الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنفال»
«1»
1-
قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الآية 1] .
الأنفال: جمع نفل وهو الغنيمة، وإنّما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم، فأحلّها الله لهم.
وقيل أيضا: إنه (ص) نفّل في السرايا، فكرهوا ذلك في تأويله:
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) كذلك تنفّل من رأيت، وإن كرهوا، وكان سيدنا رسول الله (ص) جعل لكل من أتى بأسير شيئا، فقال بعض الصحابة:
يبقى آخر الناس بغير شيء.
قال الأزهري: وجماع معنى النفل والنافلة، ما كان زيادة على الأصل.
وسمّيت الغنائم أنفالا، لأنّ المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم، الذين لم تحلّ لهم الغنائم.
وصلاة التطوّع نافلة، لأنها زيادة أجر لهم، على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم.
ونفل النبي (ص) السرايا في البدأة الرّبع، وفي القفلة الثلث، تفضيلا لهم على غيرهم من أهل العسكر، بما عانوا من أمر العدوّ، وقاسوه من الدأب والتعب، وباشروه من القتال والخوف.
وكل عطيّة تبرّع بها معطيها، من صدقة أو عمل خير، نافلة.
والنّفل: الهبة والعطيّة في التطوّع.
وتنفّل فلان على أصحابه: إذا أخذ
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
أكثر مما أخذوا، عند الغنيمة.
ونفّلت فلانا على فلان: فضّلته.
والنّفل والنافلة: ما يفعله الإنسان، ممّا لا يجب عليه.
أقول: وهذه من الموادّ القديمة التي اكتسبت في حياتهم معاني محددة، فكانت من رسومهم ومصطلحهم.
على أننا لا نجد الآن من هذه الذخيرة اللغوية، إلا قول المعاصرين:
«ومن نافلة القول» ، يريدون بها الزيادة غير الواجبة.
2-
وقال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الآية 7] .
الطائفتان هما العير والنّفير.
والنفير نفير قريش، الذين كانوا نفروا إلى بدر، ليمنعوا عير أبي سفيان.
ويقال: فلان لا في العير ولا في النفير، قيل هذا المثل لقريش من بين العرب، وذلك أن النبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة ونهض منها لتلقّي عير قريش، سمع مشركو قريش بذلك، فنهضوا ولقوه ببدر، ليأمن عيرهم المقبل من الشام مع أبي سفيان، فكان من أمرهم ما كان، ولم يكن تخلّف عن العير والقتال إلا زمن أو من لا خير فيه، فكانوا يقولون لمن لا يستصلحونه لمهمّ: فلان لا في العير ولا في النفير، فالعير ما كان منهم مع أبي سفيان، والنفير ما كان منهم مع عتبة بن ربيعة قائدهم يوم بدر.
وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ، هي العير لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا و «الشوكة» كانت في النفير لعددهم وعدّتهم.
والشّوكة: الحدّة مستعارة من واحدة الشوك، ويقال: شوك القنا لشباها.
ومنها قولهم: شائك السلاح أي:
تتمنّون أن تكون لكم العير.
أقول: وأصل الشوكة كما قلنا واحدة الشوك، ولحدّتها وما تؤدّي من الأذى، أطلقت على القوة والسلاح، وهكذا كانت مواد العربية البدوية مصدرا، أمدّ العربية بموادّ كثيرة من اللغة العالية، ومنها مواد الحضارة.
3-
وقال تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(13)
.
والمشاقّة والشّقاق، غلبة العداوة
والخلاف، وشاقّه يشاقّه مشاقّة وشقاقا:
خالفه.
وقال الزجاج في قوله تعالى:
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)[الحج] .
الشّقاق: العداوة بين فريقين، والخلاف بين اثنين سمّي ذلك شقاقا، لأنّ كلّ فريق من فريقي العداوة قصد شقّا، أي ناحية غير شقّ صاحبه.
أقول: والكثير ممّا جاء على «فاعل» من المضاعف أن يدغم في الماضي والمضارع، غير أن الفعل في الآية قد قرئ بفكّ الإدغام، وحرّك بالكسر لسكون اللام بعده، وذلك خير من إبقاء الإدغام، وتحريكه بكسر أو فتح لوقوع الساكن بعده، ولولا هذا لكان الإدغام واجبا، وهذا شيء من لطائف هذه اللغة الشريفة، على أن العربية تجيز إبقاء الإدغام في مثل هذه الحال، وسيأتي شيء من هذا.
4-
وقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 16] .
المراد بقوله تعالى: مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكرّ بعد الفرّ، يخيّل الى عدوّه أنه منهزم، ثم يعطف عليه. وهو باب من خدع الحرب ومكايدها.
أقول: و «التّحرّف» بهذه الخصوصية المعنوية من الكلم المفيد، الذي ينبغي أن يصار إليه في مثل هذه الأحوال والظروف في عصرنا فهو من الكلم الخاص، الذي يخص ظرفا خاصا، كما يخصّ جماعة المعنيين بالقتال.
وطبيعي أن «التحرّف» من معنى الميل، والعدول إلى جهة ما.
وأما قوله تعالى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، أي: منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين، سوى الفئة التي هو فيها.
والتحوّز والتحيّز سواء وهو التّنحّي.
أقول: و «التّحيّز» في عربيتنا المعاصرة هو الميل إلى جهة ما، وهي في الكثير الجهة السائرة في طريق الباطل وغير الحق، فإذا قيل: فلان متحيّز فكأنّهم قالوا: فلان جائر يميل مع الباطل.
وأما التحوّز فلا نعرفه في العربية المعاصرة.
5-
وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الآية 30] .
المراد بقوله تعالى: لِيُثْبِتُوكَ ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعا، وقرئ:«ليثبّتوك» ، بالتشديد.
وقرأ النّخعي: ليبيتوك من البيات.
وعن ابن عباس: ليقيّدوك، وهو دليل لمن فسّره بالإيثاق.
6-
وقال تعالى: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) .
وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ما سطره الأوّلون من الأمم السالفة، أي: ما كتبوه.
ولمّا كانت كتابات هؤلاء وما سطروه وما خلفوه من رموز كذبا، أطلقت «الأساطير» على الأباطيل والأكاذيب.
وقد جاء أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في تسع آيات مختلفات بهذا المعنى.
وقال أهل اللغة: الأساطير واحدتها إسطار وإسطارة بالكسر، وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة بالضم.
وقالوا أيضا الأساطير جمع الأسطورة كالأحاديث جمع الأحدوثة.
وقال آخرون: الأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، فكأنه جمع الجمع.
ومنهم من قال: الأساطير لا واحد لها.
أقول: ومن العجيب أننا لم نقف إلا على «الأساطير» بلفظ الجمع، فلم نجد الأسطور ولا الأسطورة، ولا الأسطير، ولا الأسطيرة، ولا الإسطارة.
وعندي أن هذه المواد استحدثت بعد أن رأى اللغويون الكلمة مجموعة «أساطير» ، فذهبوا إلى هذه المواد المفترضة، قياسا على نظائره، فالذي قال: إن مفردها أسطورة قاسها على الأحاديث والأحدوثة، ومثل هذا سائر ما افترضوه من المفرد، لهذه الكلمة المجموعة.
وأرى أن من ذهب إلى أنها جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، مثل السطور على حق، فالكلمة جمع الجمع وهي تعني ما كتبه الأولون من سطور، أي: كتابات.
غير أن المعاصرين أجروها مجرى الأحاديث والألاعيب فقالوا: مفردها أسطورة، فما الأسطورة في اصطلاح أهل عصرنا؟
أقول: إن الكثير من المسمّيات في هذا العصر، أخذ فحواها، وعرفت حقائقها من اللغات الأجنبية، ومن هذه مادة «الميثولوجيا» «1» التي تعني حكايات غريبة فيها أخبار، وحقائق، وشخوص، ومخلوقات، وسرد يرمي إلى فكرة أخلاقية، أو دينية، أو اجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها، وربّما لا ترمي إلى شيء، وهي تشتمل على أناسيّ، وحيوانات، وطيور، ومخلوقات أخرى غريبة من الإنس والجن، بعضها إنسان وبعضها حيوان غريب.
وهذه المواد الأدبية التاريخية القديمة حفلت بها الآداب القديمة في العراق، ومصر، وسائر بلاد العرب، واليونان، والرومان، والهند، والصين وغيرها.
وقد أشير إليها في عصرنا هذا لدى الدارسين العرب، فماذا يستعيرون لها من الأسماء العربية؟ لقد استعاروا «الأساطير» لهذه المواد بما اشتملت عليه من رسوم وتقاليد وشخوص، وما يضطرب فيها المخلوقات، من هنا لزموا المفرد الذي أشارت إليه المعجمات العربية القديمة، فكانت «الأسطورة» بهذا المعنى المعروف.
ثم حاول نفر من الدارسين إلى الكتابة في الأساطير العربية، فذهبوا إلى أن «أوابد» العرب في معتقدهم، وعاداتهم، وسلوكهم شيء من الأساطير.
7-
وقال تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] .
المكاء من المصادر الدالة على الأصوات، وهو الصفير، ومكا الإنسان يمكو مكوا ومكاء: صفر بفيه.
ومنه المكّاء، كأنه سمّي بذلك لكثرة مكائه، وهو طائر في ضرب القنبرة يألف الريف، وجمعه مكاكيّ.
والتصدية تفعلة من الصّدى، أو من صد يصدّ صديدا، أي: ضجّ. وهذا يعني أن الصلة واضحة بين المعتلّ والمضاعف. أي: أنّهم جعلوا المكاء
(1) . علم «الميثولوجيا» من الكلمة الاغريقية «» .
والتصدية في موضع الصلاة، وذلك أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة:
الرجال والنساء، وهم مشبّكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفّقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك، إذا قرأ رسول الله (ص) في صلاته، يخلطون عليه.
أقول: والمكاء والتصدية، من الكلم ذي الدلالة التاريخية المفيدة.
8-
وقال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الآية 39] .
أقول: إن الفعل «تكون» ، فعل على نمط الأفعال التي تكتفي بالمرفوع الفاعل. وهو الذي يدعوه النحاة، «التام» غير الناقص الذي يقتضي مرفوعا ومنصوبا. وهذا الضرب من الفعل كثير في العربية القديمة، قليل جدا في العربية المعاصرة، بل قل: إن المعاصرين يجهلونه، فلا يرد في كلامهم وأدبهم.
ومثله قوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) .
وقوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71] .
وقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)[يس] .
وغير ذلك من الآيات.
وأنت تقف على الفعل التام في الأدب القديم، وفي أسلوب القصص كأن يقال: فكان اليوم الثالث، وحدث فيه كذا وكذا.
9-
وقال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] .
أقول: هذه هي القراءة المشهورة، وقرأ أهل المدينة:«ويحيا من حيي عن بينة» .
قال الفرّاء: كتابتها على الإدغام بياء واحدة، وهي أكثر قراءات القراء، وإنما أدغموا الياء في الياء، وكان ينبغي ألّا يفعلوا لأن الياء، الأخيرة لزمها النصب في «فعل» ، فأدغم لمّا التقى حرفان متحرّكان من جنس واحد، قال: ويجوز الإدغام في الاثنين، للحركة اللازمة للياء الأخيرة، فتقول:
حيّا، وحيّيا.
وينبغي للجمع أن لا يدغم إلا بياء، لأنّ الياء يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغي لها أن تسكّن فتسقط بواو الجماعة، وربّما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف
الأفعال، وأن تكون كلها مشددة، فقالوا في حييت حيّوا، وفي عييت عيّوا، قال وأنشدني بعضهم:
يحدن بنا عن كلّ حيّ كأنّما
…
أخاريس عيّوا بالسّلام وبالكتب
قال: وأجمعت العرب على إدغام «التحية» لحركة الياء الأخيرة، كما استحبّوا إدغام «حيّ» و «عيّ» للحركة اللازمة فيهما، فأما إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغام مثل: «يحيي ويعيي، وقد جاء في الشعر الإدغام في مثل هذا الموضع، وهو قوله:
وكأنّها بين النّساء سبيكة
…
تمشي بسدّة بيتها فتعيّى
أقول: ومن الواجب أن نقف قليلا على هذه الألفاظ المشكلة لفائدتها اللغوية التاريخية، ولنهتدي إلى مكان علم الأصوات من الناحية التطبيقية.
10-
وقال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ [الآية 61] .
السّلم تؤنث تأنيث نقيضها، وهي الحرب، قال:
السّلم تأخذ منها ما رضيت به
…
والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وقرئ بفتح السين وكسرها.
أقول: والسّلم في العربية المعاصرة مذكر، يقال السّلم العالمي.
11-
وقال تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الآية 67] .
أقول: كنا عرضنا للفعل «كان» ، وهي مكتفية بالمرفوع الفاعل، تلك التي سمّاها النحويون «التامة» .
وفي هذا، تأتي «كان» مرة ثانية في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ، والمعنى ما صح له وما استقام، وهذا معنى جديد للفعل يجعلها تامة أيضا مكتفية بالمرفوع نظير «يكون» ، التي تليها في الآية نفسها، ومعناها الحصول والثبوت، وهي تامة أيضا مكتفية بالفاعل «أسرى» .
12-
وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 73] .
أقول: كنت قد عرضت لدلالة «بعض» على الإفراد، وأتيت بشواهد من لغة التنزيل، وها أنا أقف على هذه الآية لأشير إلى أن كلمة «بعض» فيها، تدل على الجمع دلالة صريحة، وفي هذا ردّ على من زعم أنها تدل على الواحد ليس غير.