الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
التنظيم على المدن:
إن أقدم ما وصل إلينا من كتب الرجال التي اتبعت التنظيم على المدن كتاب "الطبقات" لخليفة بن خياط وكتاب "الطبقات الكبرى" لمحمد بن سعد ثم كتاب "الطبقات" لمسلم بن الحجاج "261هـ" ثم كتاب "التاريخ الكبير" لابن أبي خيثمة "279هـ" ثم كتاب "مشاهير علماء الأمصار" لابن حبان البستي "ت354هـ" وقد مثل هؤلاء المؤلفون شمول النظرة واتساع الأفق فكانت رقعة العالم الإسلامي بحدوده المترامية ميدانا فسيحا لدراساتهم، على أن نصيب المدن في كتبهم كان يتوقف على مكانتها العلمية ومدى نشاط الرواية فيها، فكلما كان عدد علمائها كثيرا وكانت الرواية فيها نشيطة كلما خصص لا المصنفون نصيبا أوفر في كتبهم، لذلك كان حظ المدينة المنورة وافرا في هذه المصنفات جميعا. فقد خصص لها خليفة بن خياط أكثر من ثلث كتابه وكان حظها في طبقات ابن سعد وافرا أيضا. فمن مجموع الستة مجلدات التي تناولت تراجم رجال الحديث نجد ثلاثة أجزاء تخصص للصحابة والصحابيات من أهل المدينة1، ومجلدا رابعا أشرك فيه مع المدينة بقية مدن الحجاز الأخرى إلا أن للمدينة فيه حصة أكبر2. وللمدينة نصيب كبير أيضا في تاريخ ابن أبي خيثمة وفي كتاب مشاهير علماء الأمصار لابن حبان، واتفاق المصنفين على إعطاء المدينة هذه الأهمية الكبيرة له أهمية في الدلالة على كثرة العلماء ونشاط الرواية فيها وتفوقها على مراكز لعلم الأخرى في العالم الإسلامي خلال القرنين الأولين للهجرة على الأقل، ولا عجب في ذلك لأن المدينة دار السنة فيها تجمع الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الهجرة حيث تلقوا الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا مصادر العلم لمن جاء بعدهم من حملة العلم ورواة الآثار. ومن المدينة انتشر العلم إلى بقية المدن والأمصار بخروج عدد كبير من الصحابة منها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث استقروا في البلاد المفتوحة ونشروا العلم والرواية فيها.
1 المجلد الثالث والرابع والثامن من الطبقات الكبرى لابن سعد "طبعة بيروت".
2 المجلد الخامس "طبعة بيروت".
إن المكانة العلمية والأدبية التي تمتعت بها المدينة تجعل من الصعوبة بمكان أن تتقدمها أية بلدة أخرى حتى أن ابن الجوزي "القرن السادس الهجري" أراد أن يتخذ بغداد نقطة البداية في ترتيب كتابه "صفة الصفوة" لأنها أولى من غيرها إلا أنه "لما لم يمكن تقديمها على المدينة ومكة لشرفهما"1 فإنه بدأ بالمدينة ثم ذكر مكة قبل بغداد.
أما بقية مدن الحجاز فقد كان دورها في الرواية ضئيلا إذا قيست بالمدينة، وتبرز بينها مكة بسبب مركزها الديني واجتماع العلماء فيها في مواسم الحج حيث يعقدون بعض الحلقات العلمية خلال هذا الموسم كما برز بعض الموالي من أهلها في العلم والرواية. إن نشاط الرواية يظهر بصورة قوية تكاد تضاهي المدينة في العراق وعلى وجه التحديد في الكوفة والبصرة فقد استقر فيهما عدد كبير من الصحابة فيهم من اشتهر بقراءة القرآن مثل أبي موسى الأشعري وفيهم من عرف بالفقه مثل عبد الله بن مسعود الذي أسس مدرسة في الكوفة برز من بين تلاميذها عدد من جهابذة العلم، وكان للدور السياسي الذي لعبته الكوفة في القرن الأول الهجري خاصة أثر كبير في تنشيط الرواية فيها فالنزاع السياسي بين دمشق والكوفة جعل الحاجة إلى الرواية قوية لدعم وجهات نظر المتنازعين في عصر كان أهله يهتمون كثيرا بموافقة أعمالهم للشرع الذي كان يعني آنذاك نصوص القرآن والحديث.
أما دور البصرة في الرواية فهو يلي دور الكوفة فقد نزلها صحابة لا يقل عددهم عمن نزلوا الكوفة، ولكن عدد من اشتهر بالرواية من التابعين من أهل البصرة أقل من عددهم في الكوفة. فقد ذكر ابن سعد ما ينيف على الخمسمائة تابعي ممن عرفوا بالرواية من أهل الكوفة ولم يزد عدد التابعين الذين عرفوا بالرواية من أهل البصرة على المائتين إلا قليلا، ولعل في ذلك ما يلقي ضوءا على درجة شيوع العلم وكثرة العلماء في المدينتين.
1 ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 7-8.
وتأتي بقية مدن العراق بعد الكوفة والبصرة في النشاط العلمي خلال الفترة التي شملتها دراسة كل من خليفة بن خياط ومحمد بن سعد، ويلاحظ تأخر بناء مدينتي واسط وبغداد فلم ينزل فيها صحابي ولا تابعي بل نزح إليهما أتبع التابعين من الكوفة والبصرة1، فكان إزدهار العلم ببغداد متأخرا عن دراسة خليفة وابن سعد لذلك لم تحظ بنصيب وافر في كتابيهما وقد أصبحت بغداد فيما بعد مدينة العلم وموسم العلماء حتى ذكرها ابن حبان في جملة المدن التي نزلها الصحابة تعصبا لها بعد أن ذكر أنها محدثة لم ينزلها أحد من الصحابة2. ولم تكن أهمية المشرق الإسلامي قد برزت في الرواية خلال القرنين الأولين للهجرة لذلك لم ينل عناية كبيرة عند خليفة بن خياط ولا عند محمد بن سعد وقد ازدهرت الرواية فيه خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين ومن ثم فقد اعتبرهما ابن حبان من الأقاليم "المشهورة في الإسلام المعروفة بعلماء الأيام"3. كذلك كان دور غرب العالم الإسلامي ثانويا في الرواية خلال القرنين الأولين إلا الشام فقد نزلها عدد كبير من الصحابة وتليها من حيث نشاط الرواية مصر أما الجزيرة والعواصم والثغور.. أما أيلة وأفريقية الأندلس فلم تبرز في هذه الفترة المبكرة فكان حظها في كتابي خليفة وابن سعد قليلا أيضا. ويبدو من ملاحظة تسلسل المدن عند خليفة بن خياط ومحمد بن سعد أن كليهما راعى في تقديم البلدة على غيرها كثرة العلماء ونشاط الرواية فيها وهذا يظهر في إتفاهما على تقديم المدينة فالكوفة فالبصرة على بقية المدن الإسلامية كذلك فعل ابن حبان بعد ما ينيف على القرن من ظهور كتابي خليفة وابن سعد.
كذلك نجد أن خليفة يذكر الصحابة من أهل المدينة ثم ينتقل مباشرة إلى الكلام عن الكوفة قبل أن يتم طبقات اهل المدينة، ولا يعود إلى ذكر التابعين.
1 ابن حبان البستي: مشاهير علماء الأمصار، 176.
2 المصدر السابق، 194.
3 المصدر السابق، 1-2.
ومن بعدهم من أهل المدينة إلا بعد أن ينهي كلامه عن أهل الكوفة بكافة طبقاتهم ثم ينتقل إلى البصرة فيذكر طبقاتهم كافة وبعد أن ينتهي منهم يعود إلى المدينة فيذكر بقية طبقاتها، ولعله أراد أن يتم المادة المتعلقة بالصحابة فلاحقهم إلى الأمصار التي استقروا فيها بأعداد كثيفة.
