الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِهِ مَصْلَحَةٌ فَيُجِيزُهُ الْوَلِيُّ أَوْ الْمَوْلَى إنْ رَأَى فِيهِ ذَلِكَ كَعَقْدِ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ الْفُضُولِيُّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا فِي الْبَيْعِ مُسْتَقِيمٌ، وَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي قُلْنَا إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ نَفَاذًا كَشِرَاءِ الْفُضُولِيِّ وَهُنَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ لِتَضَرُّرِ الْمَوْلَى فَيُوقَفُ الْكُلُّ. قَالَ رحمه الله (وَإِنْ أَتْلَفُوا شَيْئًا ضَمِنُوا) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِمْ فِي حَقِّ الْأَفْعَالِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَتْلُ غَيْرَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعُ غَيْرَ الْقَطْعِ فَاعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَوُجُودِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَهِيَ الذِّمَّةُ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَلَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ كَالْمُعْسِرِ لَا يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ إلَّا إذَا أَيْسَرَ وَكَالنَّائِمِ لَا يُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ النَّوْمِ.
قَالَ رحمه الله (وَلَا يَنْفُذُ إقْرَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَقْوَالِ بِالشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَقَبِلَ الشَّارِعُ شَهَادَةَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَأَمْكَنَ رَدُّهُ فَيُرَدُّ نَظَرًا لَهُمَا بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ فَلَا مَرَدَّ لَهُ حَتَّى لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْحَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ أَيْضًا إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. قَالَ رحمه الله (وَيَنْفُذُ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَلَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ)؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَوْلَى لِمَا أَنَّهُ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَإِقْرَارُ الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يُقْبَلُ، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ الْمَانِعُ فَيُتَّبَعُ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ عَنْ أَهْلِيَّةٍ.
قَالَ رحمه الله (وَلَوْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قَوَدٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِيَّةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِهِمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ حَقُّهُ وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى ضَمِنَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْإِقْرَارَ بِالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ قُلْنَا لَمَّا بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّهِمَا يَكُونُ إقْرَارَ الْحُرِّ لَا إقْرَارَ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] يَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فَيَنْفُذُ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْإِقْرَارُ بِالْمَالِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُولٌ أَيْضًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ النَّصَّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى الْحُرِّ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا قُلْنَا يُحْمَلُ الْمَرْوِيُّ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ.
قَالَ رحمه الله (لَا بِسَفَهٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَفَهٍ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَالدَّيْنِ وَالْغَفْلَةِ وَالْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ وَعِنْدَهُمَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَالدَّيْنِ فِي تَصَرُّفَاتٍ لَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالصَّدَقَةِ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهَا كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِالْكُلِّ وَالسَّفَهِ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحِجَا وَالسَّفِيهُ مِنْ عَادَتِهِ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ وَأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا لَا لِغَرَضٍ أَوْ لِغَرَضٍ لَا يَعُدُّهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ غَرَضًا مِثْلُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْمُغَنِّي وَاللَّعَّابِ وَشِرَاءِ الْحَمَامِ الطَّيَّارَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ وَالْغَبَنِ الْفَاحِشِ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ غَيْرِ مَحْمَدَةٍ وَأَصْلُ الْمُسَامَحَاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ مَشْرُوعٌ وَالْإِسْرَافُ حَرَامٌ كَالْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5].
فَهَذَا نَصٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] وَهَذَا نَصٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ وَأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي الْجِهَادِ وَالضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى دَارًا لِلضِّيَافَةِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَآتِيَن عُثْمَانَ وَلَأَسْأَلَنَّهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَاهْتَمَّ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَ إلَى الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَشْرِكْنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنهما
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ إذَا تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ أَوْ الْمَعْتُوهُ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ إذَا تَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى حَتَّى يَرَى الْوَلِيُّ أَوْ الْمَوْلَى رَأْيَهُ فِيهِ إنْ رَأَى النَّفْعَ فِي النَّقْضِ نَقَضَ. اهـ. .
[إقْرَار الصَّبِيّ وَالْمَجْنُون فِي الْحَجَر]
(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُبْقًى إلَخْ) وَقَالَ زُفَرُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ يَلْزَمُ مِنْهُ إتْلَافُ مَالِ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْآدَمِيَّةِ وَالْقِصَاصُ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ، وَكَذَا إيجَابُ الْحَدِّ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ سَفْكَ دَمِهِ وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِدَمِهِ وَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِدَيْنٍ إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ وَلَيْسَ بِمُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُ زُفَرَ مَنْقُوضٌ بِإِقْرَارِهِ بِالرِّدَّةِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ وَيُقْتَلُ وَإِنْ لَزِمَ إتْلَافُ مَالِ الْمَوْلَى وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَزِمَهُ فِيمَا إذَا كَانَ كَبِيرًا أَمَّا إذَا كَانَ صَغِيرًا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِقَوْلِهِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
فَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ فَاسْتَدَلَّ بِرَغْبَتِهِ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي تَصَرُّفِهِ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِهَذَا السَّبَبِ وَأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهَا كَانَ لَهَا رِبَاعٌ فَهَمَّتْ بِبَيْعِ رِبَاعِهَا لِلتَّصَدُّقِ بِالثَّمَنِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَأَنْهَيَنَّ عَائِشَةَ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا لِلتَّصَدُّقِ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ وَاجِبٌ حَقًّا لِإِسْلَامِهِ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ لَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَالْحِكْمَةُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ، وَهَذَا قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مَالُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إجْمَاعًا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ وَمَنْعُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ يُتْلِفُهُ بِلِسَانِهِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا «قِيلَ لَهُ اُحْجُرْ عَلَيْهِ»
وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ كَامِلُ الْعَقْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ بِخِلَافِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ فَإِنَّهُمَا نَاقِصَا الْعَقْلِ وَلِهَذَا لَمْ يُكَلَّفَا فَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ لَكَانَ رَفْعُ التَّكْلِيفِ أَنْظَرَ لَهُ فَحَيْثُ كَلَّفَهُ الشَّارِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ لَهُ فَكَيْفَ يَنْظُرُ لَهُ وَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ وَالتَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَقِلَّةِ تَدْبِيرِهِ مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ وَمُتَابِعًا لِهَوَاهُ وَلِأَنَّ فِي حَجْرِهِ إلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ وَإِهْدَارَ آدَمِيَّتِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ وَلَا يَتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ.
وَذَلِكَ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ بِأَنْ يَسْقِيَهُمْ دَوَاءً مُهْلِكًا أَوْ إذَا قَوِيَ عَلَيْهِمْ الدَّوَاءُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةِ ضَرَرِهِ وَكَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَهُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعَوَامَّ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ كَتَعْلِيمِ الِارْتِدَادِ لِتَبِينَ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ لِتَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ وَلَا يُبَالِي بِمَا يُفْعَلُ مِنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ أَوْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَكَالْحَجْرِ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْكِرَاءَ وَيُؤَجِّرُ الْجِمَالَ وَلَيْسَ لَهُ جَمَالٌ وَلَا ظُهْرٌ يَحْمِلُ عَلَيْهَا وَلَا لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ الدَّوَابَّ وَالنَّاسُ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُونَ الْكِرَاءَ إلَيْهِ وَيَصْرِفُ هُوَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ فِي حَاجَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْخُرُوجِ يَخْتَفِي فَتَذْهَبُ أَمْوَالُ النَّاسِ وَتَفُوتُ حَاجَتُهُمْ مِنْ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْخَاصِّ وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ فِي الْعُقُوبَةِ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَتْلَفُ بِتَصَرُّفَاتِهِ بِأَنْ لَا يَهْتَدِيَ إلَيْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ فَيُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ فَيَخْسَرُ أَوْ بِالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ أَوْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالشَّرِّ وَيُطْعِمَهُمْ وَيَسْقِيَهُمْ وَيُسْرِفَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُسْلَمْ إلَيْهِ مَالُهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] أَمْوَالُنَا لَا أَمْوَالُ السُّفَهَاءِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنْ نُطْعِمَهُمْ وَنَكْسُوهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَلَا نُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الذَّرَارِيِّ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ إذَا سُلِّمَ إلَيْهِمْ الْمَالُ ضَيَّعُوهُ.
هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَيْثُ أُضِيفَ الْمَالُ إلَيْنَا لَا إلَى السُّفَهَاءِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَمْوَالَهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الصِّغَارَ وَالْمَجَانِينَ فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الصِّغَارَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ تُبَادِرُونَ كِبَرَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلَا يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ بَعْدَ الْكِبَرِ وَهُوَ الْبُلُوغُ فَتُنْزَعُ الْأَمْوَالُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِالْكِبَرِ وَهَذَا يَشْهَدُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ بِالْكِبَرِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282] الْآيَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْخَفِيفُ لُغَةً وَذَلِكَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ كَالصَّبِيِّ أَوْ بِعَدَمِهِ كَالْمَجْنُونِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ تَزَوَّجَ تَصِحُّ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ تَصَرُّفَاتُهُ أَصْلًا لِسَلْبِ وِلَايَتِهِ، فَإِذَا صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي النَّفْسِ وَهِيَ الْأَصْلُ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ التَّبَعُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَنَقُولُ هَذَا حُرٌّ مُخَاطَبٌ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيذِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَنْحَجِرُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصْلِحِ لِمَالِهِ وَعَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَعَلَى تَصَرُّفٍ يَتَّصِلُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حُرًّا مُخَاطَبًا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَلِيلُ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَالْعَقْلُ دَلِيلٌ (قَوْلُهُ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ) أَيْ لَا خِدَاعَ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَقُلْ «لَا خِيَابَةَ» بِالْيَاءِ كَأَنَّهَا لُثْغَةٌ مِنْ الرَّاوِي أَبْدَلَ اللَّامَ يَاءً. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ رحمه الله.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمَعْتُوهِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْتُوهَ الْبَالِغَ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ أَمْ لَا فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مَالَ إلَى الْوُجُوبِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ مَالَ إلَى السُّقُوطِ اهـ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحَاشِيَةُ قَبْلَ هَذِهِ بِسِتَّةِ قَوْلَاتٍ فِي قَوْلِهِ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ إلَخْ فَانْظُرْهُ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ هُنَاكَ (قَوْلُهُ وَكَالْحَجَرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ) ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ وَالْمُفْتِي الْجَاهِلُ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا عَامٌّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ الْمَاجِنِ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي الْجَمْهَرَةِ مَجَنَ الشَّيْءُ يَمْجُنُ مُجُونًا إذَا صَلُبَ وَغَلُظَ وَقَوْلُهُمْ رَجُلٌ مَاجِنٌ كَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ غِلَظِ الْوَجْهِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مَحْضٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
وَالصَّغِيرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَمْيِيزٌ أَوْ نَقُولُ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُ السَّفِيهِ فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ هُوَ الَّذِي لَزِمَهُ بِمُدَايَنَةِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] ثُمَّ قَالَ {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] يَعْنِي الْحَقَّ الَّذِي لَزِمَهُ بِتِلْكَ الْمُدَايَنَةِ ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} [البقرة: 282] أَيْ الْحَقُّ الَّذِي لَزِمَهُ بِمُدَايَنَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ لَزِمَهُ بِمُعَامَلَتِهِ، ثُمَّ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْإِمْلَالِ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِ إلَى الْحِسَابِ أَوْ لِقِلَّةِ مُمَارَسَتِهِ بِالْإِمْلَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَصَاحَةٍ وَتَأْلِيفِ كَلَامٍ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُمِلَّ عَنْهُ غَيْرُهُ بِإِخْبَارِهِ هُوَ وَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يُؤَلِّفُ كَلَامًا يُمِلُّهُ وَإِنَّمَا يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ يُؤَلِّفُ غَيْرَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ دَلِيلٌ لَنَا؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه امْتَنَعَ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَعَ سُؤَالِ عَلِيٍّ وَكَلَامُ عَلِيٍّ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ لَهُ.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها دَلِيلٌ لَنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَهَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمَا اسْتَجَازَتْ هَذَا الْحَلِفَ مِنْ نَفْسِهَا مُجَازَاةً عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تُفْنِيَ مَالَهَا فَتُبْتَلَى بِالْفَقْرِ فَتَصِيرُ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهَا وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ نِسْبَةِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ إلَى الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - لَا سِيَّمَا مِثْلَ عَائِشَةَ وَهِيَ أَكْرَمُ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الرِّجْسِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ التَّبْذِيرُ وَالْمُبَذِّرُونَ إخْوَانُ الشَّيَاطِينِ وَمَا الْقَائِلُ لِذَلِكَ إلَّا مُكَابِرٌ نَفْسَهُ وَجَاحِدٌ لِلنُّصُوصِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ وَالنُّصْحِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» ، وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا لَحَجَرَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه «فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُحْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ، وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَدَعَاهُ فَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ فَقَالَ إنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ لِلْبَيْعِ فَقُلْ هَاءَ وَهَاءَ وَلَا خِلَابَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْحَجْرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَأَنَّ نَهْيَهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ عَزِيمَةً لَمَا وَسِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ وَلَا كَانَتْ بِيَاعَاتُهُ تَلْزَمُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ مُنْقِذًا سُفِعَ فِي رَأْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَأْمُومَةً فَحَبَلَتْ لِسَانَهُ فَكَانَ إذَا بَايَعَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَايِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَسَمِعْته يُبَايِعُ وَيَقُولُ لَا خِلَابَةَ لَا خِدَابَةَ» رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ «رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ فَكَانَ لَا يَدَعُ عَلَى ذَلِكَ التِّجَارَةَ وَكَانَ لَا يَزَالُ يُغْبَنُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ إذَا أَنْتَ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ إنْ رَضِيت فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْت فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى.
ثُمَّ لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَرَفَعَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ إطْلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْأَوَّلِ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ بِالْقَضَاءِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ يَعْنِي حَتَّى يَلْزَمَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَنْ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَوْجُودًا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَتَأَكَّدُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنْقَضُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ فَبِالْقَضَاءِ يَحْصُلُ الِاخْتِلَافُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ آخَرَ لِيَصِيرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لِقَضَائِهِ بَعْدَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ وَهَذَا مَعْنَاهُ وَلَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ هُنَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله يَرَى حَجْرَهُ بِنَفْسِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَالْمُبَذِّرُونَ إخْوَانُ الشَّيَاطِينِ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ الشَّيْطَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الْإِصَابَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْقِصَّةِ هَلْ وَقَعَتْ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ أَوْ لِأَبِيهِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو. اهـ. (قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ) أَيْ حَتَّى لَوْ رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ وَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ. اهـ. هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ اهـ.
(قَوْلُهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله يَرَى حَجْرَهُ بِنَفْسِ السَّفَهِ) كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ مِنْ الشَّرْحِ اهـ قَالَ الصَّدْرُ الْكَبِيرُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْأَجَلُّ صَاحِبُ الْمُحِيطِ الْكَبِيرِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَهْلٍ الْمَعْرُوفِ بِمَازَهْ فِي طَرِيقَتِهِ الْمُطَوَّلَةِ: الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ لِمَالِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ ثُمَّ إنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ السَّفِيهَ إذَا بَلَغَ بَلَغَ مَحْجُورًا أَوْ مُطْلَقًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَ مَحْجُورًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْلُغُ مُطْلَقًا وَيَحْتَاجُ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ الْمَالُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُمْنَعُ عَنْهُ مَا دَامَ السَّفَهُ قَائِمًا إلَى هُنَا لَفْظُ الطَّرِيقَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
السَّفَهِ وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ أَصْلًا فَيَصِيرُ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَضَاءً بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَيَتَأَكَّدُ قَوْلُهُ بِالْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا لَا يَنْفُذُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَجُوزُ فَيَحْصُلُ الِاخْتِلَافُ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَرْتَفِعُ حَتَّى يُحْكَمَ بِجَوَازِ هَذَا الْقَضَاءِ.
قَالَ رحمه الله (فَإِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ إنْ بَلَغَ الْمُدَّةَ مُفْسِدًا) أَيْ إنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَالَهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنِسَ مِنْهُ الرُّشْدَ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ أَبَدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] نَهَانَا عَنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا وَأَمَرَنَا بِالدَّفْعِ إنْ وُجِدَ مِنْهُ الرُّشْدُ إذْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَلِأَنَّ مَنْعَ مَالِهِ لِعِلَّةِ السَّفَهِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ مَا بَقِيَتْ الْعِلَّةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ سُمِّيَ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَلِأَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرْنَاهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ حَالُ كَمَالِ لُبِّهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ أَهْلُ الطَّبَائِعِ مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا؛ لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهِ الْغُلَامُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً فَيُولَدُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي أَثْنَى عَشْرَةَ سَنَةً فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا حَتَّى لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ مُبَذِّرًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ مَالُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ وَلِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا السِّنَّ فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَالِ بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى مَنْعُ أَمْوَالِنَا لَا أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِيهَا تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ عَلَى أَصْلِنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ فَعِنْدَهُمَا إذَا بَاعَ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْحَجْرِ عَدَمُ النُّفُوذِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَوْقُوفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.
فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ فِيهِ مَصْلَحَةً أَجَازَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ عَاقِلٌ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَضُرُّهُ كَالْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْغَبْنِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّفَهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِيلَةً مِنْهُ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، فَإِذَا تَرَدَّدَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْجُنُونِ وَالصِّغَرِ وَالْعَتَهِ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ بِالسَّفَهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِالْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ؛ لِأَنَّ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِبْقَاءُ مِلْكِهِ نَظَرٌ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ لِيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ السَّفَهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ حَتَّى يُحْكَمَ بِجَوَازِ هَذَا الْقَضَاءِ) أَيْ يَحْكُمُ بِجَوَازِهِ قَاضٍ آخَرُ.
. اهـ. (قَوْلُهُ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ عَنْهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اهـ قَوْلُهُ لَا يُمْنَعُ الْمَالُ عَنْهُ أَيْ خِلَافًا لَهُمَا كَمَا سَيَجِيءُ آخَرَ هَذِهِ الصَّفْحَةِ فِي الشَّرْحِ فِي قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا بَلَغَ إلَخْ اهـ وَقَدْ تَأْتِي فِي هَذَا الْمُجَرَّدِ بَعْدَ ثَلَاثِ قَوْلَاتٍ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَرَادَ بِالتَّفْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا بَاعَ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا لَمْ يَرَ الْحَجْرَ جَائِزًا نَفَذَ بَيْعُ السَّفِيهِ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ أَوْ لَا وَهُمَا لَمَّا رَأَيَا الْحَجْرَ جَائِزًا وَرَدَ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَانْعَقَدَ بَيْعُ السَّفِيهِ وَلَمْ يَنْفُذْ فَإِنْ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ نَفَذَ كَمَا فِي بَيْعِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةٌ بِأَنْ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ إلَّا أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلَكُ فِي يَدِ الْمَحْجُورِ فَإِنَّهُ لَا يُجِيزُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَحْجُورِ فِي إجَازَةِ هَذَا الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ يَحْصُلُ لَهُ وَقْتَ الْإِجَازَةِ كَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَاعَ وَفِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ إلَّا أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي قَبَضَهُ يَهْلِكُ فِي يَدِهِ لَا يُجِيزُهُ الْقَاضِي وَلَا نَظَرَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ فِي الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْزِ لَمْ يَضْمَنْ مَا هَلَكَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَيَحْصُلُ لَهُ الْمَبِيعُ وَمَتَى أَجَازَ يَزُولُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ الثَّمَنُ كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ قَالَ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مَحْجُورًا بِدُونِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ السَّفَهُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ سَفَهٍ وَرُشْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَكِنْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى انْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهِ، وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ حَجْرِ السَّفِيهِ حَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَبَيْنَ حَجْرِ الْمَدْيُونِ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي هُوَ أَنَّ حَجْرَ السَّفِيهِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ سُوءُ اخْتِيَارِهِ لَا لِحَقِّ الْغَيْرِ فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ وَثَمَّةَ يَنْحَجِرُ بِنَفْسِ الْجُنُونِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَذَا هُنَا فَأَمَّا الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَلَيْسَ لِمَعْنًى فِيهِ بَلْ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ حَتَّى لَا يَتْلَفَ حَقُّهُمْ بِتَصَرُّفِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَيْهِ فَيَعْمَلُ حَجْرُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْجَاهِزِينَ) بِالزَّايِ اهـ
وَالْجَامِعُ أَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ هُنَا بِخِلَافِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَ الْغَيْرَ حَتَّى لَا يَنْوِيَ مَالَ الْغُرَمَاءِ وَهُمْ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْنَعُوهُ وَلِلْقَاضِي عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَائِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى طَلَبِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ أَوْ أَبْرَءُوهُ أَوْ أَوْفَاهُمْ حَقَّهُمْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَتَقَ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يَعْتِقُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ حَجْرِهِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ كَالْهَازِلِ فَإِنَّ الْهَازِلَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِ اللَّعِبِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكَذَا السَّفِيهُ يَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكُلُّ كَلَامٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ وَالْعِتْقُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَنْفُذُ مِنْ السَّفِيهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْحَجْرُ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِالرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذَ بَعْدَ الْحَجْرِ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ كَالْعَبْدِ وَإِذَا نَفَذَ عِنْدَهُمَا فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِغُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ ثُمَّ هُنَاكَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِغُرَمَائِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَتَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهِ فَيَجِبُ نَقْضُهُ مَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ فَكَذَا هُنَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَيْسَ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَعَى يَسْعَى لِمُعْتَقِهِ وَالْمُعْتَقُ لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ مُعْتِقِهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُدَبَّرِ فَيَعْتَبِرُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ فِي التَّدْبِيرِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ التَّدْبِيرِ مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَيَسْتَخْدِمُهُ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا فَتَعَذَّرَ إيجَابُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ بِمَالٍ وَقَبِلَ الْعَبْدُ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَالُ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ وَلِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاتِهِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَاقَاهُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَإِنْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّ الِاسْتِيلَادِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ وَصِيَانَةِ مَائِهِ وَيَلْتَحِقُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَرِيضِ الْمَدْيُونُ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ أَمَتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى إنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ وَلَا تَسْعَى هِيَ وَلَا وَلَدُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَلَدَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَقَالَ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا، فَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي كُلِّ قِيمَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ فَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لَهَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ.
