الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الكهف»
«1»
إن قيل: قوله تعالى: قَيِّماً [الآية 2] يعني مستقيما، وقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) مغن عن قوله قَيِّماً لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة، لأنّ العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد به هنا نفي الاختلاف والتناقض في معانيه، وأنه لا يخرج منه شيء عن الصواب والحكمة. وقيل في الآية تقديم وتأخير، تقديره:«الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا» .
قلنا: قال الفراء: معنى قوله تعالى قَيِّماً قائما على الكتاب السماوية كلها، مصدّقا لها، شاهدا بصحّتها، ناسخا لبعض شرائعها. فعلى هذا لا تكرار فيه. وعلى القول المشهور، يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء أقدّر «قيّما» مقدّما أو أقر في مرتبته، ونصب بفعل مضمر تقديره: ولكن جعله قيّما.
ولا بد من هذا الإضمار، أو من التقديم والتأخير، وإلّا صار المعنى:
ولم يجعل له عوجا مستقيما، والعوج لا يكون مستقيما.
فإن قيل: اتّخاذ الله تعالى ولدا محال، فلم قال سبحانه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الآية 5] ؟ وإنما يستقيم أن يقال فلان ماله علم بكذا، إذا كان ذلك الشيء ممّا يعلمه غيره أو ممّا يصحّ أن يعلم، كقولنا زيد ما له علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر، ونحو ذلك.
قلنا: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس ممّا يعلم لاستحالته، وهذا لأنّ
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وتارة يكون لاستحالة العلم به، لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلّق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن قيل: لم قال تعالى ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) وهو أعلم بذلك في الأزل؟
قلنا: معناه لنعلم ذلك علم المشاهدة، كما علمناه علم الغيب.
فإن قيل: لم قال تعالى فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الآية 19] ولم يقل «واحدكم» ؟
قلنا: لأنه أراد فردا منهم أيّهم كان، ولو قال «واحدكم» لدلّ على بعث رئيسهم ومقدّمهم، فإن العرب تقول:
رأيت أحد القوم: أي فردا منهم، ولا تقول: رأيت واحدا لقوم إلا إذا أرادت المقدّم المعظّم.
فإن قيل: لم جيء بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الآية 22] .
قلنا: أريد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأوّل بمقتضى العطف، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا، كما يقال: زيد قد يخرج ويركب، أي وقد يركب.
فإن قيل: لم دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين، وفي قوله تعالى:
وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية 22] .
قلنا: قال بعض المفسّرين: هي واو الثمانية، وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة. وقال الزجّاج: دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة، وجاء القرآن بهما. وقال غيره: الواو مرادة في الجملتين الأوليين، وإنما حذفت فيهما تخفيفا، وأتي بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما ويردّ على هذا القول: أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك كما سبق في سين الاستقبال. وقال الزمخشري وغيره: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة، تقول: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)[الحجر] ، وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتّصافه
بها أمر ثابت مستقر وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الآية 22] وأتبع القول الثالث قوله سبحانه ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] . وقال ابن عباس: وقعت الواو لقطع العدد: أي لم يبق بعدها عدد يلتفت إليه، ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات. وقال الثعلبي: هذه واو الحكم والتحقيق، كأنّ الله تعالى حكى اختلافهم، فتمّ الكلام عند قوله سبعة، ثم حكى بأنّ ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام، فحقّق ثبوت العدد الأخير لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة، فعلى هذا يكون قوله وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية 22] من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرا. ويردّ على هذا، أن قوله تعالى بعد هذه الواو:
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الآية 22] وقوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] يدل على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو.
فإن قيل: لم قال تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ [الآية 27] وقال في موضع آخر وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 101] ويلزم من تبديل الآية بالآية، تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: معنى الأول لا مغيّر للقرآن من البشر، وهو جواب لقولهم للنبي (ص) : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. الثاني: أنّ معناه لا خلف لمواعيده ولا مغيّر لحكمه، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافي بينهما.
فإن قيل: قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الآية 29] إباحة وإطلاق للكفر؟
قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: معناه: فمن شاء ربكم فليؤمن ومن شاء ربكم فليكفر، يعني لا إيمان ولا كفر إلّا بمشيئته. الثاني: أنّه تهديد ووعيد. الثالث: أنّ معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرّونه بكفركم، فهو إظهار للغنى، لا إطلاق للكفر.
فإن قيل: لبس الأساور في الدنيا عيب للرجال، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال، فكيف وعدها الله سبحانه المؤمنين في
الجنة، في قوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الآية 31] ؟
قلنا: كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين لأنهم ملوك الاخرة.
