الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جهود العلماء في مقاومة الوضع:
تظافرت العوامل العديدة التي ذكرتها في إنماء كمية الأحاديث الموضوعة وهددت السنة بالتشويه والتحريف لولا الجهود الجبارة التي بذلها العلماء في تنقية السنة. وتمييز الصحيح من السقيم، فقاموا بمجهود رائع تمثل في التأكيد على الإسناد، والرحلة في طلب العلم، وتدوين الحديث، ووضع علوم الحديث المختلفة، وسيتناول هذا البحث ظهور الإسناد وأهميته وما يتصل بمعرفة رجال السند وهو أحد علوم الحديث المهمة، ويطلق عليه "علم الرجال". ثم يتناول رحلة العلماء في طلب العلم وجهودهم في تدوين الحديث.
الإسناد وظهور علم الرجال:
"معرفة الرجال نصف العلم":
علي بن المديني:
يراد بالإسناد الطريق الموصل إلى المتن، فالحديث إنما يروى عن طريق سلسلة من الرواة تبدأ بالراوي الذي يحدث بالحديث وتنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين الإسناد والسند عند الجمهور، وعند غيرهم أن الإسناد رفع الحديث إلى قائله وكأنه من أسند في الجبل إذا صعد فيه وعلا على سفحه، والسند للأخبار عن طريق المتن الذي من معانيه ما صلب من الأرض وارتفع منها1.
1 انظر لسان العرب مادة "سند". وابن ناصر الدين: تدريس الحديث/ 71.
والسخاوي: فتح المغيث 1/ 11.
وقد بدأ الاهتمام بالإسناد والسؤال عنه في فترة مبكرة، وذلك في أعقاب الفتن التي بدأت منذ خلافة عثمان رضي الله عنه وأدت إلى التمزق والانفلاق الضخم في كيان المجتمع الإسلامي وظهور الأهواء السياسية المتعارضة والآراء المتعصبة المتدافعة مما أدى إلى ظهور الكذب في الحديث وجعل العلماء يتثبتون في مصادر الرواية ويسألون عن الرجال الذين اشتركوا في نقلها قال محمد بن سيرين "ت110هـ""لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وبنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"1. وهكذا اعتبر ابن سيرين الفتنة زمن عثمان بداية السؤال عن الإسناد لظهور الوضع وبروز الانشقاقات عن الجماعة حيث عبر ابن سيرين عن المنشقين باسم "أهل البدع" وقد رأى شاخت أن المقصود ليس الفتنة زمن عثمان بل فتنة مقتل الوليد بن يزيد "ت126هـ" معتمدا على التوافق في استعمال كلمة "الفتنة" بين قول ابن سيرين ونص ورد في الطبري حيث قال في حوادث سنة 126هـ "اضطرب أمر بني مروان وهاجت الفتنة" وقد جر هذا الافتراض شاخت إلى اعتبار كلام ابن سيرين موضوعا عليه لأنه توفي سنة 110هـ أي قبل الفتنة2.
على أنه لا يمكن أن ننفي نسبة قول ابن سيرين إليه فقد أوردته المصادر المعتمدة، ولم يقل بوضعه أحد من النقاد بل قد روي عن ابن سيرين نفسه ما يؤكد ذلك حيث قال:"هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة"3، وهناك أدلة تؤيد أن السؤال عن الإسناد بدا في فترة مبكرة في أعقاب الفتنة الأولى التي بدأت زمن عثمان وقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى ابراهيم النخعي أنه قال: إنما سئل عن الإسناد أيام المختار وسبب
1 مسلم: الصحيح 1/ 15، وابن عدي: الكامل 1/ 39أ، وابن حبان: المجروحين من المحدثين 2/ 27ب-28ب والرامهرمزي: المحدث الفاصل 1/ 12، والخطيب الكفاية/ 122.
2 Chacht، The Origins of Muhammadan Jurisprudence، p. 36-37
3 الذهبي: المنتقى من منهاج الاعتدال 389.
هذا أنه كثر الكذب على علي في تلك الأيام1 ولكن هذا لا يعني أن سائر الأحاديث كانت تروى باسانيد تامة، فالصحابة لم يلتزموا ذكر إسناد الحديث عندما لا يكون الصحابي قد سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بل من صحابي آخر وقد صرح بذلك قول البراء "ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، منه ما سمعناه منه، ومنه ما حدثنا أصحابنا ونحن لا نكذب"2 فهم إذا لم يكونوا يميزون بين ما نقلوه عن النبي مباشرة وما نقلوه عنه بواسطة من سمعه منه من الصحابة لعدم إسنادهم للحديث وقد علل البراء ذلك بعدم وقوع الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه فكان الصحابي يستمع الحديث من صحابي آخر فكانه سمعه بأذنيه من النبي صلى الله عليه وسلم. ومع وثوق الناس بالصحابة فقد كانوا يسألونهم أحيانا عن إسناد أحاديثهم، ولكن السؤال عن الإسناد في البدء لم يكن مستساغا بل قد يكون مدعاة لغضب الصحابي "وكان أنس بن مالك إذا سئل عن حديث أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ويقول ما كان بعضنا يكذب على بعض"3، وقد ازداد السؤال عن الإسناد في جيل التابعين فسئل الحسن البصري "ت110هـ" عن إسناد مراسيله "قال رجل للحسن إنك تحدثنا فتقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كنت تسند إلى من حدثك؟ فقال له أنا والله ما كذبنا ولا كذبنا، ولقد غزوت غزوة إلى خراسان ومعنا ثلثمائة من أصحاب محمد"4، فالحسن البصري اعتذر عن عدم إسناده لحديثه بأنه تلقى ذلك عن الصحابة الكثيرين الذين لقيهم وهم أهل صدق وورع وما داموا جميعا لا يكذبون فإن عدم ذكرهم لا يقلل من أهمية الرواية.
1 شرح علل الترمذي 82-83 ط. د. عتر.
2 ابن عدي: الكامل 1/ 50 ب. وقول البراء هذا من طريق الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء، والسبيعي مدلس من الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين عند الحافظ ابن حجر وقد عنعن، وكذلك الأعمش فإنه مدلس. وله شاهد من حديث أنس رواه ابن عدي في الكامل 1/ 248 "ط. صبحي البدري" وفي إسناده أحمد بن الحارث بن مسكين أنكر عليه الطحاوي روايته عن أبيه، وهذه الرواية مما رواه عن أبيه.
3 ابن الصلاح: مقدمة/ 38 والعراقي: فتح المغيث 1/ 125.
4 ابن عدي. الكامل 1/ 51 ب.
ويرى يحيى بن سعيد القطان أن أول من فتش عن الإسناد هو عامر الشعبي (17-103هـ) سيد التابعين فقد "قرأ الربيع بن خيثم عليه حديثا قال الشعبي فقلت من حدثك؟ قال عمرو بن ميمون وقلت له من حدثك؟ فقال أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحيى بن سعيد: وهذا أول ما فتش عن الإسناد"1.
وهكذا كان التفتيش عن الإسناد في زمن كبار التابعين، ونلمح استجابة أكثر في ذكر الإسناد عندما يسأل المحدث عنه، ولكن التأكد على الإسناد والإلحاح في طلبه ازداد بعد جيل الصحابة وكبار التابعين بسبب شيوع الوضع واتساع نطاقه على مر الزمن فأصبح الإسناد ضرورة لا مناص للمحدث من ذكره إذا أراد لرواياته القبول حتى أن الزهري أحد صغار التابعين (ت124هـ) اعتبر إغفال الإسناد جرأة على الله تعالى "حدث عتبة بن أبي حكيم أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري. قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الزهري، قاتلك الله يا ابن أبي فروة ما جرأك على الله لا تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة"2.
وبسبب تأكيد الزهري على الإسناد والتزامه به قال مالك "أن أول من أسند الحديث الزهري"3 ولعله قصد بذلك في بلاد الشام فقد "ذكر الوليد بن مسلم أن الزهري قال: يا أهل الشام ما لي أرى أحاديثكم ليس لها أزمة ولا خطم؟ وتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ"4.
1 الرامهرمزي: المحدث الفاصل 1/ 12. وقد توفي الربيع بن خثيم في ولاية عبيد الله ن زياد على الكوفة (ابن سعد ج6 ص193) .
2 الحاكم: معرفة علوم الحديث/ 6.
3 ابن أبي حاتم: تقدمة المعرفة/ 20.
4 السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي/ 393 ينقل ذلك عن ابن عساكر دون الإشارة إلى موضع وردود النص.
وتوجيه الكلام إلى أهل الشام يوحي بأن التزام الإسناد في مراكز العلم الأخرى كان أكثر بحيث بدا أهل الشام متساهلين في ذلك فنبههم الزهري إلى تقصيرهم فأصبحوا يسندون أحاديثهم، ولا يعني هذا أن الإسناد لم يكن موجودا قبل الزهري، فقد كان بدء السؤال عن الإسناد في عهد الصحابة ثم عند كبار التابعين. لكنه في جيل الزهري أصبح الالتزام بالإسناد قويا، لذلك فإن تفسير شاخت للفتنة التي وردت في قول ان سيرين بأنها الفتنة في زمن الوليد بن يزيد سنة 126هـ تخمين ترفضه الأدلة. وقد رفض روبسون هذا التفسير للفتنة وذهب إلى أن المقصود فتنة ابن الزبير (في حدود سنة 72هـ) عندما أعلن نفسه خليفة، ويستند روبسون على إطلاق مالك كلمة "الفتنة" على حركة ابن الزبير (الموطأ: كتاب الحج 99". وهذا التفسير -في رأيه- يتفق مع عمر بن سيرين الذي كانت ولادته سنة 33هـ مما يجعله -عند حدوث فتنة ابن الزبير- بعمر يمكنه من الكلام بإدراك وإطلاع عما حدث في هذه الفترة، ويرى روبسون أن ما توصل إليه في تفسير الفتنة يؤيد نظرية هوروفتس التي تقول بأن الإسناد أدخل في أدب الحديث في الثلث الأخير من القرن الأول1.
ورغم أن ما ذهب إليه روبسون في تفسير الفتنة معقول أكثر من رأي شاخت فقد قدم روبسون ظهور الإسناد نصف قرن عما حدده شاخت إلا أن ما استند إليه روبسون من أدلة لا يمكن أن يعتبر قاطعا، فالتوافق في استعمال الفتنة في كلام ابن سيرين ومالك لا يمكن أن يتخذ دليلا؛ لأن كلمة الفتنة أطلقت على كثير من الانشقاقات والحروب الداخلية بين المسلمين، كذلك فإن تقدير عمر بن سيرين للإفادة منه في تفسير كلامه لا يمكن الاعتماد عليه فابن سيرين قد يتكلم عن أحداث بعيدة عن عصره معتمدا على دراسته لتأريخ الذي عني به كثيرا.
1 Robson، The Isnad in muslim Tradition، p. 21-22.
وهو مقال نشرته له مجلة:
Glasgow univ. Or. Soc. Trans. 15 (1953-54) . PP. 15-26.
وأما رأي هوروفتس الذي لخصه روبسون فهو يتفق مع رأي كايتاني الذي يعتقد أن الإسناد لم يكن موجودا قبل سنة 75هـ1 وقد تابعهما في ذلك سزكين عندما قرر أن الإسناد بدأ بالزهري2، إلا أن روبسون يعود فينقل في موضع آخر رأي هوروفتس أيضا في أن الإسناد بدأ قبل الزهري، وأنه لا يوافق كايتاني وشبرنجر في القول بأن أسانيد عروة بن الزبير (ت93هـ) مختلفة ألصقها به المصنفون المتأخرون ويبدو هوروفتس متحفظا فيقول بأن معرفة عروة للإسناد لا تزال موضع نزاع وجدل3.
على أن هوروفتس يقرر في موضع آخر بأن الإسناد في الفترة التي سبقت الزهري كان عادة لكنه لم يكن ضربة لازب4.
إن التزام الزهري بالإسناد وإشتهاره بذلك هو الذي أدى إلى توهم أن الإسناد وجد لأول وهلة عند الزهري أو في جيله. وعلى أية حال فإن الالتزام بالإسناد أصبح الطابع العام الذي سلكه المحدثون في جيل الزهري حتى أن بعض من كان يحدث دون إسناد أصبح يلتزم بذكره، فهذا قتادة (ت118هـ) كان يحدث بالبصرة دون إسناد اختصارا للوقت وتسهيلا على الطالب، وكان يلقى أسئلة من تلاميذه عن إسناد اختصارا للوقت وتسهيلا على الطالب، وكان يلقى أسئلة من تلاميذه عن إسناد أحاديثه وكأنها اعتراض على طريقه، فكان شعبة بن الحجاج يوقفه ليسأله عن الإسناد وكذلك كان يفعل معمر بن راشد وآخرون من الأحداث ممن كانوا يحضرون مجلسه وكان الشيوخ يعترضون عليهم وينهونهم عن سؤاله عن الإسناد، ولعل ذلك بسبب طول استماع الشيوخ إليه وقدم عهدهم به فعرفوا أسانيد حديثه فإذا أعاد الأحاديث لم يسندها فيطالبه
1 عن: Schacht، The Origins of Muhammadan Jurisprudence، p. 37.