وثمة ظاهرة أخرى تبرز عند خليفة هي أنه لم يراع العامل الجغرافي كثيرا في تسلسل المدن التي ذكرها فهو يقفز من مكان إلى آخر فقد انتقل كما ذكرت من الحجازإلى العراق ثم عاد إلى الحجاز وكذلك لم يتناول واسط وبغداد بعد الكوفة والبصرة بل ذكرهما في آخر كتابه ولعله اعتبر في ذلك المكانة العلمية حيث أن واسط وبغداد تأخرت عمارتهما وبالتالي تأخر ازدهار الرواية فيهما عن المدن الأخرى. إن مراعاة العامل الجغرافي تفي تسلسل المدن يظهر عند محمد بن سعد فعندما ذكر المدينة لم ينتقل من الحجاز إلا بعد أن ذكر مراكز العلم الأخرى فيه وهي الطائف واليمن واليمامة والبحرين على التوالي، وعندما ذكر الكوفة والبصرة لم يغادر العراق إلا بعد ذكر واسط والمدائين وبغداد، ثم ذكر المشرق بكافة مراكزه وهي خراسان والري وهمذان وقم على التوالي، ثم ذكر الأنبار، ثم انتقل إلى المغرب فذكر الشام ثم الجزيرة فالعواصم والثغور فمصر فأيلة فأفريقية فالأندلس وهكذا راعى ابن سعد العامل المكاني تسلسل المدن إلى جانب مراعاته المكانة العلمية، ويظهر اعتبار العامل الجغرافي في تسلسل المدن عند مصنف آخر هو مسلم بن الحجاج حيث أن تسلسل ذكر المدن عنده مطابق لما هو عند ابن سعد1 وكذلك يظهر اعتبار العامل الجغرافي عند ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبيرفقد ذكر مكة فالطائف فاليمن فاليمامة فالمدينة فالكوفة.
وقد أهمل خليفة أماكن ذكرها ابن سعد وهي همذان وقم والأنبار والبحرين والثغور وأيلة والأندلس ولكنه أضاف مراكز جديدة أهملها ابن سعد وهي الموصل والمغرب وقد تناول المغرب بشيء من التفصيل.
1 عن تسلسل المدن في طبقات مسلم، أنظر السخاوي: الاعلان، 684.
وبعد مضي حوالي القرن من تأليف الكتب السالفة الذكر ألف محمد بن حبان البستي "ت354هـ" كتابه "مشاهير علماء الأمصار" ورتبه على المدن أيضا ولكنه لم يتقيد بتسلسل المدن الذي وجدناه عند خليفة وابن سعد إلا من حيث تقديم المدينة على بقية المدن، وابن حبان صريح في بيان اقتصاره على الأماكن التي شملها بحثه فهي "ستة أصقاع تشملها عمارة الإسلام وما وراءها من المدن يسكنها غير أولي الأحلام أولها الحجاز بحواليها، والثاني العراق بنواحيها، والثالث الشام بأطرافها والرابع مصر بجوانبها، والخامس اليمن بما والاها، والسادس خراسان بما دار عليها، هذه المدن المشهورة في الإسلام المعروفة بعلماء الأيام"1.
وقد ذكر سبب تقديمه المدينة على غيرها من المدن "لأنها مهبط الوحي ومعدن الرسالة وبها نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرا، ومنها انتشر الإسلام وظهر أعلام الدين وبها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإياها قطن جلة الصحابة"2. ويشترط ابن حبان استيطان الرجل في المدينة كي يعده من أهلها ولا يهمه بعد ذلك أن تكون وفاته في غيرها3، ومن هذا العرض نتبين أن العوامل التي أثرت في ترتيب المدن وتقديم بعضها على الآخر هي أولا المكانة العلمية للمدينة، وثانيا الأهمية الدينية وثالثا العامل الجغرافي.
وكان كل من خليفة بن خياط ومحمد بن سعد وابن أبي خيثمة واسع الأفق شامل النظرة حين جعل رقعة العالم الإسلامي ميدانا لدراساته ولا شك أن للرحلة في طلب العلم أثرا كبيرا في امتزاج علم الأمصار المختلفة، فقد بدات الرحلة في طلب العلم في جيل الصحابة، فكان الصحابي يرحل في طلب حديث واحد لم يسمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو للتثبت من حديث يشك في دقة حفظه
1 ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار، 1-2.
2 المصدر السابق، 3.
3 ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار، 37، 42.
