الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشاط الرحلة في طلب الحديث:
بدأت الرحلة في طلب العلم في جيل الصحابة، فرحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس في الشام، واستغرق سفره شهرا ليستمع منه حديثا واحدا لم يكن جابر قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم1 ورحل جابر إلى مصر للقاء مسلمة بن مخلد وسؤاله عن حديث بلغه عنه فلما أخبره به رجع2، ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر فلما لقيه قال: حدثنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك. فلما حدثه ركب أبو أيوب راحلته وانصرف عائدا إلى المدينة وما حل رحله!! 3.
1 البخاري: الصحيح 1/ 29.
وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 93.
وذكره الخطيب في الكفاية، ص402 فقال: رحل جابر إلى مصر في حديث حتى سمعه من عبد الله بن أنيس. كما ذكر الخطيب في كتابه الرحلة في طلب الحديث، ص54 روايتين إحداهما تذكر أن رحلة جابر إلى الشام إلى عبد الله بن أنيس، والثانية تذكر أن رحلة جابر إلى مصر ولا تسمي الصحابي الذي رحل إليه.
ويبدو أن لجابر رحلتين إحداهما إلى الشام والأخرى إلى مصر، وقد سمى الرامهرمزي الصحابي الذي رحل جابر إليه إلى مصر وهو مسلمة بن مخلد كما ذكر أعلاه.
2 الرامهرمزي: المحدث الفاصل 1/ ق 18، 1. وذكره الخطيب في الرحلة في طلب الحديث، ص57، لكنه قال: "رجل" بدل "جابر".
3 ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 93-94، وانظر الخطيب: الكفاية 402؛ والرحلة في طلب الحديث، ص56.
ورحل رجل من الصحابة إلى فضالة بن عبيد بمصر فلما قدم إليه قال له:
أما أني لم آتك زائرا ولكني سمعت أنا وأنت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم1، وقال عبد الله بن مسعود:"لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته"2.
ويتبين مما ذكرت أن سبب رحلة الصحابة كانت لسماع حديث لم يسمعه الصحابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للتثبت من حديث يحفظه الصحابي، وليس في بلده من يحفظه فيشد الرحال إلى من يحفظه ولو كان على مسيرة شهر.
وقد استمرت الرحلة في جيل التابعين فقد تفرق الصحابة في الأمصار يحملون معهم العلم فما كان ليتيسر للرجل أن يحيط علما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون رحلة في الأمصار وملاحقة الصحابة المتفرقين فيها.
يقول سعيد بن المسيب "ت94هـ" أحد كبار التابعين "إن كنت لا سير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام"3.
ورحل الحسن البصري "ت110هـ" من البصرة إلى الكوفة في مسألة4 وأقام أبو قلابة في المدينة ثلاثة أيام ما له حاجة إلا رجل كانوا يتوقعون قدومه كان يروي حديثا، فأقام حتى قدم وسألة عن الحديث5.
1 الدارمي: سنن الدارمي 1/ 138 والخطيب الرحلة، ص57.
2 الخطيب: الكفاية، 402.
3 الرامهرمزي: المحدث الفاصل 2/ ق 17و 2.
ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/ 94.
الخطيب: الكفاية، 402.
4 الخطيب: الكفاية، ص402.
5 الدارمي: سنن 1/ 136.
والرامهرمزي: المحدث الفاصل، ق17، 2.
وقال بسر بن عبد الله الحضرمي "إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه"1.
وقال عامر الشعبي سيد التابعين "لم يكن أحد من أصحاب عبد الله، أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق"2.
وخرج عامر الشعبي إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له على أمل أن يلقى أحد الصحابة هناك فيسأله عنها3.
وحدث الشعبي رجلا بحديث ثم قال له "أعطيناكها بغير شيء قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة"4.
وعن أبي العالية الرياحي قال، كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم5.
ففي جيل التابعين يبرز عامل جديد يحفز طلاب الحديث إلى الرحلة، ذلك هو طلب الإسناد العالي، فهو أخصر طرق الحديث المتصلة.
فبدل أن يأخذ التابعي عن تابعي أخذ بدوره الحديث عن صحابي، يرحل إلى ذلك الصحابي فيروي الحديث عنه مباشرة. وقد كان لظهور الوضع
1 الدارمي: سنن 1/ 136، والخطيب: الرحلة في طلب الحديث، ص63، لكنه يسميه "بشرط وهو تصحيف "أنظر ابن حجر: تهذيب التهذيب 1/ 438".
وابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/ 95.
2 الرامهرمزي: المحدث الفاصل، ق18و 1.
الخطيب: الكفاية، 402.