وأنظر:
Robson The Isnad in Muslim Tradition، p. 18.
2 Fuad Sezgin، Buharinin Kaymaklari. p. 20
3 Robson. The Isnad in Muslim Tradition. p. 19
4 هوروفتس: المغازي الأولى ومؤلفوها/ 23.
الأحداث بها وينكر الشيوخ عليهم إضاعة الوقت. ولم يكن قتادة يجهل الأسانيد فقد فاز شعبة منه بذكرها إذ تبين لقتادة أنه جدير بذلك فأخذ يسند له، ولكن قتادة لم يعدل عن طريقته في التحديث دون إسناد حتى قدم إلى البصرة حماد بن أبي سليمان وهو كوفي كان يلتزم ذكر الإسناد، فحدث بالإسناد فعندئذ أخذ قتادة بذكر أسانيد حديثه1، وذلك دليل أيضا على معرفة قتادة بالأسانيد عندما كان لا يذكرها وأن عدم ذكره لها كان اختصارا للوقت.
وهكذا طغى الإسناد في أوائل القرن الثاني الهجري والتزم به المحدثون، ويعكس لنا أهمية الإسناد في هذه الفترة ما قاله نقاد الحديث وأئمته مثل محمد بن سيرين (ت110هـ) الذي رأى أن "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"2، واعتباره الإسناد من الدين لأن الإسناد وسيلة لتمييز الأحاديث ومعرفة الصحيح من الموضوع مما يترتب عليه أحكام وتعاليم الدين وهو ما عناه ابن سيرين بقوله الآخر "أن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"3 وقوله أيضا "بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد"4. ويتردد هذا المعنى بوضوح أيضا عند المعاصرين لابن سيرين، فقد أكدوا بأقوالهم على أهمية الإسناد كما التزموا به في منهجهم في التحديث، فكان الأعمش ربما حدث بالحديث ثم يقول "بقي رأس المال حدثني فلان قال ثنا فلان عن فلان"5.
لقد اعتبر الأعمش الإسناد جزءا مهما من الحديث إذ لا يمكن قبول المتن دون إسناد ومن ثم فقد عقب على المتن بذكر إسناده. وقد أصبح قبول الحديث
1 ابن سعد: الطبقات 7/ 230-231. وابن أبي حاتم: تقدمة المعرفة/ 166.
2 مسلم: الصحيح 1/ 15 وابن حبان: المجروحين من المحدثين 1/ 9أوالرامهرمزي: المحدث الفاصل 1/ 12 وفي تاريخ بغداد للخطيب 6/ 166 نسب هذا القول لعبد الله بن المبارك، وأوضح عبدان -رواية عنه- أنه قاله عند ذكر الزنادقة وما يضعون من الأحاديث.
3 مسلم: الصحيح 1/ 14 (المقدمة) .
4 المصدر السابق 1/ 15 (المقدمة) .
5 ابن حبان: المجروحين من المحدثين 1/ 9ب.
منوطا بذكر الإسناد قال شعبة (ت160هـ) : "كل حديث ليس فيه أنا وثنا فهو خل وبقل"1. أي أنه كالطعام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وفي هذا المعنى قال شعبة أيضا: "كل حديث ليس فيه حدثنا وحدثنا فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام"2.
فكما أن ذلك الرجل لا يستطيع توجيه بعيره فكذلك لا يستطيع المحدث ضبط الحديث وتمييزه ومعرفته دون إسناد، فالإسناد هو الوسيلة إلى نقد الحديث ومعرفته ولذلك قال سفيان الثوري "الإسناد سلاح المؤمن إذا لم ين معه سلاح فبأي شيء يقاتل"3.
ولذلك فإن الحديث الذي لا إسناد له يعتبر مرفوضا قال بهز بن أسد: "لا تأخذوا الحديث عمن لا يقول ثنا"4.
فلا غرابة إذا ما أصبح السؤال عن الإسناد أمرا شائعا لا يقتصر على أرباب العلم بل يهتم به غيرهم أيضا، فهذا أعرابي قدم على سفيان بن عيينة يسأله ما تقول في امرأة من الحاج حاضت قبل أن تطوف بالبيت؟ فأجابه سفيان: تفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت. فقال الأعرابي: هل من قدوة؟ قال: نعم عائشة حاضت قبل أن تطوف بالبيت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفعل ما يفعل الحاج غير الطواف. قال الأعرابي: هل من بلاغ عنها؟ قال: نعم حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة بذلك. قال الأعرابي: ولقد استسمنت القدوة وأحسنت البلاغ والله لك بالرشاد"5. وهكذا لم يكتف الأعرابي حتى سأل عن سند الرواية كاملا، ولم يجد ابن عيينة في سؤاله بأسا، بل أجابه عما سأله عنه. ومن طريف ما يذكر مما له دلالة على أهمية الإسناد أن المأمون وجه إلى محمد بن عبد الله الأنصاري خمسين ألف درهم وأمره أن يقسمها بين الفقهاء بالبصرة فكان هلال بن مسلم يتكلم عن أصحابه
1 الخطيب: الكفاية/ 283.
2، 3، 4 ابن حبان: المجروحين من المحدثين 1/ 9ب.
5 الخطيب: الكفاية 403-404.
والأنصاري عن أصحابه فاختلفا بينهما فيمن يستحق المال فسأل الأنصاري هلالا كيف يتشهد؟ فتشهد هلال على حديث ابن مسعود. فقال له الأنصاري: من حدثك به؟ ومن أين ثبت عندك؟ فسكت هلال ولم يجبه. فقال الأنصاري: تصلي في كل يوم وليلة خمس صلوات، وتردد فيها هذا الكلام وأنت لا تدري من رواه عن نبيك صلى الله عليه وسلم قد باعد الله بينك وبين الفقه، فقسمها الأنصاري في أصحابه1.
لقد كان ذكر الإسناد مبعثا للطمأنينة والارتياح، وعبارة بهز بن أسد التالية تنطق بذلك فقد كان يقول إذا ذكر له الإسناد الصحيح "هذه شهادات الرجال العدول المرضيين بعضهم على بعض"2.
أن الراوي يجد في ذكر الإسناد مشاركة في تحمل مسؤولية نقل الحديث إذ لا يستقل وحده بحمل تبعته بل يشاركه شيوخه وشيوخ شيوخه ثم التابعون والصحابة، ولا تعدو تبعته النقل الأمين لما سمعه عن شيخ ثقة ثبت، وكذلك يطمئن السامعون إلى قبول الحديث والعمل به وهم يجدون أمامهم سلسلة من الرواة المرضيين كلهم يشهد أنه سمعه عمن قبله حتى يصل الإسناد إلى الصحابي فالرسول صلى الله عليه وسلم3.
وقد عبر بعض الشعراء من أهل الحديث أو محييهم عن ارتياحهم ونشوتهم بذكر الإسناد فقال أحدهم:
يا لذة العيش لما قلت حدثنا
…
عوف وبشر عن الشعبي والحسن4
وقال الحطيم يمتدح سفيان بن عيينة:
يضم عمرا إلى الزهري يسنده
…
وبعد عمرو إلى الزهري صفوانا
1 الرامهرمزي: المحدث الفاصل 1/ 12-13 والخطيب: تاريخ بغداد 5/ 409.
والذهبي: سير أعلام النبلاء 9/ 536، وقد بين الذهبي أن راويها المنقري: واه.
2 ابن عدي: الكامل 1/ 47ب.
3 ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي 258-259.
4 الرامهرمزي: المدث الفاصل 2/ 18ب.
وعبدة وعبيد الله ضمهما
…
وابن السبيعي أيضا وابن جدعانا
فعنهم عن رسول الله يوسعنا
…
علما وحكما وتأويلا وتبيانا1
وقال الأصمعي يرثي سفيان بن عيينة أيضا:
من للحديث عن الزهري يسنده
…
وللأحاديث عن عمرو بن دينار
ما قام من بعده من قال حدثنا
…
الزهري في أهل بدو أو بأحضار2
ونتيجة التأكيد على الإسناد وما حظي به من اهتمام كبير فقد التزمت به كتب الحديث التي دونت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري والتي أطلق عليها إسم "المسانيد" وهو إسم واضح العلاقة بفكرة الإسناد، وقد وصل إلينا بعض هذه المسانيد مثل مسند معمر بن راشد "ت152هـ" ومسند الطيالسي "ت204هـ"، وقد كونت هذه المسانيد مادة أساسية اعتمدتها الكتب الستة التي ظهرت خلال القرن الثالث الهجري3 والتي نجد فيها التزاما دقيقا بذكر الأسانيد التامة مما يلقي ضوءا على الموارد التي استقت منها والتي ظهرت كما أسلفت خلال القرن الثاني الهجري.
إن الاختلاف في التحديد الزمني لبدء استعمال الأسانيد يبدو أقل أهمية حين يتقرر أن الأسانيد التي يرى البعض ظهورها في التحديدات الزمنية المتفاوتة كانت معروفة عند حفاظ الحديث من الصحابة والتابعين لكن الالتزام بذكرها قبل كل حديث لم يحدث إلا عقب ظهور الوضع في الحديث والحاجة إلى التحقق من صحة الأحاديث، وهذا يعني خطأ ما ذهب إليه كايتاني وشاخت من أن القسم الأعظم من الأسانيد اختلقه المحدثون في فترة متأخرة يحددها كايتاني بنهاية القرن الثاني ويحتمل أن تكون -في رأيه- في القرن الثالث4. ويرى
1 المصدر السابق 2/ 18أ.
2 المصدر السابق أيضا 2/ 18ب.
3 أنظر: Sezgiu، Buharinin Kayniklari. p. 48
4 عن Robson، The Isnad In Muslim Tradition p.18.
شاخت أيضا أن الأسانيد المتصلة متأخرة1 وضعها اصحا المذاهب الفقهية رغبة في إرجاع آرائهم إلى الصحابة، ومن ثم فإن تحسن الأسانيد استمر حتى عصر الكتابة حيث ظهرت الأسانيد بصورتها الكاملة، وقد استشهد شاخت بأسانيد وردت مرسلة أو منقطعة في موطأ مالك أو في كتاب الرسالة للشافعي ثم وردت في الكتب الستة المتأخرة عن مالك متصلة مسندة مما يدل -في رأي شاخت- على أن الأقسام العليا من الأسانيد (أسماء التابعين فالصحابة) مختلفة وضعت فيما بعد من قبل أصحاب المذاهب2.
لقد أغفل شاخت أن احتجاج مالك بالمرسل هو سبب عدم عنايته بوصل أحاديث الموطأ3، ولذلك فإن طريقته في استعمال الإسناد لبست طابعا عاما لعصره إذ وردت الأسانيد المتصلة في كتب المسانيد المصنفة في القرن الثاني الهجري وبعضها صنف قبل الموطأ مثل مسند معمر بن راشد.
إن ورود الأحاديث مرة مرسلة وأخرى متصلة لا يقطع بوضعها أو بإكمال أسانيدها في فترة متأخرة فقد يروي العالم الحديث الواحد مرة بإسناد متصل وأخرى بإرسال أو انقطاع للاختصار أو بسب النسيان، على أن هذا لا يعني عدم وقوع الخطأ في الأسانيد بزيادة رجل فيها أو تبديل إسم بآخر بل ووضع أسانيد كاملة لأحاديث موضوعة مما بينته كتب مصطلح الحديث4، ولكن إطلاق القول باختلاق الأسانيد المتصلة مجازفة كبيرة لا تقل عما في إتهام المذاهب
1 يذهب روبسون إلى أن إعطاء سند متصل لم يصبح تقليدا ملزما إلا في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري انظر:
The Encyclopedia of Islam vol III، P 23. 1965.
2 Schacht، The Origins Of Muhhamadan Jurisprudence، P. 163، 165، 166k 167
3 انظر عن احتجاج مالك بالمرسل ابن كثير: الباعث الحثيث، ص48.
4 الخطيب: الكفاية 409، وابن كثير: الباعث الحثيث 176، وابن حبان: المجروحين من المحدثين2/ 25ب.
الفقهية بوضع هذه الأسانيد المتصلة من مجازفة، فقد اعتمد الشافعي على مراسيل سعيد بن المسيب واعتمد أبو حنيفة على مراسيل شيوخه ولم يقوما بوصل هذه المراسيل ولا فكر أتباعهما بوصلها فبقيت في كتبهم على حالها من الإرسال1.
