الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حمدان قلعة ماردين، سلمها إِليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كل ما لأخيه فيها من مال وسلاح.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فيها وصل الدمستق إلى جهة ميافارقين، فنهب واستهان بالمسلمين، فجهز أبو تغلب بن ناصر الدولة، أخاه هبة الله بن ناصر الدولة، في جيش، فالتقوا مع الدمستق، فانهزمت الروم، وأخذ الدمستق أسيراً، وبقي في الحبس عند أبي تغلب، ومرض فعالجه أبو تغلب، فلم ينجع فيه، ومات الدمستق في الحبس.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة استوزر عز الدولة، بختيار، محمد بن بقية، فعجب الناس. من ذلك، لأن ابن بقية كان رضيعاً في نفسه من أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزراعين. وفي هذه السنة حصلت الوحشة بين بختيار وبين أصحابه من الديلم والأتراك.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
خلع المطيع وخلافة ابنه الطايع
كان بختيار قد سار إِلى الأهواز، وتخلف سبكتكين التركي عنه ببغداد، فأوقع بختيار بمن معه من الأتراك، واحتاط على إِقطاع سبكتكين، فخرج عليه سبكتكين ببغداد فيمن بقي معه من الأتراك، ونهب دار بختيار ببغداد؛ ولما حكم سبكتكين، رأى المطيع عاجزاً من المرض، وقد ثقل لسانه، وتعذرت الحركة عليه، وكان المطيع يستر ذلك، فلما انكشف لسبكتكين، دعاه إِلى أن يخلع نفسه من الخلافة، ويسلمها إِلى ولده الطايع، فأجاب إِلى ذلك، وخلع المطيع لله المفضل نفسه، في منتصف ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام.
وبويع الطايع لله وهو رابع عشرينهم، واسمه عبد الكريم بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد أحمد، وكنية الطايع المذكور أبو بكر، واستقر أمره.
أحوال المعز العلوي وفي هذه السنة سارت القرامطة إِلى ديار مصر، وجرى بينهم وبين المعز حروب، آخرها أن القرامطة انهزمت، وقتل منهم خلق كثير، وأرسل المعز في أثرهم عشرة آلاف فارس، فسارت القرامطة إِلى الإِحساء والقطيف، ولما انهزمت القرامطة وفارقوا الشام، أرسل المعز لدين الله القائد ظالم بن موهوب العقيلي إِلى دمشق فدخلها، وعظم حاله وكثرت جموعه. ثم وقع بين أهل دمشق والمغاربة وعاملهم المذكور فتن كثيرة، وأحرقوا بعض دمشق، وعامت الفتن بينهم إِلى سنة أربع وستين وثلاثمائة.
حال بختيار لما جرى لبختيار وسبكتكين والأتراك ما ذكرناه، انحدر سبكتكين بالأتراك إِلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطايع، والمطيع وهو مخلوع، فمات المطيع بدير العاقول، ومرض سبكتكين ومات أيضاً، وحملا إِلى بغداد، وقدم الأتراك عليهم أفتكين وهو من أكابر قوادهم، وساروا إِلى واسط، وبها بختيار، فنزلوا قريباً منه، ووقع القتال بين الأتراك وبختيار قريب خمسين يوماً، والظفر للأتراك ورُسُل بختيار متتابعة إِلى ابن عمه عضد الدولة، بالحث والإسراع، وكتب إِليه:
فإِن كنتُ مأكولاً فكن أنت آكلي
…
وإلا فأدركني ولما أمزق
فسار عضد الدولة إِليه، وخرجت هذه السنة والحال على ذلك. وفي هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن قره، وابتدأه من خلافة المقتدر، سنة خمس وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة.