3 الرامهرمزي: المحدث الفاصل، ق18، 1.
4 البخاري: الصحيح 1/ 35.
وابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/ 94، والخطيب: الكفاية، 402.
5 الدارمي: سنن 1/ 136.
الخطيب: الكفاية، 402-403.
في الحديث أثر في تنشيط هذه الرحلات العلمية طلبا للحديث من مظانه، وتدقيقا لمصادره، وبحثا عن أصوله، وتحريا عن رواته.
وقد ذكر شعبة بن الحجاج "ت160هـ" أنه سمع أبا أسحاق يحدث عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث "من توضأ فأحسن الوضوء دخل من أي أبواب الجنة شاء" فساله شعبة: سمعت عبد الله بن عطاء يحدث عن عقبة بن عامر؟ قال أبو إسحاق: سمعت عبد الله بن عطاء، قال شعبة: عبد الله سمع عقبة بن عامر؟ فقال أبو إسحاق أسكت، فقال شعبة لا أسكت. وكان مسعر بن كدام حاضرا فالتفت إلى شعبة وقال: يا شعبة عبد الله بن عطاء حي بمكة. فخرج شعبة إلى مكة فلقي عبد الله بن عطاء وسأله عن حديث الوضوء من رواه؟ فأجاب: عقبة بن عامر، فاستحلفه شعبة هل سمعت منه؟ قال لا، حدثني سعد بن ابراهيم، فمضى شعبة إلى المدينة حيث لقي هناك سعد بن ابراهيم فسأله. فأجاب: من عندكم خرج حدثني زياد بن مخراق. فانحدر شعبة إلى البصرة فلقي زياد بن مخراق وهو شاحب اللون وسخ الثياب كث الشعر فسأله فقال: حدثني شهر بن حوشب عن أبي ريحانة. فقال شعبة: هذا حديث صعد ثم نزل دمروا عليه ليس له أصل1.
وهذا الجهد الكبير والمشقة البالغة والسفر الطويل كله للتحقق من صحة حديث واحد وليس شعبة بن الحجاج هو الوحيد في هذا الميدان. فهذا المؤمل بن إسماعيل ذكر عنده الحديث الذي يروي عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن فقال: لقد حدثني رجل ثقة سماه قال أتيت المدائن فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث فقلت له حدثني فإني أريد أن آتي البصرة فقال: هذا الرجل الذي سمعناه هو بواسط في أصحاب القصب قال فأتيت واسطا فلقيت الشيخ فقال: إن هذا الذي سمعت منه هو بالكلاء فأتيت البصرة فلقيت الشيخ.
1 ابن حبان: معرفة المجروحين من المحدثين 1/ ق9و2-ق10و1-2، والخطيب: الرحلة في طلب الحديث، ص64-65.
بالكلاء فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي عبادان. فقال إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعبادان فأتيت عبادان فلقيت الشيخ فقلت له اتق الله ما لهذا الحديث؟ أتيت المدائن -فقصصت عليه- ثم واسطا ثم البصرة فدللت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا فأخبرني بقصة هذا الحديث؟
فقال: إنا اجتمعنا فرأينا النسا قد رغبوا عن القرآن وزهدوا فيه وأخذوا في هذه الأحاديث فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه1.
وهكذا كان للوضع في الحديث أثر في تنشيط الرحلة في طلب العلم للتحقق من الأحاديث ومعرفة مصادرها، كما كان لاستمرار طلب الإسناد العالي دور في ذلك وقد قال الإمام "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف"2 وقال "طلب علو الإسناد من الدين"3.
لذلك إتسع نطاق الرحلة في طلب العلم في القرنين الثاني والثالث، ويقدم الرامهرمزي "ت360هـ" قائمة بأسماء المحدثين الذين رحلوا في الأقطار ورتبهم على الطبقات فذكر من رحلوا إلى عدة أقطار ثم ذكر من قصد ناحية واحدة للقاء من بها من العلماء4، وهذه الأقطار هي مراكز الثقافة في العالم الإسلامي آنذاك، والمدن والأقطار التي كان يقصدها طلاب العلم للقاء من بها من العلماء كما تشير أخبار الرحالين هي: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والجزيرة والشام واليمامة واليمن ومصر ومرو والري وبخاري. وهي مراكز يكثر فيها العلماء وتنشط فيها الرواية، وترجم لعلماء معظمها ابن سعد وخليفة بن خياط في كتابيهما في الطبقات.
وكان للرحلة أثر في شيوع الأحاديث وتكثير طرقها، كما كان لها أثر في معرفة الرجال بصورة دقيقة لأن المحدث يذهب إلى البلدة فيتعرف على علمائها.
1 الخطيب: الكفاية، 401.
العراقي: فتح المغيث 130-131.
2 ابن الصلاح: مقدمة، ص105.
3 الخطيب: الرحلة في طلب الحديث، ص47.
4 الرامهرمزي: المحدث الفاصل 2/ ق19 و1-2.
ويخالطهم ويسألهم، ولولا الرحلة لتنوع علم الأقاليم المختلفة واتسع الخلاف في الأحكام.
وقد أدرك العلماء أهمية الرحلة فلما سئل الإمام أحمد بن حنبل عن طالب العلم هل يلزم رجل عنده علم فيكتب عنه أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم؟ أجاب: يرحل ويكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة ويشام الناس يسمع منهم1.
وروى عن يحيى بن معين أنه قال "اربعة لا تؤنس منهم رشدا، منهم رجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث"2.
وقال إبراهيم بن أدهم "أن الله يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث"3 ولكن الرحلة المقصودة هي التي تحقق هدفا واضحا، وليست مجرد سفر يضيع الوقت والجهد لتبادل التحيات والأشواق، قال الخطيب "المقصود بالرحلة في الحديث أمران: أحدهما تحصيل علو الإسناد وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة عنهم فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة فالاقتصار على ما في البلد أولى"4.
وقد كان الراحلون يلتذون في الرحلة، فهذا رجل وفد إلى يزيد بن هارون من حران ينشد:
أقبلت أهوى على حيزوم طاوية
…
في لجة اليم لا ألوي على سكن
حتى أتيت إمام الناس كلهم
…
في الدين والعلم والآثار والسنن
أبغي به الله لا الدنيا وزخرفها
…
ومن تغنى بدين الله لا يهن
1 العراقي: فتح المغيث 3/ 86، ويشام: يختبر.
2 الخطيب: الرحلة، ص47، والمصدر السابق 3/ 86.
3 العراقي: فتح المغيث 2/ 87، والخطيب: الرحلة في طلب الحديث، ص47.
4 العراقي: فتح المغيث 2/ 86.
يا لذة العيش ما [قد] قلت حدثنا
…
عوف وبشر عن الشعبي والحسن1
وقال آخر رحل إلى سفيان بن عيينة بمكة:
سيري نجا وقاك الله من عطب
…
حتى تلاقي بعد البيت سفيانا
سمح الأنام ومن جلت مناقبه
…
لاقى الرجال وحاز العلم أزمانا2
ولولا الرحلة في طلب العلم لوجد طابع فكري محلي في كل مدينة من المدن الإسلامية بسبب العزلة العلمية، لكن الروح الواسعة التي تحلى بها العلماء دفعتهم إلى جوب الآفاق وأخذ العلم من شتى المراكز الفكرية في العالم الإسلامي ولو اهتم المحدثون بتدوين أخبار الرحلات وأوصاف المدن لقدموا معلوات غزيرة كتلك التي نجدها في كتب الرحلات المتأخرة مثل رحلة ابن جبير ورحلة ابن بطوطة. ولكن المحدثين لم يهتموا بغير الحديث الذي كان هدف هذه الرحلات. إن ما حققته هذه الرحلات من امتزاج علم الأمصار يظهر بوضوح في مجاميع الحديث التي دونت خلال القرن الثالث الهجري وقد عملت هذه الرحلات على تقليل أثر العصبية والمنافسة في الحديث بين الأمصار، لذلك نجد أن المنافسة في الفقه بين مدرسة العراق ومدرسة المدينة وظهور العصبية للرأي في النصف الأول من القرن الثاني الهجري يبدو أوضح بكثير من المنافسة بين الأمصار في الحديث، وأحسب أن الرحلة في طلب العلم وما ولدته من امتزاج علم الأمصار المختلفة إضافة إلى عدم احتمال علم الحديث ما احتمله علم الفقه من اتساع في الخلاف بسبب تباين الأفهام والمدارك وتباين الأعراف المحلية وما يستتبعه من اختلاف الحاجيات بين مصر وآخر، لكل ذلك أثر في تقليل العصبية المحلية بين المحدثين، كما أنه لا توجد لدينا مدارس متبلورة في الحديث كما هو الشأن في الفقه، وإن كانت هناك شروط ومقاييس في قبول الرواية أو رفضها والأخذ عن الرجل أو رده، ولكنها شروط فردية تتباين بين محدث وآخر لا مدرسة وأخرى ولا مصر وآخر.
1 الرامهرمزي: المحدث الفاصل 2/ ق18و2. والزيادة يقتضيها الوزن.
2 المصدر السابق 2/ ق 18و 2.