من أفراد المجتمع دورًا محددًا من حيث الأداء الكلامي والحركي، وأن النجاح الاجتماعي للفرد منوط بحسن أداء دوره على مسرح الحياة، فقد يكون الفرد أبًا أو أخًا أو ابنًا أو عضوًا في ناد أو جماعة، أو رئيسًا أو مرءوسا، أو أعلى أو أدنى، أو خادمًا أو مخدومًا، أو صديقًا أو شريكًا، أو أستاذًا أو طالبًا أو مربية، أو بائعًا أو مشتريًا، أو موظفا أو أجيرًا، أو متطوعًا، وقد يكون عسكريًّا أو مدنيًّا، أو عاملًا يدويًّا أو مفكرًا، أو صاحب مهنة أو عاطلًا، أو غنيًّا أو فقيرًا، أو مثقفًا أو جاهلًا، أو جادًّا أو هازلًا، أو قائدًا أو مقودًا، وهلم جرّا. وواضح أن الكلمة الواحدة بعينها قد يختلف معناها بحسب الدور الذي يؤد به الفرد. فعبارة:"إنه يشرب كثيرًا" مثلًا إذا قيلت في طفل صغير دلّت على نوعٍ من المشروبات، أما إذا قيلت في رجل مشهور بمعاقرة الخمر فإنها تدل على نوع آخر من المشروبات. وعبارة:"لا ينبغي لي أن ألبس هذه الملابس القصيرة" تختلف دلالتها الاجتماعية والمقاييس التي وصفت بالقصر بحسب ما إذا كان المتكلم رجلًا أو امرأة. وعبارة "أنا أحب هذه اللعبة" يختلف معناها حين يقولها طفل عنه حين يقولها رجل، بل يختلف حين يقولها متفرج عنه حين يقولها لاعب. وإننا إذا نظرنا إلى عضوية الأسرة باعتبارها دورًا اجتماعيًّا للفرد، فسنجد لكل عضو في الأسرة عبارات تناسب دوره لا يقولها غيره من أفراد الأسرة

ص: 356

الآخرين. فالعبارات التي يستعملها الأب غير العبارات التي ترد على لسان الأم، فالأب مثلًا لا يقول:"يا حبيبي" إذا كان يخاطب الكبار من أبنائه، ولكن الأم تقول ذلك بإسراف. والبنت لا تكلم أباها في شئونها الخاصَّة، ولكنها تكلم أمها، والأخ الأصغر في الأسرة يتلقَّى التوجيه الصحيح من بقية أفراد الأسرة، وليس له فرصة لأن يوجه الآخرين أو يصحح أخطاءهم. ولو حاول ذلك لكانت تلك مناسبة طيبة للضحك وللتدليل والإعجاب بالصغير الطموح غير الواعي بدوره في الأسرة.

ومعنى ذلك بالطبع أن الأدوار موزَّعة توزيعًا محكمًا بين أفراد الأسرة، ولكل دور منها عبارات وحركات ومواقف نفسية واجتماعية، ومعانٍ تختلف من فرد إلى آخر من أعضاء هذه الأسرة، فالموقف الاجتماعي والنفسي إلخ لكل عضو يختلف عن مواقف بقية الأعضاء، حتى إنَّ الأخوة في الأسرة مع اندراجهم جميعًا تحت عنوان:"البنوة" بالنسبة لأبيهم وأمهم، واشتراكهم في "الأخوة" يتقاسمونه بالتساوي فيما بينهم، تختلف أدوارهم من حيث السيطرة والخضوع والحزن أو التدليل في المعاملة وتحمل المسئوليات في نظام الأسرة، والقرب أو البعد من الأبوين، والاعتماد أو عدم الاعتماد عليهما. ومع أنني لا أريد أن أقفز إلى استنتاج الحقائق من طبيعة هذه الأدوار قبل أوانها الذي يأتي بعد إيفاء القول فيها حقه من البيان، أستطيع أن أقرر هنا أن الدور الاجتماعي أيًّا كان نوعه هو علاقة تنضوي تحتها طائفة من المقامات التي تنبع من تشابك الأساسين الآخرين. "دور الفرد في الأداء" و"غاية الأداء" في إطار هذه الأساس الأول المذكور:"دور الفرد في المجتمع"، وسيأتي شرح ذلك بعد قليل.

قد يكون الفرد واحدًا من مجموعة من الأصدقاء الذين يقضون وقت فراغهم معًا في منتدى معين، ويتنزهون معًا، ويذهبون إلى السينما معًا، وبذلك يصدق عليهم اللفظ العامي "شلة"، أو اللفظ الفصيح "ثلة"، والغالب في دور كل واحد من أفراد هذه الثلة أن يحدده عرف الصحبة وقوة الشخصية والخبرة فيما بينهم، فيكتسب سلوك كل واحد منهم حيال الآخرين نمطية معينة وأسلوبًا محددًا، وربما كونوا فيما بينهم "لغيّة" خاصة بهم

ص: 357

قوامها بعض المفردات المرتجلة التي يراعى في ارتجالها ألّا يفهم غيرهم ممن يتصل بهم. وقد عودنا المسرح عند التصدي لتصوير هذا النوع من العلاقة الاجتماعية على توقع أن يكون لكلِّ دور من أدوار أفراد هذه المجموعة مفردات خاصة وأسلوب خاص في الأداء الحركي.