إن اختلاق الأسانيد قام به الوضاعون الذين دفعتهم أغراض عديدة إلى الوضع، سبق تفصيلها، ولا يمكن إتهام أصحاب المذاهب بذلك، وهم الأمناء على الشريعة، والحافظون للأحاديث من أن يدخلها الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرفنا صحيح الحديث من ضعيفه ولا صدقه من كذبه ولا تعديل الرواة أو جرحهم إلا من طريق هؤلاء الأعلام فكيف يسوغ لدى الباحث المنصف والمؤرخ الناقد أن يتهم هؤلاء الأئمة الأخيار.
وقد ذهب فؤاد سزكين إلى القول بأن الإسناد بدأ يفقد مكانته منذ أن ألف البخاري صحيحه فأكثر فيه التعاليق والفقرات اللغوية والتاريخية دون إسناد2، ولكن هذه التعليقات التي أوردها البخاري دون إسناد ليست من "الجامع المسند الصحيح المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" وهو العنوان الذي ربما اختاره البخاري لكتابه ليكون أول تنبيه على عدم اعتبار التعليقات منه حتى لو صحت أسانيدها من طرق أخرى غير طريق البخاري.
إن الأحاديث المسندة الموصولة التي أوردها البخاري هي التي تكون "الجامع المسند الصحيح" الذي يتمثل فيه منهج البخاري وتنطبق عليه شروطه المعرفة، وفيها تظهر الأسانيد بأكمل صورها وأعلى طرقها وأدقها، فلا يصح القول بأن الإسناد "بدأ من البخاري يفقد مكانته" خاصة وأن من صنف في الحديث بعد البخاري -وخاصة بقية أصحاب الكتب الستة- اهتموا بالإسناد المتصل أيضا.
1 يقول روبسون أن بعض المستشرقين فطنوا إلى أن ما يروى عن كبار الصحابة من الحديث أقل بكثير مما يروي عن صغارهم وقد رأى أن ذلك يحمل على الاعتقاد بصحة ما نقله المحدثون أكثر مما نتصور -أي مما يتصوره المستشرقون- إذ لو اختلق المحدثون الأسانيد لكان بإمكانهم جعلها تعود إلى كبار الصحابة.
عن Robson، The Island in Muslim Tradition، p. 26
2 سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 249.
لقد أثر منهج المحدثين في التزام الإسناد في نطاق الحديث على المؤرخين وأهل الأدب حيث أصبحت الأسانيد تتقدم الروايات التأريخية والأدبية، وهكذا امتد استعمال الأسانيد إلى كتب السيرة الأولى كسيرة ابن إسحاق ومغازي الواقدي والطبقات الكبرى لابن سعد وكتب التأريخ مثل تأريخ خليفة بن خياط وتأريخ الأمم والملوك للطبري وكتب الأدب ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ولكن استعمال الأسانيد في كتب التأريخ والأدب لم يكن بالدقة التي استعمل بها في كتب الحديث لما للحديث من أهمية خاصة حيث تترتب عليه الأحكام الشرعية ذات المساس الكبير بمصالح الناس مما يجعل التدقيق فيها أمرا ضروريا. إذ دراسة علوم الحديث تؤكد أن الإسناد هو المحور الذي تدور حوله كثير من قواعد نقد الحديث، حيث انصب النقد والملاحظات على الرجال الذين رووا الحديث وتناقلوه خلفا عن سلف1. ومن هنا اهتم العلماء بالتعريف بهؤلاء الرجال فشخصوهم بضبط أسمائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم لآبائهم وأمهاتهم، وذكر بعض شيوخهم وطلابهم وتسجيل رحلاتهم في البلدان ولقائهم مع علمائها، وبيان أحوالهم وأخلاقهم مما له أهمية في توثيقهم وتضعيفهم، وبإطلاق حكم صريح عليهم وذلك باستعمال عبارات الجرح والتعديل، وذكر نماذج من مروياتهم مما يدل على مكانتهم في العلم وطبقتهم بين العلماء، وضبط سني وفياتهم
…
وقد تجمعت هذه الملاحظات المنوعة في علم خاص بالرجال فألفت فيه كتب تفنن المصنفون في تنويعها وترتيبها. وسيعرض الفصل التالي لدراسة هذه المصنفات وبيان قيمة ما تحتويه من معلومات وفائدة ما فيها من تنظيم.
1 وهذا لا يعني إغفالهم نقد المتن حيث وضعوا القواعد لذلك أيضا (أنظر السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص205) .