وَكَذَا فِي رَفْعِ حُكْمِ الْحَجْرِ فِي تَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ؛ لِأَنَّهَا لَا شَاهِدَ لَهَا فَإِقْرَارُهُ لَهَا بِحَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لَهَا بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ، فَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَبَطَلَ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ وُجُوبِ الْمَهْرِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ صِحَّتِهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بِالتَّسْمِيَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْمَالِ وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ فِي مِقْدَارِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْحَجِرُ بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْحَجِرُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي. اهـ. غَايَةٌ. هَذِهِ الْقَوْلَةُ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا وَذَلِكَ قَبْلَ ثَلَاثِ قَوْلَاتٍ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَتَقَ عِنْدَهُمَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَإِنَّمَا خَصَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى أَصْلِهِمَا لَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إعْتَاقُ السَّفِيهِ كَإِعْتَاقِ الْمُصْلِحِ لَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ الْمُكَلَّفِ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا السِّعَايَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا فَلِهَذَا قَالَ نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا وَكَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَوُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ثُمَّ قَالَ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ) وَفِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا سِعَايَةَ مُوَافِقٌ لِمَا مَشَى عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكَاكِيُّ. اهـ. (قَوْلُهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا) أَيْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ السِّعَايَةِ عَلَى عَبْدِهِ لَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَعَى لَهُ سَعَى لَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ لَهُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا) أَيْ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتِقًا إيَّاهُ وَهُوَ مُدَبَّرٌ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا) أَيْ فِي غَيْرِ سِعَايَةٍ اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَبَطَلَ الْفَضْلُ) وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصَرُّفُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْمُصْلِحِ فَلَا يَبْطُلُ الْفَضْلُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ أَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَتَخْرُجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَقًّا لِقَرَابَتِهِ وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ النَّاسِ وَلَا حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرَ الزَّكَاةِ لِيُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّتِهِ وَيَدْفَعُ الْقَاضِي مَعَهُ أَمِينًا كَيْ لَا يَصْرِفَهَا إلَى غَيْرِ الْمَصْرِفِ وَيُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إلَى أَمِينِهِ لِيَصْرِفَهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ فَاكْتَفَى فِيهَا بِفِعْلِ الْأَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ وَحَنِثَ أَوْ نَذَرَ نَذْرًا مِنْ هَدْيٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ وَيُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَغَيْرَهَا بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ.
وَلَوْ فُتِحَ لَهُ هَذَا الْبَابُ لِيَذَرَ أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بِخِلَافِ مَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَإِنْ أَرَادَ حِجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا صُنْعٌ، وَفِي الْفَرَائِضِ هُوَ مُلْحَقٌ بِالْمُصْلِحِ؛ إذْ لَا تُهْمَةَ فِيهِ وَلَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إلَيْهِ بَلْ يُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ مِنْ الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَعْرُوفِ كَيْ لَا يُبَذِّرَ وَلَا يُسْرِفَ، وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ؛ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ فَصَارَتْ كَالْحَجِّ تَطَوُّعًا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَيُمْكِنُ مِنْهَا احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ إنْشَاءِ السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ وَالْمُؤْنَةُ تَقِلُّ فِيهِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسُوقَ بَدَنَةً تَحَرُّزًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَا يُجَوِّزُ إلَّا الْبَدَنَةَ وَإِنْ جَنَى فِي إحْرَامِهِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ أَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَذْهَبُهُمَا فَإِنَّهُ يَتَسَفَّهُ فِي هَذَا وَيُتَصَوَّرُ السَّفَهُ عَادَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَحْجُرَانِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ السَّفَهُ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ الْمُعْتَادَ مَا يَحْصُلُ بِهِ نَوْعُ غَرَضٍ صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ إلَيْهِ لَذَّةٌ أَوْ رَاحَةُ غَرَضٍ وَبَعْدَ الدُّخُولِ إنْ تَحَقَّقَ غَرَضٌ لَكِنَّهُ مَحْصُورٌ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ الْمُجَاوَزَةُ عَنْ حَدِّهِ وَالسَّفَهُ مُجَاوَزَةٌ عَنْ الْحَدِّ فِي كُلِّ بَابٍ أَوْ يُقَالُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِعُذْرِ السَّفَهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ رَدِّهِ أَنْ يُلْحِقَهُ بِالْهَازِلِ وَالْهَازِلُ وَالْجَادُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى السَّفِيهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفْسُدُ ذَلِكَ وَلَا يَصْرِفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَلَكِنْ يَدْفَعُهُ إلَى أَمِينِهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ الْمَحْجُورُ بِأَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَتَأَدَّى مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ اهـ.
(قَوْلُهُ يَبْعَثُ الْقَاضِي) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ وَيَدْفَعُ الْقَاضِي. اهـ. (قَوْلُهُ وَيُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ) أَيْ نَفَقَةَ وَلَدِ السَّفِيهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَيُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَغَيْرَهَا بِالصَّوْمِ) يَصُومُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ اهـ غَايَةٌ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ رحمه الله ثُمَّ عِنْدَهُمَا لَوْ ظَاهَرَ هَذَا الْمُفْسِدُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ عَنْ مَالِهِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارٍ سَعَى الْغُلَامُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافُ مَالِهِ وَاجِبُ النَّقْضِ ثُمَّ لَا يَجْزِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ بِالصَّوْمِ لِمَا قُلْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ الْمُصْلِحَ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ سَعَى الْغُلَامُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِلسِّعَايَةِ الَّتِي وَجَبَتْ كَذَا هَذَا فَإِنْ صَامَ الْمُفْسِدُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ ثُمَّ صَارَ مُصْلِحًا لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقُ بِمَنْزِلَةِ مُعْسِرٍ أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ حِينَئِذٍ فَصَارَ قَادِرًا عَلَى الْإِعْتَاقِ بِلَا سِعَايَةٍ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمَا جُعِلَ خَلَفًا فِي الْكَفَّارَةِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْخَلَفِ كَذَا فِي شَرْحِ الْكَافِي اهـ.
(قَوْلُهُ بَلْ يُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ) وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّفِيهِ إلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُعْطِيهِ الزَّكَاةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ كَيْ لَا يَفْسُدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ ضَاعَ مِنِّي فَيُطْلَبُ آخَرُ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى مَالِهِ وَلَكِنْ يَدْفَعُ إلَى أَمِينِهِ حَتَّى يُعْطِيَ الْفُقَرَاءَ بِأَمْرِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(فَرْعٌ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ لَا يُصَدَّقُ السَّفِيهُ فِي إقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ إذَا كَانَ رَجُلًا إلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ وَالْمُصْلِحَ فِي حَقِّ إثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ وَالْمُصْلِحُ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَكَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَتْ الْمُفْسِدَةُ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالْوَالِدِ وَالزَّوْجِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَلَا تُصَدَّقُ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى غَيْرِهَا فِي الْوَلَدِ وَهِيَ وَالْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، ثُمَّ إذَا صُدِّقَ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ إنْ ثَبَتَ عُسْرُ هَؤُلَاءِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُمْ بِالْبَيِّنَةِ وَلَكِنَّ السَّفِيهَ أَقَرَّ بِعُسْرِهِمْ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ وَالْعُسْرِ فَيُضَافُ الِاسْتِحْقَاقُ إلَى آخِرِهِمَا ثُبُوتًا وَمَتَى كَانَ الْعُسْرُ ثَابِتًا وَآخِرُهُمَا ثُبُوتًا النَّسَبُ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِالنَّسَبِ لَا بِالْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ جَائِزٌ فَإِذَا أَقَرَّ بِالْعُسْرِ بَعْدَ النَّسَبِ يَكُونُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ مُضَافًا إلَى الْعُسْرِ وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ فَقَدْ جُعِلَ مُقِرًّا بِإِيجَابِ مَالٍ عَلَى نَفْسِهِ لَا بِالنَّسَبِ فَلَا يُصَدَّقُ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ لِلْمَرْأَةِ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِيمَا مَضَى إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ فَيَصِيرُ مُقِرًّا بِإِيجَابِ دَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ اهـ
يَنْظُرُ إنْ كَانَ جِنَايَةً يَجْزِي فِيهَا الصَّوْمُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ عَنْ أَذًى وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُمَكَّنُ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ جِنَايَةً لَا يَجْزِي فِيهَا الصَّوْمُ كَالْحَلْقِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالتَّطَيُّبِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُ مِنْ التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَالًا أَوْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا، وَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ كَمَا فِي تَبَرُّعَاتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ كَيْ لَا يُتْلِفَ مَالَهُ وَيَبْقَى كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فِيمَا يُتْلِفُ جَمِيعَ مَالِهِ لَا فِيمَا يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَالَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ مَالِهِ، وَفِيهَا مَا فِيهَا مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالذِّكْرِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْجَمِيلِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ مُوَافِقَةً لِوَصَايَا أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ نَحْوَ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَحْسِنُهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْوَصِيَّةِ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَوْقَافِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ.
وَأَمَّا إذَا أَوْصَى بِوَصَايَا يَسْتَقْبِحُهُ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَنْفُذُ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله الْمَحْجُورُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ جَائِزٌ، وَفِي مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَالثَّانِي أَنَّ إعْتَاقَ الْمَحْجُورِ وَتَدْبِيرَهُ وَطَلَاقَهُ وَنِكَاحَهُ جَائِزٌ وَمِنْ الصَّبِيِّ بَاطِلٌ وَالثَّالِثُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَمِنْ الصَّبِيِّ لَا تَجُوزُ وَالرَّابِعُ جَارِيَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَمِنْ الصَّبِيِّ لَا يَثْبُتُ.
قَالَ رحمه الله (وَفِسْقٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ فِسْقٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا بِسَفَهٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَالسَّفِيهِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَى إسْرَافِهِ وَالْفَاسِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَعِنْدَهُمَا حَجْرُ السَّفِيهِ لِلنَّظَرِ لَهُ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَالْفَاسِقُ مُصْلِحٌ لِمَالِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]؛ لِأَنَّ رُشْدًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَتَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ؛ لِأَنَّ الرُّشْدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ دُونَ الْإِصْلَاحِ فِي الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَأَيُّ فِسْقٍ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْفِسْقُ مُوجِبًا لِلْحَجْرِ لَحَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ عَلَى الْكَافِرِ إذْ هُوَ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْفِسْقِ وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ.
قَالَ رحمه الله (وَغَفْلَةٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْغَافِلِ بِسَبَبِ غَفْلَةٍ وَهُوَ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ وَلَا يَقْصِدُهُ لَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ فَيُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالسَّفِيهِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ الْمَحْجُورُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَقَدْ اشْتَغَلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إلَى آخِرِ الْكِتَابِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَذْهَبِهِ فَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَأَجَازَهُ الْحَاكِمُ يَجُوزُ وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ لَيْسَتْ بِبَاطِلَةٍ بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا مَصْلَحَةً فَإِذَا رَأَى الْقَاضِي وُقُوعَهَا مَصْلَحَةً يُجِيزُهَا وَإِلَّا يَرُدُّهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ إلَّا أَنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي خِصَالٍ أَرْبَعَةٍ لَا يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ وَلَا لِأَبِيهِ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ وَلَا يَشْتَرِيَ لَهُ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَفِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَمْلِكُ ذَلِكَ وَصِيُّهُ وَأَبُوهُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَمْلِكُ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ التَّصَرُّفَ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَرِيبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْقَاضِي فَنَقُولُ إنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ عَلَى الْعَاجِزِ وَهَذَا قَادِرٌ وَلَكِنْ مَعَ قُدْرَتِهِ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ تَأْدِيبًا وَتَثْقِيفًا وَوِلَايَةُ التَّأْدِيبِ تَكُونُ لِلْقُضَاةِ وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا جَازَ إعْتَاقُهُ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ.
وَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَلَوْ مَاتَ عَنْهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَإِعْتَاقُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ وَصَايَا الْغُلَامِ الَّذِي قَدْ بَلَغَ مُفْسِدًا مِنْ التَّدْبِيرِ وَغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ قِيَاسًا وَلَكِنْ نَسْتَحْسِنُ أَنَّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ مِنْهَا وَمَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْفِسْقِ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ غَيْرِهِ وَمَا يَكُونُ سَفَهًا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا وَصَايَا الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا تَجُوزُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فَسَادَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَفَسَادُ هَذَا لِسَفَهِهِ فَمَا وَافَقَ الْحَقَّ لَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ فَيَنْفُذُ وَمَا خَالَفَهُ يُرَدُّ، وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنْ مَاتَتْ كَانَتْ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيلَادِ، كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي فَأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ فَقَالَ: يَجُوزُ نِكَاحُ السَّفِيهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَيَجُوزُ طَلَاقُ السَّفِيهِ وَلَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَصَايَا وَادِّعَاءَ الْوَلَدِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخِصَالُ الَّتِي افْتَرَقَ فِيهَا السَّفِيهُ وَالصَّبِيُّ سِتَّةً اهـ.
(قَوْلُهُ وَمِنْ الصَّبِيِّ لَا تَجُوزُ) قَالَ قَارِئُ الْهِدَايَةِ وَمِنْ خَطِّهِ نُقِلَتْ فِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله اهـ مَا نَقَلْته مِنْ خَطِّ قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا كَمَا تَصِحُّ وَصَايَا الْمَحْجُورِ بِالسَّفَهِ تَجُوزُ وَصَايَا الصَّبِيِّ إذَا عَقَلَ مَا يَصْنَعُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ وَلِوَصِيِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ السَّفِيهِ الْبَالِغِ، وَثَانِيهَا أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ السَّفِيهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِلَا إذْنٍ وَثَالِثُهَا أَنَّ طَلَاقَ السَّفِيهِ وَعَتَاقَهُ يَصِحُّ وَفِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَصِحُّ وَرَابِعُهَا يَصِحُّ لِلسَّفِيهِ تَدْبِيرُ عَبْدِهِ وَلِلصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَصِحُّ الْكُلُّ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالْمُغْنِي. اهـ.
صِيَانَةً لِمَالِهِ وَنَظَرًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ مُنْقِذٍ طَلَبُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، قُلْنَا: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ «قُلْ لَا خِلَابَةَ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لَأَجَابَهُمْ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ قُلْنَا: النَّفْيُ لَا يُحَاطُ بِالْعِلْمِ وَلَعَلَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا وَعَدَمُ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فَكَمْ مِنْ وَاقِعَاتٍ لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَمَا نُقِلَ إلَيْنَا مِنْ عَدَمِ إجَابَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لَهُمْ بِالْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
قَالَ رحمه الله (وَدَيْنٍ وَإِنْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ دَيْنٍ، وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَلَا يَتَصَرَّفُ الْحَاكِمُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِالنَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا قَالَ رحمه الله (وَحُبِسَ لِيَبِيعَ مَالَهُ فِي دَيْنِهِ)؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَالْمُمَاطَلَةُ ظُلْمٌ فَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَإِيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَبْسِ الْحَمْلُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ إنْ شَاءَ بِبَيْعِ مَالِهِ وَإِنْ شَاءَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ عَيْنًا، وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ وَمَنَعَهُ مِنْ تَصَرُّفٍ يَضُرُّ بِالْغُرَمَاءِ كَالْإِقْرَارِ وَبَيْعُهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «مُعَاذًا رَكِبَهُ دَيْنٌ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ» وَلِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ كَيْ لَا يَلْحَقَ بِهِمْ الضَّرَرُ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّلْجِئَةِ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ إنْسَانٍ عَظِيمٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِزَاعُ مِنْهُ أَوْ بِالْإِقْرَارِ لَهُ ثُمَّ يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى مَا كَانَ.
وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْإِبَاءِ عَنْ الْإِسْلَامِ قُلْنَا التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْإِبَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَالْبَيْعُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهُ كَالْمَدْيُونِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَجِّرُهُ لِيَقْضِيَ مِنْ أُجْرَتِهِ الدَّيْنَ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَا يَتَزَوَّجُهَا لِيَقْضِيَ دَيْنَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَالْحَبْسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ شَاءَ مِنْ اسْتِقْرَاضٍ وَاتِّهَابٍ وَسُؤَالِ صَدَقَةٍ وَبَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ لَا لِيَبِيعَ فَقَطْ وَلِأَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَوْ جَازَ لِلْقَاضِي لَمَا جَازَ لَهُ حَبْسُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَعْذِيبِ الْمَدِينِ وَتَأْخِيرِ حَقِّ الطَّالِبِ بِلَا فَائِدَةٍ فَيَكُونُ ظَالِمًا وَبَيْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَالَ مُعَاذٌ كَانَ بِإِذْنِهِ اسْتَعَانَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْمُرَهُ وَيَأْبَى وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاشَاهُ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْبَيْعِ التَّرَاضِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا فَكَانَ فِعْلُ الْحَاكِمِ بَاطِلًا.
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَنَفْسُهُ لَا تَطِيبُ بِفِعْلِ الْقَاضِي بِغَيْرِ رِضَاهُ فَصَارَ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ رحمه الله (وَلَوْ مَالُهُ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمَ قَضَى بِلَا أَمْرِهِ)، وَكَذَا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَدِينِ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ، قَالَ رحمه الله (وَلَوْ دَيْنُهُ دَرَاهِمُ وَلَهُ دَنَانِيرُ أَوْ بِالْعَكْسِ بِيعَ فِي دَيْنِهِ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تَعَالَى فَاسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْقَاضِي بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَصَارَ كَالْعُرُوضِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ جِنْسًا فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ وَحُكْمًا أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا رِبَا الْفَضْلِ لِاخْتِلَافِهِمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا وَلَيْسَ لِلْقَاضِي
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ) وَإِنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ حُبِسَ لِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَرِي إلَّا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ. اهـ. قُنْيَةٌ (قَوْلُهُ وَقَالَا إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ إلَخْ) وَلَا يَعْمَلُ الْحَجْرُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ السَّفَهِ حَيْثُ يَعُمُّ الْمَوْجُودَ وَالْحَادِثَ اهـ فَتَاوَى تُمُرْتَاشٍ فِي الْقَضَاءِ (قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ) أَيْ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: التَّلْجِئَةُ أَنْ يُلْجِئَك أَيْ يَضْطَرَّك وَيُكْرِهَك أَمْرٌ إلَى أَنْ تَأْتِيَ أَمْرًا بَاطِنُهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِبَعْضِهِمْ يُمْنَعُ غَرَضُهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا النُّقُودُ فَوَسَائِلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ فَافْتَرَقَا.