وللطالب في مدرسته دور محدَّد الكلمات والحركات، فلو أننا رأينا قصة طالب في مدرسة ثانوية يريد أن يوقد لنفسه سيجارة فلا يجد ما يوقدها به، ويلمح الطالب ناظر المدرسة عن بعد فيذهب إليه ويقول:"تسمح بالولاعة؟ " فلا ينبغي عند تحلي هذه العبارة وتحديد معناها أن نكتفي منها بما يدل عليه الفعل والجار والمجرور المؤنث، أو بأن أسلوب الجملة هو الاستفهام الدال على التماس، أو أن أداة الاستفهام قرينة لفظية أغنت القرائن الأخرى عن ذكرها طبقًا لمبدأ الترخص في القرينة الذي أشرنا إليه من قبل، فهذا النوع من التحليل المقالي مهما كان دقيقًا فلن يصل بنا إلى أهمِّ عنصر من عناصر معنى هذه الجملة، وهو أنها تدل على "سوء تربية"، وهو عنصر لا يمكن الوصول إليه إلّا بفهم دور كل من الطالب والناظر في مجتمع المدرسة، ثم يفهم "المقام" الذي تَمَّ فيه "المقال" في حدود العلاقة الاجتماعية المحددة بين الناظر والطالب، ثم ما في هذا المقام من عدم التناسب بين المقال وبين هذين الدورين الاجتماعيين. ومما يقع على عاتق ناظر المدرسة في هذا المقام -باعتبار ذلك جزءًا من دوره الاجتماعي- أن يبادر بتأديب هذا الطالب ويردَّه إلى مطابقة معايير العرف الاجتماعي الذي يحكم سلوك كل من أعضاء مجتمع المدرسة حيال الآخر.

ولعضوية نادٍ بعينه نمطية أو معيارية خاصة في السلوك تحددها من الناحية الرسمية لائحة النادي، ومن الناحية الاجتماعية علاقات الأعضاء داخل النادي بعضهم ببعض، وعلاقتهم في معترك الحياة العامة خارج النادي. ولقد أصبح من نمطية سلوك أعضاء النوادي بصفة عامة حيث التظاهر بالجاه والغنى والتسامي الاجتماعي، وقد ينعكس هذا على كل ما يقوله العضو أو يفعله تقريبًا. ومن هذه النمطية في الوقت الحاضر التخفف من القيود التي يفرضها العرف التقليدي خارج النادي على الأفراد بالنسبة لقضايا السفور والاختلاط

ص: 358

ومزاولة الرقص والسمر. فالتعارف بين الأعضاء يتمُّ بطريقة أسهل مما يحدث خارج النادي، وقد تشترك السيدة المعروفة خارج النادي بالاحتشام في السباحة داخل النادي فتبدي من أجزاء جسمها ما لا تسمح لنفسها بابدائه في أيّ مكان آخر خارج النادي. وللشابات ملابس تصلح لتذهب إلى النادي بها وملابس أخرى لا تصلح، ومقياس الصلاح وعدمه خاضع لاعتبارات التباهي بآخر ما أخرجته بيوت الأزياء من نماذج؛ بحيث يدل الثوب على تطور صاحبته مع تطور المدنية والتقدم! ومعنى ذلك أن ما يفعله أعضاء النادي أو يقولونه يخضع لمعيارية عرفية اجتماعية مهما كان عرفها خاصًّا وكان مجتمعها ضيقًا.

وقد يكون الفرد أحد محترفي لعبة بعينها كأن يكون لاعبًا في فريق لكرة القدم أو الملاكمة أو غيرهما، فيتَّسم سلوكه الحركي وأداؤه الكلامي بنمطية معيارية ملحوظة بالطبع أثناء أداة اللعبة التي يتخصص فيها الفريق؛ لأن هذه اللعبة لها قوانينها ومعاييرها وأخلاقياتها، ولها فوق ذلك عقوبات لمن يخالف هذه المعايير. فالأمر أثناء اللعب واضح لا جدال في معياريته، وقد يؤثر عقاب المخالف في مستقبله المهني؛ إذ أنَّ الفصل من عضوية الفريق والإيقاف عن مزاولة اللعبة عقوبات محتملة. أضف إلى ذلك أن نوع اللعبة التي يمارسها الفرد قد ينعكس على مجازاته واستعاراته وكناياته كعبارات "الضربة القاضية" و"إصابة الهدف" و"رحت واخده شمال" و"الضرب تحت الحزام". وقد تشيع هذه الاستعمالات أحيانًا خارج العرف الخاص، فتكتسب عرفية عامة.

وقد يتعوّد الفرد الصلاة في مسجد بعينه يلتقي فيه دائمًا بروادٍ له دائمين، ويستمع إلى خطيب هذا المسجد، ويحضر درسه الديني بعد الصلاة مع بقية المصلين، فتحدث بينه وبين هؤلاء المصلين علاقة فكرية ونفسية خاصة فيما يتعلق بوجهة النظر الدينية والأخلاق الدينية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالقضاء والقدر، مما يترك أثرًا ظاهرًا في اتجاهاته السلوكية ومواقفه العقلية والعاطفية المختلفة؛ بحيث يقترب هذا السلوك وتلك المواقف اقترابًا أكيدًا من سلوك بقية المصلين ومواقفهم، مما يبرر تسميتهم بمجتمع

ص: 359

المسجد. وكذلك قد يؤدي الإلف وكثرة اللقاء بين هذه المجموعة إلى أن يتعرّف كل من أفرادها على الآخرين فتزداد الشركة الفكرية بينهم، وتنشأ بينهم أخوة في الله، ووحدة في الآراء تعتمد إلى حد كبير على الجوِّ السائد في المسجد، وعلى تعاليم إمام المسجد ودروسه ونظرته إلى المسائل الاجتماعية والخلقية. فإذا سمعت أحد رواد هذا المسجد يقول:"فسد الزمان" فلا يبتغي أن نقف في فهم معنى هذه العبارة على مجرّد تحليل "المقال"، فتكتفي بظاهر النصِّ، وإنما ينبغي أن نتعدَّى ذلك إلى اعتبار "المقام" الذي يكشف لنا عن ضوء جديد يضئ لنا طريق تحليل المعنى، فإذا عرفنا أن هذا القائل يغشى مسجدًا بعينه، ويتأثّر بالجوِّ الفكري السائد لدى روَّاد هذ االمسجد، فلربما فهمنا في النهاية أن الزمان لم يفسد حقيقة إلّا في رأي هذا الرجل المتزمِّت في دينه ونظرته إلى الأمور. ومثل ذلك يقال في انتماء الفرد إلى طريقة صوفية ما، فإذا سمعت هذا الفرد يقول:"سمعت هاتفًا يقول...." فضع المقال في ضوء المقام وافهم المعنى بحسبه.

وينتمي الفرد إلى قبيلة أو قرية أو مدينة أوحي من مدينة، فيكتسب ما قد يكون هناك من معيارية سلوكية أو تعبيرية أو عرفية سائدة في القبيلة أو القرية أو المدينة أو الحي، فيخضع ما يقوله وما يفعله في المواقف المختلفة لهذه المعيارية، مختلفًا في ذلك عن أبناء القبائل والقرى والمدن الأخرى؛ ففي القاهرة مثلًا: يختلف أبناء حيّ الحسينية في كلامهم ونظرتهم إلى المواقف المختلفة في التعامل مع الآخرين عن أبناء الحلمية مثلًا، ونجد مثل هذا الاختلاف بين القريتين المتجاورتين من قرى الريف. وإذا قرأت رسالة أرسل بها أحد أبناء الريف لقريب له نازح عن القرية، فرأيت في الرسالة:"أفراد الأسرة يقرئونك السلام" فاعلم أنه يرسل إلى قريبه تحية ما يربو على ثلاثمائة من الآدميين؛ لأن نظام الأسرة في الريف يجمع بين عدد كبير من الأفراد يشتركون في الانتساب إلى جدٍّ أعلى توفِّي من نحو مائتي عام تقريبًا، وتشتمل هذه الأسرة الريفية على خلايا أسرية تتكوّن كل خلية منها من أب وأم وأولادهما. أما إذا قرأت هذه العبارة نفسها في رسالة من أحد أبناء المدينة فاعلم أن المقصود بالأسرة هنا رجل وامرأة وأطفالهما، وقد يكون مجموع

ص: 360

هؤلاء جميعًا خمسة أفراد أو دون ذلك، فانظر إلى الكلمة الواحدة ذات المعنى الواحد بقي لمعناها طابعه المعجمي العام، واختلف معناها العددي بين الريف والمدينة، أي: بحسب الاعتبارات الاجتماعية والجغرافية في "المقام".

ويمكن لنا أن ندَّعي مثل ذلك عند النظر إلى الانتماء إلى إقليمٍ ما ذي ثقافة شعبية متميزة عن ثقافات الأقاليم الأخرى من الأمة نفسها؛ لأن معيارية السلوك في ظل عرفية هذه الثقافة تجعل "المقام" يختلف عنه في الأقاليم الأخرى. فالصعيدي الذي ينزل القاهرة ليزور أصدقاءه بها يؤذيه جدًّا أن يسأله إنسان من غير أفراد "الأسرة" عن حال زوجته أو صحتها أو بعض شئونها؛ لأن الزوجات هناك في الصعيد محجبات لا يراهن غريب عن الأسرة، وفي السؤال عن الزوجة اهتمام بشخصها غير مستحب لدى زوجها لصدوره من رجل غريب عن الأسرة. ولو أن الصعيدي المسئول كان على غير علم بنمطية السلوك لدى أهل القاهرة فربما نهر هذا السائل بسبب جرأته "غير المهذبة".

2-

دور الفرد في الأداء:

وقد يكون الفرد هنا متكلمًا أو كاتبًا أو سامعًا أو قارئًا أو مناقشًا أو محادثًا أو لاغيًا أو واعظًا أو مخاطبًا خطابًا رسميًّا أو خطيبًا أو محاضرًا أو مساعدًا على إنجاز عمل أو مخططًا أو منظمًا أو ساحرًا أو رَّاقيًّا أو مصليًا أو داعيًا أو تاليًا للقرآن أو مسبحًا وهلم جرا. وقد يكون منفردًا أو واحدًا من جماعة. ولأمر ما اصطنعت اللغة بين معانيها العامة معاني التكلم والخطاب والغيبة، والإفراد والتثنية والجمع، والجنس والعهد، والتذكير والتأنيث، والتعريف والتنكير، والبناء للمعلوم والبناء للمجهول، وهلم جرا مما يشير إلى اعتداد اللغة باختلافات "المقام" الذي يجري فيه "المقال" من جهة، واعتدادها من جهة أخرى بدور الفرد في الأداء الكلامي إيجابًا وسلبًا. ولقد كانت هذه المعاني دائمًا في اللغات المختلفة أساس تنوع الإسناد، وأساس تنويع الضمائر في صورها ومعانيها، كما يتضح مما قدمنا الكلام عنه في النظام الصرفي من هذا البحث

ص: 361

غير أننا لا ننظر هنا إلى هذه المعاني نظرة الصرفيين وهي وظيفية خالصة، وإنما نجعل هذه الأدوار المختلفة للفرد في الأداء من نسيج المقامات الاجتماعية التي يتمّ بها تحليل النص، ويتضح ذلك من استخدام الضمائر والأسماء الظاهرة في الكلام، وإن من ينظر إلى خطب الزعماء السياسيين والوعاظ والشعارات والهتافات والإعلانات ليستطيع أن يجد الضوء القوي الذي يمكن له أن يسلطه على هذا الموضوع؛ فالزعماء في خطبهم يفضِّلون العدول عن ضميري التكلم إلى كلمة "الشعب" فيقولون: "إن الشعب يريد

" في مكان "نحن نريد" أو "أنا أريد"، لما في استعمال "أنا" من إيحاء بالفردية والتسلط، ولما في "نحن" من احتمال تعظيم النفس، والمعلوم أن مقامي التسلط وتعظيم النفس ليسا مما يقرب الزعماء من قلوب الجماهير. ويفضل الواعظ غالبًا أن يعدل عن استعمال ضمير المخاطبين إلى ضمير المتكلمين، فهو يتحاشى أن يقول: "ينبغي أن تعودوا إلى حظيرة الدين" ويقول في مكان ذلك: "ينبغي لنا أن نعود إلى حظيرة الدين"، ويتحاشى أن يقول: "غفر الله لكم" ويقول: "اللهم اغفر لنا"، بل إن المقام قد يقتضي أحيانًا أن يعدل المتكلم عن ضمائر الخطاب لما فيها من المواجهة المحرجة أحيانًا إلى فسحة غموض دلالة الغيبة التي نلحظها في استعمال الموصول مبتدأ أو شرطًا، وما أجمل عبارة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:$"من أكل لحم جزور فليتوضأ" بدلًا من أن يتجه إلى شخص بعينه فيقول: "قم فتوضأ ما دام وضوؤك قد انتقض لما أعلمه من ذلك بالقرائن" أو بدلًا من عبارة أخرى هي "من أحدث فليتوضأ"؛ لأن الذي يقوم للوضوء حينئذ سيكون معترفًا بأنه أحدث وهذا مسبب للخجل.

على أن الأمر لا يقتصر على تقليب العبارة بين التكلم والخطاب والغيبة، أو الأفراد والتثنية والجمع، وإنما يتعدى ذلك إلى ما يقوم به الفرد من المشاركة بدور معين في موقف معين. فمن الأدوار التي يؤديها الفرد بالكلام الإعانة على إنجاز عمل ما كالصياح والتشجيع في المباريات الرياضية بغية الإعانة على الانتصار والفوز في المباراة، وكالذي يقوم به العمال من غناء جماعي أثناء أداة العمل لا يقصدون به التطريب ولكنهم يقصدون إيجاد إيقاع معين لحركة

ص: 362

العمل لولاه لأدَّى التعب إلى التباطؤ في العمل، ولولا ما يسببه هذا الغناء من صيغ العمل بصبغة التسلية لكان الإحساس بمشقة العمل أكبر. ومن قبيل ذلك الهتافات في المظاهرات السياسية؛ لأن هذا الهتاف لا يقصد به إيصال معلومات كانت من قبل مجهولة، وإنما يقصد به توليد الحماس لقضية ما، وكل هذه الأدوار التي يؤديها الفرد بالنسبة للموقف المعيّن لو نظرنا إلى ما يحدث فيها من "مقال" لكانت هذه الأدوار هي غايات الأداء. فالفرق بين "دور الفرد في الأداء" و"غاية الأداء" هو فرق في النظرة إلى صلة الأداء نفسه إمَّا بالموقف أو بالمقال.

