الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأيه، فجمع أولي العلم الذين كانوا ببغداد، منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وعلي بن الجعد وغيرهم. وقرأ عليهم كتاب المأمون، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال بشر: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: والقرآن شيء؟ قال: نعم. قال: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس عن هذا أسألك، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك. فقال إسحاق للكاتب: اكتب ما قال. ثم سأل غيره وغيره، فيجيبون قريباً مما أجاب به بشر.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليها. ثم قال له: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال أحمد: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثم سأل قتيبة، وعبيد الله بن محمد، وعبد المنعم بن إِدريس ابن بنت وهب بن منبه، وجماعة معهم، فأجابوا أنّ القرآن مجعول لقوله تعالى " إِنا جعلناه قرآناً عربياً " " الزخرف: 3 " والقرآن محدث لقوله تعالى " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " " الأنبياء: 2 " قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قالوا: نعم. قال فالقرآن مخلوق؟ قالوا: لا نقول مخلوق، ولكن مجعول.
فكتب مقالتهم، ومقالة غيرهم، رجلاً رجلا، ووجهت إِلى المأمون، فورد جواب المأمون إِلى إِسحاق بن إبراهيم، أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فإن قالا بخلق القرآن وإلا تضرب أعناقهما، وأما من سواهما، فمن لم يقل بخلق القرآن، يوثقه بالحديد، ويحمله إلي فجمعهم إسحاق، وعرض عليهم ما أمر به المأمون، فقال بشر وإبراهيم وجميع الذين أحضروا لذلك؛ بخلق القرآن، إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، والقواريري، وسجادة، ومحمد بن نوح المصروب، فإنهم لم يقولوا بخلق القرآن فأمر بهم إِسحاق، فشدوا في الحديد، ثم سألهم، فأجاب سجادة والقواريري إلى القول بخلق القرآن، فأطلقهما، وأصر أحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح المصروب على قولهما؛ فوجههما إلى طرسوس، ثم ورد كتاب المأمون يقول: بلغني أن بشر بن الوليد، وجماعة معه، إِنما أجابوا بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر " إِلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " " النحل: 106 " وقد أخطؤوا التأويل، فإِن الله تعالى عنى بهذه الآية، من كان معتقداً للإيمان، مظهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان. فليس هذا له، فأشخصهم إِلى طرسوس ليقيموا بها، إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأمسكهم إِسحاق وأرسلهم، فلما صاروا إِلى الرقة، بلغهم موت المأمون فرجعوا إِلى بغداد.
مرض المأمون وموته
رحمه الله تعالى
في هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة ومائتين، مرض المأمون لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وكان سببه ما حكاه سعيد بن العلاف قال: دعاني المأمون، وهو وأخوه المعتصم جالسان على شاطئ نهر البدندون، وقد وضعا أرجلهما في الماء، فقال لي: أي شيء يؤكل ليشرب عليه من هذا الماء، الذي هو في نهاية الصفاء والعذوبة؟ قال: أمير المؤمنين أعلم،
فقال: الرطب، فبينما هم في الحديث، إِذ وصلت بغال البريد، عليها الحقائب، وفيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إِن كان في هذه الألطاف رطب، فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما رطب من أطيب ما يكون، فشكر الله تعالى، وتعجبنا جميعاً، وأكل وأكلنا من ذلك الرطب، وشربنا عليه من ذلك الماء، فما قام منا أحد إِلا وهو محموم، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، ولما مرض المأمون، أوصى إِلى أخيه المعتصم، بحضرة ابنه العباس، بتقوى الله تعالى، وحسن سياسة الرعية، في كلام حسن طويل، ثم قال للمعتصم: عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله، لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إِذا أنا نقلتها من غيرك إِليك. قال: اللهم نعم. ثم قال: هؤلاء بنو عمك ولد أمير المؤمنين علي، صلوات الله عليه، أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة، عند محلها، وتوفي المأمون في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إِلى طرسوس، فدفناه بدار جلعان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافة المأمون عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً سوى أيام دعي له بالخلافة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف منٍ ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها، قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر، أحنى، أعين، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
بعض سيرته وأخباره لما كان المأمون بدمشق، قل المال الذي صحبته، حتى ضاق وشكى ذلك إِلى المعتصم، فقال له يا أمير المؤمنين: كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وحمل إِليه المعتصم ثلاثين ألف ألف ألف، من خراج ما يتولاه له، فلما ورد ذلك، قال المأمون ليحيى بن أكتم: اخرج بنا ننظر إِلى هذا المال فخرجا ونظرا إِليه، وقد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فاستكثر المأمون ذلك، واستحسنه، واستبشر به الناس، والناس ينظرون ويتعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، ويرجع أصحابنا خائبين. إِن هذا للؤم، فدعا محمد بن رداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ألف؛ ورجله في الركاب، وكان المأمون ينظم الشعر، فما يروى له من أبيات:
بعثتك مرتاداً ففزتَ بنظرة
…
وأغفلتني حتى أسأتُ بك الظنّا
فناجيت من أهوى وكنت مباعداً
…
فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
أرى أثراً منها بعينيك بيْنا
…
لقد أخذت عيناكَ من عينها حُسنا
وكان المأمون شديد الميل إِلى العلويين، والإحسان إِليهم رحمه الله تعالى، ورد فدك على ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمها إِلى محمد ابن يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ليفرقها على مستحقيها من ولد فاطمة، وكان المأمون فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة.