الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخمس، فإنه لا خلاف في السجود، وإن كان قد اشتغل به عن الفرض.
ونقل المحاملي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة على المنبر فنزل وسجد ثم قرأ دفعة ثانية ولم يسجد (1)، قال: فيكون الترك أولى لأنه المتأخر، هكذا رأيته في كتاب الجمعة من كتابه المسمى "بالتجريد" وحينئذ فيمكن أن يكون هذا أيضًا سببًا للاختلاف، ورأيت في "الترغيب" للشاسي الجزم بالاستحباب.
قال رحمه الله: السجدة الثالثة:
سجدة الشكر
.
قوله: وهو سنة خلافًا لمالك وأبي حنيفة، ولنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نغاشيًا فسجد شكرًا لله تعالي (2). انتهى.
والنغاشي بنون مضمومة، وغين وشين معجمتين وبالياء المشددة في آخره، وروى أيضًا بلا ياء على وزن الفؤاد قيل: هو المبتلى، وقيل: ناقص الخلق، حكاهما الماوردي، وقيل: القصير، قاله ابن فارس.
قال أبو العباس: النغاشيون هم القصار والضعاف الحركة.
والقلطي بالقاف والطاء المهملة فوق النغاشي.
وقال النووي في "الخلاصة": النغاشي هو القصير جدًا، الضعيف الحركة، الناقص الخلقة.
(1) أخرجه أبو داود (1410) والدارمي (1466) وابن خزيمة (1795) وابن حبان (2765) والحاكم (1052) والبيهقي في "الكبرى"(3558) من حديث أبي سعيد.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال البيهقي: حسن الإسناد صحيح.
وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (5964) والبيهقي في "الكبرى"(3754) بسند ضعيف.
والحديث رواه البيهقي بإسناد ضعيف مرسل.
قوله: ولا يسن سجود الشكر عند استمرار النعمة وإنما يسن عند مفاجأة نعمة واندفاع بلية من حيث لا يحتسب، وكذلك إذا رأى مبتلى ببلية أو معصية. انتهى.
تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور:
أحدها: أن النووي في "شرح المهذب" قد قيد النعمة والنقمة بكونهما ظاهرتين، ونقل ذلك عن الأصحاب، وهو كذلك في "التنبيه""والمهذب" ولم يذكر هو ولا غيره ما احترزوا به عنه.
والصواب ما اقتضاه كلام الرافعي من عدم التقييد، فإن عدم ظهور ذلك للناس لا أثر له في ما نحن فيه.
الأمر الثاني: أن التقييد بكونه من حيث لا يحتسب -أي: يدري-، قد ذكره أيضًا في "المحرر" وفيه أيضًا نظر.
وإطلاق الأصحاب يقتضي أنه لا فرق بين أن يتسبب فيه أم لا، ولهذا لم يذكر في "شرح المهذب" هذا القيد، وقد تعرض في "البحر" لأمثلة من ذلك فقال:
أما الأول فلحدوث الولد والمال والجاه والنصر على الأعداء.
وأما الثاني: فلنجاته من الغرق ونحوه.
ومَثَّل في "الكفاية" أيضًا الأول:
بقدوم الغائب وشفاء المريض.
والثاني: بأن ينجو من مؤذٍ غلب على ظنه وقوعه فيه كالهدم والغرق ونحوهما.
ومَثَّل لهما أيضًا في "شرح المهذب" بحدوث المطر عند القحط وزواله عند خوف التأذي به.
ومقتضى ما نقلناه عن "البحر" عدم الفرق بين أن يكون له ولد ومال أم لا، ومقتضى كلام "الكفاية" أن النعمة على الولد ونحوه كهى عليه.
والظاهر أن حدوث الأخ ونحوه كحدوث الولد.
وقال القاضي الحسين؛ إنما يسجد لنعمة طالما كان يتوقعها أو لانكشاف بلية طالما كان فيها ويترقب انكشافها.
الأمر الثالث: أن ما ذكره في الفاسق قد قيده ابن الرفعة في "الكفاية" بكونه يتظاهر بفسقه، ونقله عن الأصحاب، ويدل عليه ما سيأتي في القضاء، أن الحاكم يصغي إلى شهادة الفاسق المستتر دون المعلن.
واستحباب السجود لرؤية العاصي يؤخذ منه استحبابه لرؤية الكافر بطريق الأولى، وبه صرح في "البحر".
الأمر الرابع: لو حضر المبتلى أو العاصي في [ظلمة](1) أو عند أعمى أو سمع سامع صوتهما، ولم يحضرا عنده فالمتجه استحباب السجود أيضًا، ويأتي مثل هذا النظر واضحًا في الدعاء عند رؤية الكعبة المشرفة فراجعه.
قوله: ثم إذا سجد لنعمة أصابته أو بلية اندفعت عنه، ولا تعلق لها بالغير أظهر السجود، وإن كان ليلًا في غير نظر إن لم يكن ذلك الغير معذورًا فيه كالفاسق فيظهر السجود بين يديه تعييرًا له فربما ينزجر ويتوب.
وإن كان معذورًا كمن به زمانة ونحوها فيخفي كيلا يتأذى، وكيلا يتخاصما. انتهى.
فيه أمور:
أحدهما: قال ابن يونس في "شرح التعجيز": عندي أنه لا يظهر
(1) في جـ كلمة.
السجود لتجدد الثروة بحضرة الفقير لما فيه من الانكسار، والذي قاله حسن.
الثاني: أن تقييده بقوله: "ولا تعلق لها بالغير" صريح في أنه لا يظهر لمن لم يندفع عنه ممن شاركه، وهو ظاهر مؤيد لما سبق عن ابن يونس.
الثالث: أن إظهاره للفاسق مشروط بأن لا يخاف ضرورة، فإن خاف أخفاه، قاله في "شرح المهذب".
الرابع: ذكر القاضي الحسين في "تعليقه" والفوراني في "العمد" وابن يونس شارح "التعجيز" أنه يظهره للمبتلى إذا كان غير معذور كالمقطوع في السرقة ليتوب.
ولقائل أن يقول: إن تاب المقطوع فالسجود على البلية خاصة، فلا يظهره، وإن لم يتب سجد وأظهر.
وقد يقال: صورته إذا جهلنا هل تاب أم لا؟
قوله من "زياداته": قال أصحابنا: لو سجد في الصلاة للشكر بطلت صلاته، فلو قرأ آية سجدة ليسجد بها للشكر ففي جواز السجود وجهان في "الشامل"، "والبيان":
أصحهما: يحرم وتبطل صلاته.
وهما كالوجهين في من دخل المسجد في وقت النهي ليصلى التحية انتهى.
وهذا الذي نقله عن هذين قد ذكر نحوه في "شرح المهذب" أيضًا، وهو كلام مظلم حكمًا وتنظيرًا، وغلط عجيب حصل من فهم الكلام على غير وجهه، فإن الذي ذكره صاحب "الشامل" ما نصه: إلا أنه إذا تجددت عليه نعمة وهو في الصلاة فإنه لا يسجد فيها، لأن سبب السجدة ليس منها.
فإن قرأ سورة "ص" فإن سجدتها عندنا سجدة شكر، فهل يسجد في الصلاة؟ وجهان:
أحدهما: يسجد، أن سببها وجد في الصلاة.
والثاني: لا يسجد، لأنها سجدة شكر وليست متعلقة بالتلاوة، وإنما يوجد سببها عند التلاوة، فلم يسجدها في الصلاة كسائر سجود الشكر. هذا لفظه بحروفه.
وحاصل الخلاف الذي فيه هو الخلاف المعروف في أنه هل يسجد في الصلاة لقراءة "ص"، وأن في قوله:"فإنَّ سجدتها عندنا سجدة شكر" هي "إنَّ" الناصبة للاسم الرافعة للخبر، واعترض بهذه الجملة بين الشروط وهو قوله:"فإن قرأ سورة ص"، وبين الجزاء وهو قوله:"فهل يسجد. . . ." إلى آخره.