3-

غايات الأداء:

وأكبر غايات الأداء اللغوي على الإطلاق غايتان:

أ- التعامل ب- الإفصاح

1-

فأما التعامل فهو استخدام اللغة بقصد التأثير في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية المحيطة بالفرد، فيدخل في ذلك البيع والشراء والمخاصمة والتعليم والبحث العلمي والمناقشات الموصلة إلى قرارات والتأليف والخطابة والمقالة السياسية والتعليق الإذاعي ونشرة الأخبار وهلمَّ جرا. وأما الإفصاح فهو استعمال اللغة بقصد التعبير عن موقف نفسي ذاتي دون إرادة التأثير في البيئة، ولا يتحتَّم في هذه الحالة أن يكون الإسماع مقصودًا، ومن ذلك اللغو والغناء مع عدم قصد الإسماع والتعجب والمدح والذم، والإنتاج الأدبي بصوره المختلفة وإنشاء الشعر الغنائي بصفة خاصة. وكما اعتدت اللغة باختلاف دور الفرد بالأداء فجعلت من معانيها العامة التكلم والخطاب إلخ، اعتدت كذلك بغايات الأداء فقسَّمت معاني الجملة العربية إلى خبر وإنشاء، وقسَّمت الخبر إلى إثبات ونفي وتوكيد، وقسمت الإنشاء إلى طلب وشرط وإفصاح، وقسمت الطلب والشرط والإفصاح كلًّا إلى أقسام مختلفة، ولكن إذا كانت اللغة قد فعلت ذلك فإن اللغويين لم يفطنوا إلى تقسيمات اللغة فيما يختص بالمقابلة

ص: 363

بين التعامل والإفصاح، ومن ثَمَّ جعلوا الجملة الإفصاحية من قبيل الخبر أحيانًا والإنشاء أحيانًا أخرى، مع وضوح الفرق بين طابع التعامل الذي يسود الخبرية ومعظم الإنشائية، وطابع التعبير الذاتي الذي نلحظه في الجملة الإفصاحية، وقد سبق أن أشرنا إلى الخطأ الذي كان من النحاة حين فسروا "أوه" بكلمة بكلمة "أتوجع"، وربما وقف "الدعاء" بين التعامل والإفصاح بحيث لا يكون من قبيل أحدهما إلّا بعد النظر في غاية الأداء، فإذا كانت غايته استنزال غضب الله أو رحمته فهو تعامل، وإذا كانت غايته التعبير عن الرضى أو السخط فهو إفصاح. والاستسقاء دعاء من قبيل التعامل، ولكن قول السائل لمن أعطاه صدقه "الله يخلف عليك" إفصاح؛ لأن الغاية منه التعبير عن الرضى، ومثله ما نراه من دعاء في الرسائل الإخوانية نحو:"بلغني -أطال الله بقاءك".

ومن غايات الأداء الاتفاق والتشجيع والمصادقة والتثبيط والشتم والتمني والترجي واللعن والفخر والتحدي والتحضيض والاستخفاف والتحقير والتعظيم والإغاظة والإيلام والمعاداة والمدارة والتملق والنفاق والتحبب والغزل واللوم والدعابة والإغراء والاستقبال والتوديع والإلزام والترحم والتحية والتعجب والتهنئة والنصيحة، وغير ذلك من المعاني التعاملية والإفصاحية، ولكل غاية من هذه الغايات عباراتها المعيارية التي تقال فيها، وذلك مصداق قول البلغاء:"لكل مقام مقال" و"لكل كلمة مع صاحبتها مقام".

ومع مراعاة التفاعل بين دور الفرد في الأداء وغاية الأداء في إطار دور الفرد في المجتمع، يمكننا أن نصل إلى فهم "المقام" الذي يقال فيه "المقال"، فنصل بواسطة ذلك إلى المعنى الدلالي الأكبر الذي هو نتيجة تضافر العناصر الثلاثة المكونة له "المعنى الوظيفي والمعنى المعجمي والمقام"، وهذه العبارات المعيارية العرفية التي تؤدي كل منها إلى غاية محددة من غايات الأداء هي في طابعها أنساق من تضام التوارد الذي أشرت إليه في الكلام عن القرائن اللفظية وجعلته قسيمًا لتضامّ التلازم. وفيما يلي بعض هذه العبارات المعيارية1، وقد وصفت كل طائفة منها تحت غاية من غايات الأداء

1 انظر "اللغة في المجتمع" تأليف م. م. لويس، وترجمة مؤلف هذا البحث.

ص: 364

وأمامها وصف مختصر لعناصر المقام، مع ملاحظة أن الغاية عنصر من عناصر المقام:

أولًا: عبارات غايتها الخطاب العادي:

العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى

اسمع يا فلان من الصديق للصديق

يا سيدي العزيز للتودد غالبًا

يا سيدي الفاضل مقدمة للاعتراض

بعد إذنك لأي شخص مساوٍ أو مألوف

بعد إذن سيادتك لشخص محترم أو غير مألوف

خد بالك للتنبيه والتحذير

وأنت مالك للتأنيب

أوع تعمل كده تحذير من الأعلى للأدنى أو بين الصديقين

لليمين در نداء عسكري

أجب عما يأتي في ورقة الامتحان

ارفع مقتك وغضبك عنا دعاء مع التوجه إلى الله -سبحان وتعالى

اشفع لنا دعاء موجه للنبي صلى الله عليه وسلم

مددك يا سيدنا دعاء موجه إلى أحد الأولياء

رح لحالك طرد.

ثانيًا: عبارات غايتها الوداع:

مع السلامة يقولها كل الناس لكل الناس

إلى اللقاء وداع من مثقف لآخر

ربنا يجمع فرقتنا وداع من أم أو زوجة

باي باي وداع أطفال

أسأل الله تعالى أن يجمع شملنا وداع من ذوي الثقافة الدينية والعربية

الحي يتلاقى وداع صعيدي

ص: 365

ثالثًا: عبارات غايتها الاستقبال

العبارة بعض عناصر المقام الأخرى:

أهلًا وسهلًا تحية شائعة على مختلف المستويات

الحمد لله على السلامة لاستقبال العائد من السفر

فرصة سعيدة لمن لم تكن رؤيته متوقعة

زارنا النبي تحية شائعة في أوساط النساء

إيه النور ده كله تحية الأليف للأليف

خطوة عزيزة لمن تندر زيارته

إيه اللي جابك لغير المرغوب في مجيئه

ذكرنا القط جانا ينط ترحيب ودعابة لشخص مألوف

رابعًا: عبارات غايتها الإلزام

وعد الحر دين عليه للإلزام بتنفيذ الوعد

كلام شرف للارتباط بالوفاء

لا تكن مثل فلان للإلزام بموقف معين

الناس كلهم عارفين أمانتك للإلزام بالأمانة

والله العظيم أقول الحق للالتزام بالصدق

قبلت لإتمام التعاقد

الله يبارك لك لالتزام البائع بتسليم السلعة

التوقيع على وثيقة للالتزام بصدق ما تحتويه

كلمة إرساء المزاد العلني للإلزام بالدفع والاستلام

هذا وعد للالتزام بالتنفيذ

لا إله إلا الله تلزم المسلم بحفظ دم من قالها

أي حمار قال هذا لإلزام القائل بالتنصل مما قال

ص: 366

خامسًا: عبارات غايتها الرجاء:

العبارة بعض عناصر المقام الآخر:

سألتك بالله رجاء تسمعه باللهجة الليبية أو بين المثقفين

اعمل معروف من الأدنى للأعلى

والنبي رجاء على ألسنة النساء والأطفال

والنبي يا فلان رجاء لمن تكلمه ببعض الكلفة

سقت عليك النبي يقولها العوام

عليك النبي رجاء تسمعه في لهجة أم درمان

عليك بالله رجاء تسمعه في لهجة أم درمان

أرجوك رجاء فيه عدم ألفة

دا أنا أخوك رجاء مع تذكير بالدالة

أكون شاكر لو

من الأعلى للأدنى أو المساوي.

ميش عايز تكسب ثواب رجاء في أمر صعب لصالح ضعيف

حسنة الله يقولها المتسولون للمارَّة

سادسًا: عبارات غايتها الترحم:

الله يرحمه ترحم عام يقال على جميع المستويات

رحمه الله من مثقف عادي

رحمة الله عليه يقولها الشيوخ والمثقفون ثقافة عربية

عليه رحمة الله يقولها الشيوخ والمثقفون ثقافة عربية

والله كان طيب شائع على جميع المستويات

خياركم السابقون يقولها من له ثقافة دينية

جعل الله مثواه الجنة يقولها أصحاب الثقافة العربية

الله يوسَّع لحايده ترحم صعيدي

الله يشبشب الطوبة اللي تحت رأسه ترحم قاهري

الرحمة تنزل عليه ترحم نسائي

ص: 367

العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى:

كلنا لها ترحم شائع

والله ارتاح تقال فيمن طال مرضه

سابعًا: عبارات غايتها التعجب

يا سلام "بتنغيم خاص" تعجب شائع

يا هو تعجب الساخر

إش تعجب مع رفع كلفة

إيه الجمال دا تعجب مع رفع كلفة

يا حلاوة يقولها العوام

يا حلاوتك يقولها العوام

يا حلولي تقولها النساء

يابن الإيه تعجب بين الخلطاء

يا وعدي تعجب غزلي

ياي تقولها الفتيات المتفرنجات

ثامنًا: عبارات غايتها التحية

السلام عليكم تحية شائعة على مختلف المستويات

صباح الخير تحية عامة وقت الصباح

نهاركم سعيد يقولها الأقباط

سا الخير تقولها النساء العاميات بالقاهرة للتحية في المساء

صباح النور للرد على من يقول صباح الخير

صباح الفل تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح

نهاركم سعيد تحية فيما بين أولا البلد في القاهرة في النهار

نهاركم قشطة تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في النهار

ص: 368

العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى:

صباح الورد: تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح

بنصبح تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح

فلان بيصبح تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح

الورد فتح والنبي تحية مشربة بالغزل أو الملق.

تاسعًا: عبارات غايتها التهنيئة

مبروك تهنئة شائعة

مبروك يا فلان تهنئة وتودد

مبارك يقولها صاحب الثقافة العربية

ربنا يتمم بخير تقال بعد توقيع العقود أو البدء في عمل ما

والله فرحنا لك لدعاء الصداقة

نهنيك تهنئة مع كلفة

أجمل التهاني تكتب ولا يقال

نهني أنفسنا للملق أو التقرب

يهنيئ المنصب لتملق الشخص ذي النفوذ

ألف مبروك للنجاح بعد تعب وكفاح

ربنا يزيدك من نعيمه يقولها العوام

عاشرًا: عبارات غايتها النصح

أنصحك نصح مع التخويف والتحذير

اسمع كلامي تقال للعنيد والمندفع

الدين النصحية تقال عند توقع الشك أو عدم الانتصاح

أنا لا أغشك للإقناع باخلاص النصيحة

إذا كنت عايز النصيحة تقال لدفع الشك وتأكيد النصح

إذا كنت عايز الجد تقال لدفع الشك وتأكيد النصح

والله أنا خايف عليك للنصح والتهديد

ص: 369

العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى

والله أنا رأيي كذا يقولها من له نفوذ على المنصوح

أحسن شيء تعمل كذا نصح بعد استشارة

والناس يقولوا عنك إيه نصح وتأنيب

وبعد فقد رأينا هذه النماذج العشر لغايات الآداء، ورأينا أن هذه الغايات ليست إلّا جزءًا من أجزاء المقام، وأن الأجزاء الأخرى من المقام يمكن جمعها من الظروف المحيطة بالمقال من متكلم وسامع أو سامعين واعتبارات اجتماعية وتاريخية وجغرافية وهلم جرا، وإن الذي ذكرناه تحت عنوان:"بعض عناصر المقام الأخرى" لم يكن فعلًا إلّا بعضًا من هذه العناصر، أما جمع كل العناصر فلا يتم إلّا مع التحليل الدقيق للظروف.

ويتضح لنا بهذا أن الثقافة الشعبية تشتمل على نماذج محددة من غايات الأداء التي تصلح كل غاية منها لأن تكون نقطة بداية لتحليل المقام، ولعل البلاغيين العرب حين تكلموا عن "مقتضى الحال" كانوا يقصدون شيئًا قريبًا مما أطلقنا عليه هنا "غاية الأداء"، ومن هنا يكون مقتضى الحال كما نفهمه جزءًا من المقام في فهمنا أيضًا وليس المقام كله. على أنه لا يمكن لنا أن ندعي مع هذا أن الثقافة الشعبية هي حاصل جمع طائفة عظيمة من المقامات. إن فهم الثقافة الشعبية بهذ الصورة خطأ فاحش؛ لأن الثقافة الشعبية مكمن العناصر التي تتكون منها المقامات حين ينضم بعض هذه العناصر إلى بعض، وإن الإمكانات العقلية التي تأتي من تأليف هذه العناصر بعضها مع بعض لا يمكن حصرها أبدًا، ومن ثَمَّ لا يمكن حصر المقامات الممكنة في ثقافة شعبية ما، والأمر الوحيد الذي يمكن الكلام فيه بشيء من الضبط هو نماذج المقامات وليس المقامات نفسها.

وكما أن للنبر نظامًا في إطار النظام الصرفي تصيبه الظواهر الموقعية في مجرى السياق الكلامي، وكما أن للتنغيم نظامًا في إطار النظام النحوي يخضع لمطالب السياق حين يرد فيه، وقد شرحنا ذلك من قبل، فكذلك غايات الأداء يصبح لكل غاية منها عبارات معيارية خاصة من الناحية النظرية، ولكن مطالب

ص: 370

الاستعمال ومناسبة المقام ربما تطلب نقل عبارة ذات غاية محددة إلى غاية أخرى، فمن ذلك مثلًا أننا أوردنا أمام عبارة "اسمع يا فلان" أنها يقولها الصديق للصديق، وهذا هو فعلًا موضعها في الخطاب العادي، ولكنها قد تتحوّل إلى غاية أخرى هي التهديد أو التقديم للنصح، وعبارة "لليمين در" قد تتحول من غايتها العسكرية المحددة إلى السخرية من شخص تطرده، وعبارة "رح لحالك" ربما تحولت عن غايتها العادية وهي الطرد إلى معنى غزلي هو التمنّع والدلال، وعبارة "مع السلامة" ربما تحولت عن غايتها العادية وهو الوداع إلى غاية أخرى هي السخرية عند الطرد، أو التعبير عن عدم الرغبة في الرؤية مرة أخرى. وقد تقال عبارة "خطوة عزيزة" للتأنيب على التأخر، ويمكن أن تقال عبارة "الناس كلهم عارفين أمانتك" عند السخرية من خيانة المخاطب، ويمكن في عبارة لا إله إلا الله" أن تقال للتأفف أو للذكر أو في الأذان، ويمكن في عبارة "مش عايز تكسب ثواب" أن تقال في السخرية عند الدعوة إلى أداء عمل إضافي يستحق عليه أجر ولكنه لا ينتظر دفعه، وكذلك عبارة "خياركم السابقون" يمكن أن تكون تعليقًا ساخرًا عند فصل موظف سيئ السمعة مع انتظار فصل آخرين على شاكلته، أما عبارة "يا سلام" فقد سبق أن ذكرنا ما يمكن لها من المعاني المختلفة باختلاف تنغيمها، وكل عبارات التعجب يمكن أن تتحوّل عن غايتها إلى السخرية أيضًا، ومثلها عبارات التهنئة أيضًا.