له، وممن عرف بالرحلة من الصحابة جابر بن عبد الله1 وأبو أيوب الأنصاري2، واستمرت الرحلة في جيل التابعين لتلقي العلم عن الصحابة الذين تفرقوا في الأمصار عقب الفتوحات، وأصبح طلب الإسناد العالي هدفا للمحدثين فبدل أن يأخذ عن تابعي من طبقته فإنه يرحل إلى الصحابي الذي أخذ عنه التابعي فياخذ عنه مباشرة وكان لظهور الوضع في الحديث أثر في تنشيط هذه الرحلات العلمية طلبا للحديث من مظانه وتدقيقا لمصادره وبحثا عن أصوله وقد اشتهر بذلك من التابعين سعيد بن المسيب ومسروق وعامر الشعبي والحسن البصري وأبو العالية الرياحي3. وقد اتسع نطاق الرحلة في طلب العلم بعد جيل التابعين وبلغ أوجه في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ويقدم الرامهرمزي "ت360هـ" قائمة بأسماء المحدثين الذين رحلوا في الأقطار مرتبا إياهم على الطبقات فذكر من رحل منهم إلى عدة أقطار ومن قصد ناحية واحدة للقاء من بها من العلماء، وهذه الأقطار التي كان العلماء يقصدونها هي مراكز الثقافة في العالم الإسلامي آنذاك. وقد كان للرحلة في طلب العلم أثر في شيوع العلم وتكثير طرق الأحاديث والتعرف على رجال الحديث لأن المحدث يذهب إليهم في بلدهم فيخالطهم ويسألهم ويتعرف على أحوالهم وسيرتهم في بلدهم4، ومع ذك فقد وجدت العصبية المحلية مجالا بين أهل الحديث ففخر بعضهم بمصادر مروايتهم وتهكم بمصادر الآخرين وسخر من شيوخهم "فقد حضر جماعة من أهل الكوفة وأهل الحجاز عند عبد الله بن أدريس فجرى ذكر المسكر فحرمه الحجازيون وجعل أهل الكوفة يحتجون في
1 البخاري: الصحيح 1/ 29، ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/ 93، الخطيب: الكفاية، 402.
الرامهرمزي: المحدث الفاصل 1/ 18أ.
2 ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/ 93-94، والخطيب: الكفاية 402.
3 الدارمي: سنن 1/ 136، الرامهرمزي: المحدث الفاصل 2/ 17ب-18أ، ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/ 94، 95.
الخطيب: الكفاية، 402-403.
4 أنظر موضوع "الرحلة في طلب العلم".
تحليله إلى أن قال بعضهم: حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن ذي لعوة عن علي في الرخصة فقال الحجازيون: والله ما تجيئون به عن المهاجرين ولا عن الأنصار ولا عن ابنائهم وإنما تجيئون به عن العميان والعوران والعرجان والعمشان والحولان"1، فرغم أن الجدل ثار حول مسألة فقهية إلا أن نقد الحجازيين انصب على مصادر روايات أهل الكوفة إذ أن هذه الألقاب كلها للموالي ولم يتلقب بها العرب، وهكذا فخر الحجازيون بشيوخهم من المهاجرين والأنصار وتهكموا بالشيوخ الكوفيين من الموالي، ومن ذلك أيضا ما حدث به الأصمعي "أنه سمع عمرو بن قيس يقول: ما ينصفنا أهل العراق نأتيهم بالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله الطبيب ويأتونا بنظرائهم زعموا بأبي التياح وأبي قلابة أسماء المقابلين، لو أدركنا أبا الجوزاء لأكلناه بتمر ولو أدركنا الشعبي لشعب لنا القدور ولو أدركنا النخعي لنخع لنا الشاة!! "2.
وهكذا تتكرر السخرية بمصادر مرويات أهل العراق، والذين ذكرتهم الرواية كلهم من الموالي. ولنستمع إلى أبي عبد الله المقرئ3 يخاطب أهل الري فيقول "يا أهل الري من الذي أفلح منكم؟ إن كان ابن الأصبهاني فمنا وإن كان إبراهيم بن موسى قمنا وإن كان جرير فمنا وإن كان الخط فجدي علمكم، ما أفلح منكم إلا رجل واحد ولن أقول لكم حتى تموتوا كمدا"4.
والطريف أن أبا عبد الله المقرئ ولد بالري وإنما أصله من أصبهان فافتخر بمدينة آبائه وعاب على الري مسقط رأسه أنها لم تنجب علماء مشهورين. ولقد دفعت المنافسة العلمية بين مدينة جرجان ومدينة نيسابور شاعرا من نيسابور وهو محمد بن إبراهيم بن يحيى البشتي إلى نظم قصيدة في رجال مدينته مفتخرا بتاريخ وحاضر المدينة العلمي ومباهيا بذلك مدينة جرجان وهذه بعض أبياتها:
1 الحاكم: معرفة علوم الحديث، 73.
2 ابن عدي: الكامل 1/ 44ب-45أ.
3 هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن عيسى المقري توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين كان إماما في القراءة وقد صنف كتبا في القرآن ولد بالري وكان أصله من أصبان "أبو الشيخ الأنصاري: طبقات المحدثين بأصبهان 2/ 105-106".
4 أبو الشيخ الأنصاري: طبقات المحدثين بأصبهان 2/ 105-106".
ودع ذكر جرجان فإن شيوخنا
…
ببلدة نيسابور أعلى فما الحزن
فيحيى بن يحيى لا يقاس بغيره
…
كفاك به عزا إذا كنت ممتحن
وتابعهم إسحق لله دره1 نعم
…
والرباطي فضلهم غير مكتمن2
وقد لعبت عصبية الأمصار دورا في نشوء تواريخ المدن بصورة عامة وبالتالي ظهور تواريخ الرجال المحلية التي تقتصر في التأليف على رجال بلدة بعينها بقصد إظهار مكانتها وتفوقها العلمي على غيرها من المدن، وقد كانت عصبية الأمصار دافعا مباشرا في كتابة بعض تواريخ الرجال المحلية قال حمزة السهمي "ت427هـ" في مقدمة كتابه تاريخ جرجان "فإني لما رأيت كثير من البلدان تعصب أهلها وأظهروا مفاخرها بدخول الصحابة
…
رضي الله عنهم أجمعين بلادهم وكون الخلفاء والأمراء وجماعة من العلماء عندهم، حتى أرخوا لذلك تواريخ وصنفوا فيها تصانيف على ما بلغهم، ولم أر أحدا من مشايخنا رحمهم الله صنف في ذكرعلماء أهل جرجان تصنيفا أو أرخ لهم تاريخ على توافر علمائها وتظاهر شيوخها وفضلائها فأحببت أن أجمع في ذلك مجموعا" ثم ذكر انحطاط النشاط الفكري في جرجان إذ تفانى العلماء الذين يوثق بعلمهم3.
ولعل أقدم كتاب خصص لرجال مدينة معينة هو تاريخ واسط لبحشل ألفه سنة 288هـ وهذا لا يعني أن التواريخ المحلية لم تكن معروفة قبل بحشل، فقد ألف ابن زبالة كتابه "أخبار المدينة" في حدود سنة 199هـ4 والف الأزرقي "ت بعد 244هـ" كتابه "أخبار مكة" في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، ولكن هذه المؤلفات في تواريخ المن لم تتناول تراجم المحدثين في المدينة فلا صلة لها بعلم الرجال. وقد ذكر التقى الفاسي مؤرخ مكة في القرن
1 في الأصل "فكر جرجان" وقد اثبت "ذكر جرجان" ليستقيم المعنى، وكذلك "كفاك". أصلها "كلاك" و"دره" أصلها "درة".
2 الحاكم: تاريخ نيسابور 102-103.
3 السهمي: تاريخ جرجان، 3-4.
4 انظر عن نطاق ابن زبالة صالح العلي: المؤلفات العربية عن المدينة والحجاز، 13.
الرابع عشر الميلادي في مقدمة كتابه "العقد الثمين""أنه غير مسبوق بالفصل الذي خصصه للتراجم من كتابه"1 وقد تعجب الفاسي من هذه الظاهرة فقال في كتابه الآخر شفاء الغرام "وإني لا عجب من إهمال فضلاء مكة بعد الأزرقي للتأليف على منواله ومن تركهم تأليفا لتاريخ مكة يحتوي على معرفة أعيانها من أهلها وغيرهم من ولاتها وقضاتها وخطبائها وعلمائها كما صنع فضلاء غيرها من البلاد"2.
"وأما تاريخ المدينة فقد عولج على نمط ما عولج به تاريخ مكة إذ يبدو أنه لم يحتو إلا على قليل من التراجم، يدل على هذا عدم اقتباس كتاب التراجم المتأخرين شيئا من تواريخ المدينة المنورة"3، إلا نقولا ضئيلة أوردها السخاوي عن عمر بن شبة "ت262هـ" في التحفة اللطيفة وهي لا تدل على أن ابن شبة ترجم للأشخاص بالشكل الذي نده في كتب التراجم4، فتواريخ المدن التي سبقت بحشل كانت تعني بطوبوغرافية المدينة وأخبارها ولم تركز على رجال البلدة لذلك فيمكن القول أن بحشل هو أقدم من أكد على رجال البلدة فقد أصبح العلماء أهم ما تتميز به المدن المتنافسة، ومن ثم فقد غلبت التراجم على مادة تواريخ المدن بعد بحشل.
