الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بغداد ولباس أصحابه الخضرة، وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر، ويحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، ودام ذلك ثمانية أيام، ثم تكلم بنو العباس وقواد خراسان في ذلك، فترك الخضرة وأعاد لبس السواد.
وفاة الإِمام الشافعي
رحمه الله
وفي هذه السنة، أعني سنة أربع ومائتين، توفي الإمام الشافعي وهو محمد بن إِدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السايب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهذا شافع الذي ينسب إِليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأبوه السايب أسلم يوم بدر.
فالشافعي شقيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه، يجتمع معه في عبد مناف، وكانت زوجة هاشم بن المطلب بن عبد مناف بنت عمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف فولد له منها عبد يزيد، جدّ الشافعي، فالشافعي إِذن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، لأن الشفاء أخت عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وولد الشافعي سنة خمسين ومائة بغزة، على الصحيح، وقيل في غيرها، وأخذ العلم من مالك بن أنس، ومسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينة، وسمع الحديث من إِسماعيل بن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم، قال الشافعي: حفظت القرآن وأنا ابن تسع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر، وقدمت على مالك وأنا ابن خمس عشرة سنة. وقال: رأيت علي بن أبي طالب في منامي، فسلم علي وصافحني؛ وجعل خاتمه في إِصبعي، ففسر لي أن مصافحته لي أمان من العذاب، وجعله الخاتم في إِصبعي، أنّه سيبلغ اسمي ما بلغ اسم علي، في الشرق والغرب.
وناظر الشافعي محمد بن الحسن في الرقة، فقطعه الشافعي، وكان الشافعي حافظاً للشعر، قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين على محمد بن إِدريس الشافعي، وقال أبو عثمان المازني: سمعت الأصمعي يقول قرأت ديوان الشنفري على الشافعي بمكة، وكان أحمد بن حنبل يقول: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه، حتى جالست الشافعي.
وقدم الشافعي إِلى بغداد مرتين، مرة في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم قدمها مرة أخرى في سنة ثمان وسبعين ومائة، وناظر بشر المريسي المعتزلي ببغداد، وناظر حفص الفرد بمصر، فقال حفص: القرآن مخلوق، واستدل عليه، فتحاربا في الكلام حتى كفره الشافعي وقد رواه أبو يعقوب البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: إِنما خلق الله الخلق بكن، فإِذا كانت كن مخلوقة، فكأن مخلوقاً خلق بمخلوق، قال ابن بنت الشافعي: حدثنا أبي قال: كان الشافعي ينظر في النجوم وهو حدث، وما نظر في شيء إِلا فاق فيه، فجلس يوماً وامرأته تطلق، فحسب وقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود، تموت إِلى كذا وكذا، فكان كما قال. فجعل على نفسه ألا ينظر فيه بعدها، ودفن الكتب التي كانت عنده
في النجوم، وكان الشافعي ينكر على أهل علم الكلام وعلى من يشتغل فيه، وللشافعي أشعار فائقة منها:
وأحق خلق الله بالهم امرؤ
…
ذو همة يبلى بعيش ضيق
وله أيضاً:
رعت النسور بقوة جيف الفلا
…
ورعى الذبابُ الشهدَ وهو ضعيف
فيها مات الحسن بن زياد اللولوي الفقيه، أحد أصحاب أبي حنيفة، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، صاحب المسند، ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وفيها أعني سنة أربع ومائتين، وقيل سنة ثلاث ومائتين، توفي النصر بن شميل بن خرشة البصري النحوي، سار إلى خراسان من البصرة، ولما خرج من البصرة مسافراً، طلع لوداعه نحو ثلاثة آلاف رجل من أعيان أهل البصرة، فقال النضر: والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلي ما فارقتكم، فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك له، وأقام بمرو من خراسان، وصار ذا مال طائل، وصحب الخليفة المأمون وحظي عنده. وكان يوماً عنده فقال المأمون: حدثنا هشيم عن مخالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عون " وفتح سين سداد، فأعاد النضر الحديث وكسر السين من سداد، فاستوى المأمون جالساً وقال: تلحني يا نضر؟ فقال: إِنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما؟ قال: السداد بالفتح، القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكسر، البلغة، وكلما سددت به شيئاً فهو سداد، بكسر السين، وأنشد من أبيات عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالعرجي الشاعر المشهور:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم، وكان النضر من أصحاب الخليل بن أحمد، والنضر بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، ثم راء، وشُميل - بضم الشين - وخرشة بفتح الخاء المعجمة، والعَرج بفتح العين، وسكون الراء، ثم جيم، عقبة بين مكة والمدينة.
ثم دخلت سنة خمس ومائتين: فيها استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق، من مدينة السلام إِلى أقصى عمل المشرق، وفيها توفي يعقوب بن إِسحاق بن زيد البصري المقرئ، وهو أحد القراء العشرة، وله في القراءات رواية مشهورة، قرأ على سلام بن سليمان الطويل، وقرأ سلام على عاصم بن أبي النجود وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ علي على صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ست ومائتين في هذه السنة مات الحكم بن هشام صاحب الأندلس، لأربع بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته في صفر سنة ثمانين ومائة، ولما توفي كان عمره اثنتين وخمسين سنة، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً. ولما مات قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن بن
الحكم.
في هذه السنة توفي محمد بن المسير المعروف بقطرب النحوي، أخذ النحو عن سيبويه وكان يبكر الحضور إِلى سيبويه، للاشتغال عليه، قبل الصبح، فقال له سيبوبه: ما أنت إِلا قطرب، فغلب عليه ذلك وصار لقبه.
وفيها توفي أبو عمرو إِسحاق الشيباني اللغوي.
ثم دخلت سنة سبع ومائتين في هذه السنة توفي طاهر بن الحسين في جمادى الأولى، من حمى أصابته، وكان في آخر جمعة صلاها، قد ترك الدعاء للمأمون، وقصد لمن يخلعه فمات، وكان طاهر أعور، ويلقب ذا اليمينين وفيه يقول بعضهم:
يا ذا اليمينين وعين واحدة
…
نقصان عين ويمين زائدة
وفي هذه السنة توفي بشر بن عمرو الزاهد الفقيه، وهو غير بشر الحافي. وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي، وعمره ثمان وسبعون سنة، وكان عالماً بالمغازي واختلاف العلماء، وكان يضعف في الحديث، وللواقدي عدة مصنفات، وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكان الواقدي متولياً القضاء بالجانب الشرقي من بغداد.
وفيها توفي محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى، المعروف بابن كناسة، وهو ابن أخت إِبراهيم بن الأدهم، وكان عالماً بالعربية والشعر وأيام الناس.
وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله، المعروف بالفراء الديلمي الكوفي، وكان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب وكان في ذلك إِماماً. قال الجاحظ: دخلت بغداد في سنة أربع ومائتين، حين قدم إليها المأمون، وكان الفراء يحبني ويشتهي أن يتعلم شيئاً من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع، واتخذ المأمون الفراء معلماً لأولاده، وللفراء عدّة مصنفات منها، كتاب الحدود، وكتاب المعاني، وكتابان في الشكل، وكتاب النهي، وغير ذلك، وكانت وفاته بطريق مكة حرسها الله تعالى، وعمره نحو ثلاث وستين سنة، ولم يكن الفراء يعمل الفراء ولا يبيعها، بل تلقب بذلك لأنه كان يفري الكلام.
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين فيها مات الفضل بن الربيع.
ثم دخلت سنة تسع ومائتين فيها مات ميخائيل ملك الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملك بعده ابنه توفيل.
وفيها توفي أبو عبيدة محمد بن حمزة اللغوي، وكان يميل إِلى مقالة الخوارج، وعمره تسعٍ وتسعون سنة، وكان متفنناً في العلوم، وكان مع كمالَ فضائله، إِذا أنشد شعراً كسره، ولا يحسن يقيم وزنه، وبلغت مصنفاته نحو مائتي مصنف.
ثم دخلت سنة عشر ومائتين في هذه السنة ظفر المأمون بإِبراهيم بن محمد ابن عبد الوهاب بن إِبراهيم الإمام، وكان يعرف بابن عائشة، وبجماعة معه من الأعيان الذين كانوا قد سعوا في البيعة لإبراهيم بن المهدي، فحبسهم، ثم صلب ابن عائشة، وهو أول عباسي صُلب، ثم أنزل وكفن وصلي عليه ودفن.
ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة أعني سنة عشر ومائتين في ربيع الآخر، أمسك حارس أسود إِبراهيم
بن المهدي، وهو متنقب مع امرأتين، في زي امرأة وأحضر بين يدي المأمون، فحبسه، ثم بعد ذلك أطلقه، قيل شفع فيه الحسن بن سهل؛ وقيل ابنته بوران وقيل بل المأمون من نفسه عفا عنه.
وفي هذه السنة دخل المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وكان الحسن ابن سهل مقيماً في فم الصلح فسار المأمون من بغداد إِلى فمٌ الصلح، ودخل بها ونثرت عليه جدة بوران أم الحسن والفضل ألف حبة لؤلؤ؛ من أنفس ما يكون، وأوقدت شمعة عنبر، فيها أربعون منا، وكتب الحسن بن سهل أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد، فمن وقع له رقعة، أخذ الضيعة المسماة فيها، أقول: قد تقدم في سنة ثلاث ومائتين، أن الحسن بن سهل تغير عقله من السوداء، وقيد وحبس وكأنه بعد ذلك تعافى وعاد إِلى منزلته، ولكن لم يذكروا ذلك.
وفي هذه السنة ماتت علية بنت المهدي، ومولدها سنة ستين ومائة وكان زوجها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين فيها أمر المأمون منادياً فنادى: برأت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر. وفيها توفي أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش النحوي البصري والأخفش: الصغير العينين مع سوء بصرهما. وكان من أئمة العربية البصريين، وأخذ النحو عن سيبويه، وكان أكبر من سيبويه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إِلا بعد أن عرضه عليّ، وللأخفش المذكور عدة مصنفات وهو الذي زاد في العروض بحر الخبب، والذين يسمون بالأخفش ثلاثة، أولهم: الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد، من أهل هجر، وكان نحوياً أيضاً. ثم الأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة الإمام المذكور. ثم الأخفش الأصغر المتأخر، وهو علي بن سليمان بن الفضل، وكان الأخفش الأصغر المذكور، نحوياً أيضاً، وتوفي في سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة وثلاثمائة.
وفيها توفي عبد الرزاق الصغاني المحدث وهو من مشايخ أحمد بن حنبل، وكان يتشيع.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفي محمد بن يوسف الضبي، وهو من مشايخ البخاري.
ثم دخلت سنة ثلاث عشر ومائتين فيها ولى المأمون ابنه العباس الجزيرة والثغور والعواصم، وولى أخاه أبا إِسحاق المعتصم الشام ومصر، وولى غسان بن عباد على السند.
وفيها توفي إِبراهيم الموصلي المغني، وكان كوفياً، وسار إِلى الموصل، وعاد، فقيل له الموصلي.
وفيها مات علي بن جبلة الشاعر، وأبو عبد الرحمن المقرئ المحدث.
وفيها وقيل في سنة ثماني عشرة ومائتين، توفي بمصر أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، وهذا ابن هشام، هو الذي جمع سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم من المغازي والسير، لابن إِسحاق وهذ بها وشرحها السهيلي، وابن هشام المذكور، من أهل مصر، وأصله من البصرة.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين فيها استعمل المأمون، عبد الله بن طاهر على خراسان.
وفيها صلح حال أبي دلف مع المأمون، وكان أبو دلف من أصحاب الأمين، وقدم على المأمون وهو شديد الخوف منه، فأكرمه وأعلى منزلته.
وفيها وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين، توفي إدريس بن إِدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمغرب، وقام بعده ابنه محمد بن إِدريس بفاس والبربر، وولى أخاه القاسم بن إِدريس طنجة وما يليها، وولى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وولى أخاه داود هوارة بأسليب، وولى أخاه يحيى مدينة داني وما والاها. واستعمل باقي أخوته على ملك البربر، وسنذكر أخبار باقي الأدارسة في سنة سبع وثلاثمائة إِن شاء الَله تعالى.
وفيها توفي أبو عاصم بن مخلد الشيباني، وهو إِمام في الحديث.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين فيها سار المأمون لغزو الروم، ووصل إِلى منبج ثم إِلى إنطاكية، ثم إِلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إِلى بلاد الروم، في جمادى الأولى، ففتح حصوناً، ثم عاد وتوجه إلى دمشق. وفي هذه السنة توفي أبو سليمان الداراني الزاهد؛ توفي بداريا، ومكي بن إِبراهيم البلخي وهو من مشايخ البخاري، وأبو زيد سعيد النحوي اللغوي وعمره ثلاث وتسعون سنة. وفيها توفي أبو سعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل في سنة ست عشرة، وقيل في سنة سبع عشرة ومائتين، واسم الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن صالح، وكان عمره نحو ثمان وثمانين سنة، والأصمعي نسبة إِلى جده أصمع، وكان أياماً في الأخبار والنوادر واللغة، وله عدة مصنفات منها: كتاب خلق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الأنواء، وكتاب الصفات، وكتاب الميسر والقداح، وكتاب خلق الفرس، وكتاب خلق الإبل، وكتاب الشاء، وكتاب جزيرة العرب، وكتاب النبات، وغير ذلك، وقُرَيب - بضم القاف وفتح الراء المهملة وياء مثناة من تحتها ساكنة ثم باء موحدة من تحتها.
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين فيها سار المأمون إِلى بلاد الروم فقتل وسبى وفتح عدة حصون، ثم عاد إِلى دمشق، ثم سار المأمون في هذه السنة في ذي الحجة من دمشق إِلى مصر، وفي هذه السنة ماتت أم جعفر زبيدة ببغداد.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين فيها عاد المأمون من مصر إِلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، وأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عائداً وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم تتم ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين.
ما كان في أمر القرآن المجيد في هذه السنة كتب المأمون إِلى عامله ببغداد، إِسحاق بن إِبراهيم أن يمتحن القضاة والشهود، وجميع أهل العلم بالقرآن، فمن أقر أنّه مخلوق محدث، خلى سبله، ومن أبى يعلمه به، ليرى فيه