المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء» - الموسوعة القرآنية خصائص السور - جـ ٥

[جعفر شرف الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌سورة النحل

- ‌البحث الأول أهداف سورة «النحل»

- ‌عرض إجمالي للسورة

- ‌التوحيد في السورة

- ‌نعم الله

- ‌وحدة الألوهية

- ‌أدلة الوحدانية

- ‌اسم السورة

- ‌مظاهر القدرة الإلهية

- ‌الأوامر والنواهي

- ‌ختام سورة النحل

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌إبطال الشرك الآيات [1- 23]

- ‌رد شبهة لهم على القرآن الآيات [24- 34]

- ‌عود الى إبطال شركهم الآيات [35- 37]

- ‌رد شبهة لهم على البعث الآيات [38- 42]

- ‌رد شبهة لهم على النبوة الآيات [43- 50]

- ‌عود الى إبطال أنواع من الشرك الآيات [51- 100]

- ‌عود الى رد شبههم على القرآن الآيات [101- 111]

- ‌الخاتمة الآيات [112- 128]

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النحل»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «النحل»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النحل»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النحل»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النحل»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النحل»

- ‌سورة الإسراء

- ‌المبحث الأول أهداف سورة ‌‌«الإسراء»

- ‌«الإسراء»

- ‌وعد الله لبني إسرائيل

- ‌أوهام المشركين، وحجج القرآن الكريم

- ‌من أسرار الإعجاز في سورة الإسراء

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإسراء»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌إثبات الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الآيات (1- 8)

- ‌الموازنة بين كتابي المسجدين الآيات (9- 59)

- ‌بيان حكمة الإسراء الآيات (60- 81)

- ‌عود إلى بيان فضل القرآن الآيات (82- 111)

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإسراء»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «الإسراء»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإسراء»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإسراء»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإسراء»

- ‌سورة الكهف 18

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «الكهف»

- ‌القصص في سورة الكهف

- ‌ قصة أصحاب الكهف

- ‌قصة موسى والخضر

- ‌قصة ذي القرنين

- ‌أهداف سورة الكهف

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكهف»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌المقدمة الآيات [1- 8]

- ‌قصة أصحاب الكهف الآيات [9- 82]

- ‌قصة ذي القرنين الآيات [83- 108]

- ‌الخاتمة الآيات [109- 110]

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكهف»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «الكهف»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الكهف»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الكهف»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الكهف»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الكهف»

- ‌سورة مريم 19

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «مريم»

- ‌أهداف السورة

- ‌القصص في سورة مريم

- ‌حكمة خلق عيسى (ع)

- ‌قصة ميلاد عيسى (ع)

- ‌أسلوب القرآن

- ‌المعالم الرئيسة في السورة

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «مريم»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌نتف من قصص بعض الرسل الآيات [1- 58]

- ‌انحراف خلفهم عن سننهم الآيات [59- 98]

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «مريم»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «مريم» »

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «مريم»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «مريم»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «مريم»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «مريم»

- ‌سورة طه 20

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «طه»

- ‌معنى طه

- ‌أهداف السورة من أهداف سورة طه:

- ‌قصة موسى (ع) في القرآن

- ‌قصة موسى في سورة طه

- ‌أدلّة موسى (ع) على وجود الله تعالى

- ‌موسى والسحرة

- ‌غرق فرعون ونجاة موسى

- ‌موسى والسامري

- ‌مشاهد القيامة وختام السورة

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «طه»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌الحث على الصبر [الآيات 1- 8]

- ‌قصة موسى الآيات [9- 114]

- ‌قصة آدم الآيات [115- 127]

- ‌الخاتمة الآيات (128- 135)

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «طه»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «طه»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «طه»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «طه»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «طه»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «طه»

- ‌سورة الأنبياء 21

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «الأنبياء»

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌نظم السورة

- ‌أشواط أربعة

- ‌الشوط الأول

- ‌الشوط الثاني

- ‌الشوط الثالث

- ‌الشوط الرابع

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنبياء»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌إنذارهم باقتراب حسابهم الآيات (1- 47)

- ‌قصص الأنبياء الآيات (48- 91)

- ‌الخاتمة الآيات (92- 112)

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنبياء»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنبياء»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنبياء»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنبياء»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنبياء»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنبياء»

الفصل: ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء»

‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء»

«1»

إن قيل: لم قال الله تعالى بِعَبْدِهِ [الآية 1] ولم يقل «بنبيّه» ، أو «برسوله» ، أو «بحبيبه» ، أو «بصفيّه» ، ونحو ذلك مع أن المقصود من ذلك الإسراء، تعظيمه وتبجيله؟

قلنا: إنّما سمّاه عبدا في أرفع مقاماته، وأجلّها، وهو هذا وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى

(10)

[النجم] كي لا تغلط فيه أمّته، وتضل به كما ضلّت أمة المسيح (ع) به، فدعته إلها. وقيل كي لا يتطرّق إليه العجب والكبر.

فإن قيل: الإسراء لا يكون إلّا بالليل، فما فائدة ذكر الليل؟

قلنا: فائدته أنه ذكر منكّرا ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء والرجوع، مع أنه كان من مكّة إلى بيت المقدس مسيرة أربعين ليلة، وذلك لأن التنكير يدل على البعضية، ويؤيده قراءة عبد الله وحذيفة، «الليل» : أي بعض الليل كقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً [الآية 79] فإنه أمر بالقيام في بعضه.

فإن قيل: أي حكمة في نقله (ص) ، من مكّة إلى بيت المقدس، ثم العروج به من بيت المقدس إلى السماء ولم لم يعرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟

قلنا لأن بيت المقدس محشر الخلائق، فأراد الله تعالى أن يطأها الرسول (ص) ، ليسهل على أمته يوم

(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

ص: 91

القيامة وقفهم عليها، ببركة أثر قدمه (ص) .

الثاني: أن بيت المقدس مجمع أرواح الأنبياء (ع)، فأراد الله تعالى أن يشرّفهم بزيارته (ص) . الثالث: أنّه أسرى به إلى بيت المقدس، ليشاهد من أحواله وصفاته، ما يخبر به كفّار مكّة صبيحة تلك الليلة، فيدلّهم إخباره بذلك، مطابقا لما رأوا وشاهدوا، على صدقه في حديث الإسراء.

فإن قيل: لم قال الله تعالى بارَكْنا حَوْلَهُ [الآية 1] ولم يقل باركنا عليه أو باركنا فيه، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد، وحوله خصوصا المسجد الأقصى؟

قلنا: أراد سبحانه البركة الدنيوية، بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وذلك حوله لا فيه. وقيل أراد البركة الدينية، فإنه مقرّ الأنبياء (ع) ، ومتعبّدهم ومهبط الوحي والملائكة، وإنما قال جلّ وعلا: بارَكْنا حَوْلَهُ لتكون بركته أعمّ وأشمل، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض بلاد الشام، وما قاربه منها، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس ولأنه إذا كان هو الأصل، وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع، كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى، بخلاف العكس. وقيل المراد البركة الدنيوية والدينية، ووجههما ما مرّ. وقيل المراد باركنا حوله، من بركة نشأت منه، فعمّت جميع الأرض، فإن مياه الأرض كلّها، أصل انفجارها من تحت الصخرة التي في بيت المقدس.

فإن قيل، ما وجه ارتباط قوله تعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) بما قبله، ومناسبته له؟

قلنا: معناه لا تتّخذوا من دوني ربّا فتكونوا كافرين، ونوح كان عبدا شكورا، وأنتم ذرّية من آمن به، وحمل معه، فتأسّوا به في الشكر، كما تأسّى به آباؤكم.

فإن قيل لم قال الله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الآية 7] ولم يقل: فعليها، كما قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] ؟

قلنا: اللام هنا بمعنى على، كما في قوله تعالى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)[الصافات] وقوله تعالى يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الآية 107] وقيل معناه، فلها رجاء بالرحمة، أو فلها خلاص بالتوبة والاستغفار والصحيح، أن اللام هنا على بابها، لأنها للاختصاص وكل عامل مختص

ص: 92

بجزاء عمله، حسنا كان أو سيّئا وقد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة، في قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.

فإن قيل: لم قال الله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الآية 12] وقال في قصة مريم وعيسى (ع) وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)[الأنبياء] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:

50] مع أن عيسى (ع) كان وحده آيات شتّى، حيث كلّم الناس في المهد، وكان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق الطير وغير ذلك وأمّه وحدها، كانت آية، حيث حملت من غير فحل؟

قلنا: إنّما أراد به الآية التي كانت مشتركة بينهما ولم تتم إلّا بهما، وهي ولادة ولد من غير فحل، بخلاف الليل والنهار والشمس والقمر. والثاني: أن فيه آية محذوفة، إيجازا واختصارا تقديره: وجعلناها آية وابنها آية، أي وجعلنا ابن مريم آية، وأمّه آية.

فإن قيل: لم قال الله تعالى وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الآية 12] والإبصار من صفات ما له حياة والمراد بآية النهار، إمّا الشمس وإمّا النهار نفسه وكلاهما غير مبصر؟

قلنا: المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة، نقله الجوهري، وقال غيره معناه بيّنة واضحة ومنه قوله تعالى:

وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] أي آية واضحة مضيئة، وقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13] الثاني، معناه، مبصرا بها إن كانت الشمس، أو فيها، إن كانت النهار، ومنه قوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] أي مبصرا فيه ونظيره قولهم، ليل نائم ونهار صائم: أي ينام ويصام فيه.

والثالث، أنه فعل رباعي منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء: أي علم به، فهو بصير، أي عالم معناه:

أنه يجعلهم بصراء، فيكون أبصره بمعنى بصره، وعلى هذا حمل الأخفش قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13] أي تبصّرهم، فتجعلهم بصراء. الرابع، أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة وبصر وقدرة، وهو متحرك بإرادته امتثال أمر الله تعالى، كما يتحرّك الإنسان.

فإن قيل: ما الحكمة في ذكر عدد السنين، مع أنه لو اقتصر على القول

ص: 93

لتعلموا الحساب، دخل فيه عدد السنين، إذ هو من جملة الحساب؟

قلنا: العدد كله موضوع الحساب، كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب، وأفعال المكلّفين موضوع الفقه، وموضوع كل علم مغاير له، وليس جزءا منه. كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب، ولا أفعال المكلّفين جزءا من الفقه فكذا العدد، ليس جزءا من الحساب وإنما ذكر عدد السنين وقدّم على الحساب، لأن المقصود الأصلي من محو الليل وجعل آية النهار مبصرة، علم عدد الشهور والسنين، ثم يتفرّع من ذلك علم حساب التاريخ، وضرب المدد والآجال.

فإن قيل: لم قال الله تعالى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) وقال في موضع آخر وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)[الأنبياء] ؟

قلنا: مواقف القيامة مختلفة، ففي موقف يكل الله، سبحانه، حسابهم إلى أنفسهم، وعلمه محيط به وفي موقف يحاسبهم، هو جل جلاله. وقيل إنه سبحانه هو الذي يحاسبهم لا غيره، وقوله تعالى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) ، أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها، عالم بذلك فهو توبيخ وتقريع، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه. وقيل من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه، ومن يريد مسامحته فيه يكل حسابه إليه.

فإن قيل: قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ويرد ما جاء في الأخبار، أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب والمديون، ويزاد في حسنات ربّ الدّين والشخص الذي اغتيب، فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات خصميهما، وكذلك جاء هذا في سائر المظالم؟

قلنا المراد من الآية، أنها لا تحمله اختيارا ردّا على الكافرين حيث قالوا للذين آمنوا، كما ورد في التنزيل اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] ، والمراد من الخبر، أنها تحمله كرها، فلا تنافي وقد سبق هذا مرة في آخر سورة الأنعام.

فإن قيل: لم قال الله تعالى أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها

[الآية 16] وقال في آية أخرى قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28] .

