الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنعام»
«1»
في قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) استعارة. لأن الأصل في هذه اللفظة:
دابرة الفرس، وجمعها دوابر، وهي ما يلي حافره من خلفه. ودابرة الطائر:
هي الشاخصة التي خلف رجله، وتدعى الصّيصيّة «2» أيضا.
فالمراد بقوله سبحانه: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا والله أعلم: أي قطعت عنهم الأمداد اللاحقة بهم من خلفهم، والتالون لهم في غيّهم وضلالهم. أو قطع خلفهم من نسلهم، فلم تثبت لهم ذرّيّة، ولم يبق لهم بقية.
وفي قوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ [الآية 46] استعارة. والمراد بالأخذ هاهنا، إبطال حواسّهم. وإذا بطلت، فكأنّها قد أخذت منهم، وغيّبت عنهم.
وفي قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الآية 59] واستعارة. والمراد: وعنده الوصلة إلى علم الغيب، فإذا شاء فتحه لأنبيائه وملائكته، وإن شاء أغلق عنهم علمه، ومنعهم فهمه. وعبّر تعالى عن ذلك بالمفاتح، وهي أحسن عبارة، وأوقع استعارة. لأنّ كل ما يتوصل به إلى فتح المبهم، وبيان المستعجم سمّي بذلك.
ألا ترى إلى قول الرجل لصاحبه إذا أشكل عليه أمر، أو اختلّ له حفظ:
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2)
. الصيصية والصيصة: شوكة الحائك، وشوكة الديك أو الطائر. والجمع صياص.
افتح عليّ، أي: بيّن لي، وفهّمني ما غرب عنّي.
وفي قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الآية 68] استعارة. والمراد بها إثارة أحاديث الآيات ليستشفّوا بواطنها، ويعلموا حقائقها، كالخابط في غمرة الماء، لأنه يثير قعرها، ويسبر غمرها. وقد مضى الكلام على نظير ذلك في (النساء) .
وفي قوله سبحانه: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الآية 80] استعارة. لأن صفة الشيء بأنه يسع غيره، لا يطلق إلّا على الأجسام التي فيها الضّيق والاتّساع، والحدود والأقطار. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فالمراد أن علمه سبحانه يحيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية، ولا تدقّ عنه غامضة.
وفي قوله سبحانه: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الآية 92] استعارة. والمراد بأمّ القرى مكّة، وإنّما سماها سبحانه بذلك، لأنها كالأصل للقرى، فكلّ قرية فإنما هي طارئة عليها، ومضافة إليها.
وفي قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الآية 93] استعارة عجيبة. لأنه سبحانه شبه الذين يعتورهم كرب الموت وغصصه، بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه.
وقد سميت الكربة غمرة لأنها تغمر قلب الإنسان، آخذة بكظمه، وخاتمة على متنفسه. والأصل في جميع ذلك غمرة الماء.
وفي قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الآية 95] استعارة على بعض الأقوال، ومعناها أنه سبحانه يشق الحبة الميتة، والنواة اليابسة، فيخرج منها ورقا خضرا «1» ، ونباتا ناضرا، ويخرج الحبّ اليابس الذاوي من النبت الحي النامي. وقال بعضهم: يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي موات، ويخرج النطفة الموات من الإنسان الحيّ. والله أعلم بالصواب.
وقوله سبحانه: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 100] استعارة.
(1) . الورق الخضر هو الأخضر. ووزنها مثل فرح.
والمراد أنهم دعوا له سبحانه بنين وبنات بغير علم، وذلك مأخوذ من «الخرق» وهي الأرض الواسعة، وجمعها خروق، لأنّ الريح تتخرّق فيها، أي تتسع. والخرق من الرجال:
الكثير العطاء، فكأنّه يتخرق.
«والخرقة» جماعة الجراد مثل الحرقة، والخريق: الريح الشديدة الهبوب.
فكأنّ معنى قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ أي اتّسعوا في دعوى البنين والبنات له، وهم كاذبون في ذلك.
والاختراق، والاختراع، والانتسال بمعنى واحد، وهو الادعاء للشيء على طريق الكذب والزور.
وفي قوله سبحانه: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الآية 112] استعارة. لأن الزخرف في لغة العرب:
الزينة. ومن ذلك قولهم: دار مزخرفة أي مزيّنة. فكأنه تعالى قال: يزيّنون لهم القول ليغترّوا به، وينخدعوا بظاهره، كما يستغرّ بظاهر جميل، على باطن مدخول.
وفي قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 110] استعارة. لأن تقليب القلوب والأبصار على الحقيقة وإزالتها عن مواضعها، وإقلاقها عن مناصبها لا يصحّ، والبنية صحيحة والجملة حيّة متصرّفة. وإنما المراد، والله أعلم، أنّا نرميها بالحيرة والمخافة، جزاء على الكفر والضلالة. فتكون الأفئدة مسترجعة لتعاظم أسباب المخاوف، وتكون الأبصار منزعجة لتوقّع طلوع المكاره. وقد قيل: إنّ المراد بذلك تقليبها على قراميص «1» الجمر في نار جهنم، وذلك يخرج الكلام عن حيّز الاستعارة إلى حيز الحقيقة.
وفي قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الآية 113] . وهذه استعارة. والمعنى:
ولتميل إليه أفئدة هؤلاء المذكورين.
ويقال: صغى فلان إلى فلان. أي مال إليه. وصغوه معه: أي ميله. ومنه أصغى بسمعه إلى الكلام. إذا أماله إلى جهته، ليقرب من استماعه. وميل القلب إلى المعتقدات، كميل السمع إلى المسموعات.
وفي قوله تعالى:
(1) . القراميص: جمع قرماص، وهو في الأصل الحفرة الواسعة الجوف الضيقة الرأس أو هي موضع خبز الملّة.
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 127] . استعارة.
والمراد: لهم محل الأمنة والسلامة والمنجاة من المخافة. وتلك صفة الجنة. والسلام هاهنا: جمع سلامة «1» .
وفي قوله تعالى: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
[الآية 130] استعارة. لأنهم لمّا اغترّوا بالحياة الدنيا، حسن أن يقال إنها غرّتهم. ولما كان فيها ما تميل إليه شهواتهم، جاز أن يقال: إنّها استمالت شهواتهم.
وفي قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 153] استعارة. والسّبل التي هي الطرق لا تتفرّق بهم، وإنما هم الذين يفارقون نهجها، ويتّبعون عوجها.
وفي قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الآية 164] استعارة.
والمعنى: ولا تحمل حاملة حمل أخرى. يريد تعالى في يوم القيامة. أي لا يخفف أحد عن أحد ثقلا، ولا يشاطره حملا. لأنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومفدوح «2» بحمله. وليس أن هناك على الحقيقة أحمالا على الظهور، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب.
ونظير ذلك قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123]«3» .
(1) . ويصح أن يكون السلام اسما من اسم الله تعالى. فتكون دار السلام دار الله. كما يقال للكعبة بيت الله.
(2)
. المفدوح: الذي يحمل حملا فادحا، فيعيا به.
(3)
. وهذه الآية من المتشابه.