ومن تحويل غايات الأداء على المستوى النحوي أن الإثبات وهو خبر قد يحول إلى الشرط "الذي يأتيني فله درهم"، أو إلى إنشاء الدعاء نحو:"رحمه الله"، وأن النفي كذلك في "لا قدَّر الله"، وأن الاستفهام قد يتحول إلى التقرير نحو:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} أو إلى الإنكار نحو: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِين} وأن النداء قد يتحول إلى التعجب "يا عجبًا"، وكذلك الاستغاثة تتحوّل إلى التعجب نحو:"يا لله" وأن الأمر يتحوّل إلى الدعاء نحو: "اللهم ارحمه"، وأن الجملة تتحول من أصلية إلى فرعية فتكون صلة أو صفة أو خبرًا أو حالًا أو مضافًا إليه أو مقول قول. ولكن هذا التحول النحوي في غاية الأداء لا يعتبر من دراسة الدلالة، وإنما يعتبر من قبيل تعدد المعنى الوظيفي

ص: 371

الاستعمال ومناسبة المقام ربما تطلب نقل عبارة ذات غاية محددة إلى غاية أخرى، فمن ذلك مثلًا أننا أوردنا أمام عبارة "اسمع يا فلان" أنها يقولها الصديق للصديق، وهذا هو فعلًا موضعها في الخطاب العادي، ولكنها قد تتحوّل إلى غاية أخرى هي التهديد أو التقديم للنصح، وعبارة "لليمين در" قد تتحول من غايتها العسكرية المحددة إلى السخرية من شخص تطرده، وعبارة "رح لحالك" ربما تحولت عن غايتها العادية وهي الطرد إلى معنى غزلي هو التمنّع والدلال، وعبارة "مع السلامة" ربما تحولت عن غايتها العادية وهو الوداع إلى غاية أخرى هي السخرية عند الطرد، أو التعبير عن عدم الرغبة في الرؤية مرة أخرى. وقد تقال عبارة "خطوة عزيزة" للتأنيب على التأخر، ويمكن أن تقال عبارة "الناس كلهم عارفين أمانتك" عند السخرية من خيانة المخاطب، ويمكن في عبارة لا إله إلا الله" أن تقال للتأفف أو للذكر أو في الأذان، ويمكن في عبارة "مش عايز تكسب ثواب" أن تقال في السخرية عند الدعوة إلى أداء عمل إضافي يستحق عليه أجر ولكنه لا ينتظر دفعه، وكذلك عبارة "خياركم السابقون" يمكن أن تكون تعليقًا ساخرًا عند فصل موظف سيئ السمعة مع انتظار فصل آخرين على شاكلته، أما عبارة "يا سلام" فقد سبق أن ذكرنا ما يمكن لها من المعاني المختلفة باختلاف تنغيمها، وكل عبارات التعجب يمكن أن تتحوّل عن غايتها إلى السخرية أيضًا، ومثلها عبارات التهنئة أيضًا.

ومن تحويل غايات الأداء على المستوى النحوي أن الإثبات وهو خبر قد يحول إلى الشرط "الذي يأتيني فله درهم"، أو إلى إنشاء الدعاء نحو:"رحمه الله"، وأن النفي كذلك في "لا قدَّر الله"، وأن الاستفهام قد يتحول إلى التقرير نحو:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} أو إلى الإنكار نحو: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِين} وأن النداء قد يتحول إلى التعجب "يا عجبًا"، وكذلك الاستغاثة تتحوّل إلى التعجب نحو:"يا لله" وأن الأمر يتحوّل إلى الدعاء نحو: "اللهم ارحمه"، وأن الجملة تتحول من أصلية إلى فرعية فتكون صلة أو صفة أو خبرًا أو حالًا أو مضافًا إليه أو مقول قول. ولكن هذا التحول النحوي في غاية الأداء لا يعتبر من دراسة الدلالة، وإنما يعتبر من قبيل تعدد المعنى الوظيفي

ص: 372

ما معناه: ليس العبرة بما قيل، ولكن بالطريقة التي قيل بها.

ومغزى هذا أن المعنى الحرفي غير كافٍ لفهم ما قيل؛ لأنه قاصر عن إبداء الكثير من القرائن الحالية التي تدخل في تكوين المقام. وإن الكثير من نصوص تراثنا العربي قد جاء غامضًا؛ لأن الذين رووا هذه النصوص لم يعنوا بإيراد وصف كافٍ للمقام الذي أحاط بالنص، ومن ثَمَّ ينبغي لنا أن نبذل الجهد مضاعفًا عند التصدي لشرح هذه النصوص، حتى نستطيع إعادة بناء المقام بناء على أساس من التاريخ ومن علم النفس والمجتمع العربي القديم والاقتصاد القديم أيضًا، والمزاوجة بين كل أولئك بواسطة الخيال الخصب والعقل الثاقب النفاذ.

والله تعالى ولي التوفيق ومنه العون.

ص: 373