الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التوبة»
«1»
....... «2» ....
على الحقيقة هي التقارب بالحدود مثل المسامتة، وهي المماثلة في السّمت الذي هو الجهة، وذلك من صفات الأجسام، وذوات الحدود والأقطار. فالمراد إذن بالمحادّة هاهنا كون الإنسان في غير الحدّ الذي فيه أولياء الله سبحانه. فكأنهم في حدّ، وأولياء الله سبحانه في حدّ. وكذلك الكلام في مشاقّة الله تعالى على أحد التأويلين، وهو أن يكون الإنسان في شقّ أعداء الله وحربه، لا في شقّ أوليائه وحزبه.
وحقيقة الكلام أن يكون المراد به محادّة أولياء الله على الصفة التي ذكرناها فقال تعالى: يُحادِدِ اللَّهَ [الآية 63] كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] أي يؤذون أولياء الله ورسوله، لأنّ الأذى لا يجوز على من لا تلحقه المنافع والمضار، والمساآت والمسارّ.
وفي قوله سبحانه: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [الآية 64] وهذه استعارة. لأن السورة، نطقها من جهة البرهان، لا من جهة اللسان. فكأنه سبحانه، أراد أنّ الناس يعلمون، بهذه السورة، النازلة في المنافقين، بواطن نفوسهم، وعقائد قلوبهم.
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]
(2)
. هنا بداية القسم الموجود من سورة التوبة، أما ما قبل ذلك فمفقود مع آخر قسم من سورة الأعراف.
وقوله سبحانه «1» : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [الآية 87] . [الخوالف النساء «2» ] المقيمات في دار الحي بعد رحيل الرجال. وإنما سمّي النساء خوالف تشبيها لهنّ بالخوالف، التي واحدتهن خالفة، وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحيّ المضروبة.
فشبّهن- لكثرة لزوم البيوت- بالخوالف التي تكون في البيوت.
وقد قيل إن الخوالف أيضا زوايا البيوت، واحدتها خالفة والمعنى واحد. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ حقيقة الخوالف التي هي أعمدة البيوت أي رضوا بأن يكونوا في بيوتهم، فيكونوا- بالملازمة لها- كخوالفها وأعمدتها.
وقد يجوز أيضا، أن يكون الخوالف هاهنا جمع فرقة خالفة. وهي الجماعة التي تقعد عن الغزو، كالشيوخ، والنساء، وذوي العاهات، والولدان.
وممّا يقوي ذلك قوله تعالى أمام هذا الكلام: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) .
وكنت سمعت شيخنا أبا الفتح عثمان بن جنّي «3» النحوي- رحمه الله يقول ذلك، ويذهب إلى مثله أيضا في قوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . ويقول: هي جمع فرقة كافرة. إلا أنّ الكلام يكون على القول الأول استعارة. ويكون على هذا القول حقيقة.
وفي قوله سبحانه: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الآية 98] استعارة. «4» .... عليهم أيام السوء، لأن الأيام والشهور قد تسمى دوائر، على طريق الاستعارة. فليس لأنها ترجع بأعيانها، وإنّما تعود أشباهها وأمثالها، فشهر كشهر، ويوم كيوم، وساعة كساعة، وسنة كسنة. يقال دارت السنون، ودارت الشهور على
(1) . هذه زيادة ليست بالأصل يقتضيها السياق.
(2)
. هذا السطر ممحوّ، وقد استظهرناه من السياق، الذي يفسر الخوالف بالنساء المقيمات في دار الحيّ.
(3)
. أبو الفتح عثمان بن جنّي، إمام من أئمّة النحو. وقد اشتهر بشرحه لديوان المتنبّي، وبكتابه «الخصائص» في اللغة، وهو مشهور. وكان المتنبي يقول:«ابن جني أعرف بشعري مني» ، وقد كان ابن جني أستاذا للشريف الرّضي، ونقل هذا عنه كثيرا في كتابه «المجازات النبوية» . توفي سنة 392 هـ.
(4)
. هنا سطران ممحوان محوا تاما.
هذا المعنى. إلّا أن هذه اللفظة، أعني الدائرة والدوائر، قد اختص ذكرها بالمواضع المكروهة. فيقال: دارت عليهم الدوائر، إذا أهلكتهم الأيام، وأفنتهم الأعوام. ويقال: دارت لهم الدنيا. إذا وصفوا بمواتاة الإقبال، وانتظام الأحوال. فكأنّ التمييز في الخير أو الشرّ، إنما يقع بقولنا: دارت لهم، ودارت عليهم.
وفي قوله سبحانه: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [الآية 109] استعارة. والمراد بها ذكر ما بناه المنافقون من مسجد الضّرار «1» ، بعد ما بنى المؤمنون من المسجد المعروف بمسجد قباء «2» . لأن المؤمنين وضعوا هذا البناء، وهم مؤمنون متّقون، عارفون موقنون، فكأنهم وضعوه على قواعد من الإيمان، وأساس من الرضوان. والمنافقون، إنما وضعوا ذلك البناء كيدا للمؤمنين، وإرصادا للمسلمين. فكأنهم وضعوه على شفا جرف هار متقوّض، وأساس واه منتقض فكأنما انهار بهم في نار جهنّم، أي أسقطهم ذلك الفعل في عذاب النار، ودائم العقاب. وهذه من أحسن الاستعارات.
وفي قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [الآية 110] استعارة. ومعناها أن ذكر البنيان الذي بنوه لا يزال ريبة في قلوبهم، يخافون معها إنزال الله بهم ضروب العقاب، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق. فهم أبدا بنفوسهم مستريبون، وعليها خائفون مشفقون.
فلا يزالون على ذلك، إلا أن تقطّع قلوبهم حسرة، وتزهق نفوسهم خيفة.
وفي قوله تعالى:
(1) . مسجد الضرار، هو المسجد الذي بناه المنافقون بقباء، لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم، وقد سألوا النبي (ص) عند رجوعه من تبوك، أن يأتي مسجدهم هذا ليصلّي فيه فأنزل الله فيه قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. وقد أمر النبي (ص) بهدم هذا المسجد، الظالم أهله فحرق، وهدم، واتخذ موضعه مكانا للقمامة.
(2)
. مسجد قباء هو المسجد الذي أسسه النبي (ص) على التقوى من أول يوم نزل فيه قباء، وهي بلدة على بعد ميلين من جنوب المدينة.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [الآية 111] استعارة.
وذلك أنه سبحانه لمّا أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم في الجهاد عن دينه، والمنافحة عن رسوله (ص) ، وضمن لهم على ذلك الخلود في النعيم، والأمان من الجحيم، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة، وكانت الصفقة رابحة، لزيادة الأثمان على السلع، وإضعاف الأعواض على القيم.
وجملة هذا الباب، أنّ العبادات كلّها كالتجارات، في أنها طلب للمنافع.
فالعبادات «3» طلب لمنافع الاخرة، والتجارات طلب لمنافع الدنيا.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [الآية 117] استعارة. لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد: من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة، وتقنط من نزول الرحمة، فتكون بذلك كالشيء الزائغ بعد الاستقامة، والمستمال بعد الثبات والرصانة.
ومن الدليل على ذلك، قوله تعالى، بعد هذه الآية: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [الآية 118] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول، من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدّة الكرب، وبلوغها منقطع الصبر.
وقوله سبحانه: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [الآية 120] وهذه استعارة.
فالمراد بها، أنهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم، عمّا يبذل النبي (ص) فيه نفسه، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته، اقتداء به، واتّباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا، فيقولون:
رغبت بنفسي عن الضيم، وأرغب بك يا فلان عن القتل، أي أضنّ بنفسي عن أن تذلّ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.
(3) . في الأصل «بالعبادات» ، وهو تحريف من الناسخ.
فالظاهر، يدل على أنهم رضوا بنفوسهم عن نفس النبي (ص) .
والمراد: وما كان لهم أن يرغبوا بالنفوس. عن. «1» .... التي ينزلها نفسه، ويعرض فيها مهجته.
وقوله سبحانه: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) وهذه استعارة ظاهرة. وذلك ان السّورة لا تزيد الأرجاس «2» رجسا، ولا القلوب مرضا، بل هي شفاء للصدور، وجلاء للقلوب ولكنّ المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى وعمها، وازدادت قلوبهم ارتيابا ومرضا، حسن أن يضاف ذلك الى السورة، على طريق لأهل اللسان معروفة.
وقد استقصينا الكلام على ذلك في عدة مواضع من كتابنا الكبير. فمن أراد بلوغ أقاصي هذه الطريقة، والضرب في أقطارها، والتفسّح في أعطافها، فليتتبّع مواضعها من ذلك الكتاب بمشيئة الله.
وقوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [الآية 128] وهذه استعارة.
والمراد بأنفسكم هاهنا- والله أعلم- أي من جنس أنفسكم وخلقكم، لتكونوا إليه أسكن، والى القبول منه أقرب.
ويجوز أن يكون من أنفسكم أي من قبيلكم وعشيرتكم، كما يقول القائل:
فلان من أنفس بني فلان. أي من صميم أنسابهم، وليس من وسطائهم وملاصقهم.
وقد يجوز أن يكون المراد برسول من أنفسكم، أي من أشقائكم وأعزّائكم، كما يقول القائل لذي ودّه والقريب من قلبه: أنت من نفسي، وأنت من قلبي. أي أنت شقيق النفس، وقسيم القلب.
ومما يقوّي ذلك، قوله سبحانه:
(1) . بياض بالأصل. ويصحّ أن توضع هنا كلمة المواطن، أو المواضع، أو المنازل، أو ما إليها من هذا الباب.
(2)
. في الأصل «لا تزيد الأرجاس إلّا رجسا» وإلا زائدة من الناسخ بها ينقلب المعنى الى الضد. والصواب حذفها كما أثبتناه.
عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) أي بحبّه لكم، وميله إليكم، يعزّ عليه أن تعنتوا وتعاندوا، فتحرموا الثواب، وتستحقوا «1» العقاب، فهو حريص على إيمانكم، رأفة بكم، وإشفاقا عليكم.
(1) . في الأصل «ويستحقّوا» بضمير الغائبين، والصواب «وتستحقّوا» بضمير المخاطبين كما أثبتناه.