الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التوبة» »
1-
وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) .
قوله تعالى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، أي: لم يعاونوا عدوّا لكم.
أقول: والمظاهرة: المعاونة، والتظاهر التعاون.
وقال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [التحريم: 4] ، أي تعاونا، والظهير العون.
وقوله تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ [البقرة: 85] ، أي تتعاونون.
وقوله تعالى: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ [الممتحنة: 9]، أي: عاونوا.
واستظهر عليه بالأمر: استعان.
وفي حديث علي رضي الله عنه، يستظهر بحجج الله وبنعمته على كتابه.
أقول: وقد اجتهد المعاصرون في إثبات «التظاهرة» ، و «المظاهرة» ، لتكون مؤدية لما هو في اللغات الغربية الحديثة أو: لأن الفعل في هذين الاسمين الأعجميين يعني في العربية، «أظهر، وأبان، وأعلن» فكانت «التظاهرة» أو «المظاهرة» في العربية الجديدة يقابلون بها الكلمتين الأعجميتين.
وهذا يعني، أن هذين المولّدين
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
الجديدين، ليس فيهما من فكرة «التعاون» ، التي هي في «تظاهر» و «ظاهر» .
2-
وقال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ [الآية 5] .
المراد بقوله تعالى: وَخُذُوهُمْ:
وأسروهم، والأخيذ: الأسير.
أقول: وهذا من معاني الفعل «أخذ» ، الذي ينصرف إلى عدة معان.
3-
وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [الآية 8] .
قوله تعالى: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ، أي: يغلبوكم، أقول، ولم يكن لهذا الفعل معنى الغلبة والفوز إلا بمجيء (عليكم) بعده، فاستعمال «على» يشعر بهذا.
وقوله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا، أي: لا يراعوا حلفا، وقيل:
قرابة، وأنشد لحسّان:
لعمرك إنّ إلّك من قريش
…
كإلّ السّقب من رأل النّعام
وقيل: إنه بمعنى «الإله» ، وقرئ «إيلا» وهو بمعناه.
أقول: إن «الإلّ» مضاعفا، و «الإيل» بالمدّ، والإله بمعنى، وكلّه واحد في الأصل، وهو من المواد القديمة في مجموعة اللغات السامية. وقد كنا أشرنا إلى هذه المادة في آية سابقة.
4-
وقال تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [الآية 16] .
ووليجة الرجل: بطانته وخاصّته ودخلته، وقال أبو عبيدة: الوليجة البطانة، وهي مأخوذة من ولج يلج ولوجا ولجة إذا دخل، أي: ولم يتّخذوا بينهم وبين الكافرين، دخيلة مودّة.
5-
وقال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الآية 26] .
وقالوا: المعنى: رحمته التي سكنوا بها، وآمنوا.
أقول: والسكينة من كلم القرآن الخاصّ، بمعنى اختصّ به، وهي بهذا المعنى في ثلاث آيات، ومنها أيضا:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [الآية 40] .
والسكينة: الوداعة والوقار، وقوله،
عز وجل: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ [البقرة: 248] .
قال الزجاج: معناه فيه ما تسكنون به، إذا أتاكم.
وفي الحديث: نزلت عليهم السكينة، تحملها الملائكة، أي:
الرحمة.
6-
وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 30] .
المضاهاة مشاكلة الشيء بالشيء، وقد يهمز «ضاهأ» ، ومنه القراءة المشهورة، في الآية التي وقفنا عليها.
وضاهيت الرجل: شاكلته وعارضته، وفلان ضهيّ فلان، أي: نظيره وشبيهه.
وقد استعملت المضاهاة بمعنى المعارضة والمماثلة في الأدب، ومن ذلك «مضاهاة كليلة ودمنة» لابن الهبّارية، أي: أن الشاعر نظم الحكايات نظما.
ومن الحقّ، أن نلاحظ أنّ «المهموز» في العربية تسهّل همزته غالبا، فيتحوّل الهمز إلى مدّ، نحو أومأ وأومى، وربأ وربا وغير ذلك.
7-
وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] .
النسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون، شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهرا آخر، حتّى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ [الآية 37]، أي:
ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فجعلوها ثلاثة عشر، أو أربعة عشر ليتّسع لهم الوقت. ولذلك قال عزّ وعلا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [الآية 36] .
أقول:
ونسأ الشيء: ينسأه نساء وأنسأه:
أخّره، والاسم النّسيئة والنّسيء ونسأ الله في أجله، وأنسأ أجله: أخّره.
وفي الحديث عن أنس بن مالك:
من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ في أجله، فليصل رحمه.
والنّسء: التأخير يكون في العمر والدّين.
ومن هذه الدلالة اللغوية، أي:
التأخير، أخذ العرب الجاهليون مادة «النسيء» ، فصارت من رسومهم ومصطلحهم، وإليها أشارت الآية الكريمة.
8-
وقال تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [الآية 42] .
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر، أي: لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال، و «سفرا قاصدا» أي: وسطا مقاربا.
أقول في قوله تعالى: وَسَفَراً قاصِداً لا أرى أن المراد به «الوسط المقارب» ، إذ لا يمكن أن يأتلف مع «العرض القريب» ، الذي يسبقه في الآية، ولكني أرى أن يكون «السفر القاصد» هو ما يعبّر عنه في اللغة المعاصرة ب «السفر المباشر» ، وسنأتي إلى المباشر بعد هذا.