استيلاء عضد الدولة على العِراق والقبض على بختيار، في هذه السنة سار عضد الدولة بعساكر فارس، لما أتاه مكاتبات بختيار كما ذكرناه، فلما قارب واسط، رجع أفتكين والأتراك إِلى بغداد، وصار عضد الدولة من الجانب الشرقي، وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي إِلى نحو بغداد، وخرجت الأتراك من بغداد، وقاتلوا عضد الدولة، فانهزمت الأتراك وقتل بينهم خلق كثير، وكانت الوقعة بينهم رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وسار عضد الدولة فدخل بغداد، وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم، فرده عضد الدولة إِلى بغداد، فوصل الخليفة إِلى بغداد في الماء، ثامن رجب من هذه السنة.
ولمّا استقر عضد الدولة ببغداد، شغبت الجند على بختيار يطلبون أرزاقهم، ولم يكن قد بقي مع بختيار شيء من الأموال، فأشار عضد الدولة على بختيار أن يغلق بابه، ويتبرأ من الإمرة، ليصلح الحال مع الجند. ففعل بختيار ذلك، وصرف كتابه وحجابه، فأشهد عضد الدولة الناس على بختيار، أنه عاجز وقد استعفى من الإمرة، عجزاً عنها، ثم استدعى عضد الدولة بختيار وأِخوته إِليه، وقبض عليهم في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، واستقر عضد الدولة ببغداد، وعظم أمر الخليفة وحمل إِليه مالاً كثيراً وأمتعة.
عود بختيار إلى ملكه لما قبض بختيار، كان ولده المرزبان بالبصرة متولياً لها، فلما بلغه قبض والده كتب إِلى ركن الدولة يشكو إليه ذلك، فلما بلغ ركن الدولة ذلك، عظم عليه حتى ألقى نفسه إلى الأرض، وامتنع عن الأكل والشرب، حتى مرض
وأنكر على عضد الدولة أشد الإِنكار. فأرسل عضد الدولة يسأل أباه في أن يعوض بختيار مملكة فارس، فأراد ركن الدولة قتل الرسول وقال: إِن لم يعد بختيار إِلى مملكته وإلا سرت إِليه بنفسي، وكان قد سيّر عضد الدولة أبا الفتح بن العميد إِلى والده ركن الدولة أيضاً، في تلطيف الحال، فرده ركن الدولة أقبح رد، فلما رأى عضد الدولة اضطراب الأمور عليه بسبب غضب أبيه، اضطر إلى امتثال أمره، فأخرج بختيار من محبسه، وخلع عليه، وأعاده إِلى ملكه وسار عضد الدولة إِلى فارس في شوال من هذه السنة.
استيلاء أفتكين على دمشق كان أفتكين من موالي معز الدولة بن بويه، وكان تركياً، فلما انهزم من بختيار عند قدوم عضد الدولة، حسبما ذكرناه، سار إلى حمص، ثم إِلى دمشق، وأميرها ريان الخادم، من جهة المعز العلوي فاتفق أهل دمشق مع أفتكين وأخرجوا ريان الخادم، وقطعوا خطبة المعز في شعبان، واستولى أفتكين على دمشق، فعزم المعز العلوي على المسير من مصر إِلى الشام لقتال أفتكين، فاتفق مرت المعز في تلك الأيام على ما نذكره وتولى ابنه العزيز، فجهز القائد جوهراً إِلى الشام. فوصل إلى دمشق وحصر أفتكين بها فأرسل أفتكين إِلى القرامطة فساروا إِلى دمشق، فلما قربوا منها رحل جوهر عائداً إلى جهة مصر فسار أفتكين والقرامطة في أثره، واجتمع معهم خلق عظيم فلحقوا جوهراً قرب الرملة، فرأى جوهر ضعفه عنهم، فدخل عسقلان، فحصروه بها حتى أشرف جوهر وعسكره على الهلاك من الجوع، فراسل جوهر أفتكين، وبذل له أموالاً عظيمة في أن يمن عليه ويطلقه، فرحل عنه أفتكين.
