الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الكهف»
«1»
قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ. وهذه استعارة. لأن حقيقة العوج، أن يكون فيما يصحّ عليه أن ينصاب أو يميل ويضطرب ويستقيم. وهذه من صفات الأجسام، لا من صفات الكلام.
فنقول: إنّما وصف القرآن- والله أعلم- بأنه قيّم لا عوج فيه، ذهابا إلى نفي الاختلاف عن معانيه، والتناقض في أوضاعه ومبانيه. وأنه غير ناكب عن المنهاج، ولا مستمرّ على الاعوجاج.
وقوله سبحانه: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) . ووصف الكلمة هاهنا بالكبر استعارة. والمراد أنّ معناها فظيع، وفحواها عظيم. وتقدير الكلام: كبرت الكلمة كلمة.
وللنصب هاهنا وجهان: أحدهما أن يكون على تفسير المضمر. مثل قولهم: نعم رجلا زيد، وبئس صاحبا عمرو. والوجه الاخر أن يكون على التمييز في الفعل المنقول، نحو:
وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)[الآية 29] ، وتصبّب عرقا.
وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) . وهذه استعارة. لأن المراد بالجرز هاهنا الأرض التي لا نبات فيها، وذلك مأخوذ من قولهم:
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
ناقة جروز، إذا كانت كثيرة الأكل، لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف، ونشط «1» الأعشاب. ومن ذلك قولهم: سيف جراز، إذا كان يبري المفاصل، ويقطّ الضرائب.
وإنما سمّيت تلك الأرض جرزا، إذ كانت كأنّها تأكل نبتها، فلا تدع منه نابغة، ولا تترك طالعة. ونظير ذلك قولهم: أرض جدّاء: لا ماء فيها.
تشبيها بالناقة التي لا لبن فيها، وهي الجدّاء «2» .
وقوله سبحانه: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) .
وهذه استعارة. لأن المراد بها منع آذانهم من استماع الأصوات، وهمس الحركات. قال بعضهم: وذلك كالضّرب على الكتاب لتشكّل حروفه، فتمتنع على القارئ قراءته.
وإنما دلّ تعالى على عدم الإحساس بالضّرب على الآذان، دون الضرب على الأبصار، لأن ذلك أبلغ في الغرض المقصود، من حيث كانت الأبصار قد يضرب عليها من غير عمى، ولا يبطل إدراك بقية الحواس جملة، وذلك عند تغميض الإنسان عينيه. وليس كذلك منع الاستماع من غير صمم، لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم، بالنوم الذي هو السهو على صفة، دل ذلك على عدم الإحساس من كل جارحة يصحّ بها الإدراك.
ولأنّ الأذن، لمّا كانت طريقا إلى الأنباء ثم ضرب عليها، لم يكن سبيل إلى الانتباه، فبطل استماعهم. وفي هذا القول بعض التخليط.
والذي أذهب اليه في ذلك، هو أن يكون المراد بقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ والله أعلم، أي أخذنا أسماعهم. ويكون ذلك من قول القائل: قد ضرب فلان على مالي. أي أخذه وحال بيني وبينه، فأما تشبيه ذلك بالضرب على الكتاب حتى تشكل حروفه على المتأمّل، ففيه بعد وتعسّف.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك: وضربناهم على آذانهم، من الضرب الحقيقي، تشبيها بمن ضرب
(1) . نشطت الدابة العشب: إذا أكلته بسرعة وخفة. وقد نشطت الدابة: أي سمنت. [.....]
(2)
. الناقة الجدّاء: هي الصغيرة الثدي، أو المقطوعة الأذن، أو التي ذهب لبنها. انظر الفيروزآبادي مادة «جدد» .
على سماخه «1» ، فهو موقوذ «2» مأموم «3» ، ومشدوه «4» مغمور.
وقوله سبحانه: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 14] . وهذه استعارة:
لأنّ الربط هو الشدّ. يقال: ربطت الأسير. إذا شددته بالحبل والقدّ «5» .
والمراد بذلك: شددنا على قلوبهم كما تشدّ الأوعية بالأوكية «6» ، فتنضمّ على مكنونها، ويؤمن التبدّد على ما استودع فيها. أي فشددنا على قلوبهم لئلا تنحلّ معاقد صبرها وتهفو عزائم جلدها. ومن ذلك قول القائل لصاحبه: ربط الله على قلبك بالصبر.
وقوله سبحانه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . وفي هذه الآية استعارتان: إحداهما قوله تعالى:
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ والرحمة هاهنا بمعنى النعمة. ولم يكن هناك مطويّ فينشر، ولا مكنون فيظهر.
وإنّما المراد بذلك: يسبغ الله عليكم نعمته، على وجه الظهور والشّيوع، دون الإخفاء والإسرار. فيكون ذلك كنشر الثوب المطويّ وإظهار الشيء الخفي، في شيوع الأمر، وانتشار الذكر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . وأصل المرفق ما ارتفق به. وهو مأخوذ من المرفقة. وهي التي يرتفق عليها، أي يعتمد عليها بالمرفق.
ويقال مرفق، ومرفق بمعنى واحد.
وقد قرئ بهما جميعا بمعنى واحد.
فكأنّ السّياق: يهيئ لكم من أمركم ما تعتمدون عليه وتستندون إليه، ويكون لظهوركم عمادا، ولأعضادكم سنادا.
وقوله سبحانه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [الآية 17] . وفي هذه الآية
(1) . السماخ والصماخ واحد. وهو خرق الأذن الباطن الماضي إلى تجويف الرأس.
(2)
. الموقوذ: المضروب ضربا شديدا حتى أشرف على الموت.
(3)
. أمّه: شجّه، فهو مأموم.
(4)
. المشدوه: المشدوخ الرأس.
(5)
. القدّ: السّير من الجلد.
(6)
. الأوكية: جمع وكاء، وهو رباط القربة أو ما تشدّ به.
استعارتان: أولاهما قوله تعالى في ذكر الشمس: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ لأنّ التزاور أصله الميل، وهو مأخوذ من الزّور، وهو الصدر. فكأنه سبحانه قال: إن الشمس تميل عن هذا الموضع، كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ.
وفي ذلك قولان: أحدهما أن يكون المراد أنها تقرضهم في ذات الشمال، أي أنها تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم. من قولهم: قرضت الشيء بالمقراض إذا قطعته به. والمقراض متجاوز لأجزائه أوّلا حتى ينتهي إلى آخره. والقول الثاني: أن يكون المراد أنها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرّها بهم، ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطي ليستردّه، ويقدمه ليرتجعه.
ومعنى قرض المال أيضا مأخوذ من القطع، لأن المقرض يعطي للمقترض شقة من ماله، وقطعة من حاله.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الآية 21] . وهذه استعارة. والمراد- والله أعلم- وكذلك أطلعنا عليهم. إلا أن في لفظ الإعثار فائدة، وهي مصادفة الشيء عن غير طلب له، ولا إحساس به، وهو «أفعلنا» من الإعثار.
وأصله أن الساعي في طريقه إذا صدّ قدمه، أو نكب إصبعه شيء، ففي الأغلب أنه يقف عليه متأمّلا له، وناظرا إليه. فكأنّه استفاد علم ذلك من غير أن تتقدم معرفته به. ومن ذلك قول القائل لغيره: لأعثرنّ عليك بخطيئة فأعاقبك. أي لأقفنّ على ذلك منك.
وعلى هذا قوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً [المائدة: 107] .
أي اطّلع على ذلك منهما، واستفيد العلم به من باطن أمرهما.
وقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ [الآية 22] .
وهذه استعارة لأنّ الرّجم هاهنا هو القذف بالظّنّ، والقول بغير علم. ومن عادة العرب أن تسمي القائل بالظّنّ راجما وقاذفا، و. تسمي السّابّ الشاتم، راميا راجما.
ويقولون: هذا الأمر غيب مرجّم.
أي يرمي الناس بظنونهم، ويقدرونه بحسابهم.
ومرجّم إنما جاء لتكثير العمل، كأنه يرمي من هاهنا، ومن هاهنا. وإنما سمّي الظّانّ راجما، لأنه يوجّه الظّنّ إلى غير جهة مطلوبة، بل يظنّ هذا، ويظنّ هذا، كالراجم الذي لا يعلم مواقع أحجاره إذا رمى بها في الجهات. فتارة تقع يمينا، وتارة تقع شمالا.
وقوله سبحانه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وهذه استعارة. على أحد التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون المراد بذلك: أننا تركنا قلبه غفلا من السّمات التي تتّسم بها قلوب المؤمنين، فتدلّ على زكاء أعمالهم، وصلاح أحوالهم. كقوله سبحانه:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] وذلك تشبيه بالبعير إذا أغفل فترك بلا سمة يعرف بها، على عادة العرب في إقامة السّمات مقام العلامات المميّزة بين أموالهم، في الموارد والمراعي، وتعريف الضوالّ.
وفي هذه الآية أقوال أخر، والقول الذي قدمناه أدخلها في باب الاستعارة. منها أن معنى أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي نسبناه الى الغفلة كقول القائل:
أكفرت فلانا، إذا نسبته إلى الكفر، وأبخلته إذا نسبته إلى البخل.
ومنها أن يكون المراد: سمّيناه غافلا، بتعرّضه للغفلة، فكأن المعنى:
حكمنا عليه بأنه غافل. كما يقول القائل: قد حكمت على فلان بأنه جاهل. أي لمّا ظهر الجهل منه، وجب هذا القول فيه.
ومنها أن يكون ذلك من باب المصادفة. فيكون المعنى: صادفنا قلبه غافلا. كقول القائل أحمدت فلانا، أي وجدته محمودا. وذلك يؤول إلى معنى العلم. فكأنّه تعالى قال: علمناه غافلا.
وعلى هذا قول عمرو بن معد يكرب «1»
(1) . عمرو بن معديكرب الزبيدي، كان فارسا من فرسان اليمن، وصاحب غارات مشهورة. وقد على النبي عليه السلام سنة 9 هـ فأسلم وقومه، ولما توفي النبي ارتدّ عن الإسلام، ثم رجع إليه فحسن إسلامه، وشهد واقعة القادسية وسائر الفتوح. ومن شعره قصيدته التي يقول فيها:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
وتوفي سنة 21 هـ على مقربة من مدينة الرّيّ.
لبني سليم: (لله درّكم يا بني سليم! والله لقد قاتلناكم فما أجبنّاكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم) أي لم نصادفكم على هذه الصفات، من الجبن عند النزال، والبخل عند السؤال، والعيّ عند المقال «1» .
وعلى ذلك قول نافع «2» بن خليفة الغنويّ:
سألنا فأحمدنا ابن كلّ مرزّأ جواد وأبخلنا ابن كلّ بخيل أي وجدنا هذا محمودا، ووجدنا هذا بخيلا مذموما.
وفيما علقته عن قاضي القضاة أبي الحسين عبد الجبّار «3» بن أحمد- أدام الله توفيقه- عند قراءتي عليه كتابه الموسوم «بتقريب الأصول» في أخريات من الكلام في التعديل والتحوير، أنه لو لم يكن الأمر على ما قلناه في إغفال القلب، من أنّ المراد بذلك مصادفته غافلا وكان على ما قاله الخصوم، من أنه تعالى صدف به عن أمره، وصرفه عن ذكره، لوجب أن يقول سبحانه:«فاتّبع هواه» . لقول القائل: أعطيته فأخذ، وبسطته فانبسط، وأكرهته فأذلّ. أي كانت هذه الأفعال منه مسببة عن أفعالي به.
لأن هذا وجه الكلام في الأغلب الأعرف. فلما جاء بالواو صار كأنه قال: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا، واتّبع هواه. لأنه إذا وجد غافلا فهو الذي غفل، والفعل حينئذ له، ومنسوب إليه.
وقوله سبحانه: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) .
(1) . كان مقتضى الترتيب هنا أن يقول: من الجبن عند النزال، والعيّ عند المقال، والبخل عند السؤال، ليصح التقسيم.
(2)
. نافع بن خليفة الغنوي شاعر روى القالي قطعة من شعره في «ذيل الأمالي» ص 116، كما ذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أبياتا من شعره ج 1 ص 176، وقد جهدت- بعد جهد العلامة عبد العزيز الميمني- في معرفة شيء عنه فلم أوفق. ويقول عنه في «سمط اللئالي» :(ونافع لم أعرفه، ولا ذكره الآمدي) ج 3 من السمط ص 55.
(3)
. هو أبو الحسين الشافعي المعتزلي. وكان أحد شيوخ المؤلف. قرأ عليه في مجازات القرآن، وفي المجازات النبوية. وكان شيخ الاعتزال في عصره. ويلقب بقاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. توفي بالرّيّ سنة 415. انظر الأعلام للزّركلي، والغدير ج 4 للأميني ص 163.
وفي هذه الآية استعارتان: أولاهما قوله تعالى:
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها والسرداق هو الفسطاط المحيط به. فوصف- سبحانه- النار بالإحاطة والاشتمال فلا ينجو منها ناج، ولا يطلق منها عان. وذلك كقوله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)[الإسراء] أي حبسا تحصرهم، وطولا تقصرهم، ومثل قوله سبحانه أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قوله: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)[الهمزة] والمؤصدة:
المغلقة المطبقة. من قولهم أوصدت الباب وأصّدته «1» . إذا أغلقته وأطبقته.
وقرئ: عمد وعمد. والمراد بقوله سبحانه: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) مثل المراد في قوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها تشبيها بتمديد الأخبية والسرادقات بالأطناب، وإقامتها على الأعماد.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) والمرفق:
المتّكأ، وهو ما يعتمد عليه بالمرفق، ومنه المرفقة وهي المخدّة. وذلك نظير قوله سبحانه: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)[الرعد: 18]«2» فلما جاء سبحانه بذكر السرادق جاء بذكر المرافق، ليتشابه الكلام.
وروي عن بعضهم أنه قال: معنى مرتفقا، أي مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى: وساءت مرافقه. والمرافقة لا تكون إلا بالاجتماع جماعة. وهذا القول يخرج الكلام عن حدّ الاستعارة، فيدخله في باب الحقيقة. والوجه الأول أقوى. ويشهد له قوله سبحانه:
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) فجاء بذكر الارتفاق لمّا قدّم ذكر الاتكاء. وهذا أوضح مشاهد.
وقوله سبحانه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الآية 33] .
وهذه استعارة. لأن الظلم هاهنا ليس على أصله في اللغة، ولا على عرفه في الشريعة. لأنه في اللغة اسم لوضع
(1) . ويقال أيضا آصد الباب على وزن أفعل مثل أصّد بالتضعيف.
(2)
. في سورة آل عمران، قوله تعالى ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) فالآيتان متشابهتان إلا في «ثم» بدلا من الواو.
الشيء في غير موضعه. وفي الشريعة اسم للضرر المفعول، لا على وجه الاستحقاق، ولا فيه استجلاب نفع، ولا دفع ضرر.
والمراد بقوله تعالى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تمنع منه شيئا. وإنما حسن أن يعبّر عن هذا المعنى باسم الظلم، من حيث كان ثمر تلك الجنة التي هي البستان كالمستحقّ لمالكها.
فإذا أخذ حقه على كماله وتمامه حسن أن يقال: إنها لم تظلم منه شيئا. أي لم تمنع منه مستحقّا، فتكون في حكم الظالم إذ أضرّت بمالكها في نقصان زروعها، وإخلاف ثمارها. ومما يقوّي ذلك قوله سبحانه: آتَتْ أُكُلَها. أي أعطت أكلها. فلما جاء بلفظ الإعطاء حسن أن يجيء بلفظ الظلم. ومعناه هاهنا المنع. فكأنه تعالى قال: أعطت ما استحقّ عليها، ولم تمنع منه شيئا.
وقوله تعالى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الآية 56] وهذه استعارة. وأصل الدّحض الزّلق. ومكان دحض: أي مزلق. فكأنه سبحانه قال: ليزلّوا الحقّ بعد ثباته، ويزيلوه عن مستقرّاته.
فيكون كالكسير بعد قوته، والمائل بعد استقامته.
وقوله سبحانه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الآية 57] . وهذه استعارة. لأنّ المراد بذكر اليدين هاهنا ما كسبه الإنسان من العمل الذي يجرّ العقاب، ويوجب النّكال. ومثله في القرآن كثير.
كقوله سبحانه: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] . وذلك على طريقة للعرب معروفة. وهو أن يقولوا للجاني المعاقب: هذا ما جنت يداك.
وهذا ما كسبت يداك. وإن لم تكن جنايته عملا بيد، بل كانت قولا بفم.
لأن الغالب على أفعال الفاعلين أن يفعلوها بأيديهم، فحمل الأمر على الأعرف، وخرج على الأكثر وعلى هذا المعنى تسمّى النعمة يدا، لأن المنعم في الأغلب يعطي بيده ما ينعم به، وإن لم يقع ذلك في كل حال، وإنما الحكم للأظهر، والقول على الأكثر.
وقوله سبحانه: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الآية 77] وهذه استعارة. لأن الإرادة على حقيقتها لا تصح على الجماد. والمعنى: يكاد أن ينقضّ، أي يقارب أن ينقضّ. على
التشبيه بحال من يريد أن يفعل في الباني، لأنه لما ظهرت فيه أمارات الانقضاض، من ميل بعد انتصاب، واضطراب بعد ثبات، حسن أن يطلق عليه إرادة الوقوع، على طريق الاتساع.
وترد في كلامهم «كاد» بمعنى «أراد» ، «وأراد» بمعنى «كاد» . وجاء في القرآن العظيم قوله تعالى:
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] أي أردنا ليوسف.
وقوله سبحانه. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] معناه- على أحد الأقوال- أريد أخفيها. ومما ورد في أشعارهم شاهدا على ذلك، قول عمر بن أبي ربيعة:
كادت وكدت، وتلك خيرا إرادة لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى «1» فقال: وتلك خير إرادة، والإشارة إلى كادت، وكدت.
وأوضح من هذا قول الأفوه الأودي «2» :
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا أي الذي أرادوا.
فأمّا قول الشاعر «3» :
يريد الرّمح صدر أبي براء
…
ويرغب عن دماء بني عقيل.
(1) . هذا البيت لم ينسب لقائله في «شرح شواهد الكشاف» المسمى «تنزيل الآيات، على الشواهد من الأبيات» للعلامة محب الدين أفندي، ولم ينسبه القرطبي لأحد وإنما نقل عن الأنباري قوله: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر. انظر «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 184. [.....]
(2)
. هو صلاءة بن عمرو بن مالك. وهو شاعر يماني جاهلي اشتهر بالسيادة والقيادة. وهذا البيت من قصيدة مشهورة يقول فيها:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهّالهم سادوا
وقبل بيت الشاهد هذا البيت:
والبيت لا يبتنى إلّا له عمد
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وقد نسبه صاحب «شواهد الكشّاف» للراقدة الأودي، وهو تحريف مطبعي، لأن مثل هذا لا يخفى على العلامة محبّ الدين.
(3)
. لم ينسب هذا البيت لقائله في «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 26، وكذلك لم ينسبه ابن مطرف الكناني في كتابه «القرطين» طبع الخانجي ص 269، واكتفى بما أنشده السجستاني عن أبي عبيدة. وكذلك لم ينسبه ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن» ولا «لسان العرب» . وأبو براء هو عامر بن مالك، ولقبه ملاعب الأسنّة. وترى أخباره في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة صفحات 231، 235، 295، 340، 341.
فليس يصح حمله على مقاربة الفعل، كما قلنا في قوله سبحانه:
جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول: يكاد الرمح صدر أبي براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرّمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل:
في مهمه فلقت به هاماتها
…
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا «1»
فإنه بمعنى مقاربة الفعل، لأنّ الفؤوس إذا فلقت في نصبها قاربت أن تسقط، فجعل ذلك كالإرادة منها.
والنّصول هاهنا مصدر نصل نصولا، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية.
وقوله سبحانه: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الآية 99] وهذه استعارة.
لأنّ أصل الموجان من صفات الماء الكثير وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم، ودخول بعضهم، في بعض لكثرة أضدادهم، تشبيها بموج البحر المتلاطم، والتفاف الدّبا «2» المتعاظل.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الآية 101] . وهذه استعارة. وليس المراد، أن عيونهم على الحقيقة كانت في غطاء يسترها، وحجاز يحجزها. وإنما المعنى: أنّهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِي لأن الأعين لا توصف بأنها في غطاء عن ذكر الله تعالى، لأن ذلك من صفات ذوي العيون. وإنما المراد، أنّ أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر، فلا يفكّرون فيها، ولا يعتبرون بها، فيذكرون الله سبحانه عند إجالة أفكارهم، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه، وغوامض هذا الكلام ومناسبه.
وقوله سبحانه:
(1) . لم ينسب هذا البيت لقائله في القرطبي ج 11 ص 26.
(2)
. الدّبا: الجراد الصغير، أو النمل. والمتعاظل: المتراكب بعضه في بعض وفي المعجم الوسيط: الدّبى بالألف المقصورة.
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) وهذه استعارة. أصل الضّلال ذهاب القاصد عن سنن طريقه.
فكأنّ سعيهم لمّا كان في غير الطريق المؤدّية إلى رضا الله سبحانه، حسن أن يوصف بالضّلال، والعدول عن سنن الرشاد.
وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) . وفي هذه الآية استعارتان إحداهما قوله سبحانه:
بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وتأويل لقائه هاهنا على وجهين: أحدهما أن يكون فيه مضاف محذوف. فكأنه تعالى قال:
ولقاء ثوابه وعقابه، أو جنّته وناره.
والوجه الاخر أن يكون معنى ذلك رجوعهم إلى دار لا أمر فيها لغير الله سبحانه. فيصيرون إليها، من غير أن يكون لهم عنها محيص، أو دونها محيد. وذلك مأخوذ من مقابلتك الشيء من غير أن تصرف عنه وجهك يمينا ولا شمالا. يقول القائل: لقيت فلانا. أي قابلته بجملتي. وتقول: داري تلقاء دار فلان. أي مقابلتها. فكانت كل واحدة منهما كالمقبلة على الأخرى. فلمّا كان لا أحد يوم القيامة يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر الله سبحانه بجمع الناس إليها، وحشرهم نحوها، سمّي ذلك لقاء الله سبحانه على السّعة والمجاز.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) والمراد بذلك- والله أعلم- أنّا لا نجد لهم أعمالا صالحة تثقل بها موازينهم يوم القيامة. والميزان إذا كان ثقيلا سمّي مستقيما، وقائما. وإذا كان خفيفا سمّي عادلا، ومائلا.
وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لا اعتداد بهم، ولا نباهة لذكرهم في يوم القيامة. كما يقال في التحقير للشيء: هذا لا وزن له ولا قيمة.
وكما تقول: فلان عندي بالميزان الراجح، إذا كان كريما عليك، أو حبيبا إليك.