قلنا: فيه إضمار تقديره أمرناهم بالطاعة ففسقوا. وقال الزّجّاج، ومثله

ص: 94

قولهم أمرته فعصاني، وأمرته فخالفني، لا يفهم الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة. الثاني: أن معناه كثّرنا مترفيها، يقال أمرته وآمرته بالمد والقصر يعني كثّرته وقد قرئ بهما، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة وسكّة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل. والثالث أن معناه أمّرنا مترفيها بالتشديد، يقال أمّرت فلانا بمعنى أمرته: أي جعلته أميرا، فمعنى الآية سلطانهم بالإمارة، ويعزّز هذا الوجه قراءة من قرأ (أمّرنا) بالتشديد. وقال الزمخشري رحمه الله: لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا، لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز، فكيف يقدّر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه، وذلك لأن قوله تعالى فَفَسَقُوا

يدل على أن المأمور به المحذوف، هو الفسق، وهو كلام مستفيض، يقال أمرته فقام، وأمرته فقعد، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به القيام والقعود والقراءة بخلاف قولهم أمرته فعصاني، وأمرته فخالفني حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة لأن ذلك مناف للأمر، مناقض له ولا يكون ما يناقص الأمر وينافيه مأمورا به، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه، ولا منويّ والمتكلم بمثل هذا، لا ينوي لأمره مأمورا به بل كأنه قال: كان منّي أمر، فلم تكن منه طاعة، أو كانت منه مخالفة كما تقول: مر زيدا يطعك، وكما تقول: فلان يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويضرّ وينفع فإنّك لا تنوي مفعولا.

فإن قيل: على هذا، حقيقة أمرهم بالفسق، أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون من الله، فلا يقال يقدّر الفسق محذوفا، ولا مأمورا به.

قلنا: الفسق المحذوف المقدر، مجاز عن إترافهم وصب النعم عليهم صبّا، أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي، ووسيلة إلى اتّباع الشهوات فكأنهم أمروا بذلك، لمّا كان السبب في وجوده الإتراف، وفتح باب النعم.

فإن قيل: لم لا يكون ثبوت العلم، بأن الله لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير، دليلا على المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا.

قلنا: لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير، لكان المتكلّم مريدا من مخاطبه علم الغيب لأنه أضمر ما لا

ص: 95

دلالة عليه في اللفظ، بل أبلغ، لأنه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه وهو قوله تعالى فَفَسَقُوا

فكأنه أظهر شيئا، وادّعى إضمار نقيضه، فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز، هو الوجه هذا كله كلام الزمخشري، ولا أعلم أحدا من أئمّة التفسير صار إليه غيره ثم إنه أيّد فقال: ونظيره أمر «شاء» ، في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده تقول: لو شاء فلان لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان الأحسن، ولو شاء الإساءة إليك لأساء، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت فتعني، ولو شاء الإساءة لأحسن إليك، ولو شاء الإحسان لأساء إليك وتقول قد دلّت حال من أسدت إليه المشيئة، أنه من أهل الإحسان دائما، ومن أهل الإساءة دائما: فيترك الظاهر المنطوق به، ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة، لم تكن على سداد.

فإن قيل: على الوجه الأول، لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة كان مخصوصا بالمترفين، لأن أمر الله تعالى بالطاعة، عامّ للمترفين وغيرهم.

قلنا: أمر الله بالطاعة وإن كان عامّا، ولكن لمّا كان صلاح الأمراء والرؤساء وفسادهم، مستلزما لصلاح الرعيّة وفسادها غالبا خصّهم بالذكر. ويؤيد هذا ما جاء في الخبر «صلاح الوالي صلاح الرعيّة، وفساد الوالي فساد الرعيّة» .

فإن قيل: قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ [الآية 18] يدل على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها، كان من أهل النار، والأمر بخلافه.

قلنا: المراد من كان يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير، ومثل هذا لا يكون إلّا كافرا أو منافقا ولهذا قال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد، وأما من أراد من الدنيا قدر ما يتزوّد به إلى الاخرة، فكيف يكون مذموما مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلّيّة وعن جميع ما فيها، لا يتصوّر في حق البشر، ولو كانوا أنبياء، فعلم أن المراد ما قلنا.

