الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [الآية 21] .
ونظرا لغرابة الحادث وضخامته، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوّره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه. فجعلت تضفي على عيسى بن مريم (ع) ، صفات الألوهية، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية المطلقة، تعكسها فتشوّه عقيدة التوحيد. والقرآن في هذه السورة، يقصّ كيف وقعت هذه العجيبة ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير.
قصة ميلاد عيسى (ع)
وهب الله مريم التقوى واليقين، ورزقها من فضله بغير حساب. وفي يوم مّا اعتكفت مريم كعادتها. وتوارت من أهلها، واحتجبت عن أنظارهم.
وبينما هي في خلوتها، مطمئنّة إلى انفرادها، ظهر أمامها رجل مكتمل سويّ الخلقة، فانتفضت انتفاضة العذراء المذعورة يفجأها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به، وتستنجد، وتستشير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله، والتحرّج من رقابته في هذا المكان الخالي. ولكنّ الرجل السّويّ هدّأ من روعها، وأعاد إليها طمأنينتها، وأخبرها أنه ملاك أرسله الله إليها، لحكمة إلهية، وفضل ربّاني:
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
(19)
.
وتدرك مريم شجاعة الأنثى المهدّدة في عرضها! فتسأل في صراحة وحجّة:
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) .
فهي لم تخالط رجلا في نكاح ولا في سفاح. فأخبرها الملاك، أنّ هذا الحمل سيكون بقدرة الله وحده، وهو أمر هيّن أمام هذه القدرة التي تقول للشيء كن فيكون. وقد أراد الله سبحانه أن يجعل هذا الحادث آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرّيّة إرادته.
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) .
ثم مضى الملاك واختفى. وت الحمل بقدرة الله، وجلست مريم حائر
تفكّر في أمر نفسها، وتخيّلت ما سيقوله الناس عن عذراء تحمل وتلد من غير أن يكون لها بعل وفي حدّة الألم ومرارة الخوف نظرت إلى الطفل في حسرة واكتئاب، وجعلت تتمنّى لو ضمّها القبر وفارقت العالم، قبل أن تصير أمّا من غير أن تتزوّج، فقالت كما ورد في التنزيل:
يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) .
ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت وليدها، فبدّد مخاوفها، وكفكف دموعها، وناداها من تحتها كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه:
أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) .
أي جدولا يجري ماؤه في تلك البقعة الجرداء، والأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع، أو تدفّق من مسيل ماء في الجبل. وهذه النخلة التي تستندين إليها هزّيها فتتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب، والطعام الحلو مناسب للنّفساء.
والرّطب والتّمر من أجود طعام النّفساء: فَكُلِي وَاشْرَبِي [الآية 26] هنيئا وَقَرِّي عَيْناً [الآية 26] .
واطمأني قلبا، لما ترين من قدرة الله التي اخضرّ بها جذع النخلة اليابسة.
وطيبي نفسا بما حباك الله من جريان الماء في تلك البقعة المقفرة.
واطمأنت مريم إلى فضل الله، وأنّه لن يتركها وحدها، أنّ حجّتها معها، هذا الطفل الذي ينطق في المهد.
ورجعت مريم إلى قومها وعشيرتها تحمل ولدها على كتفها، وسرعان ما شاع أمرها، وعرف خبرها. وجاء أقاربها يؤنّبونها بألسنة التقريع والتأنيب، ويلومونها على هذه الفعلة المنكرة، ويذكّرونها بشرف أسرتها وكرم أصلها. والتزمت مريم الصمت، وأشارت إليهم أن كلّموا هذا الوليد، إن أردتم الوقوف على حقيقة الأمر:
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) ؟
كيف نكلم وليدا، لم تكتمل أدوات نطقه. ولم تتحرّك شفته إلى ثدي أمّه؟
فانطلق الوليد يجيبهم في بيان وحجّة وبرهان: