الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج المهلب في شرح الحديث وتفسيره:
لما كان من منهج المهلب في هذا النصيح أن يجمع الروايات والأسانيد في مكان واحد، فإنَّ ذلك قد أفاد القارئ فائدتين عظيمتين لا يمكن الكشف عنهما إلا بهذا الحشد والجمع، وهما:
معرفة علل الأسانيد، ومعرفة شرح الحديث ومعناه على الوجه الصحيح.
أما معرفة العلل:
فإن هذه المعرفة غير معرفة الصحيح من الضعيف، حتى لا يظن ظان أن هذا النوع غير موجود في صحيح البخاري، لاقتصار البخاري في كتابه على الصحيح، فإن العلة إنما تدخل على الحديث الصحيح.
قال أَبُوعبد الله الحاكم رحمه الله: وانما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعِلَّة الحديث يكثر في أحاديث الثقات، أن يحدثوا بحديث له علَّة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا، الحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير أهـ.
وقد أجمل الحاكم أوجه العلل في أحاديث الثقات فقال: فان المعلول ما يوقف على عِلَّتِه أنه دخل حديث في حديث، أو وهم فيه راو، أو أرسله واحد فوصله واهم اهـ وزاد غيره أوجهًا أخرى.
إلا أنه لا يمكن الكشف عن علة حديث ما إلا بجمع طرقه ومقارنة أسانيده وألفاظ رواته بعضها ببعض.
قال يحي بن معين: لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه (1).
(1) المدخل إلى الإكليل 14.
وقال ابن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه (1).
فاستفاد المهلب من جمعه للحديث الواحد معرفة علته، وحكم في كتابه هذا على حديث ابن عباس في المرأة التي ماتت وعليها قضاء فقضت عنها ابنتها، وعلى حديث رافع في المساقاة بالاضطراب، وعلله سندًا ومتنًا.
قال عن حديث رافع:
إِنَّ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ فِي كِرَاءِ الأَرْضِ مِن الاضْطِرَابِ فِي أَسَانِيدِهِ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَجِد الْبُخَارِيُّ رحمه الله بُدًّا مِنْ إِدْخَالِهِ بِاضْطِرَابِهِ لِيَتَدَبَّرَ أَهْلُ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ أَمْرَهُ سَنَدًا وَمَعْنَىً.
فَأَمَّا السَّنَدُ فَمَرَّةً حَدَّثَ رَافِعٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّةً عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرٍ بْنِ رَافِعٍ عَنْهُ، وَمَرَّةُ عَنْ عَمَّيْهِ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ أهـ
ولئن كان الشاذ في اصطلاح المتقدمين نوع آخر من غير جنس العلل كما فرق بينهما الحاكم أَبُوعبد الله في المعرفة فذكر الشاذ بعد العلل، إلا أن بينهما ارتباطًا وثيقًا من حيث كون الشاذ لا يكون إلا في الحديث الصحيح، وطريق معرفة الشاذ هي طريق معرفة الحديث المعلل.
وقد رد المهلب ألفاظا عديدة في الصحيح بحجة الشذوذ، كلفظة القضاء الواردة في حديث ابن شهاب، وحديث هشام بن حسان في المتلاعنين، ولفظة محمود بن غيلان في الصلاة على المحدود، وحديث سعيد بن عبيد في القسامة وهمه في ألفاظه الثلاثة، وفي حساب تركة الزبير، ولم يضف الوهم فيه لأحد، وغير ذلك إنما أردت التمثيل.
(1) مقدمة ابن الصلاح: ص 82
وبعض ما يحكم عليه المهلب من الشذوذ مصيب فيه، وبعضه محل نزاع.
وأما معرفة شرح الحديث ومعناه:
فإنَّ المعرفة الأولى مفيدة جدا في شرح الحديث، إذ كانت جسارة المهلب تحمله على رد الألفاظ التي يحكم بشذوذها أو اضطرابها، قانعًا بالألفاظ الصحيحة التي يتفق عليها عامة الرواة، وإن كان بعض الشراح المتأخرين يميل دائمًا للجمع بين الألفاظ ولو بالتعسف الشديد، واللي المستكره أحيانًا، والحافظ ابن حجر في شرحه يجمع بين القولين، قول من وفق بينهما على تكلف ومن رد لفظًا وقنع بآخر، لكنه لا يختار أحيانًا بين الأقوال التي ينقلها.
فهذه السمة الأولى من سمات منهج المهلب في شرح الحديث.
والسمة الثانية وهي مهمة جدًا، وجدتها بينةً في كتابه، لم أرها على هذا البيان في كتاب آخر، وذلك أن المهلب يفسر الحديث بالحديث، فالرواية في صحيح البخاري يبحث عن تفسيرها في رواية أخرى في الصحيح، وهذا المنهج قد طربت له كثيرًا، ورأيته أصلحَ المناهج في تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمها، فإنَّ الروايات يفسر بعضها بعضًا، بمثابة تفسير القرآن بالقرآن، فإنَّ القراءات سواء المتواتر منها أو ما يسمى بالقراءات التفسيرية أو حتى ما يطلق عليها بالشاذة تفسر القرآن، وخير ما فسر به القرآن القرآن.
ليس عبثًا ولا تقطيعًا للحديث حينما يفرق المهلب بين أجزاء الحديث الواحد بألفاظ رواته، وقد يضيق صدر الجاهل أحيانًا بهذا التقطيع إلا انه للعالم بردًا وسلامًا.
