الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين فليس على النبي (ص) إلا أن ينذرهم ويبشّرهم، ولا يصحّ له أن يحزن لعدم إيمان قومه ورؤسائهم به، لأنه لا قيمة لما عندهم من أمر الدنيا. وقد مهّد بهذا لذكر قصة أصحاب الكهف، لأنهم آثروا دينهم على دنيا قومهم، واعتزلوهم في الكهف حينما خافوا منهم على دينهم، ثم ذيّل قصة أصحاب الكهف بما يناسب الغرض من ذكرها ثم ذكر قصة الرجل الطوّاف وهو ذو القرنين، وذيّلها بما ذيّلها به إلى آخر السورة.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة الإسراء لأنها، مثلها، تنوّه بشأن القرآن، ولأنّ سورة الإسراء جاء في ختامها تنزيه الله عن الولد، وقد جاء في أوّل سورة الكهف إنذار للذين قالوا اتّخذ الله ولدا.
المقدمة الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) ، فذكر أنه أنزل عليه القرآن كاملا في ذاته، مكمّلا لغيره، لينذر الكافرين عامّة بأسا شديدا من لدنه، ويبشّر المؤمنين بأنّ لهم أجرا حسنا، وينذر الذين قالوا إنّ الله اتّخذ ولدا ثم ذكر للنبي (ص) أنه لعلّه باخع نفسه أسفا، لأنّ قومه لم يؤمنوا بما أنزل عليه، وأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيّهم أحسن عملا:
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) .
قصة أصحاب الكهف الآيات [9- 82]
ثم قال تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) فذكر للنبي (ص) أنه حسب أنّ أصحاب الكهف والرقيم (اسم كلبهم) كانوا عجبا من آياته وأمره أن يذكر إذ أووا إلى الكهف طالبين منه أن يرحمهم ويرشدهم إلى رضاه، فضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثهم ليظهر أيّ الحزبين المختلفين في
مدّة لبثهم بالكهف أحصى لها أمدا ثم فصّل هذا الإجمال، فذكر أنهم فتية آمنوا به سبحانه، وزادهم هدى، وأنه ربط على قلوبهم، إذ قاموا بين يدي ملكهم فصرّحوا له بإيمانهم وخالفوه وقومه في عبادة آلهتهم ثم ذكر أنهم اتفقوا حينما اعتزلوا قومهم، أن يأووا إلى كهف بجبل قريب من مدينتهم.
فلمّا ذهبوا إليه، وضرب على آذانهم فناموا، كانت الشمس، إذا طلعت، تميل عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تميل عنه ذات الشّمال، ليصون أجسامهم من الفساد بضوء الشمس ثم ذكر أنه كان يقلّبهم ذات اليمين وذات الشّمال لئلا تبلى أجسامهم، وأنّ كلبهم وقع في النوم معهم وهو باسط ذراعيه بباب الكهف ليحرسهم ثم ذكر أنه، جل جلاله، بعثهم من نومهم ليتساءلوا بينهم عن مدة لبثهم، وأنهم بعثوا أحدهم بورقهم ليشتري لهم طعاما من مدينتهم، وأمروه أن يتلطّف في أمره حتى لا يشعر أحد بهم فيرجموهم أو يعيدوهم في ملّتهم ثم ذكر أنه أعثر قومهم عليهم، ليعلموا أنّ وعده سبحانه، بالبعث حقّ، لأنّ قيام أصحاب الكهف بعد ذلك النوم الطويل يشبه البعث من الموت. ثم ذكر أن قومهم تنازعوا في أمرهم، لأنه أماتهم بعد إعثارهم عليهم، فقال بعضهم:
الأولى أن نسدّ باب الكهف فلا يدخل عليهم أحد، ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال آخرون: بل الاولى أن نبني على باب الكهف مسجدا نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف به.
ثم ذكر ما كان من اختلافهم في عددهم، وأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّ الله أعلم به، وأنه لا يعلمه إلّا قليل ممّن آثره بعلمه، ونهاه أن يجادلهم في أمرهم إلّا جدالا ظاهرا، فلا يكذّبهم فيما يعيّنونه من عدد، بل يذكر لهم أنّ هذا التعيين لا دليل عليه، فيجب التوقف في أمره وترك القطع به. ثم نهاه أن يستفتي أحدا منهم فيهم لأنهم لا علم عندهم بهم، وألّا يقدم على شيء من ذلك وغيره إلّا بإذنه ومشيئته، فلا يرجم بالغيب كما يرجمون في أمر أصحاب الكهف. ثم ذكر اختلافهم
أيضا في مدّة لبثهم، وأنّ بعضهم يذهب إلى أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين، وبعضهم يزيد على ذلك تسع سنين، وأمره أن يذكر لهم أن الله أعلم بمدة لبثهم: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) .
وذيّلت نهاية هذه القصة بما يناسبها، فأمر سبحانه رسوله (ص) أن يتلو ما أوحي إليه فيها، لأنه هو الحق الذي لا تبديل فيه، ولن يجد من دونه ملتحدا يلجأ في علم شيء إليه ثم أمره أن يصبر نفسه مع الذين آمنوا به، ونهاه أن تعدو عيناه عنهم إلى أهل الدنيا من رؤساء قومه وأغنيائهم، وأن يطيع هؤلاء الرؤساء والأغنياء في طرد من آمن به ليؤمنوا هم به، فيكون له بهذا أسوة بأصحاب الكهف ثم أمره أن يذكر لهم أنّ الحق منه وهو غنيّ عنهم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فمن كفر فله عذابه الذي أعدّ له، ومن آمن فلن يضيع عليه عمله: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الآية 31] .
ثم أمره أن يضرب لهم أربعة أمثال تبيّن لهم خطأهم في تعاليهم بغناهم على فقراء المؤمنين، لأن الافتخار يجب أن يكون بالعمل الصالح لا بالمال:
الأول: مثل رجلين جعل الله لأحدهما جنّتين من أعناب محفوفتين بنخل، وجعل بينهما زرعا، وقد آتى كلّ منهما ثمره كاملا غير منقوص، فافتخر بذلك على صاحبه، وظنّ أنه باق له لا يفنى، وأنه ليس هناك معاد يخاف حسابه. ولئن كان هناك معاد، ليكوننّ فيه أحسن حالا ممّا هو عليه في الدنيا، فأنكر عليه صاحبه أن يكفر بالله ولا يقابل نعمته بشكره عليها.
وذكر له أنه إذا كان يفخر عليه بذلك، فعسى أن يؤتيه الله خيرا منه، ويرسل على جنّته صواعق من السماء فتبيدها وكان أنّ الله أرسل عليها ذلك، فأبادها وأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها، ويتمنّى أن لو كان آمن بربه، ولم يجد من ينصره من دون الله، وما
كان منتصرا: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) .
والثاني: مثل الحياة الدنيا في حقارتها وقلّة بقائها، فهي كماء أنزله الله من السماء فاختلط به نبات والأرض، ولم يلبث أن جفّ وتكسّر وأصبح هشيما تذوره الرياح. وما يفتخر به أولئك المشركون على فقراء المؤمنين من المال والبنين، هو من زينة الحياة الدنيا، فهو سريع الزوال مثلها والأعمال الصالحة الباقية، خير منه ثوابا ثم ذكر لهم يوم يسيّر الجبال وتبرز الأرض ويحشرهم جميعا، وأنهم يعرضون عليه وليس معهم شيء من أموالهم وأولادهم ويوضع أمامهم كتاب أعمالهم، فيشفقون مما فيه:
وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) .
والثالث: مثل آدم وإبليس، لأنّ إبليس لعنه الله، إنما تكبّر على آدم، لأنه افتخر بأصله ونسبه، وكان من الجن ففسق عن أمر ربه وقد نهاهم عن الاقتداء به في ذلك، واتخاذه وذرّيّته أولياء من دونه، وهم لهم عدوّ، والعاقل لا يتّخذ عدوّه وليّا له، ومثلهم لا يصح أن يكون شريكا بالله، وهو لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، وهم مضلّون لا يمكن أن يتّخذ الله له عضدا منهم. ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة أمرهم أن ينادوا أولئك الشركاء الذين اتخذوهم أولياء، فيدعونهم فلا يستجيبون لهم، ولا ينفعونهم بشيء ممّا كانوا يزعمونه فيهم. ثم ذكر أنه جلّت قدرته، ضرب تلك الأمثال لهم ليعتبروا بها، ويرتدعوا عن افتخارهم بكثرة أتباعهم وأموالهم على فقراء المسلمين ولكنّ هذه الأمثال لا تؤثّر فيهم، بل يمضون فيما جبلوا عليه من الجدال والشغب، ويطلبون أن تأتيهم سنّة الأوّلين من عذاب الاستئصال، أو تتوالى عليهم ضروب العذاب وهم أحياء والله جل جلاله لم يرسل المرسلين إلا مبشّرين ومنذرين ليؤمن الناس طوعا لا كرها ولكنهم يجادلون
بالباطل، ليدحضوا به الحق، ولا يريدون الإيمان إلّا بما يقترحونه من تلك الآيات وإنّما يتّخذون ما جاءهم من الآيات، وما أنذروا به منها لعبا وهزوا وليس أظلم ممّن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، ونسي ما قدّمت يداه. ثم ذكر أن سبب إعراضهم، أنه جعل في قلوبهم أكنّة تمنعهم من فهمها، وأنه جعل في آذانهم وقرا يمنعهم من سماعها ثم ذكر أنه لو يؤاخذهم بذلك لعجّل لهم ما طلبوه من العذاب، ولكنّ عذابهم له موعد لن يجدوا من دونه موئلا: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) .
والرابع مثل موسى وبعض علماء عصره، فقد بلغ موسى من علوّ المنصب ما بلغ ولكنه تواضع لذلك العالم الذي آثره الله بعلم لم يعلمه موسى، وسافر إليه لطلب ذلك العلم، وكان أن ذكر لفتاه أنّه لا يبرح عن السّير حتّى يبلغ مجمع البحرين، فيجد عنده هذا العالم فلمّا بلغ ذلك المكان، نسي فتاه حوتا كان معهما، فانساب في البحر وكان هذا علامة مكان العالم الذي يطلبه، ولكن فتاه لم يخبره بذلك، حتّى جاوزا ذلك المكان، وطلب منه غداءهما، فأخبره بأنه نسي حوتهما إذ أويا إلى الصخرة فانساب في البحر، فذكر له أنّ هذا هو ما كان يطلبه فارتدّا إلى ذلك المكان، فوجدا عنده ذلك العالم، فطلب منه موسى أن يتبعه على أن يعلّمه ممّا آثره به ربّه، فأخبر موسى بأنه لن يستطيع الصبر على تعلّم ذلك العلم الذي لا يحيط به، وتخفى عليه أسراره فأخبره موسى بأنه سيجده صابرا على ذلك إن شاء الله تعالى، فطلب منه ألّا يسأله عن شيء حتى يحدّثه عنه ويعرّفه حقيقته.
فانطلقا، حتّى ركبا في سفينة، فعمد ذلك العالم إليها فخرقها، فأنكر موسى عليه أن يخرقها ليغرق أهلها، فذكّره بما أخبره به، من أنه لن يستطيع الصبر معه، فاعتذر له موسى بأنه نسي وطلب منه ألّا يؤاخذه على ذلك النسيان فانطلقا، حتّى وجدا غلاما، فعمد ذلك العالم إليه فقتله، فأنكر موسى عليه