الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَيَانِ الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ حَتَّى يَكْتُبَ فِي اسْتِعَارَةِ الْأَرْضِ أَنَّك أَطْعَمْتنِي أَرْضَ كَذَا لِأَزْرَعَهَا مَا أَشَاءُ مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ أَوْ الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَأَبْعَدُ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(كِتَابُ الْهِبَةِ)
قَالَ رحمه الله (هِيَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ) هَذَا فِي الِاصْطِلَاحِ وَفِي اللُّغَةِ هِيَ التَّبَرُّعُ وَالتَّفَضُّلُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]، وَقَالَ تَعَالَى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] الْآيَةَ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ عز وجل {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] وَالْبَشَرُ إذَا بَاشَرَهَا فَقَدْ اكْتَسَبَ مِنْ أَشْرَفِ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكَرَمِ وَإِزَالَةِ شُحِّ النَّفْسِ وَإِدْخَالِ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِيرَاثِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِزَالَةِ الضَّغِينَةِ وَالْحَسَدِ، وَلِهَذَا مَنْ بَاشَرَهَا كَانَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مُمَيِّزًا وَالْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا.
قَالَ رحمه الله (وَتَصِحُّ بِإِيجَابٍ كَ) قَوْلِهِ (وَهَبْتُ وَنَحَلْتُ وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْته لَك وَأَعْمَرْتُك هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ نَاوِيًا بِهِ الْهِبَةَ وَكَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَدَارِي لَك هِبَةً تَسْكُنُهَا لَا هِبَةَ سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةٍ وَقَبُولٍ وَقَبْضٍ بِلَا إذْنٍ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ بِهِ فِي مَحُوزٍ مَقْسُومٍ وَمَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ لَا فِيمَا يُقْسَمُ) أَيْ تَصِحُّ الْهِبَةُ بِإِيجَابٍ كَقَوْلِهِ وَهَبْت إلَخْ وَبِقَبُولٍ وَقَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَفِيمَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ يَمْلِكُهُ بِالْإِذْنِ صَرِيحًا لَا غَيْرُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مَحُوزٍ وَمَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ.
أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَيَنْعَقِدُ بِهِمَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنهما فِي مَرَضِهِ كُنْتُ نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حُزْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَتْ تُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكَانَ لَهَا ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْمُتَبَرِّعِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
[ كِتَابُ الْهِبَةِ]
ِ) قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْعَارِيَّةُ وَهُوَ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةُ كَالْمُفْرَدِ وَالْهِبَةُ كَالْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَعَ الْمَنْفَعَةِ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَمَّا تَفْسِيرُهَا لُغَةً فَهِيَ إعْطَاءُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ قَالَ تَعَالَى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَفِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الشَّرِيعَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَشَرْطُهَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِهَا فَالْقَبْضُ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عِنْدَنَا قَبْلَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا وَكَوْنُهَا غَيْرَ مَشَاعٍ إذَا كَانَتْ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ شَرْطُ الْجَوَازِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِبَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ، وَكَذَا التَّصَرُّفُ بِالْمَشَاعِ وَكَوْنُ الْمَحَلِّ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْهِبَةُ مَالًا قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ شَرْطُ الْجَوَازِ أَيْضًا حَتَّى إذَا وُهِبَ الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْخَمْرُ لَا يَصِحُّ. اهـ. (قَوْلُهُ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا رُكْنُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ هُوَ مُجَرَّدُ إيجَابِ الْوَاهِبِ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ اهـ (قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا) إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ مِنْ الْهِبَةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ لَكِنْ يُكْرَهُ الرُّجُوعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّنَاءَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَتَصِحُّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ) قَالَ الْكَاكِيُّ أَيْ تَصِحُّ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَفِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَصَارَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَكِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ اهـ (قَوْلُهُ فَيَنْعَقِدُ بِهِمَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ حَتَّى يُمْلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا هَذَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَمَّا إذَا حَلَفَ، وَقَالَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ بِلَا قَبُولٍ وَقَبْضٍ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَنَا أَنَّ الْهِبَةَ اسْمٌ لِإِيجَابِ مِلْكٍ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْمَالِكِ إلَّا أَنَّ الْقَبُولَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَا شَرْطَ وُجُودِ الْهِبَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُقِرُّ لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ لَا يُوصِي لَهُ بِشَيْءٍ فَأَقَرَّ أَوْ أَوْصَى هُوَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ يَحْنَثُ فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا كَذَا فِي الْحَصْرِ وَالْمُخْتَلِفِ
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. اهـ. (قَوْلُهُ نَحَلْتُك جِدَادَ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْجِيمِ مَعَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْجِدَادُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ صِرَامُ النَّخْلِ وَهُوَ قَطْعُ ثَمَرَتِهَا يُقَالُ جَدَّ الثَّمَرَةَ يَجِدُّهَا جَدًّا وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنهما إنِّي كُنْت نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا اهـ
فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ قَدْ مَاتَ وَالْوَرَثَةُ لَيْسُوا بِمُتَبَرِّعِينَ، وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُك هَذَا الشَّيْءَ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ صَحَّ وَمَلَكَهُ لِوُجُودِ الْقَبْضِ
وَقَوْلُهُ وَقَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ بِلَا إذْنِهِ أَيْ بِلَا إذْنِ الْوَاهِبِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَبْضَ كَالْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بِهَا قَبْلَهُ وَيُغْنِي عَنْ الْقَبُولِ كَمَا بَيَّنَّا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى الْقَبْضِ دَلَالَةً إذْ مِلْكُهُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِهِ فَيَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ كَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَلَا تَعْمَلُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا، وَلِهَذَا صَحَّ الْإِذْنُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ بِقَوْلِهِ وَهَبْت؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْهِبَةِ وَبِقَوْلِهِ نَحَلْت؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَكُلَّ أَوْلَادِك نَحَلْت مِثْلَ هَذَا»
وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كُنْت نَحَلْتُك عَلَى مَا بَيَّنَّا وَبِقَوْلِهِ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا تُؤْكَلُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُؤْكَلُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُسْتَغَلُّ مِنْهَا فَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِالْعَارِيَّةِ وَبِقَوْلِهِ جَعَلْته لَك؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلتَّمْلِيكِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ مَلَّكْتُك هَذَا الثَّوْبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ بِعِوَضٍ كَانَ تَمْلِيكًا فَكَذَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَبِقَوْلِهِ أَعَمَرْتُك لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مِنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَاهِبِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بَاقٍ بِدَلِيلِ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فَيَكُونُ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى الْقَبْضِ) أَيْ اقْتِضَاءً اهـ أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ فَأَمَّا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ بَعْدَ الْهِبَةِ بِأَنْ قَالَ لَهُ لَا تَقْبِضْ فَقَبَضَ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، أَمَّا بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ فَبَعْدَ الْمَجْلِسِ أَوْلَى وَإِنْ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ نَهْيَ الْوَاهِبِ الْمَوْهُوبَ لَهُ عَنْ الْقَبْضِ رُجُوعٌ عَنْ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ
وَالْبَائِعُ لَوْ نَهَى الْمُشْتَرِي عَنْ الْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ كَانَ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ الْإِيجَابِ دَلَالَةً فَكَذَلِكَ هَذَا، وَلَوْ رَجَعَ ثُمَّ قَبَضَ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ فَكَذَلِكَ هَذَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فَيَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ صَرِيحًا بَيَانُهُ مَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِبَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَتَى فَاتَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْقَى الْإِيجَابُ صَحِيحًا، وَإِذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْإِيجَابِ مِنْ الْوَاهِبِ عَلَى الصِّحَّةِ وُجُودُ الْقَبْضِ لَا مَحَالَةَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ اقْتِضَاءً كَمَا فِي الْبَيْعِ جَعَلْنَا إقْدَامَ الْبَائِعِ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ مُقْتَضَى بَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً يَثْبُتُ ضَرُورَةً، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَبْقَى صَحِيحًا مَتَى قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يُعْتَبَرُ ثَابِتًا فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُثْبِتَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ
وَالْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فَقَالَ لَهُ الْوَاهِبُ قَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَ الْهِبَةِ فَاقْبِضْهَا وَانْصَرَفَ الْوَاهِبُ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ إقْبَاضٌ مِنْهُ فَإِذَا قَبَضَ بِإِذْنِهِ تَمَّ الْعَقْدُ.
قَالَ فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ نَزَلَ قَابِضًا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَبْضَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَبْضَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إخْرَاجِ نَفْسِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ إذَا أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا التَّخْلِيَةُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْهُ إلَيْهِ وَيُقْبِضْهُ لَا يُعَدُّ مُسَلِّمًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقْبِضْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَلْزَمُ قَبْلَ إيصَالِ الْقَبْضِ بِهَا فَصَحَّ رُجُوعُهُ كَذَا فِي شَرْحِ الْكَافِي، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَ الْهِبَةَ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضَرَتْهُ جَازَ الْقَبْضُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ
قَالَ قَاضِيخَانْ رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ وَهَبْت عَبْدِي هَذَا مِنْك وَالْعَبْدُ حَاضِرٌ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ نَالَهُ فَقَالَ قَبَضَتْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَازَتْ الْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَيَصِيرُ قَابِضًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا فَقَالَ وَهَبْت مِنْك عَبْدِي فُلَانًا فَاذْهَبْ وَاقْبِضْهُ فَقَبَضَهُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَبِلْت وَبِهِ نَأْخُذُ اهـ كَلَامُ قَاضِيخَانْ رحمه الله وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّخْلِيَةِ لَا يَكُونُ قَبْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنْ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ قَالَ فِي الْمُحِيطِ فِي بَابِ قَبْضِ الْهِبَةِ مَا نَصُّهُ النَّوَادِرِ رَجُلٌ وُهِبَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا وَهُوَ حَاضِرٌ فَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَتْهُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قَبْضِهِ فَأُقِيمَ تَمَكُّنُهُ مَقَامَ قَبْضِهِ كَالتَّخْلِيَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا لَمْ يَقْبِضْهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِضٍ حَقِيقَةً اهـ وَعَلَى هَذَا فَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَوْلُهُ الْحَقِيقِيُّ أَيْ وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَلَنَا فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ إنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يَطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ التَّمْلِيكُ لَا الْإِبَاحَةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَالطَّعَامُ يُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِي الْآيَةِ مُضَافًا إلَى مَا يَطْعَمُ عَيْنُهُ فَافْهَمْ اهـ
بَعْدِهِ» وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعُمْرَى هُوَ التَّمْلِيكُ لِلْحَالِ وَاشْتِرَاطُ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْمَرِ لَهُ فَصَحَّ التَّمْلِيكُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَبِقَوْلِهِ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ نَاوِيًا بِهِ الْهِبَةَ؛ لِأَنَّ الْإِرْكَابَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ عَارِيَّةً إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الْهِبَةَ فَتَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ يُقَالُ حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى الدَّابَّةِ يَعْنُونَ بِهِ التَّمْلِيكَ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]
وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَأَدَّى بِالْمَنَافِعِ، وَكَذَا يُقَالُ كَسَا فُلَانٌ فُلَانًا إذَا مَلَّكَهُ لَا إذَا أَعَارَهُ وَبِقَوْلِهِ دَارِي لَك هِبَةً تَسْكُنُهَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلتَّمْلِيكِ ظَاهِرًا، وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ هَذَا الطَّعَامُ لَك تَأْكُلُهُ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ دَارِي لَك هِبَةَ سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةٍ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْعَارِيَّةُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا هِبَةَ سُكْنَى أَيْ لَا تَكُونُ تَمْلِيكًا بِقَوْلِهِ دَارِي لَك هِبَةَ سُكْنَى. وَقَوْلُهُ فِي مَحُوزٍ مَقْسُومٍ وَمَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ لَا فِيمَا يُقْسَمُ أَيْ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي مَحُوزٍ مَقْسُومٍ وَفِي مَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ وَلَا تَجُوزُ فِي مَشَاعٍ يُقْسَمُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مَحُوزٍ عَنْ الْمُتَّصِلِ كَالثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرَةِ وَبِقَوْلِهِ مَقْسُومٍ عَلَى الْمَشَاعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَجُوزُ هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَفِيمَا لَا يُقْسَمُ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُنَافِي الْمِلْكَ فِي الشُّيُوعِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ وَتَسْلِيمُهُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ إلَيْهِ كَالْمَشَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - شَرَطُوا الْقِسْمَةَ لِصِحَّةِ الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لَمَّا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ بِالسُّنَّةِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ ثَبَتَ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَالْكَامِلُ هُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْقَبْضُ فِي الْمَشَاعِ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي حَيِّزِ الْقَابِضِ وَالْمَشَاعُ لَيْسَ فِي حَيِّزِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَيِّزِ شَرِيكِهِ مِنْ وَجْهٍ
وَتَمَامُهَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ بِهَا تَتَمَيَّزُ وَتَجْتَمِعُ وَمَا لَمْ يَجْتَمِعْ لَا يَصِيرُ مُحْرَزًا أَوْ يَكُونُ إحْرَازًا نَاقِصًا فَلَا يَنْهَضُ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَصْلِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ كَانَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ كَيْ لَا يَلْزَمُهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْقِسْمَةِ فَيَصِيرُ عَقْدُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ) أَيْ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ) أَيْ وَأَلْفَاظُنَا تُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ دَارِي لَك هِبَةً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. اهـ. (قَوْلُهُ مَشُورَةٌ) هِيَ بِتَسْكِينِ الشَّيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَبِضَمِّ الشَّيْنِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بِمَعْنَى الشُّورَى وَهِيَ اسْتِخْرَاجُ رَأْيٍ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ قَالَ دَارِي لَك هِبَةً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. اهـ. (قَوْلُهُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مَحُوزٍ عَلَى الْمُتَّصِلِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَقَوْلُهُ مَحُوزَةٍ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ مَشْغُولَةً بِمَا لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْهِبَةُ كَالثَّمَرِ فِي النَّخْلِ وَالزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ وَكَالظَّرْفِ فِيهِ مَتَاعٌ لِلْوَاهِبِ، وَقَوْلُهُ مَقْسُومَةٍ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَشَاعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ وَلَا تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهَا تَامَّةٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالُوا إنَّهَا فَاسِدَةٌ وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَاهُ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا فَاسِدَةٌ بَلْ غَيْرُ تَامَّةٍ كَذَا هَذَا، وَأَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ تَامَّةٌ كَذَا قَالَ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ، وَقَالَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُفِيدُ الْمِلْكَ بِالتَّخْلِيَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هِبَةَ الشَّائِعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ تُفِيدُ الْمِلْكَ بِالتَّخْلِيَةِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي، وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ نَصِيبًا مُسَمًّى فِي دَارٍ غَيْرِ مَقْسُومٍ فَسَلَّمَهُ إلَيْهِ أَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ وَهَبَ لَهُ نَصِيبًا فِي بَيْتٍ كَبِيرٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ يُقْسَمُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُقْسَمُ لَا يَجُوزُ وَهَذَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَنَعْنِي بِقَوْلِهِ إنَّهُ يُقْسَمُ أَنَّهُ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعَ الْبَيْتِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ مُنْتَفَعًا بِهِ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مِثْلَ الْحَمَّامِ الصَّغِيرِ إذَا قُسِمَ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ هِبَتُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اتِّفَاقًا
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا إذَا وَهَبَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ وُهِبَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَمِنْ الشَّرِيكِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ وُهِبَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وُهِبَ مِنْ الشَّرِيكِ جَازَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا وُهِبَ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا إلَّا وَيَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَفُوتُ أَصْلًا بِالْقِسْمَةِ وَالتَّجَزِّي كَمَا فِي الْعَبْدِ مَتَى قُسِّمَ وَجُزِّئَ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ أَصْلًا أَوْ تَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ. إلَى هُنَا لَفْظُ خُوَاهَرْ زَادَهْ اهـ
(قَوْلُهُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَكَذَلِكَ قَرْضُ الْمَشَاعِ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحٌ وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ بَيَانُهُ أَنَّهُ نَصَّ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا نِصْفُهُ قَرْضًا وَنِصْفُهُ مُضَارَبَةً فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَارِهِ شَائِعًا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ) أَيْ هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَظَاهِرُهُ كَمَا تَرَى يُشْعِرُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْت لَك قَرِيبًا أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ لَا فَاسِدَةٍ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
التَّبَرُّعِ مُوجِبًا لِضَمَانِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ وَلِمُطَالَبَتِهِ بِالْقِسْمَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّبَرُّعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] بِخِلَافِ مَا لَا يُقْسَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ فِيهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ النَّاقِصِ فَاكْتَفَى بِهِ وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبِرْنَا كَمَالَ الْقَبْضِ فِيهِ لَانْسَدَّ بَابُ الْهِبَةِ فِيهِ وَفِيمَا يُقْسَمُ لَا يَنْسَدُّ وَلَا يُقَالُ يَسْتَوْجِبُ الْمُهَيَّأَةَ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَهُوَ إيجَابٌ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُهَايَأَةُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
وَالتَّبَرُّعُ وَقَعَ فِي الْعَيْنِ فَيَكُونُ إيجَابًا فِي غَيْرِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فَلَا يُبَالِي، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ الْإِيجَابُ فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ وَالْقَبْضُ فِي الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهَا، وَكَذَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالسَّلَمُ وَالصَّرْفُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَدًا بِيَدٍ» الْمُرَادُ بِهِ التَّعْيِينُ غَيْرَ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الثَّمَنَيْنِ يَكُونُ بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَالْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَلِأَنَّ هَذِهِ عُقُودُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُبَالِي بِوُجُوبِ ضَمَانِ الْقِسْمَةِ أَوْ الْمُطَالَبَةِ وَالْقَرْضُ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ حَتَّى لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ مُعَاوَضَةَ انْتِهَاءٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ فَلِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا مِنْ وَجْهٍ شَرَطْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، وَلِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ وَجْهٍ لَمْ نَشْتَرِطْ الْقِسْمَةَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ أَوْ الشَّبَهَيْنِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْكَمَالُ
وَلَوْ وَهَبَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْكَامِلَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ وَهُوَ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ وَالْحُكْمُ بِدُونِ عِلَّتِهِ لَا يُوجَدُ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ يُرَاعَى وُجُودُهَا لَا غَيْرُ فَيَدُورُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْفَسَادُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ.
قَالَ رحمه الله (فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ صَحَّ) أَيْ وَلَوْ وَهَبَ مَشَاعًا، ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمَهُ شَائِعًا لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْوَاهِبِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَقَاضِي خَانْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ رُسْتُمَ مِثْلُهُ وَذَكَرَ عِصَامٌ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمِلْكَ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.
قَالَ رحمه الله (وَإِنْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي بُرٍّ لَا وَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ) أَيْ لَوْ وَهَبَ الدَّقِيقَ فِي الْحِنْطَةِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ، وَلَوْ طَحَنَهُ وَسَلَّمَ الدَّقِيقَ لَا تَعُودُ صَحِيحَةً (وَكَذَا الدُّهْنُ فِي السِّمْسِمِ وَالسَّمْنُ فِي اللَّبَنِ) لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَخْرَجَهُ الْغَاصِبُ مَلَكَهُ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَلَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ بِالْعَقْدِ فَوَقَعَ بَاطِلًا فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهَذَا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ اسْتَحَالَتْ وَصَارَتْ دَقِيقًا، وَكَذَا غَيْرُهَا وَبَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ هُوَ عَيَّنَ أُخْرَى عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْغَصْبِ بِخِلَافِ الْمَشَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ جَازَ، وَإِنَّمَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَعْدُومِ جَائِزَةٌ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعُ وَالنَّخْلُ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْرُ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشَاعِ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَامْتِنَاعُ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَعُودُ إلَى امْتِنَاعِ الْقَبْضِ كَالشَّائِعِ فَإِذَا فَصَلَهَا وَسَلَّمَ جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ كَمَا فِي هِبَةِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْحَمْلَ وَسَلَّمَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِ احْتِمَالًا فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ. وَالدَّارُ الَّتِي فِيهَا الْمَتَاعُ وَالْجُوَالِقُ الَّذِي فِيهِ الدَّقِيقُ كَالْمَشَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَتَاعِ الْوَاهِبِ حَتَّى لَوْ نَزَعَ وَسَلَّمَ صَحَّ وَيُعْتَبَرُ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَلَا يُعْتَدُّ بِالْإِذْنِ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالتَّسْلِيمِ قَبْلَهُ، وَلَوْ وَهَبَ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي الدَّارِ وَسَلَّمَهَا مَعَهُ أَوْ الدَّقِيقَ فِي الْجُوَالِقِ وَسَلَّمَ الدَّقِيقَ مَعَ الْجُوَالِقِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَيْسَ بِمَشْغُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَاغِلٌ لِمِلْكِ الْوَاهِبِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ يَدًا لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ يَدَ الْوَاهِبِ قَائِمَةٌ فِي الظَّرْفِ وَهُوَ آلَةٌ لِلْحِفْظِ فَيَكُونُ تَبَعًا فَثُبُوتُ الْيَدِ فِي التَّبَعِ لَا تُوجِبُ قِيَامَهُ فِي الْأَصْلِ وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ وَهَبَ الْجَارِيَةَ وَعَلَيْهَا حُلِيٌّ دُونَهُ صَحَّ وَبِالْعَكْسِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا نَزَعَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ هِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ لَهُ فَكَانَ تَبَعًا كَالْجُوَالِقِ.
قَالَ رحمه الله (وَمَلَكَ بِلَا قَبْضٍ جَدِيدٍ لَوْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ) يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهَا) أَيْ بَلْ تَتِمُّ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ لَوْ وَهَبَ مَشَاعًا، ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ قَالَ وَمَنْ وَهَبَ شَخْصًا مَشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَيْ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَتَمَامُهُ فِيهِ فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ وَأَرَادَ بِهِ الْهِبَةَ فِيمَا يُقْسَمُ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ صَحِيحَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ وَإِنْ وَهَبَ لَهُ مَشَاعًا، ثُمَّ قَسَّمَ مَا وَهَبَ وَأَفْرَزَهُ، ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ لِلْوَاهِبِ أَوْ ثَمَرَةً مُعَلَّقَةً فِي نَخْلٍ أَوْ زَرْعًا فِي أَرْضٍ فَأَخْرَجَ الطَّعَامَ مِنْ الدَّارِ وَجَدَّ الثَّمَرَةَ مِنْ النَّخْلِ وَحَصَدَ الزَّرْعَ، ثُمَّ سَلَّمَ ذَلِكَ مَحُوزًا مُفْرَزًا جَازَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَالِ الْقَبْضِ دُونَ حَالِ الْعَقْدِ. إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ إنَّمَا فَسَدَتْ أَوْ لَمْ تَتِمَّ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَعْنَى الْإِشَاعَةِ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ نَحَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَوْ حَازَتْهُ وَقَبَضَتْهُ جَازَ فَلَوْلَا أَنَّ الْعَقْدَ فِي الْمَشَاعِ وَقَعَ صَحِيحًا لَمْ تَمْلِكْهُ بِالْحِيَازَةِ وَالْقَبْضِ. اهـ. .
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ) فَإِنْ قِيلَ إنْ اسْتَقَامَ هَذَا فِي الصُّوفِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى خَطَرٍ قَدْ يَكُونُ لِلِانْتِفَاخِ بِسَبَبِ الرِّيحِ أَوْ بِسَبَبِ الدَّمِ أَوْ بِسَبَبِ اللَّبَنِ فَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ اللَّبَنِ وَفِي وُجُودِ الْمَالِيَّةِ وَمَعَ هَذَا جَازَتْ الْمَالِيَّةُ اسْتِحْسَانًا مَتَى أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الِانْتِفَاخَ لِلرِّيحِ مُحْتَمَلٌ وَلِلَّبَنِ مُحْتَمَلٌ فَاسْتَوَى الْوُجُودُ مَعَ الْعَدَمِ، ثُمَّ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ فِي وُسْعِهِمَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ اسْتَوَيَا فِي الْوَلَدِ وَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ الْوُجُودُ لَمْ تَثْبُتْ الْمَحَلِّيَّةُ وَلَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْ الْأَصْلِ بِالشَّكِّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَمَلَكَ بِلَا قَبْضٍ جَدِيدٍ لَوْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ) أَقُولُ مَحَلُّهُ مَا إذَا وَجَدَ الْقَبُولَ مِنْ
مَلَكَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهَا قَبْضًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ ثَابِتٌ فِيهَا وَهُوَ الشَّرْطُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَمَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ يَنُوبُ عَنْ مِثْلِهِ لَا عَنْ الْمَضْمُونِ وَالْمَضْمُونُ يَنُوبُ عَنْهُمَا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى تَجَانَسَ الْقَبْضَانِ نَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِاتِّحَادِهِمَا جِنْسًا وَإِذَا اخْتَلَفَا نَابَ الْأَقْوَى عَنْ الْأَضْعَفِ دُونَ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَقْوَى مِثْلَ الْأَدْنَى وَزِيَادَةً وَلَيْسَ فِي الْأَدْنَى مَا فِي الْأَقْوَى فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِهِ مَضْمُونًا كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَرْهُونِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ قَبُولِ الْهِبَةِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا لِنَفْسِهِ وَيَدُهُ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْوَدِيعَةِ فَمُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ وَقَبَضَهُ لِأَجْلِ الْمَالِكِ، فَكَيْفَ يَنُوبُ هَذَا الْقَبْضُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ؟ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا كَمَا لَوْ وَهَبَهُ وَهُوَ فِي يَدِ الْوَاهِبِ لَكِنْ لِلْمُودَعِ يَدٌ حَقِيقَةً فَبِاعْتِبَارِهَا نَزَلَ قَابِضًا؛ لِأَنَّا أَقَمْنَا يَدَهُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ حُكْمًا مَا دَامَ عَامِلًا لَهُ وَبَعْدَ الْهِبَةِ لَيْسَ بِعَامِلٍ لَهُ فَتُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ.
قَالَ رحمه الله (وَهِبَةُ الْأَبِ لِطِفْلِهِ تَتِمُّ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودِعِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمَالِكِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
الْمَوْهُوبِ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَعَلَيْك بِمُرَاجَعَةِ الْحَاشِيَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ فَإِنَّك تَظْفَرُ بِالْمَقْصُودِ وَتَغْنَمُ بِفَوَائِدَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ اهـ وَهِيَ هَذِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَإِذَا وَهَبَ لَهُ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ مَا هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَقَبِلَ ذَلِكَ مَلَكَ الْهِبَةَ وَصَحَّ قَبْضُهُ بِهَذَا لِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِيَدِهِ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا مِثْلَ الرَّهْنِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ أَوْ الْمَبِيعِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ فَيَهَبُ الْمَالِكُ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَابِضًا بِكَوْنِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْضًا بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ. إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةَ مَلَكَهَا بِعَقْدِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ قَبْضٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ قَابِضًا حَتَّى يُخَلِّيَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَهَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمُودَعِ فَكَأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَبْضٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهِبَةَ تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْقَبْضِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَبْضٍ بِصِفَةٍ وَمُجَرَّدُ الْقَبْضِ مَوْجُودٌ عَقِيبَ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا بَيْعَ الْوَدِيعَةِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي قَبْضًا مَضْمُونًا وَقَبْضُ الْمُودِعِ عَقِيبَ الْعَقْدِ قُبِلَ أَمَانَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ قَبْضٍ آخَرَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَدِيعَةِ
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَضْمُونَةً فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِمِثْلِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَقْبُوضَةِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْعَقْدِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْهِبَةُ قَدْ وُجِدَ وَزِيَادَةٌ وَهُوَ الضَّمَانُ وَذَلِكَ الضَّمَانُ تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْغَاصِبَ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ جَازَ وَسَقَطَ فَصَارَتْ الْهِبَةُ بَرَاءَةً مِنْ الضَّمَانِ فَبَقِيَ قَبْضٌ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ فَتَصِحُّ الْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ الْمَضْمُونِ بِالثَّمَنِ وَكَالرَّهْنِ الْمَضْمُونِ بِالدَّيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضٍ مُسْتَأْنَفٍ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ وَيَمْضِي وَقْتٌ يُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ قَبْضِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ مَضْمُونَةً إلَّا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ الْقَبْضِ الْمُوجِبِ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ الْهِبَةُ بَرَاءَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْهِبَةِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَجْدِيدِ قَبْضٍ آخَرَ كَذَا فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَرَأَيْت رَجُلًا اسْتَوْدَعَ أَخَاهُ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ مَتَاعًا أَوْ دَارًا أَوْ دَابَّةً، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ وَالدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ قَدْ وَهَبْتُ لَك الَّذِي اسْتَوْدَعْتُك وَهُوَ فِي يَدِ الْمُودَعِ أَيَجُوزُ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ إذَا قُبِلَتْ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ قَدْ شَرَطَ الْقَبُولَ هُنَا وَذَكَرَ فِيمَا إذَا وَهَبَ عَبْدًا لِأَخِيهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَكَانَ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ نَصًّا أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَمْ يَشْرَط الْقَبُولَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْعَبْدُ لَيْسَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَالَةَ الْهِبَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُحْتَاجًا إلَى إحْدَاثِ قَبْضٍ حَتَّى يَمْلِكَ الْهِبَةَ فَمَتَى أَقْدَمَ عَلَى الْقَبْضِ كَانَ ذَلِكَ إقْدَامًا عَلَى الْقَبُولِ وَرِضًا مِنْهُ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لَهُ فَمَلَكَهُ
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْقَبُولُ مِنْهُ نَصًّا بَعْدَ إيجَابِ الْوَاهِبِ يَقَعُ الْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَبْضِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَوَهُّمِ الضَّرَرِ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَيْضًا فِي مَبْسُوطِهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ سَاكِنًا فِي دَارٍ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةٍ قَالَ نَعَمْ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ فَلَأَنْ يَنُوبَ قَبْضُ الْإِجَارَةِ وَفِي قَبْضِ الْإِجَارَةِ زِيَادَةُ ضَمَانٍ لَيْسَ فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ) كَذَا هُوَ بِخَطِّ الشَّارِحِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ. اهـ. .
(قَوْلُهُ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي رَجُلٌ رَهْنَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِتَمَامِ الْهِبَةِ، وَقَدْ فُقِدَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا يَدَ الْأَبِ فِيمَا يَهَبُهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ يَدِ الِابْنِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَهَا هُنَا الْيَدُ لِلْمُرْتَهِنِ لَا لِلرَّاهِنِ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهَا لِلِابْنِ فَانْعَدَمَ قَبْضُهَا الَّذِي هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْهِبَةِ فَقُلْنَا بِالْفَسَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَوْهُوبُ غَصْبًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَوْ مَقْبُوضًا لِرَجُلٍ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الْيَدَ لِلْوَاهِبِ فَتَنْعَدِمُ يَدُ الصَّغِيرِ تَقْدِيرًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا تَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ أَمَّا هَلْ تَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ
حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِعَدَمِ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَابِضٌ لِنَفْسِهِ وَعَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ وَهَبَ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ دَارًا وَالْأَبُ سَاكِنُهَا وَمَتَاعُهُ فِيهَا جَازَتْ الْهِبَةُ وَمَلَكَهَا الِابْنُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَهِبَتُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ وَسُكْنَاهُ وَمَتَاعُهُ فِيهَا لَا يُنَافِي يَدَهُ بَلْ يُقَرِّرُهَا فَتَكُونُ هِيَ فِي قَبْضِهِ وَهُوَ الشَّرْطُ
وَلَوْ كَانَ يَسْكُنُهَا غَيْرُهُ بِأَجْرٍ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَجْرٍ جَازَتْ الْهِبَةُ وَمَلَكَهَا الِابْنُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى، وَكَذَا لَوْ وَهَبَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي يَدِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَيْسَ لَهُ وَصِيٌّ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِمَنْ فِي يَدِهِ ضَرْبُ وِلَايَةٍ حَتَّى كَانَ لَهُ تَأْدِيبُهُ وَتَسْلِيمُهُ فِي صِنَاعَةٍ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ النَّافِعَ فَيَنْفَرِدُ بِتَمْلِيكِهِ وَيَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْوَاهِبِ كَمَا فِي الْأَبِ وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالْهِبَةِ. قَالَ رحمه الله (وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ يَتِمُّ بِقَبْضِ وَلِيِّهِ)؛ لِأَنَّ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَقَبْضُ الْهِبَةِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ لِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ هُوَ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الْقَبْضِ إلَّا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ.
قَالَ رحمه الله (وَأُمِّهِ وَأَجْنَبِيٍّ لَوْ فِي حِجْرِهِمَا) أَيْ تَتِمُّ بِقَبْضِ أُمِّهِ وَبِقَبْضِ أَجْنَبِيٍّ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ النَّافِعِ لَهُ، وَتَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ أَوْفَرِ الْمَنَافِعِ فَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ لِثُبُوتِ يَدِهِمْ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانُوا أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَتَحْصِيلُ الْمَالِ لَهُ مِنْ ضَرُورَاتِ حِفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَادَةً إلَّا بِقَوْتٍ وَمَلْبُوسٍ فَقَامُوا فِي هَذَا مَقَامَ الْوَلِيِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا.
قَالَ رحمه الله (وَبِقَبْضِهِ إنْ عَقَلَ) أَيْ تَتِمُّ بِقَبْضِ الصَّبِيِّ نَفْسِهِ إنْ كَانَ مُمَيِّزًا يَعْقِلُ التَّحْصِيلَ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ النَّافِعِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ أُلْحِقَ بِالْبَالِغِ الْعَاقِلِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِعَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ قَبْضُ غَيْرِهِ لَهُ حَتَّى الْأَجْنَبِيُّ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ بِعَقْلِهِ وَجُعِلَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَمَا نَفَذَ عَلَيْهِ تَصَرُّفُ غَيْرِهِ وَلَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلَيْهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ عَقْلُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِهِ نَظَرُهُ فِي عَوَاقِبِ أُمُورِهِ لِعَدَمِ اعْتِدَالِ عَقْلِهِ فَإِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ نَافِعًا مَحْضًا تَعَيَّنَ النَّظَرُ فِي نُفُوذِهِ فَيَنْفُذُ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الضَّارِّ لِأَجْلِهِ وَالتَّوَقُّفُ فِي الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ لِأَجْلِهِ حَتَّى يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ إنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ النَّافِعُ نَظَرًا لَهُ، وَجَازَ تَصَرُّفُ الْوَلِيِّ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَظَرًا لَهُ أَيْضًا حَتَّى يَنْفَتِحَ لَهُ سَبَبُ تَحْصِيلِ النَّفْعِ بِطَرِيقَيْنِ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ أَنْ تَثْبُتَ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ لِغَيْرِهِ نَظَرًا لَهُ ثُمَّ يُرَدُّ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا النَّفْعِ الْمَحْضِ وَلَا مِنْ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ بِالتَّمْيِيزِ وَالِاخْتِيَارِ.
قَالَ رحمه الله (وَيَجُوزُ قَبْضُ زَوْجِ الصَّغِيرَةِ مَا وَهَبَ لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ) لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا وَقَبَضَ الْهِبَةَ مِنْهُ، وَلَوْ قَبَضَهُ لِأَبٍ أَيْضًا صَحَّ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَلَكَهُ الزَّوْجُ مِنْ جِهَتِهِ بِتَمْلِيكِهِ، وَلِهَذَا مَلَكَهُ وَالْأَبُ حَاضِرٌ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ حَيْثُ لَا يَمْلِكَانِهِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ غِيبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ كَانَ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ حُضُورِهِ وَتَمْلِكُهُ هِيَ أَيْضًا إنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً لِمَا بَيَّنَّا وَاشْتَرَطَ الزِّفَافَ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعُولُهَا وَذَلِكَ بَعْدَ الزِّفَافِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فِي الصَّحِيحِ.
قَالَ رحمه الله (وَلَوْ وَهَبَ اثْنَانِ دَارًا لِوَاحِدٍ صَحَّ) لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا لَهُ جُمْلَةً وَهُوَ قَبَضَهَا مِنْهُمَا كَذَلِكَ فَلَا شُيُوعَ. قَالَ رحمه الله (لَا عَكْسُهُ) أَيْ لَا يَجُوزُ عَكْسُهُ وَهُوَ أَنْ يَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الشُّيُوعُ فَصَارَ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْهِبَةِ حَتَّى امْتَنَعَ رَهْنُ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَفْسُدُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ فَصَارَتْ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَهُ أَنَّهُ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا جَازَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ لَمَا جَازَ فَيَنْصَرِفُ قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى نَصِيبِهِ فَقَطْ وَهُوَ شَائِعٌ فَيَكُونُ الْقَبْضُ نَاقِصًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي هِبَةِ نَصِيبِهِ لِشَرِيكِهِ أَوْ مَعْدُومًا إذْ قَبْضُ الشَّائِعِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يَجُوزُ وَلَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ النَّاقِصَ هُوَ الْمَانِعُ عَلَى مَا بَيَّنَّا دُونَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهَبْته لَهُ قَبِلْته وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا كَقَوْلِنَا، وَقَالَ مَالِكٌ لَوْ وَهَبَهُ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالْأَثْمَانِ لَمْ تَتِمَّ إلَّا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَيُشْهَدْ عَلَيْهِ وَعِنْدَ الْقَاضِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا قَالَهُ الْكَاكِيُّ اهـ وَفِي الْمَبْسُوطِ وَهَبَ لِابْنِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي يَدِهِ جَازَ ذَلِكَ، وَقَبْضُ الْأَبِ يَكْفِي بِلَا قَبُولِ الْأَبِ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ جُحُودِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ إدْرَاكِهِ وَفِي الذَّخِيرَةِ تَصِحُّ الْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْأَبِ إذْ كُلُّ عَقْدٍ يَتَوَلَّاهُ الْوَاحِدُ يَكْفِي فِيهِ الْإِيجَابُ كَبَيْعِ الْأَبِ مَالَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَرْسَلَ غُلَامَهُ فِي حَاجَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ وَهَبَهُ مِنْ وَلَدِهِ صَحَّتْ إذْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ هُوَ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ الْعَبْدُ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ فَالْعَبْدُ لِلْوَلَدِ وَلَا يَصِيرُ مِيرَاثًا، وَكَذَا لَوْ وَهَبَ عَبْدًا آبِقًا لَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَمَا دَامَ مُتَرَدِّدًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَجُوزُ الْهِبَةُ وَالْأَبُ قَابِضٌ لَهُ بِنَفْسِ الْهِبَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَمَلَكَهَا الِابْنُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَهَبْتُهَا) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ. اهـ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي ظَهِيرِ الدِّينِ وَلَوْ اتَّخَذَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ ثِيَابًا، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَلَدٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَقْتَ الِاتِّخَاذِ أَنَّهُ عَارِيَّةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْبَابِ التَّعَارُفُ وَفِي التَّعَارُفِ يُرَادُ بِهَذَا الْبِرُّ وَالصِّلَةُ