فإن قيل: لم قال تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) أي ممنوعا، ونحن نرى ونشاهد في الواقع، أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة، وآخر منعه العطاء حتى الحبّة؟

قلنا: المراد بالعطاء هنا الرزق، والله

ص: 96

تعالى ساوى في ضمان الرزق وإيصاله، بين البرّ والفاجر والمطيع والعاصي، ولم يمنع الرزق عن العاصي بسبب عصيانه، فلا تفاوت بين العباد في أصل الرزق، وإنّما التفاوت بينهم في مقادير الإملاك.

فإن قيل: لم منع الله تعالى الكفّار التوفيق والهداية، ولم يمنعهم الرزق؟

قلنا: لأنه لو منعهم الرزق لهلكوا، وصار ذلك حجّة لهم يوم القيامة، بأن يقولوا لو أمهلتنا ورزقتنا، لبقينا أحياء فآمنّا. الثاني: أنه لو أهلكهم بمنع الرزق، لكان قد عاجلهم بالعقوبة، فيتعطّل معنى اسمه الحليم عن معناه لأن الحليم، هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه. الثالث: أنّ منع الطعام والشراب من صفات البخلاء الأخسّاء، والله تعالى منزّه عن ذلك. وقيل إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل، وعدل الله عامّ، وهبته التوفيق والهداية فضل، وإنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عِنْدَكَ من قوله سبحانه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الآية 23] ؟ قلنا: الحكمة أنهما يكبران في بيته وكنفه، ويكونان كلّا عليه لا كافل لهما غيره، وربما تولّى منهما من المشاق، ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة.

فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الآية 32] ولم يقل ولا تزنوا؟

قلنا: لو قال «ولا تزنوا» كان نهيا عن الزنى، لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة، ونحو ذلك ولمّا قال وَلا تَقْرَبُوا كان نهيا عنه وعن مقدّماته، لأن فعل المقدّمات قربان للزنى.

فإن قيل: الإشارة بقوله تعالى كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ [الآية 38] على ماذا تعود؟

قلنا: الإشارة إلى كل ما هو منهيّ عنه، من جميع ما ذكر من قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 23] إلى هذه الآية لا إلى جميع ما ذكر، فإن فيه حسنا وسيئا وقال أبو علي هو إشارة إلى قوله تعالى وَلا تَقْفُ [الآية 36] وما بعده، لأنه لا حسن فيه.

فإن قيل: لم قال تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 44]

ص: 97

فقوله جلّ شأنه وَمَنْ فِيهِنَّ يتناول أهل الأرضين كلّهم، والمراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة، بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الآية 44] ، والتسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بصفات جلاله وكماله، والكفّار يضيفون إليه الزوج والولد والشريك وغير ذلك، فأين تسبيحهم؟

قلنا: الضمير في قوله تعالى وَمَنْ فِيهِنَّ راجع إلى السماوات فقط.

الثاني: أنه راجع إلى السماوات والأرض، والمراد بقوله تعالى وَمَنْ فِيهِنَّ يعني من المؤمنين فيكون عامّا أريد به الخاصّ وعلى هذا يكون المراد بالتسبيح المسند إلى من فيهنّ، التسبيح بلسان المقال. ثالث: أن المراد به التسبيح بلسان الحال، حيث تدلّ على وجود الصانع، وعظيم قدرته، ونهاية حكمته فكأنها تنطق بذلك، وتنزّهه عمّا لا يجوز عليه، وما لا يليق به من السوء، ويؤيده قوله تعالى بعده: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الآية 44] ، والتسبيح العامّ للموجودات جميعها، إنّما هو التسبيح بلسان الحال. فإن قيل: لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال، لما قال سبحانه وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الآية 44]، إلا أنّ التسبيح بلسان الحال مفقود لنا: أي مفهوم ومعلوم؟

قلنا: الخطاب بقوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ للكفّار، وهم مع تسبيحهم بلسان الحال، لا يفقهون تسبيح الموجودات على ما ذكرنا من التفسير لأنهم لمّا جعلوا لله شركاء وزوجا وولدا، دلّ ذلك على عدم فهمهم التسبيح والتنزيه للموجودات، وعدم إيضاح دلائل الوحدانيّة لأنّ الله تعالى طبع على قلوبهم.

فإن قيل: وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 44] وهم الملائكة والثّقلان يسبّحون حقيقة، والسماوات والأرض والجمادات تسبّح مجازا، فكيف جمع بين إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ واحد، وهو قوله تعالى: تُسَبِّحُ؟

قلنا التسبيح المجازي بلسان الحال، حاصل من الجميع، فيحمل عليه دفعا لما ذكرتم من المجاز.

فإن قيل: لم قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الآية 52]

ص: 98

والمستعمل الشائع دعاه فاستجاب لأمره أو بأمره: أي أجاب؟

قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بقوله تعالى بِحَمْدِهِ بأمره. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: إذا دعا الله الخلائق للبعث، يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون:

سبحانك اللهم وبحمدك وقال غيره وهم يقولون: الحمد لله الذي صدقنا وعده فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع، كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] وقوله تعالى فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] .

فإن قيل: لم أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الآية 55] ثم خصّ داود بالذكر فقال تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) . قلنا: لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء، وهو:

الرسالة، والكتابة والخطابة، والخلافة، والملك، والقضاء، في زمن واحد قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)[ص] وقال جلّ شأنه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] . الثاني: أنّ قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الآية 55] إشارة إلى تفضيل محمد (ص)، وقوله سبحانه: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) دلالة على وجه تفضيله (ص) ، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأنّ أمّته خير الأمم لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود (ع)، وإليه الإشارة بقوله تعالى:

وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)[الأنبياء] يعني محمّدا (ص) وأمته.

فإن قيل: لم نكّر الزّبور هنا، وعرّفه في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] ؟

قلنا: يجوز أن يكون الزّبور من الأعلام التي تستعمل بالألف واللام، وبغيرهما، كالعبّاس والفضل والحسن والحسين ونحوها الثاني: أنه نكّره هنا لأنّه أراد: وآتينا داود بعض الزبور، وهي الكتاب. الثالث: أنّه نكّره لأنه أراد به، ما ذكر فيه رسول الله (ص) من الزبور، فسمى ذلك زبورا لأنه بعض الزبور، كما سمّى بعض القرآن قرآنا، فقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ [الآية 106] وقال تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3] وأراد به سورة

ص: 99

يوسف وقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الآية 78] أي القرآن المتلوّ في صلاة الفجر.

فإن قيل: قوله تعالى فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الآية 56] مغن عن قوله تعالى وَلا تَحْوِيلًا (56) لأنهم إذا لم يستطيعوا كشف الضرّ لا يستطيعون تحويله، لأنّ تحويل الضّر نقله من محل، وإثباته في محل آخر، ومنه تحويل الفراش والمتاع وغيرهما، وكشف الضّرّ مجرّد إزالة، ومن لا يقدر على الإزالة وحدها، فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟ والمراد بالآية كشف الضر والمرض والقحط ونحوها؟

قلنا: التحويل له معنيان: أحدهما ما ذكرتم. والثاني التبديل، ومنه قولهم:

حوّلت القميص قباء، والفضة خاتما وأريد بالتبديل هنا الكشف، لأن في الكشف المنفي في الآية تبديلا فإن المرض متى كشف يبدّل بالصحة، والفقر متى كشف يبدّل بالغنى، والقحط متى كشف يبدّل بالخصب وكذا جميع الأضداد، فأطلق التبديل وأراد به الكشف، إلا أنه لم يرد به كشف الضّر لئلّا يلزم التكرار، بل أراد به مطلق الكشف الذي هو الإزالة، يعني فلا يستطيعون كشف الضّرّ عنكم، ولا كشفا ما، ولهذا لم يقل ولا تحويله. وهذا الجواب ممّا فتح الله علي به، من خزائن جوده ونظيره ما ذكرناه في سورة النحل، في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)[النحل] .

فإن قيل: قوله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الآية 59] . الآية فيها أسئلة:

أوّلها أنّ الله تعالى لا يمنعه عمّا يريده مانع، فإن أراد إرسال الآيات، فكيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها، يكن وجود تكذيبهم وعدمه سواء، ويكن عدم الإرسال لعدم الإرادة. الثاني أن الإرسال يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] . فأيّ حاجة إلى الباء؟ الثالث: أن المراد بالآيات هنا، ما اقترحه أهل مكّة على رسول الله (ص) ، من جعل الصفا ذهبا، وإزالة جبال مكّة، ليتمكّنوا من الزراعة، وإنزال مكتوب من السماء، ونحو ذلك وهذه الآيات، ما أرسلت إلى الأوّلين، ولا شاهدوها فكيف

ص: 100

كذّبوا بها؟ الرابع: أن تكذيب الأوّلين، لا يمنع إرسالها الى الآخرين، لجواز أن لا يكذّب الآخرون. الخامس: أيّ مناسبة وأيّ ارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] ؟ السادس: ما معنى وصف الناقة بالإبصار؟ السابع: أنّ الظلم يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ

[النساء: 110] . فأي حاجة إلى الباء فَظَلَمُوا بِها [الآية 59] ، ولم لم يقل فظلموها يعني العقر والقتل، الثامن: أن قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الآية 59] يدل على عدم الإرسال بها؟

قلنا: الجواب عن الأول، أن المنع مجاز عبّر به عن ترك الإرسال بالآيات، كأنه تعالى قال: وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات، إلّا أن كذّب بها الأولون. وعن الثاني: أن الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به، لا إلى المرسل، لأن المرسل محذوف وهو الرسول، تقديره، وما منعنا أن نرسل الرسل بالآيات، والإرسال يتعدّى إلى المرسل بنفسه، وإلى المرسل به بالباء، وإلى المرسل إليه بإلى، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [هود] . وعن الثالث: أنّ الضمير في قوله تعالى بِهَا [الآية 59] ، عائد إلى جنس الآيات المقترحة، لا إلى هذه الآيات المقترحة، كأنّه تعالى قال: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة، إلّا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة، يريد المائدة والناقة ونحوهما، ممّا اقترحه الأوّلون على أنبيائهم. وعن الرابع: أنّ سنة الله تعالى في عباده، أنّ من اقترح على الأنبياء آية، وأتوه بها فلم يؤمن، عجّل الله هلاكه والله تعالى لم يرد هلاك مشركي مكّة، لأنّه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو لأنه قضى وقدّر في سابق علمه، بقاء من بعث إليهم محمّد (ص) إلى يوم القيامة، فلو أرسل بالآيات التي اقترحوها، فلم يؤمنوا، لأهلكهم وحكمته اقتضت عدم إهلاكهم، فلذلك لم يرسلها فيصير معنى الآية: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة عليك، إلا أن كذّب بالآيات المقترحة الأوّلون، فأهلكوا، فربما كذّب بها قومك، فأهلكوا. وعن الخامس: أنه تعالى لما أخبر أن الأوّلين كذّبوا بالآيات المقترحة، عيّن منها واحدة

ص: 101

وهي ناقة صالح عليه السلام، لأنّ آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها صادرهم وواردهم. وعن السادس: أنّ معنى مبصرة دالّة، كما يقال الدليل مرشدها وقيل مبصرا بها، كما يقال ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه، وقيل معناه مبصرة، يعني أنها تبصّر الناس صحّة نبوّة صالح عليه السلام ويعزّز هذا قراءة من قرأ (مبصرة) بفتح الميم والصاد: أي تبصرة. وقيل مبصرة صفة لآية محذوفة، تقديره: آية مبصرة: أي مضيئة بيّنة. وعن السابع:

أن الباء ليست لتعدية الظلم إلى الناقة، بل معناه: فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها، وقيل الظلم هنا الكفر، فمعناه: فكفروا بها، فلمّا ضمن الظلم معنى الكفر عدّاه تعديته. وعن الثامن:

أنّ المراد بالآيات ثانيا العبر والدلالات، لا الآيات التي اقترحها أهل مكّة.

فإن قيل: لم قال تعالى وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الآية 60] وليس في القران لعن شجرة ما؟

قلنا: فيه إضمار تقديره: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن. الثاني: أنّ معناه: الملعون آكلوها وهم الكفرة. الثالث: أنّ الملعونة يعنى المذمومة، كذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهي مذمومة في القرآن، بقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)[الدخان] . وبقوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)[الصافات] الرابع: أن العرب تقول لكل طعام مكروه أو ضار ملعون وفي القرآن الإخبار عن ضررها وكراهتها. الخامس: أن اللعن في اللغة، الطرد والإبعاد، والملعون هو المطرود عن رحمة الله تعالى المبعد، وهذه الشجرة مطرودة مبعدة، عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة، لأنّها في قعر جهنّم، وهذا الإبعاد والطرد مذكوران في القرآن، بقوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)[الصافات] . وقال ابن الأنباري سمّيت ملعونة، لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل.

فإن قيل: لم خصّ أصحاب اليمين بقراءة كتبهم بقوله تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ [الآية 71] ولم خصّهم بنفي الظلم عنهم، بقوله تعالى:

ص: 102

وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضا؟

قلنا: إنما خصّ أصحاب اليمين بذكر القراءة، لأن أصحاب الشمال إلا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح، أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان، وتتعتع الكلام، والعجز عن إقامة الحروف، فتكون قراءتهم ك «لا قراءة» فأمّا أصحاب اليمين، فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) [الحاقة] . وأمّا قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) فهو عائد إلى كلّ الناس، لا إلى أصحاب اليمين.

الثاني: أنّه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة، وإنما خصّهم بذلك، لأنّهم يعلمون أنهم لا يظلمون، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال، فإنّهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون، يعضد هذا الوجه قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)[طه] .

فإن قيل لم قال موسى (ع) لفرعون كما ورد في التنزيل قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ يعنى الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الآية 102] يعني بيّنات وحججا واضحات وفرعون لم يعلم ذلك، لأنه لو علم ذلك، لم يقل لموسى عليه السلام كما ورد في التنزيل إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) أي مخدوعا، أو قد سحرت، أو ساحرا، مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال، بل كان يؤمن به وكيف يعلم ذلك، وقد طبع الله على قلبه وأضلّه، وحال بينه وبين الهدى والرشاد، ولهذا قرأ عليّ كرم الله وجهه لَقَدْ عَلِمْتَ [الآية 102] بضم التاء، وقال: والله ما علم عدوّ الله، ولكن موسى (ع) ، هو الذي علم.

واختار الكسائي وثعلب قراءة عليّ رضي الله عنه، ونصراها، بأنه لمّا نسبه إلى أنّه مسحور، أعلمه بصحّة عقله؟

قلنا: معناه لقد علمت، لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجّة والبرهان، ولكنّك معاند مكابر، تخشى فوات دعوى الإلهية لو صدقتني فكان فرعون ممن أضلّه الله على علم، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة علي رضي الله عنه ويمينه، فاحتج بقوله تعالى

ص: 103

وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل:

14] .

فإن قيل: لم قال موسى (ع) كما ورد في التنزيل وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) وموسى (ع) كان عالما بذلك، لا شكّ عنده فيه؟

قلنا: قال أكثر المفسرين الظن هنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:

46] وإنما أتي بلفظ الظنّ ليعارض ظنّ فرعون بظنّه، كأنّه قال: إن ظننتني مسحورا، فأنا أظنّك مثبورا، والمثبور الهالك والمصروف عن الخيرات، أو الملعون والخاسر.

فإن قيل: لم كرّر تعالى الإخبار بالخرور «1» ؟

قلنا: كرّره ليدل على تكرار الفعل منهم. الثاني: أنه كرّره لاختلاف الحالين، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وفي حال كونهم باكين. الثالث: أنه أراد بالخرور الأول، الخرور في حالة سماع القرآن وقراءته وبالخرور الثاني، الخرور في سائر الحالات وباقيها.

(1) . الخرور: مصدر خرّ يقال: خرّ ساجدا، ومعنى خرّ في هذا السياق، في الأصل: سقط. فكأنّ الذي يخرّ ساجدا، يسقط، لفرط خشوعه، من عل، حيث هو واقف، إلى الأرض، ليسجد.

ص: 104