وسار جوهر إِلى مصر، وأعلم العزيز بصورة الحال، فخرج العزيز بنفسه وسار إِلى الشام، فوصل إِلى ظاهر الرملة، وسار إِليه أفتكين والقرامطة، والتقوا، وجرى بينهم قتال شديد، وانهزم أفتكين والقرامطة، وكثر فيهم القتل والأسر، وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، وتم أفتكين هارباً حتى نزل ببيت مفرج بن دغفل الطائي فأمسكه مفرج بن دغفل المذكور، وكان صاحب أفتكين، وحضر مفرج إلى العزيز وأعلمه بأسر أفتكين، وطلب منه المال فأعطاه ما ضمنه، وأرسل معه من أحضر أفتكين، فلما حضر أفتكين ممسوكاً بين يدي العزيز أطلقه ونصب له خيمة، وأطلق من كان في الأسر من أصحابه، وحمل العزيز إِليه أموالاً وخلعاً، ثم عاد العزيز إِلى مصر وأفتكين صحبته، على أعظم ما يكون من المنزلة، وبقي كذلك حتى مات أفتكين بمصر.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة.
وفاة المعز العلوي وولاية ابنه العزيز في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إِسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي عبيد الله العلوي الحسيني بمصر، في سابع عشر ربيع الأول وولد بالمهدية من إِفريقية، حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة فيكون
عمره خمساً وأربعين سنة وستة أشهر تقريباً، وكان مغواً بالنجوم، ويعمل بأقوال المنجمين، وكان فاضلا، ولما مات المعز أخفى العزيز ابنه موته، وأظهره في عيد النحر من هذه السنة، وبايعه الناس.
غير ذلك من الحوادث
في أواخر هذه السنة وأول التي بعدها سار أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين أمير صقلية إِلى الغزوة ففتح مدينة مسينة ثم عدى إِلى كتنه ففتحها، وفتح قلعة جلوى وبث سراياه في نواحي قلورية، وغنم وسبى وفتح غير ذلك من تلك البلاد. وفيها خطب للعزيز العلوي بمكة. وفيها توفي ثابت بن سنان ابن قرة الصابي صاحب التاريخ. وفيها وقيل بل في سنة ست وستين وثلاثمائة، وقيل في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة توفي أبو بكر واسمه محمد بن علي بن إِسماعيل القفال الشاشي الفقيه الشافعي إِمام عصره، لم يكن بما وراء النهر في وقته مثله، رحل إِلى العراق والشام والحجاز، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وروى عن محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وروى عنه الحاكم بن منده، وجماعة كثيرة، وأبو بكر القفال المذكور، هو والد قاسم صاحب كتاب التقريب، الذي ينقل عنه في النهاية والوسيط والبسيط، وذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، كنه قال أبو القاسم، وهو غلط، وصوابه القاسم وهذا التقريب غير التقريب الذي لسليم الرازي، فإِن التقريب الذي للقاسم بن القفال الشاشي قليل الوجود، بخلاف تقريب سليم الرازي. والشاشي منسوب إِلى الشاش، وهي مدينة وراء نهر سيحون في أرض الترك، وأبو بكر محمد الشاشي المذكور، غير أبي بكر محمد الشاشي صاحب العمدة، والكتاب المستظهري الذي سنذكره إِن شاء الله تعالى في سنة سبع وخمس مائة المتأخر عن الشاشي القفال المذكور.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة.
وفاة ركن الدولة وملك عضد الدولة في هذه السنة في المحرم، توفي ركن الدولة الحسن بن بويه، واستخلف على مماليكه ابنه عضد الدولة، وكان عمر ركن الدولة قد زاد على سبعين سنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سنة، وأصيب به الدين والدنيا جميعاً لاستكمال خلال الخير فيه، وعقد لولده، فخر الدولة على همدان، وأعمال الجبل، لولده مزيد الدولة على أصفهان وأعمالها، وجعلهما تحت حكم أخيهما عضد في هذه البلاد.
مسير عضد الدولة إِلى العراق وفيها بعد وفاة ركن الدولة، سار عضد الدولة إِلى العراق، فخرج بختيار إِلى قتاله، فاقتتلا بالأهواز، وخامر أكثر جيش بختيار عليه، فانهزم بختيار إِلى واسط، وبعث عضد الدولة عسكراً فاستولوا على البصرة، ثم سار بختيار إِلى بغداد، وسار عضد الدولة إلى البصرة، وتلك النواحي، وقرر أمورها،
واستمر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة.
