الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات
تقديم للأستاذ عبد الكريم زيدان
…
مقدمات:
تقديم: للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان
1-
السنة النبوية، في اصطلاح الفقهاء، ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم -غير القرآن- من قول أو فعل أو تقرير. وهي وحي إلهي قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فهي كالقرآن الكريم من جهة أن الإثنين وحي إلهي، والفرق بينهما أن القرآن الكريم، وحي إلهي باللفظ والمعنى، بينما السنة وحي بالمعنى دون اللفظ.
2-
والسنة وهي وحي إلهي -واجبة الاتباع ومصدر أصيل- بعد القرآن، للأحكام الشرعية، وعلى هذا دل القرآن وانعقد الإجماع، ففي القرآن نصوص كثيرة جدا تبين هذا المعنى وتلزم الناس باتباع السنة وتصرح بأن الانقياد لها انقياد لله، وأن التمرد عليها علامة الانسلاخ من الإيمان، وإن المسلم لا خيار له فيما يقضي به القرآن أو تقضي به السنة، فمن هذه النصوص القرآنية قول الله تبارك وتعالى:
أ- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .
ب- {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
ولم يختلف المسلمون في القديم والحديث في حجية السنة ووجوب اتباعها وكونها مصدرًا للتشريع.
3-
والأحكام التي جاءت بها السنة أنواع، منها ما هو موافق لما في القرآن ومؤكد له مثل حرمة أكل مال الغير بغير حق والنهي عن الزنا وعقوق الوالدين وشهادة الزور ونحو ذلك.
ومنها ما هو مبين ومفصل لمجمل القرآن، كالسنة التي بينت عدد ركعات الصلاة وهيأتها، حيث جاءت الصلاة في القرآن مجملة، وكالسنة التي بينت مقادير الزكاة وشروطها وأصناف المال الذي تجب فيه الزكاة. ومنها –أي: من السنة- أحكام قيدت مطلق القرآن أو خصصت عامه، كقطع اليد في السرقة جاء مطلقًا في القرآن فقيدته السنة إلى الرسغ، ومثل تحريم الميتة جاء عامًّا في القرآن فخصصته السنة بما عدا ميتة البحر والجراد.
ومن السنة ما هو أحكام جديدة لم يذكرها القرآن الكريم، وإنما جاءت بها السنة مثل الحكم بشاهد ويمين ووجوب الدية على العاقلة ونحو ذلك. وهذا النوع من الأحكام واجب الاتباع كباقي أنواع السنة الأخرى. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه"، أي: أني أوتيت القرآن وأوتيت مثله -أي السنة- في وجوب اتباعها.
4-
تدوين السنة: لم تدون السنة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ الرسول الكريم كتابًا يكتبون ما يصدر عنه، كما فعل بالنسبة للقرآن الكريم، إذ اتخذ له كتابا يكتبون ما ينزل عليه من آيات القرآن. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتاباها، بل وقد نهى عن كتابتها في أول الأمر ثم أباح لمن يشاء أن يكتب منها ما يريد، ومن هؤلاء الذين كتبوا شيئًا من السنة النبوية
عبد الله بن عمرو بن العاص. فقد روى عنه الإمام أحمد في مسنده أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من إلا حق".
5-
وبالرغم من عدم تدوين السنة في عصر النبوة، فإنها كانت محفوظة في صدور الصحابة الكرام، كل واحد حفظ منها ما تيسر له، ومن فاته شيء منها علمه غيره، وقد بلغوا ما حفظوه إلى غيرهم وهكذا لم يفقد من السنة شيء.
6-
وظلت السنة غير مدونة في عصر الخلفاء الراشدين، يتناقلها المسلمون بالمشافهة والسماع، وقيل: إن الإمام عمر بن الخطاب هم بكتابتها ولكن لم يفعل.
7-
وفي زمن عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي المشهور، جرت محاولة لتدوين السنة. فقد كتب هذا الخليفة إلى قاضيه في المدينة المنورة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم:"أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء". إلا أن عمر بن عبد العزيز توفي قل أن ينفذ أمره.
8-
وفي عصر الدولة العباسية ابتدأ العلماء بتدوين السنة وقد جاء تدوينهم لها مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاويهم، وقد كتب على هذا النحو سفيان الثوري في الكوفة، والليث بن سعد في مصر، ومالك بن أنس في المدينة، ولم يصل إلينا مما كتبوه إلا القليل. ولعل أتم ما وصل إلينا من هذا النوع من التدوين موطأ الإمام مالك بن أنس، حيث نجد فيه السنة النبوية وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، بل ونجد فيه بعض أقوال فقهاء التابعين وبعض آرائه هو وترجيحاته.
9-
وفي نهاية القرن الثاني للهجرة اتجه العلماء في تدوين السنة إلى أفرادها بالذكر والتدوين وتمييزها عن غيرها. وقد سلك العلماء في هذا النهج طريقة المسانيد، أي: جمع الأحاديث التي رواها كل صحابي على حدة وإن اختلفت موضوعات مروياته.
10-
ثم ظهرت طريقة جديدة في تدوين السنة وهي تدوينها مرتبة على أبواب الفقه، وهذه الطريقة تسهل على الفقيه عمله؛ لأنها تضع بين يديه كل ما ورد في السنة عن الموضوع الذي يريد بحثه أو الاطلاع عليه. ومن هذه المدونات على هذه الطريقة، صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود وغيرها.
11-
علم الجرح والتعديل: وقد قام علماء الحديث بعمل مبرور إذ أنشئوا علم الجرح والتعديل أو علم الرجال، وهذا العلم مما انفرد به المسلمون ولا نظير له عند غيرهم والغرض منه الكشف عن أحوال رواة السنة وتمييز الصادق من الكاذب والضابط من الواهم والموثوق بروايته من المطعون فيها. وقد كان السبب في إنشاء هذا العلم الجليل أن أعداء الإسلام -وهم كثيرون- أرادوا الكيد للإسلام والنيل منه وتلويث معانيه عن طريق تلفيق الأحاديث وإسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذبًا، والتشكيك في رواة السنة لهدم السنة وصرف المسلمين عنها.
فأفزع هذا الصنيع الخبيث، علماء الحديث، فنهض جميع منهم للكشف عن رواة السنة وتمييز صحيحها من مكذوبها فأنشئوا هذا العلم -علم الجرح والتعديل- ويقوم هذا العلم على دراسة مستفيضة لأحوال الرواة والتحري عن ميولهم وصفاتهم وأخلاقهم ونشأتهم وعقائدهم، وقد بذل علماء هذا الفن جهدًا عظيمًا جدًّا وتحملوا في سبيل ذلك التعب والسفر الطويل والرحلات المتعددة للتحري والتنقيب عن أحوال الرواة ودراسة حياتهم والسؤال عنهم. وقد كان علماء الجرح والتعديل في دراستهم لأحوال الرواة في غاية التجرد عن الهوى والموضوعية في البحث ولم تؤثر فيهم روابط الصداقة أو القرابة أو الاشتراك بالموطن
والمذهب؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى وأغلى في نظرهم من كل اعتبار آخر، فكانا -لهذا كله- يفصحون أحوال رواة السنة النبوية فحصًا مجردًا موضوعيًّا لا تهمهم النتيجة التي يصلون إليها وإنما يهمهم شيء واحد هو الوصول إلى حقيقة وصفات من يدرسونه ومدى الوثوق بروايته، فكانوا في دراستهم هذه كالكيميائي في مصنعه وهو يفحص مادة من المواد ليعرف خصائصها ولا تهمه النتيجة التي يصل إليها ولا نوع الصفات التي ستظهر عليها المادة التي يفصحها. فإذا ما أنهى العالم دراسته حول رواة الحديث، أعطى لكل منهم رمزًا يشير إلى خلاصة ما توصل إليه فيقول، هذا ثقة، وهذا عدل، أو هذا لين الحديث، أو هذا لا بأس بحديثه، أو هذا كذاب، أو هذا سيئ الحفظ، أو هذا أصابه ضعف في ذاكرته بشيخوخته، وهذه الدراسة المضنية الخالصة المجردة من الهوى والمقرونة بتقوى الله والإخلاص له والحرص الشديد على تجريد السنة الصحيحة مما علق بها، استطاع علماء الجرح والتعديل -بعون الله- أن يميزوا صحيح السنة من مكذوبها، وأن يردوا كيد أعداء الإسلام الذين أرادوا هدمه بهدم السنة والتشكيك بها وصرف المسلمين عنها.
12-
إن هذا العلم -علم الجرح والتعديل- لا يزال علما نافعًا يحتاج إليه المسلمون في كل وقت، لا سيما في زماننا هذا، حيث اتجه المستشرقون ومن تأثر بهم إلى شن الغارة على السنة النبوية ورواتها وإثارة الشكوك حولهم وحولها بأسلوب ناعم مسموم خبيث يتظاهر أصحابه بالتجرد والبحث العلمي الموضوعي. ولهذا صار لزامًا على كل مسلم يقف على تشكيك هؤلاء المستشرقين وأتباعهم في السنة ورواتها، أن يرجع إلى مصنفات علماء الجرح والتعديل ليقف على حقيقة رواة السنة والموثوق به منهم والمطعون فيه، العدل والمجروح؛ لأن هذه الحقيقة، حقيقة رواة السنة، يستحيل أن نجدها عند المستشرقين المكذبين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما نجدها عند أتباعه وخدام سنته والمؤمنين به، عند علماء الحديث وعلى وجه التحديد عند علماء الجرح والتعديل.
13-
والسنة النبوية، بعد هذا، لا تزال بحاجة إلى المزيد من التبيين والإشاعة بين الناس والكتابة فيها، وكل جهد مبذول فيما يتعلق بها لهو جهد مشكور مرضي عند الله تعالى. وأحسب أن هذا الكتاب الذي أقدم له، نوع من هذا الجهد المشكور الذي نرجو لمؤلفه جميل المثوبة وجزيل الأجر من الله وأن ينفع الله تعالى به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
بغداد، في: جمادى الآخرة 1387هـ.
عبد الكريم زيدان
17 أيلول "سبتمبر" 1967م.