الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال»
«1»
إن قيل: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الآية 2] إلى آخر الآيتين، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات، لا يكون مؤمنا، لأن كلمة «إنّما» للحصر.
قلنا: فيه إضمار تقديره: إنّما المؤمنون إيمانا كاملا، وإنّما الكاملون في الإيمان، كما يقال الرجل من تصبّر على الشدائد، يعني الرجل الكامل.
فإن قيل: قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الآية 4] ينفي إرادة ما ذكرتم.
قلنا: معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقّا، وقيل إنّ «حقّا» متعلق بما بعده لا بما قبله، والمؤمنون تمام الكلام.
فإن قيل: كيف يقال: إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وقد قال تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الآية 2] ؟
قلنا: المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك، لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى، وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان، فكذا الإقرار بها.
فإن قيل: قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الآية 5] تشبيه، فأين المشبّه والمشبّه به؟
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
قلنا: معناه: امض على ما رأيته صوابا، من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحقّ، وهم كارهون. وقيل معناه: فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فهو خير لكم، وإن كرهتم، كما كان إخراجك من بيتك بالحقّ؟
فإن قيل: لم قال تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الآية 8] وكلاهما متعذّر، لأنه تحصيل حاصل؟
قلنا: المراد بالحق الإيمان، والباطل الشرك، فاندفع السؤال.
فإن قيل ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟
قلنا: إنّما ذكر أوّلا، لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة، التي كانت فيها الغنيمة، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين، فذكره أوّلا للتمييز بين الإرادتين، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الآية 17] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار، ورماهم النبي (ص) بكفّ من حصا الوادي في وجوههم، وقال:
شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلّا وقع في عينيه شيء من ذلك، فشغلوا بعيونهم وانهزموا، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟
قلنا: لمّا كان السبب الأقوى في قتلهم، إنّما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم، وذلك كله فعل الله تعالى، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله (ص) لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر، فعل الله تعالى. ونظير هذا، قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه، بتسليط من هو أعلى رتبة منه: هذا ليس قولك ولا فعلك. وقيل معنى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الآية 17] وما رميت الرعب في
قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم، ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم.
ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة، مباحث لا يحتملها هذا المختصر، وهي مستقصاة في كتب التصوف.
فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الآية 20] ثنّى في الأمر، ثم أفرد في النهي؟
قلنا: كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم: إنعام فلان ومعروفه يغشيني، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعليه جاء قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] أي يرضوهما، فكذا هنا معناه: ولا تولوا عنهما. الثاني أنه إن أفرد باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، قال الله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] فكان الإعراض عن الرسول (ص) إعراضا عن الله تعالى، فاكتفي بذكره.
الثالث أن معناه: ولا تولّوا عن هذا الأمر وعن أمثاله فالضمير للأمر لا للرسول (ص) . الرابع: إنه إنما لم يقل ولا تولّوا عنهما، لئلا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي (ص) عند نهيه للكفار، في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى، في ذكرهما بلفظ واحد، من غير تقديم اسم الله، كما روي، «أن خطيبا خطب فقال: من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى، فقال له النبي (ص) :«بئس خطيب القوم أنت، هلّا قلت: ومن عصى الله ورسوله فقد غوى» ؟
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الآية 23] ؟
قلنا: معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل، لأسمعهم سماع فهم وقبول أو لأنطق لهم الموتى، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا.
وقيل: معنى لَأَسْمَعَهُمْ: لرزقهم الفهم والبصيرة، وأسمعهم وحالهم هذه الحال، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير، لتولّوا وهم معرضون، لعنادهم وجحودهم الحق، بعد ظهوره.
فإن قيل: التولّي والإعراض واحد،
فما الحكمة في قوله تعالى لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ؟
قلنا: معناه لتولّوا عن الإيمان، وأعرضوا عن البرهان، فلا تكرار.
فإن قيل: فما الحكمة في ذكر السماء في قوله تعالى: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الآية 32] والمطر إنما يكون من السماء؟
قلنا: الجواب الاول المطر المطلق، إنما يكون من السماء ولكن المطر المضاف هنا، وهو مطر الحجارة، قد يكون من رؤوس الجبال، ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها فكان ذكر السماء مفيدا، لأنّ الحجارة إذا نزلت من السماء، كانت أشدّ نكاية، وأكثر ضررا. الجواب الثاني، أنه لما كانت الحجارة المسوّمة للعذاب، وهي السّجّيل معهودة النزول من السماء، ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة، كأنه قال: فأمطر علينا حجارة من سجّيل فوضع قوله من السماء، موضع قوله من سجيل، كما يقول: صبّ عليه مسرودة من حديد، يعني درعا.
فإن قيل: لم قال تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الآية 33] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر، وهو فيهم؟
قلنا: معناه وأنت مقيم فيهم بمكة، وكان كذلك، لأن النبي (ص) ما دام بمكة لم يعذّبوا، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذّبوا. وقيل معناه:
وما كان الله ليعذّبهم عذاب الاستئصال، وأنت فيهم. وقيل معناه:
وما كان الله ليعذّبهم العذاب الذي طلبوه، وهو إمطار الحجارة، وأنت فيهم.
فإن قيل: لم قال الله تعالى أوّلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الآية 33] ، ثم قال جلّ وعلا وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الآية 34] ، وهو يوهم التناقض؟
قلنا: معناه وما لهم أن لا يعذّبهم الله بعد خروجك من بينهم، وخروج المؤمنين والمستغفرين. وقيل: المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال، وبالثاني عذاب غير الاستئصال، وقيل:
المراد بالأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذاب الاخرة.
فإن قيل: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وهما ليسا بصلاة؟
قلنا: معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية، مقام الصلاة، كما يقول القائل زرت فلانا، فجعل الجفاء صلتي: أي أقام الجفاء مقام صلتي، ومنه قول الفرزدق:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه
…
أداهم سودا أو محدرجة سمرا
أراد بالأداهم القيود وبالمحدرجة السياط، ووضعهما موضع العطاء.
فإن قيل: في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) لم ينته الكافرون عن الكفر، فلم قال سبحانه وَإِنْ يَعُودُوا [الآية 38] والعود إلى الشيء، إنّما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟
قلنا: معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله (ص) ومحاربته، يغفر لهم ما قد سلف من ذلك وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته، فقد مضت سنة الأولين منهم، الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية. وقيل معناه: إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان، يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، كما قال النبي (ص)«الإسلام يجبّ ما كان قبله» وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا، فقد مضت سنة الأولين من الأمم، من أخذهم بعذاب الاستئصال.
فإن قيل: الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم، وزيادة اجترائهم على القتال فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفّار، حتى قال الله تعالى:
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الآية 44] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين، وتثبيت أقدامهم، واجتراؤهم على القتال؟
قلنا: فائدته أن لا يستعد الكفّار كلّ الاستعداد، فيجترءوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيّروا وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق، إذ رأوا المؤمنين مع قلّتهم في أعينهم، منصورين عليهم. وفي التقليل من الطرفين معارضة، تعرف بالتأمل.
فإن قيل: قوله تعالى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] يدلّ على حرمة المنازعة والجدال أيضا،
لأنه منازعة، فكيف تجوز المناظرة، وهي منازعة وجدال؟
قلنا: المراد بالمنازعة هنا: المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه، لا المنازعة في إظهار الحق، بالحجة والبرهان، والدليل عليه أن ذلك مأمور به.
قال الله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] لكن للجواز شروط، يندر وجودها في زمننا هذا:
أحدها، أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين، كما كانت مناظرة السلف، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه، أكثر ممّا يفرح بظهوره على لسان خصمه.
فإن قيل: كيف قال إبليس كما ورد في التنزيل إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [الآية 48، والمائدة: 28] وهو لا يخاف الله، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضلّ عبيده؟
قلنا: قال قتادة، لقد صدق وعد الله في قوله كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الآية 48] يعني جبريل والملائكة (ع) معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر، وكذب في قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقيل لمّا رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط، خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره، فيحل به العذاب الموعود. وقيل معنى أَخافُ اللَّهَ: أعلم صدق وعده لنبيّه النصر، وقد جاء الخوف بمعنى العلم، ومنه قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الآية 229] ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك، ثم أقول: كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة وهو أفسق الفسقة، وأكفر الكفرة، فلا عجب في كذبه، وإنما العجب في صدقه.
فإن قيل: أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ؟
قلنا: لما أقدم المؤمنون، وهم ثلاث مائة وبضعة عشر، على قتال المشركين، وهم زهاء ألف، متوكّلين على الله، وقال المنافقون: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا، أو أكثر، قال الله تعالى ردّا على المنافقين، وتثبيتا للمؤمنين: وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(49)
أي غالب يسلّط القليل الضعيف، على الكثير القوي وينصره عليه، حكيم في جميع أفعاله.
فإن قيل لم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) ولم يقل ليس بظالم، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال، وجوابه في سورة آل عمران.
فإن قيل: قوله عز وجل ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الآية 53] وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون، ولم تكن لهم حال مرضية غيّروها؟
قلنا: كما تغير الحال المرضية الى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ وأولئك كانوا، قبل بعث الرسول (ص) إليهم، عباد أصنام. فلما بعث الرسول (ص) إليهم بالآيات البينات، فكذّبوه، وعادوه، وسعوا في قتله، غيّروا حالهم إلى أسوأ منها، فغيّر الله تعالى، ما أنعم به عليهم من الإمهال، وعاجلهم بالعذاب.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 55] بعد قوله جلّ وعلا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (55) ؟
قلنا مراده، أن يبيّن أنّ شرّ الكفّار الذين كفروا، واستمرّوا على الكفر إلى وقت الموت.
فإن قيل: ما الحكمة من تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة، لأكثر منه، قبل التخفيف وبعده، في قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الآية 65] إلى قوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ؟
قلنا: فائدته، الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين، ينصر المائة على الألف وكما ينصر المائة على المائتين، ينصر الألف على الألفين.
فإن قيل: لم أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة، ونحن نشاهد الأمر بخلافها فإن المائة من الكفار، قد تغلب المائة من المسلمين، بل المائتين في بعض الأحوال؟
قلنا: إنما أخبر الله عز وجل عن هذه الغلبة، بشرط الصبر، الذي هو
الثبات في موقف الحرب او الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا، فمتى وجد الشرط تحقّقت الغلبة للمسلمين، مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة، مخصوصة بطائفة كان النبي (ص) أحدهم، وسياق الآية يدل عليه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الآية 67] مع أنه يريد الدنيا أيضا، لأنه لولا إرادته إيّاها لما وجدت، فما فائدة هذا التخصيص؟
قلنا: المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة، لا إرادة الوجود والكون، فالمعنى أتحبّون عرض الحياة الدنيا وتختارونه، والله يختار ما هو سبب الجنة، وهو إعزاز الإسلام، بالإثخان في القتل.