ابتداء دولة آل سبكتكين وفي هذه السنة ملك سبكتيكين مدينة غزنة. وكان سبكتكين من غلمان أبي إِسحاق بن البتكين، صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان سبكتكين مقدماً عند مولاه أبي إِسحاق، لعقله وشجاعته، فلما مات أبو إِسحاق ولم يكن له ولد، اتفق العسكر وولوا سبكتكين عليهم لكمال صفات الخير فيه، وحلفوا له وأطاعوه، ثم إِن سبكتكين عظم شأنه وارتفع قدره وغزا بلاد الهند واستولى على بُسْت وفصْدار.
غير ذلك من الحوادث فيها مات منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف شوال، في بخارى، وكانت ولايته نحو خمس عشرة سنة، وولي الأمر بعده ابنه نوح بن منصور، وعمره نحو ثلاث عشرة سنة وفيها مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي، قاضي قضاة الأندلس، وكان إِماماً فقيهاً خطيباً شاعراً ذا دين متين، وفيها قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل عينه الواحدة، وقطع أنفه، وكان أبو الفتح ليلة قبض، قد أمسى مسروراً، وأحضر ندماءه، وأظهر من الآلات الذهبية والزجاج المليح، وأنواع الطيب، ما ليس لأحد مثله، وشربوا وعمل شعراً، وغني له به وهو:
دعوت المنى ودعوتُ العلى
…
فلما أجابا دعوتُ القَدَح
وقلت لأيام شرخ الشبابِ
…
إِلي فهذا أوان الفرح
إِذا بلغ المرء آماله
…
ليس له بعدها مقترح
فطاب عليه وشرب حتى سكر ونام، فقبض عليه في السحر من تلك الليلة.
وفاة الحكم الأموي صاحب الأندلس الملقب بالمستنصر
في هذه السنة. توفي الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، صاحب الأندلس وكانت إِمارته خمسٍ عشرة سنة، وخمسة أشهر، وعمره ثلاثاً وستين سنة وسبعة أشهر، وكان فقيهاً عالماً بالتاريخ، وغيره، وعهد إِلى ابنه هشام بن الحكم، وعمره عشر سنين ولقبه المؤيد بالله فلما مات بايع الناس ابنه هشاماً، ولما بويع المؤيد هشام بالخلافة، وكان عمره عشرة أعوام، فتولى حجابته وتنفيذ أموره أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد ابن الوليد بن يزيد المعافري
القحطاني، ويلقب أبو عامر المذكور، بالمنصور، واستولى على الدولة وحجب المؤكد، ولم يترك أحداً يصل إِليه ولا يراه واستبد بالأمر، وأصل المنصور بن أبي عامر المذكور من الجزيرة الخضراء من الأندلس، من قرية من أعمالها تسمى طرش، واشتغل المنصور بالعلوم في قرطبة وكانت له نفس شريفة، فبلغ معالي الأمور، واجتمعت عنده الفضلاء وأكثر الغزو والجهاد في الفرنج، حتى بلغت عدة غزواته نيفاً وخمسين غزوة، ومن عجائب الاتفاقات أن صاعد بن الحسن اللغوي، أهدى إِلى المنصور المذكور أيلاً مربوطاً في رقبته بحبل، وأحضر مع الأيل أبياتاً يمتدح المنصور فيها، وكان المنصور قد أرسل عسكراً لغزو الفرنج، وملكهم إِذ ذاك اسمه غرسية بن سانجة، والأبيات كثيرة منها:
عبد نشلت بضبعه وعرسته
…
في نعمة أهدى إليك بأيل
سمته غرسية وبعثته
…
في حبله ليتاح فيه تفاؤلي
فلأن قبلت فتلك أسنى نعمة
…
أسدى بها ذو منحة وتطول
فقضى الله في سابق علمه، أن عسكره أسروا غرسية في ذلك اليوم الذي أُهدي فيه الأيل بعينه، وكان أسر غرسية. وهذه الواقعة في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وبقي المنصور على منزلته حتى توفي في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
عود شريف إلى ملك حلب فيها عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة إِلى ملك حلب، وسببه أنه لما جرى بين قرعويه وبين أبي المعالي ما قدمنا ذكره من استيلاء قرعويه على حلب، ومقام أبي المعالي بحماة، وصل إِلى أبي المعالي وهو بحماة، مارقطاش مولى أبيه من حصن برزية وخدمه وعمر له مدينة حمص، بعد ما كان قد أخربها الروم، وكان لقرعويه مولى يقال له بكجور وقد جعله قرعويه نائبه، فقوي بكجور واستفحل أمره، وقبض على مولاه قرعويه، وحبسه في قلعة حلب، واستولى بكجور على حلب وكاتب أهلها أبا المعالي، فسار أبو المعالي إِلى حلب، وأنزل بكجور بالأمان، وحلف له أنه يوليه حمص، فنزل بكجور وولاه أبو المعالي حمص، واستقر أبو المعالي مالكاً لحلب.
غير ذلك في هذه السنة توفي بهستون بن وشمكير بجرجان، واستولى على طبرستان وعلى جرجان أخره قابوس بن وشمكير بن زيار. وفيها توفي يوسف بن الحسن الجنابي القرمطي صاحب هجر، ومولده سنة ثمانين ومائتين، وتولى أمر القرامطة بعده سنة نفر شركة، وسموا السادة.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة.
استيلاء عضد الدولة على العراق وغيره وقتل بختيار وفي هذه السنة سار عضد الدولة إِلى العراق. وكتب إِلى بختيار يقول له اخرج عن هذه البلاد، وأنا أعطيك أي بلاد اخترت غيرها. فمال بختيار إِلى ذلك، وأرسل له عضد الدولة خلعة فلبسها، وسار بختيار إلى نحو الشام، ودخل عضد الدولة بغداد واستقر فيها، وقتل ابن بقية وزير بختيار وصلبه، ورثاه أبر الحسن الأنباري بقصيدته المشهورة التي منها:
علو في الحياة وفي الممات
…
لحق أنت إِحدى المعجزات
كأن الناسَ حولك حين قاموا
…
وفود نداك أيام الصلات
مَدَدْتَ يديكَ نحوهم اقتفاء
…
كمدهما إِليهم في الهباتِ
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
…
يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا
…
الأكفان ثوب السافياتِ
لعظمك في النفوس تبيتُ ترعى
…
بحراس وحفاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلا
…
كذلك كنت أيام الحياةِ
وسار مع بختيار، حمدان بن ناصر الدولة، فأطمعه حمدان في ملك الموصل، وحسن له ذلك، وهون عليه أمر أخيه أبي تغلب، فسار بختيار إِلى جهة الموصل، فأرسل أبو تغلب يقول لبختيار: إِن سلمت إِليّ أخي حمدان، صرت معك وقاتلت عضد الدولة، وأخرجته من العراق، فقبض بختيار على حمدان، وحبله وسلمه إِلى أخيه أبي تغلب، وارتكب فيه من الغدر أمراً شنيعاً، فحبسه أخوه أبو تغلب واجتمع أبو تغلب بعساكره مع بختيار، وقصدا عضد الدولة، فخرج عضد الدولة من بغداد نحوهما، والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت، ثامن شوال من هذه السنة، فهزمهما عضد الدولة وأمسك بختيار أسيراً فقتله، ثم سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها وهرب أبو تغلب إِلى نحو ميافارقين، فأرسل عضد الدولة جيشاً في طلبه ومقدمهم أبو الوفاء فلما وصلوا إِلى ميافارقين هرب أبو تغلب إلى بدليس، وتبعه عسكر عضد الدولة، فهرب إلى نحو بلاد الروم. فلحقه العسكر، وجرى بينهم قتال، فانتصر أبو تغلب وهزم عسكر عضد الدولة، ثم سار أبو تغلب إِلى حصن زياد، ويعرف الآن بخرت برت، ثم سار إلى آمد، وأقام بها، وفيها توفي ظهير الدولة بهستون ابن وشمكير، وملك بعده أخوه شمس المعالي قابوس بن وشمكير.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة البغدادي، وكان قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد، وكان إِحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ وأملح سجَع. وكان مختصاً بصحبة الوزير المهلبي، وكان رؤساء العصر يلاعبونه ويكتبون إِليه المسائل المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف، وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له الأسئلة الهزلية