وقد قدم بحشل لكتابه بمقدمة مقتضبة جدا عن تاريخ وخطط واسط لا تتناسب وتواريخ المدن المؤلفة قبله، ثم ترجم لعلمائها، وقد تابعته تواريخ الرجال المحلية التالية في الشكل والمحتوى فالمقدمة ثم ذكر الصحابة فبقية رجال البلدة هو الهيكل العام لسائر تواريخ الرجال المحلية، وإن توسع البعض في المقدمة فضمنها معلومات طبوغرافية وأخبارا وأساطير تتصل بالمكان الذي يكتب عنه مما يعبر عن العصبية للأمصار، كما يبدو أن ذكر من دخل البلدة من
1 روزنثال: علم التاريخ عند المسلمين، 225. نقل ذلك عن العقد الثمين "أربعة مجلدات تيمور تاريخ 849".
2 روزنثال: علم التاريخ عند المسلمين، 227.
3 المصدر السابق، 224.
4 انظر العلي: المؤلفات العربية عن المدينة والحجاز، 18.
الصحابة له صلة بحديث يرفعه بريدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونصه "من مات من أصحابي ببلدة فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة"1. ومن ثم فقد حوفظ على تقديم الصحابة حتى في التواريخ التي لم ترتب مادتها على الطبقات مثل تاريخ أصبهان لأبي نعيم وتاريخ بغداد للخطيب، لقد نحت كتب الرجال المحلية منحي بحشل في تاريخ واسط فعل ذلك محمد بن سعيد القشيري في "تاريخ الرقة" الذي أملاه سنة 334هـ ولكنه اقتصر في المقدمة على خبر فتحها وذكر شروط الصلح2، وأبو الشيخ الأنصاري "ت369هـ" في "طبقات المحدثين بأصبهان" والقاضي عبد الجبار الخولاني "ت370هـ" في "تاريخ داريا" ولكن الأخير يحذف المقدمة المتعلقة بأخبار المدينة وأما أبو الشيخ الأنصاري فيتوسع فيها كثيرا
…
يتحدث فيها عن طوبوغرافية المدينة ثم عن فضائلها وعجائبها3، وقد عبر أبو الشيخ بذلك عن إعجابه بمدينته وتعلقه با
…
وقد تميزت ترجمة سلمان الفارسي الأصبهاني الأصل بطولها حتى أخذت نصف ما خصصه للصحابة الذين نزلوا أصبهان وعددهم ثمانية عشر صحابيا، ولم ينس أن يذكر اختلاف الروايات في فتح أصبهان أكان عنوة أم صلحا؟ ثم رجح أنه كان صلحا4.
وقد تابعه ونقل عنه كثيرا أبو نعيم الأصبهاني "ت430هـ" في كتابه "ذكر أخبار أصبهان"، وإن خالفه في ترتيب كتابه حيث رتب أبو نعيم كتابه على حروف المعجم. أما "تاريخ نيسابور" للحاكم النيسابوري "ت405هـ".
1 الخطيب: تاريخ بغداد 1/ 128، البيهقي: تاريخ البيهقي 22، الحاكم: تاريخ نيسابور، 7.
2 القشيري: تاريخ الرقة 3-7.
3 كذكره أن أصبهان لا يزال فيها ثلاثون رجلا مستجابي الدعوة بفضل دعاء إبراهيم عليه السلام لها. وقد أنبت الله في تربتها الزعفران وألقى في جبالها الشهد، ويورد كتاب الحجاج بن يوسف إلى عامله عليها وفيه أن أصبهان أوسع المملكة رقعة وعملا وأكثرها خراجا بعد فارس والأهواز وأزكاها أرضا ثم يذكر خيراتها الكثيرة بتفصيل.
4 أبو الشيخ الأنصاري: طبقات المحدثين بأصبهان، المقدمة.
فلا يختلف عن طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ في مقدمته وفي ترتيب تراجمه، فهو يبدأ بذكر مفاخر خراسان والأحاديث في فضل الأعاجم ثم خص نيسابور بحديثين هما "خير خراسان نيسابور"والآخر" نعم البلد نيسابور"، ثم ترجم لعلمائها على الطبقات.
