الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأعراف»
«1»
في قوله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) . استعارة. لأن الخسران في التعارف إنّما هو النقص في أثمان المبيعات. وذلك يخصّ الأموال لا النفوس. إلّا أنه سبحانه لمّا جاء بذكر الموازين وثقلها وخفّتها، جاء بذكر الخسران بعدها، ليكون الكلام متّفقا، وقصص الحال متطابقا.
وكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم.
وذكر خسرانهم لها، لأنهم عرّضوها للخسار، وأوجبوا لها عذاب النار.
فصارت في حكم العروض المتلفات، وتجاوزوا حدّ الخسران في الأثمان، إلى حد الخسران في الأعيان.
وفي قوله سبحانه حاكيا عن إبليس:
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) استعارة، والصراط هنا كناية عن الدين، جعله الله سبحانه طريقا للنجاة والمفاز، وفي داري القرار والمجاز وإنما قال صراطك، لمّا كان الدين كالطريق المؤدية إلى رضا الله سبحانه ومثوبته، الموصلة إلى نعيمه وجنته. فكان إبليس- لعنه الله- إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ليضلّ عنه كلّ قاصد، ويردّ عنه كلّ وارد، بمكره وخدائعه، وتلبيسه ووساوسه.
تشبيها بالقاعد على مدرجة بعض السّبل ليخوّف السالكين منها، ويعدل
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
بالقاصدين عنها. والمراد: لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فلمّا حذف الجارّ انتصب الصراط.
والحذف هنها أبلغ في الفصاحة، وأعرق في أصول العربية. ونظيره قول الشاعر «1» .
كما عسل الطريق الثعلب
أي عسل في الطريق.
وكلّ ما في القرآن من ذكر سبيل الله سبحانه، فالمراد به الطريق المفضية إلى طاعته عاجلا، وإلى جنّته آجلا.
وقوله سبحانه: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الآية 22] . استعارة. والمراد أنه أوقعهما في أهوائه بغروره لهما. وكل واقع في مثل ذلك فإنه نازل من علو إلى استفال، ومن كرامة إلى إذلال.
فلذلك قال تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ.
وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير، عند القول فيما اختلف العلماء فيه من ذنوب الأنبياء (ع) .
وقول تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الآية 26] وقد قرئ:
ورياشا «2» ، وهما جميعا استعارة هنا «3» . لأنّ المراد بهما اللباس.
وسمي اللباس ريشا ورياشا تشبيها بريش الطائر الذي يستر جملته. ومن كلام العرب: أعطيته رجلا بريشه. أي بكسوته.
وقال المفسّرون: معنى لباس التّقوى، ما كان من الملابس يستر العورة، لأنّ ستر العورة من أسباب التّقوى. وقرئ:«ولباس التّقوى» .
نصبا بأنزلنا عليكم. والرفع فيه على معنى الابتداء. ويكون «خير» خبرا له. فيكون المعنى: ولباس التقوى المشار إليه خير. وهذا أسدّ القولين في هذا المعنى.
وفي قوله تعالى:
(1) . هو الشاعر ساعدة بن جؤبة يصف رمحا. والبيت كاملا هو:
لدن بهز الكف يعسل متنه
…
فيه، كما عسل الطريق الثّعلب
انظر ابن هشام في «أوضح المسالك» ج 2 من 16.
(2)
. قرأ ذلك الحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي، كما قرأه ابو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي.
(3)
. الاستعارة في قوله تعالى قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً لا تتّضح إلا إذا كان اللباس هو المطر الذي به ينبت القطن والكتان. أي أنزلنا عليكم مطرا ينتج القطن والنبات الذي تتخذون منه ملابسكم- انظر القرطبي ج 7 من 184.
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الآية 29] استعارة.
لأن الوجه لا يصحّ عليه القيام.
والمعنى: «فوجّهوا وجوهكم عند كل مسجد» . ويجوز أن يكون معنى ذلك: «فتوجّهوا بجملتكم نحو كل مسجد» . لأن وجه الشيء عبارة عن جملته.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الآية 40] استعارة. والمراد لا يصلون إلى الجنة ولا يتسهّل لهم السبيل إليها، ولا يستحقّون بأعمالهم الدخول إليها. ومثل ذلك قوله سبحانه: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11)[القمر] أي سهّلنا خروجه من السماء إلى الأرض، ورفعنا الحواجز بينه وبين الخلق.
وقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الآية 41] وهذه استعارة. وقد مضى في (آل عمران) إلّا أنّ الزيادة هاهنا قوله سبحانه: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ فكأنه جعل لهم من النار أمهدة مفترشة وأغشية مشتملة، فيكون استظلالهم بحرها، كاستقرارهم على جمرها. نعوذ بالله من ذلك.
وقوله سبحانه: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الآية 43] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء يتأتّى نزعه على الحقيقة. والمعنى: أزلنا ما في صدورهم من الغلّ بإنسائهم إيّاه، وبإحداث أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم، وتشفع مواقعه من صدورهم.
وقال بعض المفسّرين: معنى ذلك:
أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضا على علوّ المنزلة فيها، والبلوغ إلى مشارف رتبها. والحسد: الغلّ.
وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وهذه استعارة خفيّة. وقد تكون استعارة خفيّة، واستعارة جليّة. وذلك أن حقيقة الميراث في الشرع، هو ما انتقل إلى الإنسان من ملك الغير بعد موته على جهة الاستحقاق.
فأما صفة الله تعالى بأنه الوارث لخلقه، كقوله سبحانه: وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)[القصص] وكقوله:
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 180 الحديد: 10] فهو مجاز.
والمراد: أنه سبحانه الباقي بعد فناء الخلق، وتقوّض السماء والأرض.
وقد استعمل ذلك أيضا في نزول قوم ديار قوم بعدهم، وأخذ قوم أموال
قوم بعد إجلائهم وحربهم. فقال سبحانه في هذه السورة: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الآية 137] .
وقال تعالى في موضع آخر: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الأحزاب: 27] وليس يصحّ في ميراث الجنّة مثل هذه المعاني التي ذكرت، لأن الجنة لا يسكنها قوم بعد قوم قد فارقوها وانتقلوا عنها. فقوله سبحانه:
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها على الأصل الذي قدّمناه استعارة. ويكون المعنى الذي يسوّغ هذه الاستعارة، أنّ هؤلاء المؤمنين لمّا عملوا في الدار الدنيا أعمالا استحقّوا عليها الجزاء والثواب، ولم يصحّ أن يوفّر عليهم ذلك إلا في الجنّة، وهي من الدار الاخرة فكأنّهم استحقّوا دخولها.
فحسن من هذا الوجه أن يوصفوا بأنهم أورثوها، وإن لم يكن سكناهم لها بعد سكنى قوم آخرين انتقلوا عنها.
وسوّغ ذلك أيضا اختلاف حال الدّارين، وانتقالهم من الأولى إلى الآخرة. فكأنّ ما عملوه في الدار الأولى كان سببا لما وصلوا إليه في الدار الاخرة، كما يستحقّ الميراث بالسبب.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [الآية 45] وهذه استعارة، فإن، سبيل الله سبحانه:
دينه. ومعنى وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يبتغون عنها المتحاول، ويطلبون منها الفسح والمخارج، ويوهمون بالشّبهات أنّها معوجّة غير قويمة، ومضطربة غير مستقيمة.
وقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) وقد مضى نظير ذلك في أوّل السورة.
وقوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ [الآية 54] وهذه استعارة.