الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: في "حكم الوقف الصحيح
"
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في أمور لفظية
قوله: ولو زاد فقال ما تناسلوا أو بطنًا بعد بطن فلا ترتيب ويحمل على التعميم، وعن الزيادي أن قوله: بطنا بعد بطن، يقتضي الترتيب، وبه أجاب بعض أصحاب الإمام، انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره من عدم الترتيب ذكره أبو عاصم العبادي وأبو القاسم الفوراني والبغوي فتبعهم الرافعي عليه، ثم إن النووي تبع الرافعي في ذلك، وهو مردود نقلًا وبحثًا، أما الأول فلأن غالب من تكلم على المسألة أجاب بأنه للترتيب فقد قطع به البندنيجي والماوردي في "الحاوي" وكذلك الإمام في "النهاية" وبه أجاب الغزالي أيضًا واختاره القاضي حسين في "فتاويه" وقال في "تعليقته": إنه الصحيح وقطع به صاحب "الذخائر" وصححه صاحب "التعجيز" فقال: يرتب خلافًا للبغوي وأفتى به الشيخ تقي الدين ابن رزين على ما هو مذكور في "فتاويه"، وقد نقله الرافعي عن الزيادي وبعض أصحاب الإمام، وكأنه لم يمعن على هذه المسألة، ويدل عليه أنه لم ينقله عن الإمام، بل عن بعض أصحابه مع أنه مقطوع به في كلام الإمام نفسه.
وأما الثاني -وهو بطلانه من جهة البحث- فلأن لفظة "بعد" في اقتضاء الترتيب أصرح من "ثم"، و"الفاء" وغيرها وقد جزم فيها باقتضاء الترتيب فما نحن فيه أولى.
الأمر الثاني: أن جزمهم بعدم الترتيب إذا لم يذكر الواقف ذلك واقتصر
على وقفت على أولادي وأولاد أولادي فيه إشكال أيضًا لأن الماوردي قد نقل في باب صفة الوضوء من "الحاوي" عن أكثر أصحابنا أن الواو تدل على الترتيب [فكان قياسه أن يكون الأكثرون على الترتيب](1) هنا وهم لم يقولوا به بل لم يحكوا فيه خلافًا أصلًا.
قوله: ولا يصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد، هكذا أطلقه الجمهور، والقياس في ما إذا مات واحد من البطن الأول أن يجيء في نصيبه الخلاف المذكور في ما إذا وقف على شخصين أو جماعة ثم على المساكن فمات واحد إلى من يصرف نصيبه؟ انتهى.
والفرق بين المسألتين ظاهر، وذلك أن القصد من الوقف على الأولاد وأولاء الأولاد تمليك القرابة على الجملة على النعت الذي شرطه لا تمليك كل واحد منهم شيئا مقدرا، فإنه لو كان القصد ذلك لامتنع أن ينقص أحدهما عما استحقه حال الوقف، وذلك ليس ممتنعًا بدليل أنه إذا حصل له ولد أو ولد ولد يتناول الموجود في ما كان ينفرد به فإذا كان هذا هو المقصد فلا يعدل عنه عند إمكانه وهو مع بقاء واحد ممكن، وليس كذلك الوقف على شخصين، ثم على المساكين فإن القصد ظاهر في تمليك كل واحد منهما النصف بدليل عدم تطرق النقص عنه، وهو لو قال: وقفت على هذا النصف وعلى هذا النصف، لم ينتقل نصيب أحدهما للآخر عند فقده، فكذلك ههنا.
قال ابن الرفعة: وقد يلخص هذا الفرق فيقال: لما قبل نصيب الموجود دخول النقص عليه.
قيل: الزيادة لفهم المعنى، ولما لم يقبل نصيب أحد الرجلين النقص لم يقبل الزيادة لفهم المعنى.
(1) سقط من أ.
قوله: وكذا الأولاد الحادث علوقهم بعد الوقف يستحقون إذا انفصلوا هذا هو الصحيح المقطوع به في الكتب، وفي "أمالي" السرخسي [خلافه، انتهى.
وما زعمه من قطع الأصحاب بمخالفة السرخسي] (1) غريب، فإن الرافعي كثير النقل عن "فتاوى القفال" وقد رأيت فيها الجزم به، ونقله أيضًا القاضي حسين عن "البويطي"، ثم قال: إنه الصحيح عندي، كذا ذكره في إحدى "تعليقتيه" وقال في الأخرى: الظاهر دخولهم، وقد سبق في مقدمة الكتاب إيضاح اختلاف التعليق عنه، وجزم أيضًا بعدم الدخول القاضي أبو الطيب في "المجرد" كما حكاه عنه الروياني في "البحر"، ثم إن الرافعي قد نقله أيضًا بعد هذا عن "البويطي".