انظر إلى المهلب كيف يفسر حديث البخاري بحديث البخاري، ويحمل متشابه الألفاظ على محكمها:
قال البخاري: نا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ نا زَائِدَةُ عَنْ عُبَيْدِالله، ونا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا.
وقال زائدة: قَسَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا.
فقَالَ المهلب:
فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ.
ويستفيد كذلك تعيين المبهمين:
قال البخاري: نا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ ومُسَدَّدٌ نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ نا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ.
فأعقبه المهلب بالقول:
وخرجه في باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه مفسرا، فقال البخاري: نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ نا عَبْدُ الْوَهَّابِ نا أَيُّوبُ ذُكِرَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَمَلَ قُثَمًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ، أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَيُّهُمْ شَرٌّ وَأَيُّهُمْ خَيْرٌ.
وتظهر لك نجاعة هذا المنهج في تفسير الرواية بالرواية في كتاب الحج، وكيف رتبه المهلب وفسر ألفاظه من ألفاظه، وأزعم أن ترتيبه لكتاب المناسك شرح للكتاب على حياله، فمن ارتاب فيما أقول فلينظر فيه أولًا.
وقد صرح هو فيه بمنهجه في تفسير الأحاديث وأنه يرتب الألفاظ على مواطنها وأوقاتها، ويجمع الروايات، ويركب الألفاظ على المواطن.
قَالَ الْمُهَلَّبُ:
إن هذا الحديث من الإشكال بحيث قد اعتمد (!) على حفاظ النقل وأئمة الفقه مساق نصه وتأويله، حتى تكلف كثير من العلماء المتقدمين تأليف الكتب والدواوين في اختلاف نصوصه واضطراب ألفاظه، رغبة منهم رحمهم الله في تلخيص سبيله والتسيب إلى تأويله.
فمنهم من وقف اضطراب ألفاظه على أمنا عائشة رضي الله عنها، ومنهم من جعل ذلك من قبل ضبط الرواة عنها على قدر تقدم المتقدم منهم في الحفظ والضبط وتأخره، وهذا الوجه كان آدب وأقرب، لولا أن الله بفضله قد فتح لنا في تصحيح معناه على نصه بترتيبه على مواطنه وأوقات إخبارها عنه صلى الله عليه وسلم من جمع الروايات فيه، وتركيبها على لفظه في المواطن التي ابتدأ الإحرام فيها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر به من لم يسق الهدي، إذ أوحى الله عز وجل إليه بتجويز الاعتمار في أشهر الحج، فسحة منه تعالى لهذه الأمة، ورمة لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، ومنع عز وجل في كتابه من إحلال الهدي بقوله عز وجل {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ} فأمر عليه السلام من لم
يكن معه هدي بالإحلال بعمرة ليُريَ أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله عليهم بها عيانًا، عملًا بحضرته صلى الله عليه وسلم لا خبرًا.
فأوجب الاعتبار للأحاديث وصحح النظر في إحرامه أولًا وفيما أمر به آخرًا تخليص المعنى من الاشكال بحمد الله كما نشير إليه من ترتيب ذلك على المواطن في هذا الباب إنشاء الله عز وجل، ولم نستغن عن تكرير الحديث، لكثرة من رواه من الصحابة رضي الله عنهم مع أم المؤمنين رضي الله عنها، لما في نصوص أحاديثهم من موافقة هذا الترتيب بحديث عائشة، والشاهد على صحته، وتصديق الترتيب فيه، والتأويل فيه.
ثم طفق سوقًا للأحاديث وقرنًا للألفاظ المجملة بالمبينة.
وأما حديث البخاري: «إِنَّ الله لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .
فلم يجد تفسيره في صحيح البخاري فراغ إلى بحر السنة الزخار وقال:
قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لِقَيْلَةَ بنتِ مَخْرَمَةَ الوافدة عليه، حين ذكرت ولدا لها قاتل معه عليه السلام يوم الربذة، ومات بخيبر، فبكت عليه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«لَوْ لم تَكُونِي مِسْكِينَةً لجَرَرْنَاكِ اليَوْمَ عَلَى وَجْهكِ، أَيُغْلَبُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُصَاحِبَ صُوَيْحِبَهُ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، فَإِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَنْ هُوَ أَوْلى بِهِ اسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ: رَبِّ آسِنِي مَا أَمْضَيْتَ، وَأَعِنِّي عَلَى مَا أَبْقَيْتَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ أَحَدَكُم لَيَبْكِي، فَيَسْتَعِيرُ إليه صُوَيْحِبَهُ، فَيَا عِبَادَ الله لا تُعَذِّبُوا إِخْوَانَكُم»
حَدَّثَنَا بِهِ .. ثم ساق إسناده.
وبعد، فإن تفسير الحديث بالحديث طريقة الحفاظ والمحدثين، ومنهج الإمام البخاري رحمه الله في شرح السنة.
قال في صحيحه:
نا سَعِيدُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ نا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» .
قال: هَذَا تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْأَوَّلِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ، كَمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ بِلَالٌ: قَدْ صَلَّى، فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلَالٍ، وَتُرِكَ قَوْلُ الْفَضْلِ أهـ.
والحافظ ابن حجر أكثر الشراح اعتمادًا على هذه الطريقة وأخذًا بها، ولذلك نبل شرحه وكمل، والله أعلم.