الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الخامس
سورة النحل
البحث الأول أهداف سورة «النحل»
«1»
عرض إجمالي للسورة
سورة النحل سورة مكية، وعدد آياتها «128» آية، وهي سورة هادئة الإيقاع والجرس، ولكنها مليئة حافلة، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوّعة، والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل.
وهي، كسائر السور المكية، تعالج موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية، والوحي والبعث، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين رسالة إبراهيم (ع) ، ورسالة محمد (ص) ، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية في ما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال، وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذّبين لهم، وتلمّ بموضوع التحليل والتحريم، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع، وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان، وجزاء هذا كله عند الله، ثم تضيف الى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة: العدل والإحسان، والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأمّا الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل: هو السماوات والأرض، والماء الهاطل،
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
والشجر النامي، والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار، هو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والاخرة بأقدارها ومشاهدها، هو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير، حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعدّدة الأوتار، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتّجه الى العقل الواعي كما تتّجه الى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثّر والعقل ليتدبّر، وتحشد الكون كله: سماءه وأرضه، شمسه وقمره، ليله ونهاره، جباله وبحاره، فجاجه وأنهاره، ظلاله وأكنانه، نبته وثماره، حيوانه وطيوره، كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا ينغلق أمامها إلا القلب الميت والعقل المنكوس، والحس المطموس.
هذه الإيقاعات، تتناول التوجيه الى آيات الله في الكون، وآلائه على الناس، كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين، تصاحبها اللمسات الوجدانية، التي تتسرب الى أسرار الأنفس، وأحوال البشر، وهم أجنّة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة، كذلك تتّخذ السورة الأمثال، والمشاهد، والحوار، والقصص الخفيف، أدوات للعرض والإيضاح.
فأمّا الظلال العميقة التي تلون جو السورة كلّه، فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخالق، وعظمة النعمة وعظمة العلم والتدبير. كلها متداخلة، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسدّ الضرورة، وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم، وتستريح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون. ومن ثم تتراءى في