الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث، واستنكار للشّرك ودعوى الولد، وعرض لمصارع المشركين والمكذّبين في الدنيا وفي الاخرة، وكلّه يتناسق مع اتجاه القصص في السورة، ويتجمّع حول محورها الأصيل.
«وللسورة كلّها جوّ خاصّ يظلّلها ويشيع فيها ويتمشّى في موضوعاتها» .
إنّ سياق هذه السّورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية، الانفعالات والمشاعر القوية، الانفعالات في النفس البشرية، وفي «نفس» الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوّره جمادا لا حسّ له، يعرض في السياق ذا نفس وحسّ ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجوّ العامّ للسورة، حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل، حتى لتكاد تنفطر وتنشقّ وتنهدّ، استنكارا:
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) .
القصص في سورة مريم
القصص في سورة مريم امتداد للقصص في سورة الكهف. فهناك ظهرت قدرة الله البالغة في حفظ أصحاب الكهف وإحيائهم بعد موتهم، وفي إعطاء الرحمة والعلم للخضر عليه السلام، وفي منح ذي القرنين أسباب الملك والسلطان والسيادة وهنا تظهر رحمة الله وفضله على زكريّا، إذ يمنحه يحيى على كبر وشيخوخة، وتظهر قدرة الله البالغة في خلق عيسى من أم دون أب، ثم نعمته السابغة على الأنبياء والرسل ورعاية الله لهم حتّى يؤدوا رسالتهم. ويظهر ذلك في قصة إبراهيم مع أبيه، وقصة موسى مع قومه، وقصة إسماعيل الصادق الوعد، وقصة إدريس الصّدّيق النبيّ.
ذكرت حلقة من هذه القصة في سورة آل عمران، ولكنها في سورة مريم تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها، وما فيها من زيادة ونقص.
إنّ السّمة الغالبة هنا، سمة الرحمة والرّضا والاتصال، فهي تبدأ بذكر
رحمة الله لعبده زكريّا، وهو يناجي ربه نجاء خفيا.
فتصوّر أحاسيس ذلك الشيخ الهرم ورغبته في الذّرّيّة والولد ودعاءه لله خفية، بعيدا عن زوجته وعن الناس.
ثم ترسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضيّ. فالله ينادي عبده من الملأ الأعلى يا زَكَرِيَّا، ويعجّل له البشرى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ.
ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشّره به اسْمُهُ يَحْيى [الآية 7] . وهو اسم فذّ غير مسبوق:
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) .
وكأنما أفاق زكريّا، من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء، فإذا هو يواجه الواقع:
إنه رجل شيخ، بلغ من الكبر عتيّا، ووهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد في فتوّته وصباه: فكيف سيكون له غلام؟
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) .
ثم يأتيه الجواب عن سؤاله: بأنّ هذا أمر هيّن يسير أمام قدرة الله، فهو سبحانه الخالق الفعّال لما يريد. وهو سبحانه الذي جعل العاقر لا تلد.
وجعل الشيخ الفاني لا ينسل. وهو قادر على إصلاح العاقر، وإزالة سبب العقم، وتجديد قوّة الإخصاب في الرجل، وهو على كلّ شيء قدير.
وتمّت ولادة يحيى، وكبر وترعرع، وأحكم الله عقله، وهيّأه لرعاية ميراث أبيه في حزم وعزم ولم يكن هذا الميراث مالا أو عقارا، وإنما كان رسالة الهدى، ودعوة الإيمان وناداه الله سبحانه:
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [الآية 12] .
والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى (ع) ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم، يعملون به ويحكمون. وقد نودي يحيى (ع) ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم. لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة.
وقد زود الله يحيى بالحكمة في صباه، ووهبه الحنان والعطف لتأليف القلوب واجتذابها إلى الخير، وآتاه الطهارة والتقوى فكان موصولا بالله،