قَالَ رحمه الله (وَلَمْ يُبَعْ عَرْضُهُ وَعَقَارُهُ) أَيْ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي عَرْضَ الْمَدِينِ وَعَقَارَهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَبْدَأُ الْقَاضِي بِبَيْعِ النُّقُودِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتَّقَلُّبِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهَا فَيَكُونُ بَيْعُهَا أَهْوَنَ عَلَى الْمَدِينِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بَاعَ الْعُرُوضَ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُعَدُّ لِلتَّقَلُّبِ وَالِاسْتِرْبَاحِ فَلَا يَلْحَقُهُ كَبِيرُ ضَرَرٍ فِي بَيْعِهَا فَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهَا بِالدَّيْنِ بَاعَ الْعَقَارَ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ يُعَدُّ لِلِاقْتِنَاءِ فَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِبَيْعِهِ فَلَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا نَظِيرُ صَرْفِ الدَّيْنِ إلَى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ أَوَّلًا إلَى النَّقْدَيْنِ ثُمَّ إلَى الْعُرُوضِ ثُمَّ إلَى الْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ قَضَاءً وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَبْدَأُ الْقَاضِي بِبَيْعِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى مِنْ عُرُوضِهِ ثُمَّ مَا لَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ مِنْهُ ثُمَّ يَبِيعُ الْعَقَارَ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ نَاظِرًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَدِينِ كَمَا يَنْظُرُ إلَى الدَّائِنِ فَيَبِيعَ مَا كَانَ أَنْظَرَ إلَيْهِ، وَبَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ أَنْظَرُ لَهُ وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً، وَقِيلَ يُتْرَكُ لَهُ دَسْتَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ وَقَالُوا إذَا كَانَ لِلْمَدِينِ ثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَيَكْتَفِي بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَبِيعُ ثِيَابَهُ وَيَقْضِي الدَّيْنَ بِبَعْضِ ثَمَنِهَا وَيَشْتَرِي بِمَا بَقِيَ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّجَمُّلِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ يَبِيعُ ذَلِكَ الْمَسْكَنَ وَيَقْضِي بِبَعْضِ ثَمَنِهِ الدَّيْنَ وَيَشْتَرِي بِالْبَاقِي مَسْكَنًا يَكْفِيهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا رحمهم الله يَبِيعُ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى يَبِيعَ اللِّبَدَ فِي الصَّيْفِ وَالنِّطَعَ فِي الشِّتَاءِ وَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ بِمَالٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ مَالًا لِغَيْرِهِمْ حَيْثُ يُزَاحِمُهُمْ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُسْتَهْلَكِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ وَالْحَجْرُ لَا يَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهُوَ مُشَاهَدٌ فَيُشَارِكُهُمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ شَرْعِيٌّ فَأَمْكَنَ الْحَجْرُ فِيهِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ لِلتُّهْمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ ثَابِتًا عِنْدَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ.
وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ لِصِيَانَةِ مَحَلِّ قَضَاءِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَحُقُّهُمْ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ لَا بِالْمُسْتَفَادِ بَعْدَهُ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ.
قَالَ رحمه الله (وَإِفْلَاسٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِفْلَاسِ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَظْهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَبْسَ وَمَا يُحْبَسُ فِيهِ مِنْ الدُّيُونِ وَكَيْفِيَّةَ الْحَبْسِ وَقَدْرَهُ وَبِدَيْنِ مَنْ يُحْبَسُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ بَلْ يُلَازِمُونَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ» أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِي وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْقَضَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي مَالِهِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤْثِرَ مَنْ شَاءَ مِنْ غُرَمَائِهِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ وَذَاكَ إلَى فَتَاوَى النَّسَفِيِّ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ حَالَةَ الْمُلَازَمَةِ وَلَا يُجْلِسُونَهُ فِي مَكَان؛ لِأَنَّهُ حَبْسٌ بَلْ يَدُورُ هُوَ حَيْثُ شَاءَ وَيَدُورُونَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحْصِيلِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْحَبْسُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْهُ وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ يَحْبِسُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ كَيْ لَا يَخْتَفِيَ أَوْ يَهْرُبَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَيُفَوِّتَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُلَازَمَةِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمْنَعَ الْمَلْزُومَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَيْتِهِ لِغَائِطٍ أَوْ غَدَاءٍ إلَّا إذَا أَعْطَاهُ الْغَدَاءَ أَوْ أَعَدَّ لَهُ مَوْضِعًا آخَرَ لِأَجْلِ الْغَائِطِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ، وَفِيهِ إذَا كَانَ عَمَلُ الْمَلْزُومِ سَقْيَ الْمَاءِ وَنَحْوَهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ أَوْ يُلْزِمَهُ نَائِبَهُ أَوْ أَجِيرَهُ أَوْ غُلَامَهُ إلَّا إذَا
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ) أَيْ بَدْلَةٌ اهـ وَالدَّسْتُ لَفْظٌ فَارِسِيٌّ اسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ فِي كُتُبِهِمْ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَقِيلَ يُتْرَكُ لَهُ دَسْتَانِ) نَقَلَ الْأَتْقَانِيُّ عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى الْمُخْتَارُ أَنْ يُبْقَى لَهُ دَسْتَيْنِ مِنْ الثِّيَابِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتْرُكُ دَسْتًا مِنْ الثِّيَابِ وَيَبِيعُ الْبَاقِي وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتْرُكُ دَسْتَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ) أَيْ الْمَحْجُورُ الدَّيْنَ. اهـ. .
(قَوْلُهُ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَظْهَرَ لِلْقَاضِي إلَخْ) وَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِ الْمَحْبُوسِ لَا يُشْتَرَطُ لِسَمَاعِهَا حَضْرَةُ رَبِّ الدَّيْنِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا أَوْ وَكِيلُهُ فَالْقَاضِي يُطْلِقُهُ بِحَضْرَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا يُطْلِقُهُ بِكَفِيلٍ. اهـ. قُنْيَةٌ (قَوْلُهُ بَلْ يُلَازِمُونَهُ إلَخْ) وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ وَإِنْ قَرُبَ حُلُولُهُ اهـ مُشْتَمِلَةٌ (قَوْلُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَلْزَمَهُ إلَخْ) قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ قُضِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِإِنْسَانٍ فَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْغَرِيمَ فَقَالَ الْغَرِيمُ لَا أَجْلِسُ مَعَهُ بَلْ أَجْلِسُ مَعَ الْمُدَّعِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَى بِالْجُلُوسِ مَعَ الْعَبِيدِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ ضَرَرٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
كَفَاهُ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ وَأَعْطَاهُ فَحِينَئِذٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَلْزُومِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَفْلَسَهُ الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَقَدْ ثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ فَوَجَبَ إنْظَارُهُ قُلْنَا دَيْنُهُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ يَجُوزُ مُتَابَعَتُهُ وَالْآيَةُ تُوجِبُ الْإِنْظَارَ إلَى الْمَيْسَرَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ وَإِنَّمَا يُلَازِمُهُ لِيَأْخُذَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَادٍ وَرَائِحٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ.
وَالْمُلَازَمَةُ لَا تُنَافِي النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ حَقِيقَةً إذْ الْعَدَمُ لَا يُحَاطُ بِالْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ قَدْ أَخْفَاهُ عَنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَزَيَّوْنَ بِزِيِّ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ فَيُلَازِمُونَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ مَالُهُ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا إشَارَةً عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا؛ لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِالْوُجُودِ وَالْأُخْرَى بِالنَّفْيِ فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى مِنْ النَّافِيَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ النَّافِيَةُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا لَكِنْ قُبِلَتْ اسْتِحْسَانًا بَعْدَ الْحَبْسِ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ بِالِانْضِمَامِ إلَى الْحَبْسِ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ فَتُقْبَلُ فِيهِ احْتِيَاطًا.
وَإِنْ قَالُوا إنَّهُ كَثِيرُ الْعِيَالِ ضَيِّقُ الْحَالِ كَانَ شَهَادَةً بِالْإِثْبَاتِ فَتُقْبَلُ بِلَا شُبْهَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ وَإِنْ شَاءَ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطُوفُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالسِّكَكِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِلْمُدَّعِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَلْزَمَ مَدْيُونَهُ الْمُعْسِرَ حَيْثُ أَحَبَّ مِنْ الْمِصْرِ وَإِنْ كَانَ الْمَلْزُومُ لَا مَعِيشَةَ لَهُ إلَّا مِنْ كَدِيدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الذَّهَابِ وَمِنْ أَنْ يَسْعَى فِي مِقْدَارِ قُوتِهِ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَإِذَا اكْتَسَبَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ الذَّهَابِ فِي ذَلِكَ وَيَحْبِسَهُ. قَالَ هِشَامٌ رحمه الله سَأَلْت مُحَمَّدًا رحمه الله عَنْ رَجُلٍ أُخْرِجَ مِنْ الْحَبْسِ عَلَى تَفْلِيسٍ فَرَأَى مُحَمَّدٌ الْمُلَازَمَةَ مَعَ التَّفْلِيسِ وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى فَقَالَ لَعَلَّ عِنْدَهُ شَيْئًا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ فَقَالَ هِشَامٌ: قُلْت لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ الْمُلَازَمَةُ تَضُرُّ بِعِيَالِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يَكْتَسِبُ فِي سَقْيِ الْمَاءِ فِي طَوْفِهِ قَالَ: آمُرُ صَاحِبَ الْحَقِّ أَنْ يُوَكِّلَ غُلَامًا لَهُ يَكُونُ مَعَهُ وَلَا أَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ قَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلِعِيَالِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي سُوقِهِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ وَالْأَشَقَّ عَلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ وَحْدَهُ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَقِيمُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَبَعْدَهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ وَكَانَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يُلَازِمُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تَلَازُمُهَا.
قَالَ رحمه الله (وَإِنْ أَفْلَسَ مُبْتَاعُ عَيْنٍ فَبَائِعُهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ) أَيْ لَوْ اشْتَرَى مَتَاعًا فَأَفْلَسَ وَالْمَتَاعُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ فَاَلَّذِي بَاعَهُ الْمَتَاعَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ مُرَادُهُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَتَاعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَتَاعَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَأَخْذُ مَتَاعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ أَوْ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ أَحَدِ بَدَلَيْ الْعَقْدِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيَثْبُتُ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِالْإِبَاقِ وَنَحْوِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَكَالسَّلَمِ فَإِنَّهُ إذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ يَثْبُتُ لِرَبِّ السَّلَمِ خِيَارُ الْفَسْخِ وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَعْقُودًا بِهِ لَا مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَنْعِ الْفَسْخِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ كَالثَّمَنِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَاسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ بِالْآيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَهَا وَلَا فَسْخَ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ صَارَ مُؤَجَّلًا إلَى الْمَيْسَرَةِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لَا مَعِيشَةَ لَهُ إلَّا مِنْ كَدِيدِهِ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ الْكَدُّ الْأَتْعَابُ يُقَالُ كَدَّ يَكُدُّ فِي عَمَلِهِ كَدًّا إذَا اسْتَعْجَلَ وَتَعِبَ. اهـ.
بِتَأْجِيلِ الشَّارِعِ وَبِالْعَجْزِ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَجِبُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ فِي تَأْجِيلِ الشَّارِعِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَأْجِيلِهِمَا وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ مِلْكَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الدَّيْنُ وَذَلِكَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْعَجْزُ وَلَا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ مُوجِبُ عَقْدِهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ وَهُوَ الذِّمَّةُ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مَلِيًّا وَهُوَ إذَا عَجَزَ إنَّمَا يَعْجِزُ عَنْ الْإِيفَاءِ وَالْإِيفَاءُ يَقَعُ بِعَيْنٍ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فِي الذِّمَّةِ فَيَكُونُ عَجْزًا عَنْ غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَلَا يُوجِبُ فَسْخًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَالْأَعْيَانُ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهَا وَلَا اسْتِبْدَالُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ عَيْنًا وَدَيْنًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ فَجُعِلَ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَكَانَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ الْوَاجِبِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ الْعَجْزُ عَنْهُ عَجْزًا عَنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رَوَى؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ، وَفِي الثَّانِي «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» وَالْمَبِيعُ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالِ الْبَائِعِ وَلَا مَتَاعَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْمُشْتَرِي؛ إذْ هُوَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَعَنْ ضَمَانِهِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ وَإِنَّمَا مَالُهُ بِعَيْنِهِ يَقَعُ عَلَى الْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فَذَلِكَ مَالُهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةً لَهُ أَنْ لَوْ قَالَ فَأَصَابَ رَجُلٌ عَيْنَ مَالٍ قَدْ كَانَ لَهُ فَبَاعَهُ مِنْ الَّذِي وَجَدَهُ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ سَمُرَةَ مُفَسِّرًا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ سُرِقَ لَهُ مَالٌ أَوْ ضَاعَ لَهُ مَتَاعٌ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِعَيْنِهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ» رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا وُجِدَ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ يُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَضَى بِالسِّلْعَةِ يَبْتَاعُهَا الرَّجُلُ فَيُفْلِسُ وَهِيَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهَا لَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا» فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ ابْتَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْبَاعَةَ دُونَ غَيْرِهِمْ قُلْنَا: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ فَلَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ أَيْضًا وَبَيَّنَ وَجْهَ اضْطِرَابِهِ فِي الْآثَارِ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِلْمُرَادِ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قُلْنَا: يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ وَهُوَ حَاصِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي الْقَبْضِ فَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالتَّأْجِيلِ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ وَقَوْلُهُ كَالسَّلَمِ إلَى آخِرِهِ قُلْنَا: الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعٌ فِيهِ وَالْعَجْزُ عَنْ الْمَبِيعِ يُوجِبُ خِيَارَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَيَفُوتُ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَبِيعٌ عَدِمَ جِوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ فَصَارَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ كَالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ عَجْزٌ عَنْ تَسْلِيمِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَقْبُوضُ غَيْرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى إيفَاءِ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً لِمَا ذَكَرْنَا؛ فَإِنْ قِيلَ إذَا اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ شَيْئًا كَانَتْ الْفُلُوسُ فِي ذِمَّتِهِ وَهِيَ ثَمَنٌ ثُمَّ إذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهَا بِالْكَسَادِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَا كَذَلِكَ قُلْنَا إنَّ الْفُلُوسَ إذَا كَسَدَتْ تَغَيَّرَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ مِلْكَ فُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنٌ وَبَعْدَ الْكَسَادِ لَا يَبْقَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَبَطَلَ أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَسَدَتْ صَارَتْ عُرُوضًا وَالْعُرُوضُ لَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا سَلَمًا فَبَطَلَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ وَالْمُكَاتَبُ إذَا عَجَزَ تَغَيَّرَ عَلَى الْمَوْلَى مُوجِبُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ مِلْكُ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِالْقَبْضِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ وَالْمَوْلَى
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .