الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يتساءل الإنسان عن عمل الخضر عليه السلام، وهل هو مشروع على الإطلاق، وهل يجوز لمن علم، في حادثة مّا، مثل ما علمه العبد الصالح من حقيقة الأمر فيها، أن يخالف الظاهر؟
وقد اهتمّ بعض المفسّرين بترديد أمثال هذه الأسئلة والمناقشات والإجابة عنها، وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج كأن الأمر أحكام تشريعية أو بيان لموضوعات خلافية. والواقع أنه لم يقصد بهذه القصة إلا الإقناع بأن الإنسان، مهما اتّسع عقله، وسمت مداركه، وعلا منصبه، محدود في علمه، وأن كثيرا من الأمور يخفى عليه، وأن لله عبادا قد يخصّهم بنوع من العلم لا يبذله للناس جميعهم، ولا يستقيم حال الدنيا على بذله للناس جميعهم.
قصة ذي القرنين
تلك قصة عبد مكّن الله له في الأرض، وسخّر له العلم والقوة والآلات والمواصلات، وآتاه من كل شيء سببا. وقد استغلّ هذه الإمكانات في عمل مثمر نافع يعمّ، ويبقى أثره. وقد تحرّك ذو القرنين إلى المغرب غازيا فاتحا، محاربا مجاهدا، وسار النصر في ركابه حتى انتهى إلى عين اختلط ماؤها وطينها فتراءى له أن الشمس تغرب فيها وتختفي وراءها وظن أن ليس وراء هذه العين مكان للغزو، ولا سبيل للجهاد، ولكنه رأى عندها قوما هاله كفرهم، وكبر عليه ظلمهم وفسادهم، فخيّره الله بين قتالهم أو إمهالهم ودعوتهم للعدل والإيمان، فاختار إمهالهم وقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم، ونصر المظلوم، وأخذ بيد الضعيف، وأقام صرح العدل، ونشر لواء الإصلاح. وقد وضع لهم دستور الحكم العادل قال تعالى:
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) .
وقد عاد ذو القرنين إلى الشرق فسار غازيا مجاهدا حتى انتهى إلى غاية العمران في الأرض، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس عليها، ولكن ليس لهم بيوت تسترهم، أو أشجار تظلّهم.
ولعلّهم كانوا على حال من الفوضى
ونصيب من الجهل.. فبسط حكمه عليهم ونفّذ فيهم دستور العدل، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء الذي سبق ذكره، ثم تركهم إلى الشمال غازيا مجاهدا مظفّرا منصورا، حتى انتهى إلى بلاد بين جبلين يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم، أو يفهم في الحديث مرماهم، ولكنهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج، وهم قوم مفسدون في الأرض، وأوزاع «1» من الخلق ضالّون مضلّون.
وقد لجأ الأقوام إلى ذي القرنين ليحول بينهم وبين المفسدين، وشرطوا على أنفسهم نولا يدفعونه إليه، وأموالا يضعونها بين يديه. ولكنّ ذا القرنين أجابهم إلى طلبهم، وردّ عطاءهم وقال لهم، كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه:
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الآية 95] .
ثم طلب إليهم أن يعينوه على ما يفعل، فحشدوا له الحديد والنحاس، والخشب والفحم، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وحاطها بالفحم والخشب، ثمّ أوقد النار، وأفرغ عليه ذائب النحاس، واستوى ذلك كله بين الجبلين سدّا منيعا قائما، ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن تظهره لملاسته، أو تنقبه لمتانته وأراح الله منهم شعبا كان يشكو من أذاهم، ويألم من عدوانهم.
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولكنه ذكر الله فشكره، وردّ إليه العمل الصالح الذي وفّقه إليه، وتبرّأ من قوته إلى قوة الله، وأعلن عقيدته في البعث والحشر، وإيمانه بأنّ الجبال والحواجز والسدود ستدكّ قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا وهكذا تختم هذه القصة، بتأكيد قدرة الله سبحانه، على البعث قال تعالى:
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) .
«وبذلك تنتهي قصة ذي القرنين، النموذج الطيّب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسّر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقا وغربا، ولكنه لا يتجبّر ولا يتكبّر، ولا يطغى ولا يتبطّر ولا يتّخذ من الفتوح وسيلة للغنم
(1) . الأوزاع: الجمادات، ولا واحد لها. [.....]