فإن قيل: لم أفرد لفظ الجنة بعد التثنية، في قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الآية 35] ؟
قلنا: أفردها ليدل على الحصر، معناه: ودخل ما هو جنته، لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد جنّة معينة منهما، بل جنس ما كان له.
فإن قيل: لم قال الأخ المؤمن لأخيه، كما ورد في التنزيل لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وهذا تعريض بأنّ أخاه مشرك، وليس في كلام أخيه ما يقتضي الشّرك، بل الكفر، وهو قوله، كما ورد في القرآن ذلك حكاية عنه وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الآية 36] ؟
قلنا: إشراك أخيه الذي عرض له به، هو اعتقاده أنّ زكاة جنّته ونماءها بحوله وقوّته، ولهذا قال له، كما ورد في التنزيل: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الآية 39] ولهذا قال هو أيضا لمّا أصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها، وهي خاوية على عروشها، كما ورد في القرآن:
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) فاعترف بالشرك.
فإن قيل: ما الحكمة في إيراد «أنا» في قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ [الآية 39] ؟
قلنا: «أنا» في مثل هذا الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه، ومنه قوله تعالى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 12] وقوله جل جلاله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] ونظائره كثيرة.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 43] وكذلك ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)[مريم]، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) [العنكبوت] الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ [العنكبوت: 41] ، وكيف تحقيق معناه؟
قلنا: «دون» يستعمل في كلام العرب بمعنى «غير» كقولهم لفلان:
مال دون هذا، ومن دون هذا: أي غير هذا. ونظيره قوله تعالى وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ [المؤمنون: 63] أي من غيره، وتستعمل أيضا بمعنى «قبل» كقولهم:
المدينة دون مكّة: أي قبلها، ومن دونه خرط القتاد. ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي، وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى «قبل» بل بمعنى «غير» فقط؟
فإن قيل: لم قال تعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الآية 44] يعني في يوم الاخرة أو في يوم القيامة، والولاية بكسر الواو السلطان والملك، وبفتح الواو التولّي والنصرة، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والاخرة يعزّ من يشاء ويخذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، وبتولّى من يشاء بحراسته وحفظه، فما الحكمة في تخصيص يوم القيامة؟
قلنا: الحكمة فيه أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا ويوم القيامة تنقطع كلّها، ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام: 73] .
فإن قيل: لم قال تعالى هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) أي عاقبة، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله خيرا منه ثوابا؟
قلنا: هذا على الفرض والتقدير، معناه: لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيرا من طاعة غيره.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَحَشَرْناهُمْ [الآية 47] بلفظ الماضي وما قبله مضارعان، وهو قوله تعالى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الآية 47] أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟
قلنا: للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير، وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنّ المعنى:
وحشرناهم قبل ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الآية 49] مع أنه أخبر أن الصغائر تكفّر باجتناب الكبائر، بقوله
تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ( [النساء:
31] .
قلنا: الآية الأولى في حق الكافرين، بدليل قوله تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ [الآية 49] والمراد بهم هنا الكافرون، كذا قال مجاهد، وقال غيره: كل مجرم في القرآن. فالمراد به الكافر والآية الثانية، المراد بها المؤمنون لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحقّقا مع وجود الكفر. الثاني: لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق المذنب، لم يلزم التناقض، لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثم تكفّر عنه، فيعلم قدر نعمة العفو، فإن أكثر ذنوب العبد ينساها، خصوصا الصغائر.
فإن قيل: قوله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية 50] يدلّ على أنه من الجن، وقوله تعالى في موضع آخر وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الآية 50] يدلّ على أنه من الملائكة، فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: فيه قولان: أحدهما أنه من الجنّ حقيقة، عملا بظاهر هذه الآية، ولأن له ذرية قال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الآية 50] والملائكة لا ذرّيّة لهم، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة، والملائكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل الله، وعن المعاصي مطلقا، لأنهم عقول مجردة بغير شهوة، ولا معصية إلّا عن شهوة ويؤيّده قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)[التحريم] . وقال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)[الأنبياء]، وفي قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع، فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود، لا من جنس الملائكة، ويكون التقدير:
وإذ قلنا للملائكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس كما تقول: أمرت إخوتي وعبدي بكذا، فأطاعوني إلا عبدي، والعبد ليس من الإخوة ولا داخلا فيهم إلّا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم، فهذا كذلك. القول الثاني: أنه كان من الملائكة قبل أن
يعصي الله تعالى، فلمّا عصاه مسخه شيطانا. روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فيكون معنى قوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية 50] لمخالفته، فتكون «كان» بمعنى صار. وقيل معناه: أنه كان من الجن في سابق علم الله تعالى وهذان القولان يدلّان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية. وروي عنه أيضا أنه كان من خزّان الجنة، وهم جماعة من الملائكة يسمّون الجن فعلى هذا يكون قوله تعالى مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزّان الجنة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الآية 50] بمخالفته فيكون استثناء من الجنس. وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] : وهو استثناء متصل، لأنه كان جنّيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلّبوا عليه في قوله فَسَجَدُوا.
قلت: وفي هذا التعليل نظر، ثم قال بعده: ويجوز أن يجعل منقطعا.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الآية 50] والأولياء: الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء، ويؤيّده قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الآية 50] وليس من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟
قلنا: المراد بالموالاة هنا، إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، ويوسوسون في صدورهم وطاعتهم إيّاهم فالموالاة مجاز عن هذا، لأنه من لوازمها.
فإن قيل: قال تعالى هنا: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الآية 52] : أي فلم يجب الأصنام المشركين، فنفى عن الأصنام النطق، وقال تعالى في سورة النحل: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)[النحل] يعني فكذّبتهم الأصنام فيما قالوا، فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: المراد بقوله تعالى نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الآية 52] أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك، فنفى عنهم النطق بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم. وفي سورة
النحل، أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم، فلا تناقض بين المنفي والمثبت.
فإن قيل: لم قال تعالى:
شُرَكائِيَ وقال في سورة النحل شُرَكاءَهُمْ؟
قلنا: قوله تعالى شُرَكائِيَ معناه: في زعمكم واعتقادكم، ولهذا قال شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وأخرجه مخرج التهكّم بهم، كما قال المشركون للنبي (ص) وفاقا، لما ورد في التنزيل يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)[الحجر] ، وقوله تعالى شُرَكاءَهُمْ يعني آلهتهم التي جعلوها شركاء، فإضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إيّاها شركاء والإضافة تصحّ بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية، فصحّت الإضافتان.
فإن قيل: لم قال تعالى نَسِيا حُوتَهُما [الآية 61] والناسي إنّما كان يوشع وحده، بدليل قوله تعالى فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الآية 63] أي قصّة الحوت وخبره وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الآية 63] ؟
قلنا: أضيف النسيان إليهما مجازا، والمراد أحدهما. قال الفرّاء: نظيره قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22)[الرحمن] وإنما يخرج من الملح لا من العذب وقيل نسي موسى عليه السلام تفقّد الحوت ونسي يوشع أن يخبره خبره، وذلك أنه كان حوتا مملوحا في مكتل «1» قد تزوّداه فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيي وانسلّ وكان قد ذهب القضاء حاجة، فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت، فلما جاء موسى نسي أن يخبره، ونسي موسى تفقّد الحوت، والسؤال عنه.
فإن قيل: هذا التفسير يدلّ على أن النسيان من يوشع، أو منهما، كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر، وظاهر الآية يدل على أن النسيان كان سابقا على ذهابه في البحر، متّصلا ببلوغ مجمع البحرين، لقوله تعالى فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) .
قلنا: في الآية تقديم وتأخير تقديره:
(1) . المكتل: القفّة.
فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا، فنسيا حوتهما.
فإن قيل: كيف نسي يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة قي مدة يسيرة بل في لحظة، واستمر به النسيان يومه ذلك وليلته إلى وقت الغداء من اليوم الثاني، ومثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان كيف كان ذلك، وقد كان الله تعالى جعل فقدان الحوت علامة لهما على وجدان الخضر (ع) ، على ما نقل أن موسى (ع) سأل الله تعالى علامة على موضع وجدانه، فأوحى إليه أن خذ معك حوتا في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ؟
قلنا: سبب نسيانه أنه كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى (ع) واستأنس بها فكان إلفه لمثلها من خوارق العادات، سببا لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة، وعدم اكتراثه بها.
فإن قيل: لم قال تعالى حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الآية 71] بغير فاء وحَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الآية 74] بالفاء؟
قلنا: جعل خرقها جزاء للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك إذا ركب زيد الفرس عقره، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط فعطفه عليه بالفاء.
فإن قيل: لم خولف بين القصّتين؟
قلنا: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقتل الغلام تعقّب لقاءه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في قصّة الغلام لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) وفي قصة السفينة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) ؟
قلنا: قيل «إمرا» معناه «نكرا» ، فعلى هذا لا فرق في المعنى. لأن الإمر والنّكر بمعنى واحد. وقيل الإمر العجب أو الداهية وخرق السفينة كان أعظم من قتل نفس واحدة، لأن في الأول هلاك كثيرين. وقيل النّكر أعظم من الإمر فمعناه: جئت شيئا أنكر من الأول، لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا يمكن تداركه.
فإن قيل: لم قال تعالى في قصة السفينة أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الآية 72] وفي قصة الغلام أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الآية 75] ؟
قلنا: لقصد زيادة المواجهة بالعتاب على رفض الوصيّة مرّة ثانية، والتنبيه على تكرّر ترك الصبر والثبات.
فإن قيل: ما الحكمة في إعادة ذكر
الأهل، في قوله تعالى اسْتَطْعَما أَهْلَها [الآية 77] بعد أن سبق ذكر الأهل مرّة؟
قلنا: الحكمة فيه، فائدته في إعادة التأكيد.
فإن قيل: لم قال تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الآية 77] نسب الإرادة إلى الجماد وهي من صفات من يعقل؟
قلنا: هذا مجاز بطريق المشاهدة، لأنّ الجدار بعد مشارفته ومداناته للانقضاض والسقوط شابه من يعقل، وفي تهيّئه للسقوط فظهر منه هيئة السقوط كما تظهر ممّن يعقل ويريد، فنسبت إليه الإرادة مجازا بطريق المشابهة في الصورة، وقد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل مجازا قال الشاعر:
يريد الرّمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وقال حسّان:
إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل لزمان يهمّ بالإحسان ومن أمثالهم «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:
154] وقوله جلّ شأنه فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد: 21] وقوله جلّ شأنه قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)[فصلت] ونظائره كثيرة.
فإن قيل: لأي سبب لم يفارقه الخضر (ع) عند الاعتراض الأوّل والثاني، وفارقه عند الثالث؟
قلنا لوجهين: أحدهما أن موسى (ع) شرط على الخضر (ع) ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث، وقد وجد، فكان راضيا به. الثاني، أنّ اعتراض موسى (ع) في المرة الأولى والثانية كان تورّعا وصلابة في الدين واعتراضه في المرة الثالثة لم يكن كذلك.
فإن قيل: قوله تعالى فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الآية 79] علّته خوف الغصب، فكان حقّه أن يتأخّر عن علّته، فلم قدّم عليها؟
قلنا: هو متأخّر عنه، لأن علة تعييبها أو علّة إرادته تعييبها خوف الغصب وخوف الغصب سابق، لأنه الحامل للخضر (ع) على ما فعله.
فإن قيل: الشمس في السماء
الرابعة، وهي بقدر كرة الأرض مائة وستين مرة، وقيل مائة وخمسين، وقيل مائة وعشرين، فكيف تسعها عين في الأرض، حتى أخبر الله تعالى عن ذي القرنين، أنه وجدها تغرب في عين حمئة؟
قلنا: المراد بقوله تعالى وجدها: أي في زعمه وظنّه كما يرى راكب البحر إذا لجّج فيه، وغابت عنه الأطراف والسواحل، أن الشمس تطلع من البحر، وتغرب فيه فذو القرنين انتهى إلى آخر البنيان في جهة المغرب فوجد عينا حمئة واسعة، عظيمة فظنّ أنّ الشمس تغرب فيها.
فإن قيل: ذو القرنين كان نبيّا أو تقيّا حكيما على اختلاف القولين، فكيف خفي عليه هذا، حتى وقع في الظنّ المستحيل الذي لا يقبله العقل؟
قلنا: الأنبياء والأولياء والحكماء ليسوا معصومين عن ظنّ الغلط أو الخطأ، وإن كانوا معصومين عن الكبائر. ألا ترى إلى ظن موسى (ع) فيما أنكره على الخضر (ع) في القضايا الثلاث وظنّه أنه يرى الله تعالى في الدنيا وهو من كبار الأنبياء، وكذلك يونس (ع) على ما أخبر الله تعالى عنه، بقوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:
87] وكان الواقع بخلاف ظنّه. الثاني:
أن الله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس، وتوسيع العين الحمئة وكرة الأرض، بحيث تسع عين الماء عين الشمس فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك ولم نعلم به لقصور علمنا عن الإحاطة بذلك؟
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) يدل على أنه كان نبيّا، لأن الله تعالى خاطبه.
قلنا: من قال إنه ليس نبيّا يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النبيّ الموجود في زمانه، كما في قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ وما أشبه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في حقّ الكفّار: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي فلا ننصب لهم ميزانا، لأنّ الميزان إنّما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة السيّئات، والكافر لا حسنة له، ولا طاعة، لقوله تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ
هَباءً مَنْثُوراً
(23)
[الفرقان] وقوله في موضع آخر وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)[القارعة] أي فمسكنه النار، فأثبت له ميزانا.
قلنا: معنى قوله تعالى فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا خطر لخسّتهم وحقارتهم ولو كان معناه ما ذكر، ثم يكون المراد بقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) من غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين، فإنه يستكين في النار، ولكن لا يخلد فيها، بل بقدر ما يمحّص عنه ذنوبه فلا تنافي بينهما.