قوله: واسم المولى يقع على المعتق ويقال له: المولى الأعلى، وعلى العتيق ويقال له: المولى الأسفل، فإذا وقف على مواليه وله موالي من أعلى وموالي من أسفل ففيه أوجه: أصحها في "التنبيه" أنه يقسم بينهما.
وأرجحها: عند الغزالي أنه يبطل إلى آخره.
فيه أمور:
أحدها: أنه لم يصرح بتصحيح في "الشرح الصغير" أيضًا ولا في "المحرر"، بل قال فيه: رجح كلًا مرجحون وتبعه صاحب "الحاوي الصغير" على التعبير به، والأصح ما قاله صاحب "التنبيه" من القسمة فقد صححه أيضًا القفال الكبير وابن القطان والفوراني والقاضي أبو الطيب والجرجاني والنووي في "زوائد الروضة" ونص عليه الشافعي كما نقله عنه في "المطلب".
الأمر الثاني: أن الشافعي في "البويطي" قد نص في ما لو قال: وقفت
(1) سقط من أ.
علي موالي من أسفل، فإنه يدخل أولاد المولى، وقياس ما قاله دخول أولاد الموالي من أعلى حيث أدخلنا آباءهم إما وحدهم أو مع الموالي من أسفل، إلا أن الشافعي لم يبين أن دخول الأولاد هل هو عند فقد آبائهم أو مطلقًا؟ وفيه نظر.
الأمر الثالث: أن الرافعي عبر أولًا بلفظ "المولى" ثم صور المسألة بالموالي أعني بلفظ "الجمع" ولا شك في مجيء الخلاف في حالة الجمع، وأما حالة الإفراد فكذلك عند القاضي أبي الطيب وابن الصباغ فإنهما ذكر الخلاف في حالة الإفراد، وقال الإمام: لا يتجه الإشتراك وتنقدح مراجعة الواقف.
الأمر الرابع: أن النووي لما صحح من "زياداته" القسمة قال بعده: وحكى الدارمي وجهًا خامسًا أنه موقوف حتي يصطلحوا، وليس بشيء، هذا لفظه، وهو غريب فقد حكاه هو في كتاب الوصية في الكلام على الوصية للوالي قولا فقال: وفي قول عن رواية "البويطي": يوقف إلى الاصطلاح، هذا لفظه.
قوله: ولو وقف على عترته فعن ابن الأعرابي وثعلب أنهم ذريته، وقال القتيبي: هم عشيرته، وهما وجهان للأصحاب، أصحهما الثاني، انتهى.
قال في "الروضة": هذان المذهبان مشهوران لأهل اللغة، لكن أكثر من جعلهم عشيرته خصهم بالأقربين.
قال الأزهري: قال بعض أهل اللغة، عترته عشيرته الأدنون.
وقال الجوهري: عترته نسله ورهطه الأدنون.
وقال الزبيدي: عترته أقرباؤه من ولد وغيره.
ومقتضى هذه الأقوال أنه يدخل ذريته وعشيرته الأدنون هذا هو الظاهر المختار، هذا كلام النووي.
قوله: ولو قال: وقفت على بني الفقراء، أو على بناتي الأرامل، فمن استغنى منهم أو تزوج منهن خرج عن الاستحقاق، فإن عاد فقيرا أو طلقها زوجها عاد الاستحقاق، انتهى كلامه.
تابعه عليه في "الروضة" وهو يشعر أو يوهم أن المرأة قبل أن تتزوج تأخذ من هذا الوقف، وأنه يصدق عليها أنها أرملة وليس كذلك، بل الذي نص عليه الشافعي أن الأرملة هي التي فارقها زوجها، حتى أن من لم يتقدمها زوج لا تسمى أرملة، ونقله عنه إمام الحرمين، وقال في "الروضة" من "زياداته" في باب الوصية: إنه الأصح، ولم يصرح الرافعي هناك بتصحيح، ثم إن لهن شرطًا آخر لم يذكره هنا وهو الفقر، فإن المرجح على ما يقتضيه كلام الرافعي والنووي في الوصية اشتراطه.
قوله: من "زياداته": ولم أر لأصحابنا تعرضًا لاستحقاقها في حال العدة، وينبغي أن يقال: إن كان الطلاق بائنًا، أو فارقت بفسخ أو وفاة استحقت لأنها ليست بزوجة في زمن العدة، وإن كان رجعيًا فلا لأنها زوجة، انتهى كلامه.
وما ادعاه من عدم الوقوف عليها غريب فإن المسألة قد نص عليها غير واحد على وفق البحث الذي ذكره، ونقلها هو عنهم في كتاب الوصية تبعًا للرافعي، فقال: واسم الأرامل يقع على اللواتي مات عنهن الأزواج، وعلى المتختلعات والمبتوتات دون الرجعيات، والأيامى غير ذوات الأزواج، هذه عبارة الأستاذ وبها أخذ الإمام، انتهى كلامه.
ولم يحك فيها غير ذلك.
قوله: والصفة والاستثناء عقب الجمل المعطوف بعضها علي بعض يرجعان إلى الكل، مثال الصفة: وقفت على أولادي وأحفادي وأخوتي المحتاجين منهم.
ومثال الاستثناء: إلا أن يفسق واحد منهم، هكذا أطلقه الأصحاب.
ورأى الإمام تقييده بقيدين:
أحدهما: أن يكون العطف بالواو، فإن كان بـ"ثم" اختصت بالجملة الأخيرة.
والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، ثم قال في آخر كلامه: والصفة المتقدمة على جميع الجمل كقوله: وقفت على فقراء أولادي وأولاد أولادي وأخوتي، كالمتأخرة حتى يعتبر الفقر في الجميع، انتهى كلامه.
وفيه أمور:
أحدها: أن تمثيل الجمل بما ذكره غير مستقيم، بل هذا من عطف المفردات، فالصواب تمثيله بما ذكره الإمام في الأصول كقوله: وقفت على فلان داري وحبست على أقاربي ضيعتي وسَبَّلْتُ على عتقائي بستاني.
نعم: إن قلنا: إن العامل في المعطوف هو فعل مقدر بعد الواو استقام ذلك ولكن المعروف أن العامل هو الأول بواسطة الحرف.
وإذا عملت ما ذكرناه ظهر لك أنه لابد من أحد مسلكين وهو إما الأخذ بمثالهم ويكون قد تجوزوا بتسميته ذلك جملا حتى لو كان جملًا حقيقة لم يعد ذلك إلى الجميع.
وإما الأخذ بما قالوه من الجمل ويلزم منه العود إلى المفردات بطريق الأولى إلا أن ذلك يبعد القول به في الصفة المتقدمة على الجمل، لأن المفردات تكون معطوفة على ما أضيف إليه الصفة فيكون المضاف مقدرًا في الكل.
وأما الجمل كقوله: وقفت على فقراء أولادي وسَبَّلْتُ على أخوتي وحبست على عتقائي، فكل واحدة مستقلة والصفة مع الأولى خاصة، ولا يأتي فيها ما يأتي في المتأخرة فإن عودها إلى الكل صحيح فتأمل ذلك،
والظاهر ما قالته الشافعية في الصفة المتأخرة لا المتقدمة على الجمل فاعلمه.
الأمر الثاني: أن ما ذكره هنا من عودة الاستثناء إلى الكل قد ذكر ما يخالفه في الباب الرابع من كتاب الطلاق فقال: الظاهر عوده إلى الأخير، انتهى.
وتابعه النووي في "الروضة" علي الموضعين وعبر بالأصح عوضا عن الظاهر، وزاد موضعا ثالثا في أول كتاب الأيمان موافقا للمذكور هنا وعبر فيه بالصحيح، وصور المسألة هنا بالاستثناء "بإلا" وفي الطلاق والأيمان، "بإن" كقوله إن شاء الله والحكم عندهم واحد.
الأمر الثالث: أن كلام الرافعي يقتضي اختصاص ما ذكره بالجمل المعطوفة لكنه قد نقل في أول كتاب الأيمان عن القاضي أبي الطيب عود الاستثناء إلى الجملتين بلا عطف، وأقره فقال: قال القاضي أبو الطيب: لو قال: إن شاء الله أنت طالق، عبدي حر، لم تطلق ولم يعتق لأن حرف العطف قد يحذف مع إرادة العطف، وعد من هذا القبيل التحيات المباركات، وليكن هذا في ما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما، فإن أطلق فيشبه أن يجيء خلاف في أنه يختص بالجملة الأولى أم يعمهما؟ هذا كلامه.
الأمر الرابع: أن ما ذكره من إطلاق الأصحاب غير الإمام ليس كذلك فقد نقل -أعني: الرافعي- في باب تعدد الطلاق عن المتولي أن الشرط يعود إلى الجملتين إذا كان العطف بـ"ثم"، وأقره هو والنووي عليه، والشرط قسم من أقسام الاستثناء كما صرح به الرافعي في الباب الأول الذي يلي الباب المذكور وهو المعقود للاستثناء وذكر -أعني: الرافعي- في باب تعدد الطلاق أيضًا بعد الموضع المشار إليه بدون ورقة أن العطف بـ"بَل" لا يعود معه الشرط إلى الجملة الأولى على الصحيح، بل يختص بالثانية كقوله: أنت طالق واحدة بل ثلاثًا إن دخلت الدار. والله أعلم.