ألا ترى أنه قال: إنهم سيتبعونك لو دعوتهم الى مغنم قريب من عرض الدنيا، وسفر مباشر (يريد أقرب منه) ، ولهرعوا إليك؟
أقول: لو أن المعاصرين أطالوا النظر في كلمات الله، لرأوا فيها ما يسدّ حاجاتهم اللغوية، وما يضطربون فيه من مصطلح حديث.
إنهم قالوا: سفر مباشر، وبداية مباشرة، وطريقة مباشرة، كما قالوا سفر غير مباشر، وبداية غير مباشرة، وطريقة غير مباشرة، ويريدون بالنمط الأول ما يشرع فيه على الفور أو في الحال، وبالنمط الثاني ما لا يشرع فيه في الحال، بل يتمهّل فيه ويتريّث.
ولا أدري كيف فهموا «المباشرة» على هذا النحو، ذلك بأن فصيح «المباشرة» أن تلي الأمر بنفسك.
وعلى كل حال لا نستطيع أن نحمل وصف الشيء ب «المباشر» في عربيتنا المعاصرة على الخطأ، ولكننا، نقول:
إنها لغة جديدة مولّدة، أدّى إليها التطور في الدلالة، وهذا شيء يعرض لجميع اللغات، فقد تتغيّر المعاني، فيظهر جديد، ويختفي قديم.
9-
وقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [الآية 47] .
الخبال: الفساد والشر.
والخبل والخبل والخبل والخبال:
الجنون، ويقال به خبال، أي: مسّ.
وهذا هو المعروف المشهور، ممّا بقي من الكلمة في اللغة المعاصرة.
وأما الخبال بمعنى الفساد والشر، كما في الآية فنظيره قوله تعالى:
لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: 118] .
قال الزجاج: هو الفساد وذهاب الشيء، وأنشد بيت أوس:
أبني لبينى لستم بيد
…
إلا يدا مخبولة العضد
وقوله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، بمعنى ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم، وإفساد ذات البين.
وقال الفرّاء: الإيضاع السّير بين القوم.
والأصل من قول العرب: أوضع الراكب ووضعت الناقة، وهو السير والعدو، فكأنّ الآية: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، تلمح الى هذا الأصل، لأنّ الموضع يسعى بالإفساد، ففي الكلمة «سعي» بمعنى السير والعدو.
10-
وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [الآية 61] .
الأذن: الرجل الذي يصدّق كلّ ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمّي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنّ جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة «عين» . وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه «هو أذن» .
وأذن خير كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك.
أقول: واستعارة الأذن لهذا النوع من المعاني الشريفة، ما زال معروفا في العربية المعاصرة، فيقال: هو أذن صاغية، أي: مطيع، ولكن هذه «الأذن الصاغية» تكون في الخير والشر على السواء.
11-
وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الآية 63] .
المحادّة: المخالفة ومنع ما يجب عليك، والمعاداة والمنازعة وهي مفاعلة من الحدّ، وحادّ يحادّ. وقد فكّ الإدغام في الآية، وحقه أيضا ألا يفكّ، لغرض صوتي، لأن الفعل مجزوم، وينبغي تحريكه بالكسر لمكان سكون اللام بعده.
12-
وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ [الآية 79] .
أي: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ، أي: المتطوعين المتبرعين.
والمطوّعة: الذين يتطوّعون للجهاد، أدغمت التاء في الطاء، كما في وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً [البقرة: 83] وهو التفعّل من الطاعة.
13-
وقال تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ [الآية 83] .
أقول: الفعل «رجع» في هذه الآية متعدّ، والكاف هي المفعول به، فكما يكون «رجع» لازما كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)[البقرة] .
وقد جاء الفعل لازما في طائفة كبيرة من الآيات، أمّا مجيئه متعدّيا، فهو قليل، منه الآية التي أثبتناها، وقوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ [طه: 40] وفي ست آيات أخرى.
أقول: وليس في العربية المعاصرة إلا الفعل اللازم، فإذا أريد المتعدي صير إلى المزيد بالهمزة «أرجع» .
14-
وقال تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 90] .
المعذّرون: هم الذين لا عذر لهم، ولكن يتكلّفون عذرا وأما المعذرون فهم الذين لهم عذر. وقرأها ابن عباس ساكنة العين، وكان يقول: والله لكذا أنزلت.
وذهب إلى أن المعذرين الذين لهم عذر، والمعذرين الذين يعتذرون بلا عذر، كأنهم المقصّرون الذين لا عذر لهم فكأن الأمر عنده أن المعذّر بالتشديد، هو المظهر للعذر اعتلالا من غير حقيقة له في العذر، وهو لا عذر له، والمعذر الذي له عذر.
والمعذّر الذي ليس بمحقّ على جهة المفعّل، وهو في الأصل
المعتذر، فأدغمت التاء في الذال، لقرب المخرجين.
15-
وقال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [الآية 101] .
قوله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، أي: تمهّروا فيه، وهو من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضري، حتى لان عليه، ومهر فيه.
أقول: ودلالة «مرد» على المرانة والتمهّر، من لغة التنزيل العزيز، التي لا نجدها في غير هذه الآية الكريمة.