كذلك فلا يلاحظ وجود اختلاف كبير حتى في التواريخ المحلية المتأخرة مثل "تاريخ بغداد" للخطيب "ت463هـ" و"تاريخ دمشق" لابن عساكر "ت557هـ" رغم أنهما تميزا بالشمول والتفصيل إذ لم يقتصرا على تراجم المحدثين، كما وتوافرت لهما مادة أضخم نتيجة للتطور الذي أحرزته المدينة الإسلامية.
وهكذا لعبت المفاخرات بين المدن دورا كبيرا في صياغة مقدمات تواريخ الرجال المحلية، بل ربما كانت حافزا لتدوين تواريخ الرجال المحلية بقصد إظهار مكانتها وتفوقها العلمي، ولكن ينبغي أن لا ننسى أن الحافز الأصلي هو الرغبة القوية في خدمة علم الحديث عن طريق التعريف بالرواة ومواطنهم، فتواريخ الرجال المحلية تدخل ضمن كتب علم الرجال ويجب أن ينظر إليها بهذا المنظار.
وقد أعتبر التعرف على شيوخ البلد ورواياتهم من أول ما تجب معرفته على طالب الحديث في ذلك البلد، فهذا صالح بن أحمد التميمي الحافظ "ت384هـ" مؤلف طبقات الهمذانيين يقول "ينبغي لطالب الحديث وعن عني به أن يبدأ بكتب حديث بلده ومعرفة أهله، وتفهمه وضبطه حتى يعلم صحيحه من سقيمه، ويعرف أهل التحديث به وأحوالهم معرفة تامة، إذا كان في بلده علم وعلماء قديما وحديثا، ثم يشتغل بعد بحديث البلدان والرحلة فيه"1.
أن ميزة تواريخ الرجال المحلية هي أن معلوماتها عن علماء البلد الذي تختص بدراسته أدق وأكثر استقصاء وشمولا نتيجة عيش المصنف في البيئة التي يؤرخ لرجالها ولذلك فإن تواريخ الرجال المحلية لقيت اهتماما من طلاب
1 الخطيب: تاريخ بغداد 1/ 214.
الحديث حتى أن بعضها كان يدرس في حلقات العلم وكان الخطيب البغدادي يحدث بتاريخ بغداد فيها"1 وقد نقل أبو سعد السمعاني عن عبد الرحمن بن محمد القزاز أنه سمع جميع كتاب تاريخ مدينة السلام من مصنفه الخطيب إلا جزآن توفيت والدته فشغله دفنها عن سماعهما، ولم يعد الخطيب عليه ما فاته "لأنه شرط في الابتداء أن لا يعاد الفوت لأحد، فبقي الجزء غير مسموع"2 ويدل قوله "أن لا يعاد الفوت لأحد" أن الخطيب كان يحدث بتاريخه في حضور عدد من الطلاب.
وربما رحل البعض في طلب أحد تواريخ الرجال المحلية من ذلك رحلة أبي الفضل بن الفلكي الهمذاني إلى نيسابور حيث كان أحد دوفعها الحصول على تاريخ نيسابور للحاكم3.
أن التقسيم على المدن سواء في كتب الطبقات العامة أم نتيجة التصنيف في رجال بلدة واحدة يمكننا من معرفة بلدان الرواة ومواطنهم والصلة بين بعضهم، فمن طريق معرفة أوطان الرواة يمكن التحقق من اللقاء بين الرواة، فإذا لم يكونا من بلد واحد، ولم يدخل أحدهما بلد الآخر ولا التقيا في حج ونحوه، وليست للراوي إجازة بما يروي فعندئذ يعرف أن في السند إرسالا أو انقطاعا اوعضلا أوتدليسا4.
كما أن معرفة أوطان الرواة ربما تفيد في التمييز بين الاسمين المتفقين في اللفظ فينظر في شيخه وتلميذه الذي روى عنه، فربما كانا أو أحدهما من بلد
1 ياقوت: معجم الأدباء 1/ 346.
2 ياقوت: معجم الأدباء 1/ 252-253.
3 الخطيب: تاريخ بغداد 5/ 474.
4 السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 386. وقد اكتشف ابن معين كذب عمر المجالدي عندما حدث بحديث عن أبي معاوية لم يحدث به أبو معاوية ببغداد "الخطيب: تاريخ بغداد 11/ 205".