ليجيب عنها، فمن ذلك ما كتب إليه به العباس بن المعلى الكاتب، ما يقول القاضي وفقه الله تعالى، في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولداً جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب الجواب بديهاً: هذا من أعدل الشهود على اليهود، بأنهم شربوا العجل في صدورهم فخرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض وينادى عليهما، ظلماتٌ بعضها فوق بعض والسلام. والسندية: قرية على نهر عيسى، بين بغداد والأنبار، وينسب إِليها سندواني، ليحصل الفرق بين النسبة إِليها وبين النسبة إِلى بلاد السند.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة فيها فتح أبو الوفا مقدم عسكر عضد الدولة ميافارقين بالأمان، فلما سمع أبو تغلب بفتحها، سار عن آمد نحو الرحبة، ثم سار عسكر عضد الدولة مع أبي الوفاء، ففتحوا آمد واستولى عضد الدولة على جميع ديار بكر، ثم استولى على ديار مضر - بالضاد المعجمة - والرحب، ولما استولى عضد الدولة على جميع مملكة أبي تغلب، واستخلف أبا الوفاء على الموصل، وسار عضد الدولة ودخل بغداد. وأما أبو تغلب فإنه سار إِلى دمشق، وكان قد تغلب على دمشق قسام وهو شخص كان يثق إِليه أفتكين ويقدمه، فاستولى قسام على دمشق، وكان يخطب فيها للعزيز صاحب مصر، فلما وصل أبو تغلب إِلى دمشق، قاتله قسام ومنعه من دخول دمشق، فسار أبو تغلب إلى طبرية.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه، وكان فاضلا فقيهاً مهندساً منطقياً وعمره أربع وثمانْون سنة، وولي بعده أبو محمد بن معروف، الحكم بالجانب الشرقي ببغداد.
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة.
مقتل أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان كان أبو تغلب قد سار عن دمشق إِلى طبرية، كما ذكرناه، ثم سار إِلى الرملة في المحرم من هذه السنة، وكان بتلك الجهة دغفل بن مفرج الطائي، وقائد من قواد العزيز اسمه الفضل، ومعه عسكر قد جهزه العزيز إِلى الشام، فساروا لقتال أبي تغلب، ولم يبق مع أبي تغلب غير سبع مائة رجل من غلمانه، وغلمان أبيه، فولى أبو تغلب منهزماً، وتبعوه فأخذوه أسيراً، فقتله دغفل وبعث برأسه إِلى العزيز بمصر، وكان معه أخته جميلة بنت ناصر الدولة، وزوجته بنت عمه سيف الدولة، فحملهما بنو عقيل إلى حلب، وبها ابن سيف الدولة فترك أخته عنده، وأرسل جميلة بنت ناصر الدولة إِلى بغداد، فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة.