واقتضى كلام النووي أنه خلاف غير ذلك الخلاف [ولهذا ذكره](1) من "زوائده" بعد ذكره له في الأصل، وليس كذلك، وأن ذلك يطرد في آيات السجود جميعها وهو غير معقول، وأن محله في ما إذا قرأ بقصد السجود.
وقد تقدم من كلامه هو أنه لا نقل في مثل ذلك.
نعم إن كان مراده، فلو قرأ آية سجدة للشكر ليسجد بها -أى: وتلك الآية هي ص- خاصة فأخر لفظ الشكر، فإنه محتمل على بُعْدهِ لفظًا ومعنى، ولكنه فاسد من جهة أن ذلك الخلاف ليس خاصًا بما إذا قرأ بقصد السجود.
وسبب هذا الغلط الذي وقع للنووي هو نقله من "البيان" فإنه قال: وإن كان في الصلاة لم يسجد لأن سبب السجدة ليس منها، فإن قرأ فيها
(1) سقط من أ.
سورة فهل يسجد بها للشكر؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.
أحدهما: يسجد، لأن سببها وجد في الصلاة، وهو التلاوة ثم ذكر الئاني بتعليل صاحب "الشامل" وكأنه -والله أعلم- سقط لفظة "ص" بعد التعبير بقوله:"سورة".
قوله في أصل "الروضة" فرع في جواز سجود الشكر على الراحلة بالإيماء وجهان كالتنفل مضطجعًا مع القدرة على القيام. . . . إلى آخره.
وما جزم به من حكاية الوجهين قد خالفه في آخر هذا الباب من "شرح المهذب" فقال: جاز على المذهب، وبه قطع الجمهور، وفيه وجه شاذ أنه لا يسجد. هذه عبارته.
قوله من "زوائده": قال في "التهذيب": لو تصدق صاحب هذه النعمة وصلى شكرًا فحسن انتهى.
لم يبين رحمه الله أن صورة المسألة أن يفعل ذلك مع السجود أو بدلًا عنه، ومراده هو الأول وقد صرح به في "شرح المهذب"، ولكن الخوارزمي -تلميذ البغوي- قد فهم من كلام شيخه خلافه، فقال في كتابه "الكافي": لو أقام التصدق أو صلاة ركعتين مقام سجود الشكر كان حسنًا.
قوله: لو خضع الرجل لله تعالى فتقرب إليه بسجدة ابتداء من غير سبب فهل يجوز ذلك؟ فيه وجهان عن صاحب "التقريب" أنه يجوز، وعن الشيخ أبي محمد أنه لا يجوز، كما لا يجوز التقرب بركوع مفرد، ونحوه، وهذا هو الصحيح عند الإمام والمصنف وغيرهما. انتهى.
وما نقله عن الشيخ أبي محمد والإمام وغيرهما من التحريم قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإن الذي اختاره في "النهاية" ونقله عن شيخه إنما هو الكراهة فقال: فرع: ذكر صاحب "التقريب" عن
الأصحاب أن الرجل لو خضع لله تعالى فسجد من غير سبب فله ذلك، ولا بأس؛ وهذا لم أره إلا له.
وكان شيخي يكره ذلك، ويشتد نكيره على من يفعل ذلك، وهو الظاهر عندي. هذا كلام "النهاية" ذكره قُبَيْل سجود السهو.
والإنكار لا يستلزم التحريم خصوصًا مع التصريح بالكراهة، فقد نصوا على جواز الإنكار في المكروهات للإرشاد والتعليم.
وكان الموقع للرافعي فيما وقع فيه إنما هو إيهام وقع في كلام "الوسيط"، فإنه قال: ولو ترك سجود التلاوة حتى طال الفصل ففي قضائها قولان كما في النوافل ذكرهما صاحب "التقريب" وقال: ما لا يتقرب به أيضًا لا يقضي كصلاة الخسوف والاستسقاء، وهذا إشارة إلى أن التقرب بسجدة من غير سبب جائز.
وكان الشيخ أبو محمد يشدد النكير على فاعل ذلك، وهو الصحيح. هذه عبارته ولا شك أنه توهم.