وفاة عمران بن شاهين صاحب البطيحة وأخباره وولاية ابنه الحسن بن عمران كان عمران بن شاهين من أهل بلدة تسمى الجامدة، فجنى جنايات وخاف من السلطان فهرب إِلى البطيحة، وأقام بين القصب والآجام، واقتصر على ما يصيده من السمك وطيور الماء، واجتمع إليه جماعة من الصيادين واللصوص، فقوي بهم، فلما استفحل أمره واشتدت شوكته، اتخذ له معاقل على التلال التي بالبطيحة، وغلب على تلك النواحي واستولى عليها في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة في أيام معز الدولة، فأرسل إِلى قتاله معز الدولة العسكر مرة ثم أخرى، فلم يظفر به، ومات معز الدولة وعسكره محاصر عمران المذكور، وتولى بختيار، فأمر العسكر بالعود إِلى بغداد، فعادوا ثم جرى بين بختيار وبين عمران عدة حروب، فلم يظفر منه بشيء، وطلبه الملوك والخلفاء، وبذلوا جهدهم بأنواع الحيل، فلم يظفروا منه بشيء ومات في مملكته في هذه السنة، في المحرم فجأة حتف أنفه، وكانت مدة ولايته من حين ابتداء أمره، قريب أربعين سنة، ولما مات تولى مكانه على البطيحة ابنه الحسن بن عمران بن شاهين، فطمع فيه عضد الدولة، وأرسل إِليه عسكراً، ثم اصطلحوا على مال يحمله الحسن بن عمران إِلى عضد الدولة في كل سنة.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار عضد الدولة إِلى بلاد أخيه فخر الدولة، لوحشة جرت بينهما، فهرب فخر الدولة، ولحق بشمس المعالي قابوس بن وشمكير، فأكرمه قابوس إِلى غاية ما يكون، وملك عضد الدولة بلاد أخيه فخر الدولة علي، وهي همدان والري وما بينهما من البلاد، ثم سار عضد الدولة إِلى بلاد حسنويه الكردي فاستولى عليها أيضاً، ولحق عضد الدولة في هذه السفرة صرع، فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إِلا بعد جهد، وكتم ذلك أيضَاً، وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد.
وفي هذه السنة أرسل عضد الدولة جيشاً إِلى الأكراد الهكارية، من أعمال الموصل، فأوقع بهم وحاصرهم، فسلموا قلاعهم إِليه، ونزلوا مع العسكر إِلى الموصل، وفيها تزوج الطائع لله ابنة عضد الدولة. وفيها توفي الحسين بن زكريا اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، وغيره. وفيها توفي ثابت بن إِبراهيم الحرافي المتطبب الصابي، وكان حاذقَاً في الطب.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة فيها توفي الأحدب المزور، كان يكتب على خط كل أحد، فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه، وكان عضد الدولة يوقع بخطه بين الملوك الذين يريد الإِيقاع بينهم، بما يقتضيه الحال في الإفساد بينهم. وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن، فيها قطعة واحدة من العنبر، وزنها ستة وخمسون رطلاً بالبغدادي.
وفيها توفي الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد بن
الأزهر بن طلحة اللغوي الإمام المشهور، كان فقيهاً شافعي المذهب فغلبت عليه اللغة، واشتغل بها، وصنف في اللغة كتاب التهذيب، ويكون أكثر من عشرة مجلدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء. وولد سنة اثنتين وثمانين ومائتين، والأزهري منسوب إِلى جده الأزهر.
ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين وثلاثمائة وفيها استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير ومعه فخر الدولة علي أخو عضد الدولة، وكان ذلك بسبب أن عضد الدولة، طلب من قابوس أن يسلم إليه أخاه فخر الدولة علياً، فامتنع قابوس عن ذلك. وفيها قبض عضد الدولة على القاضي المحسن بن علي التنوخي الحنفي، وكان شديد التعصب على الشافعي، يطلق لسانه فيه. وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إِسحاق إِبراهيم الصابي، وكان قد قبض عليه سنة سبع وستين بسبب أنه كان ينصح في المكاتبات لصاحبه بختيار، وهذا من العجب فإنه ما ينبغي أن تجعل مناصحة الإنسان لصاحبه وعدم مخامرته ذنباً. وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري، المعروف بابن الباقلاني، إِلى ملك الروم في جواب رسالة وردت عليه منه. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل الإِسماعيلي، الفقيه الشافعي الجرجاني، والإمام محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالحديث وغيره، وروى صحيح البخاري عن الفريري.
ثم دخلت سنة اثنتين وسيعين وثلاثمائة في هذه السنة سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر، جيشاً مع بكتكين إِلى الشام، فوصلوا إِلى فلسطين، وكان قد استولي عليها مفرج بن الجراح، وكثر جمعه، فجرى بينهم قتال شديد، فانهزم ابن الجراح وجماعته، وكثر القتل والنهب فيهم، ثم سار بكتكين إِلى دمشق، فقاتله قسام المتولي عليها، فغلبه بكتكين وملك دمشق، وأمسك قساماً وأرسله إِلى العزيز بمصر، واستقر بدمشق وزالت الفتن.
وفاة عضد الدولة في ثامن شوال من هذه السنة، مات عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه، بمعاودة الصرع مرة بعد أخرى، وحمل إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدفن به، وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً، وكان عمره سبعاً وأربعين سنة، وقيل إِنه لما احتضر لم ينطق لسانه إِلا بتلاوة " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " وكان عاقلا فاضلا، حسن السياسة شديد الهيبة، وهو الذي بنى على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سوراً، وله شعر فمنه أبيات منها بيت لم يفلح بعده والأبيات هي:
ليس شرب الراح إِلا في المطر
…
وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى
…
ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزاتُ الكأس من مطلعها
…
ساقياتُ الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها
…
ملك الأملاك غلابُ القدر
وكان عضد الدولة محباً للعلوم وأهلها، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب، منها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات والملكي في الطب، والتاجي في تاريخ الديلم. وغير ذلك، ولما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده. كاليجار المرزبان، فبايعوه، وولوه الإمارة ولقبوه صمصام الدولة، وكان أخوه شرف الدولة شيرزبك بن عضد الدولة بكرمان، فلما بلغه موت أبيه سار إِلى فارس وملكها، وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة.
غير ذلك من الحوادث فيها قَتَل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين أخاه الحسن بن عمران صاحب البطيحة، واستولى أبو الفرج عليها.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وفي هذه السنة توفي مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه بالخوانيق، وكان قد أقره أخوه عضد الدولة على ما كان بيده، وزاد عليه مملكة أخيهما فخر الدولة، وكان عمر مؤيد الدولة ثلاثاً وأربعين سنة، وكان أخوه فخر الدولة علي، مع قابوس بن وشمكير بن زيار كما ذكرناه، فلما مات مؤيد الدولة اتفق قواد عسكره على طاعة فخر الدولة، وكتبوا إِليه وسار فخر الدولة علي إِليهم، وعاد إِلى ملكه، واستقر فيه بغير منة لأحد ولا قتال، وذلك في رمضان هذه السنة، ووصلت إِلى فخر الدولة الخلع من الخليفة والعهد بالولاية.
ولاية بكجور دمشق كنا قد ذكرنا أن بكجور مولى قرعويه قبض على أستاذه قرعويه، وملك حلب ثم سار أبو المعالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأخذ حلب من بكجور وولاه حمص إِلى هذه السنة، فكاتب العزيز صاحب مصر، وسأله في ولاية دمشق، فأجابه العزيز إِلى مصر، فسلمها إِلى بكجور في رجب، واستقر بكجور في ولاية دمشق، وأساء السيرة فيها.
غير ذلك من الحوادث وفيها اتفق كبراء عسكر عمران بن شاهين فقتلوا أبا الفرج محمد بن عمران لسوء سيرته، وأقاموا أبا المعالي بن الحسن بن عمران بن شاهين، وكان صغيراً، فدبر أمره المظفر بن علي الحاجب، وهو أكبر قواد جده عمران، ثم بعد مدة أزال المظفر الحاجب المذكور أبا المعالي، وسيره هو وأمه إِلى واسط، واستولى المظفر المذكور على ملك البطيحة، واستقل فيها، وانقرض بيت عمران بن شاهين. وفيها في ذي الحجة توفي يوسف بلكين بن زيري أمير إِفريقية، وتولى بعده ابنه المنصور ابن يوسف بن زيري، وأرسل إِلى العزيز بالله هدية