المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فيمن استشهد من المحبين شوقا إلى حضرة رب العالمين - تزيين الأسواق في أخبار العشاق

[داود الأنطاكي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌المقدمة

- ‌فيما جاء فيه الكتاب من الأحاديث والآثار وفي حده ومراتبه

- ‌فصل في الترغيب في العشق والحث عليه

- ‌فصل في رسومه وحدوده

- ‌وما جاء عن الحكماء وغيرهم في ذلك

- ‌فصل في بيان مراتبه

- ‌فصل فيما ذكر له من العلامات

- ‌الباب الأول

- ‌فيمن استشهد من المحبين شوقاً إلى حضرة رب العالمين

- ‌فصل من الباب

- ‌في ذكر من فارقت روحه من الأحباب

- ‌الباب الثاني

- ‌في أحوال عشاق الجواري والكواعب

- ‌وذكر ما صدر لهم من العجائب

- ‌أخبار كثير عزة

- ‌أخبار قيس ولبنى

- ‌أخبار المجنون وصاحبته ليلى

- ‌أخبار عروة بن حزام وصاحبته عفرا

- ‌أخبار عبد الله بن عجلان وصاحبته هند

- ‌أخبار ذي الرمة وصاحبته مي

- ‌أخبار مالك وصاحبته جنوب

- ‌أخبار عبد الله بن علقمة وصاحبته حبيش

- ‌أخبار نصيب وصاحبته زينب

- ‌أخبار عتبة بن الحباب وصاحبته ريا

- ‌أخبار الصمة وصاحبته ريا

- ‌أخبار كعب وصاحبته ميلاء

- ‌القسم الثاني

- ‌فيمن جهل اسمه أو اسم محبوبته أو شيء من سيرته أو مآل حقيقته

- ‌فمنهم

- ‌سامة بن لؤي بن غالب القرشي مشهور

- ‌ومنهم

- ‌عمرو بن عوف وبيا

- ‌‌‌ومنهم

- ‌ومنهم

- ‌بشير الشهير بالاشتر وجيداء

- ‌مسعدة بن واثلة الصارمي

- ‌ومنهم

- ‌زرعة بن خالد العذري

- ‌ومنهم شخص

- ‌ومنهم غلام

- ‌ومنهم قيس بن منقذ بن مالك الكناني المشهور

- ‌ابن الحدادية

- ‌ومنهم

- ‌توبة بن حمير بن أسيد الخفاجي

- ‌ومنهم

- ‌عامر بن سعيد بن راشد

- ‌ومنهم ما حكى الأصمعي

- ‌ومنهم فتى أسدي

- ‌ومنهم عمرو بن كعب بن النعمان ابن المنذر بن ماء السماء ملك العرب

- ‌ومنهم ما حكاه الأصمعي

- ‌ومنهم ما أخرج الحافظ عن ابن دريد عن عبيد النعالي غلام أبي الهذيل

- ‌‌‌ومنهمما حكاه الكاتب

- ‌ومنهم

- ‌ومنهم ما حكاه في منازل الأحباب

- ‌ومنهم ما حكاه ابن الجوزي

- ‌ومنهم الحرث المشهور بابن الفرند من خزاعة

- ‌عياش الكناني

- ‌و‌‌منهمما رواه أعرابي أو هو جبلة بن الأسود

- ‌منهم

- ‌كامل بن الرضين

- ‌ومنهم

- ‌مرة النهدي

- ‌ومنهم رجل من ولد عبد الرحمن بن عوف

- ‌فمنهم ما أخرجه مغلطاي عن الأديب

- ‌ومبهم ما ذكره ابن المرزباني في الذهول والنحول عن سعيد بن ميسرة

- ‌ومنهم ما حكاه الوراق عن الصوفي

- ‌ومنهم ما حكاه السامري

- ‌ومنهم ما حكاه الأسدي عن أبيه

- ‌ومنهم ما حكاه ابن غنيم

- ‌ومنهم ما حكاه أبو الحسن المؤدب

- ‌ومنهم للفويرك وهو من المشاهير في عقلاء المجانين

- ‌ومنهم خالد بن يزيد

- ‌فصل في ذكر من جرع كأس الضنى وصبر على مكابدة العنا واتصف بذلك كله من

- ‌القسم الثالث

- ‌فيمن خالسته عيون الاماء فأسلمته إلى الفناء وكادت أن تقضي عليه لولا

- ‌القسم الرابع

- ‌في ذكرى من حظى بالتلاق بعد تجرع كأس الفراق

- ‌ومنهم ما حكاه معبد المغني

- ‌ومنهم

- ‌محمد بن صالح العلوي

- ‌ومنهم

- ‌جعد بن مهجع العذري

- ‌ومنهم ما حكاه أسدي وهي من العجائب المستلطفة

- ‌القسم الخامس

- ‌في ذكر من وسموا بالفساق من العشاق

- ‌الصنف الأول في ذكر من حمله هواه على أذية من يهواه وهؤلاء أم نساء أو

- ‌الصنف الثاني في ذكر من اشتدت به الغيرة إلى أن خامرته الحيرة فجرته إلى

- ‌الصنف الثالث في ذكر من عانده الزمان في مطلوبه حتى شورك في محبوبه فصنع

- ‌الصنف الرابع في ذكر من عوقب بالفسق ولم يشتهر بالعشق

- ‌ومنهم أعرابي من أسد

- ‌ومنهم ما حكى عن عبد الله بن سيرة

- ‌ومنهم ما حكى عن جويرية بن أسماء عن عمه

- ‌القسم السادس

- ‌في ذكر من حل عقد المحبة وخالف سنن الأحبة

- ‌الصنف الأول في كر من تاب عن الخلاف ورجع إلى حسن الائتلاف وكان محبوبه

- ‌ومنهم ما حكاه في النزهة ونقله هنا مجهولاً

- ‌الصنف الثاني في ذكر من تمادى على نقض العهد ومات على اخلاف الوعد

- ‌الصنف الثالث في ذكر من أشبه العشاق في محبته وشاكلهم في مودته فتعاهدا

- ‌فمنهم صخر بن عمرو

- ‌ومنهم هدية بن الخشرم

- ‌‌‌‌‌ومنهم

- ‌‌‌ومنهم

- ‌ومنهم

- ‌حمزة بن عبد الله بن الزبير

- ‌الحسن بن الحسن

- ‌غسان بن جهضم

- ‌ومثل هذا ما حكاه عن موسى الهادي

- ‌ الجزء الثاني

- ‌ الباب الثالث

- ‌في ذكر عشاق الغلمان

- ‌وأحوال من عدل إلى الذكور عن النسوان وتفصيل ما جرى عليهم من تصاريف

- ‌القسم الأول

- ‌فيمن استلب الهوى والعشق نفسه حتى أسلمه رمسه

- ‌أخبار محمد بن داود وصاحبه محمد الصيدلاني

- ‌أخبار القاضي شمس الدين بن خلكان وصاحبه المظفري

- ‌أخبار أحمد بن كليب وصاحبه أسلم

- ‌أخبار مدرك وصاحبه عمرو

- ‌النوع الثاني في

- ‌ذكر من جهل حاله

- ‌وكان إلى الموت في الحب مآله وقد رأينا أن نبدأ منهم بعشاق النصارى تبعاً

- ‌فمنهم

- ‌سعد الوراق

- ‌القسم الثاني

- ‌فيمن اشتهر في العشق حاله ولم يدر مآله

- ‌القسم الثالث

- ‌في ذكر من ساعده الزمان في المراد حتى بلغه ما أراد

- ‌القسم الرابع

- ‌في ذكر من منعه الزهد والعبادة أن يقضي من محبوبه مراده

- ‌النوع الثاني في ذكر من بغله زهده الأمان فعصمه عن الغلمان

- ‌خاتمة في ذكر ما عولج به العشق من الدوا

- ‌وقصد به السلو عن الهوى

- ‌ومن السلو عن الهوى استعمال الحساب والخوض في المشاجرات ونحو ذلك مما سبق

- ‌الباب الرابع

- ‌في ذكر ما سوى البشر وما القوا من العبر

- ‌الأول في الجنة

- ‌أسند المصنف عن الحافظ ابن حجر العسقلاني يرفعه إلى البيهقي، أنه قال

- ‌النوع الثاني

- ‌في ذكر من كلف وهو غير مكلف

- ‌وأوهن العشق قواه حتى تلف أو كاد أن يتلف

- ‌الصنف الثاني في ذكر بعض ما وقع للحيوان من أمور العشق في اختلاف الأزمان

- ‌الصنف الثالث في ذكر ما جرى من القوة العاشقية والمعشوقية بين الأنفس

- ‌الصنف الرابع فيما بث من الأسرار بين أصناف الأحجار

- ‌الصنف الخامس فيما بث من الأسرار الملكية بين الأجسام والأجرام الفلكية

- ‌الباب الخامس

- ‌في تتمات يفتقر إليها الناظر في هذا الكتاب

- ‌ويحسن موقعها عند أولي الألباب

- ‌فصل

- ‌في تحقيق معنى الحسن والجمال

- ‌وما استلطاف في ذلك من الأقوال

- ‌فصل

- ‌في خفقان القلب والتلوين عند اجتماع المحبين

- ‌فصل

- ‌في مراتب الغيرة وما توقعه بالمحب من الحيرة

- ‌فصل

- ‌في أحكام أسرار المحبة

- ‌وما فيها من اختلاف آراء الأحبة

- ‌فصل

- ‌في ذكر المغالطة والاستعطاف

- ‌واستدراك ما صدر عن المحبوب من الانحراف

- ‌فصل

- ‌في ذكر الرسل والرسائل

- ‌وتلطف الأحباب بالوسائل

- ‌فصل

- ‌في ذكر الاحتيال على طيف الخيال

- ‌فصل في أحكام الليل والنهار وذم قصرهما عند الوصل وطولهما عند الهجر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌في أحكام الزيارة

- ‌وما جاء في فضلها من البراعة والعبارة وتفنن العشاق في فضل زيارة الحبيب

- ‌فصل

- ‌مما يلحق بالعتاب

- ‌ويصلح أن يكون معه في باب

- ‌القسم الأول

- ‌هجر الدلال

- ‌القسم الثاني

- ‌هجر الملال

- ‌القسم الثالث

- ‌الهجر المعروف بهجر الجزاء والمعاقبة

- ‌الهجر الرابع

- ‌الهجر الخلقي

- ‌فصل

- ‌فصل في ذكر مكابدة الأمور الصعاب عند طلب رضا الأحباب وخوض الأهوال

- ‌تتمة

- ‌ومما يلحق بهذا الفصل التلميح

- ‌خاتمة

- ‌فصل في النوادر والحكم

- ‌نادرة

- ‌لطيفة ووصية

- ‌عجيبة

- ‌فائدة

- ‌‌‌‌‌لطيفةو‌‌وصية

- ‌‌‌لطيفة

- ‌لطيفة

- ‌وصية

- ‌نادرة

- ‌أخرى

- ‌نادرة

- ‌فصل في المجون

- ‌فصل في ذكر نبذة من لطائف الأشعار ملتقطة مما ختم به الكتاب

الفصل: ‌فيمن استشهد من المحبين شوقا إلى حضرة رب العالمين

وهي أحوال يتصف بها البدن كتغير الألوان والعينين وتواتر النبض والخفقان وربما ازدادت هذه عند رؤية المحبوب أو سماع ذكره حتى إنها قد تقضي بالهلاك وكذا اعتقال اللسان وأحوال يتصف بها الفكر كفساد الذهن والتعقل وقد مر ثم هذه قد يستدل عليها بالتطور والتنقل قيل أتى بشاب إلى طبيب فلما تأمله لم يجد به ألماً فقال وهو قابض على نبضه لغلامه قد أخذني البرد فأتني بالفرجية فتغير نبض الشاب تحت يده فقال لأمه أن هذا عاشق امرأة اسمها فرجية فقال وهو كذلك وأنشد.

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى

فهيج أشواق الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائراً كان في صدري

وفي معناه محبة كل ما ينسب إلى المحبوب حتى الجدار وفيه قيل.

أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

وأبلغ من ذلك هجر ما كان عليه زمن الوصل زمن الفرقة من نحو ملبس ومأكل والاستلذاذ بتقبيل النعل قال ابن أبي حجلة وقد رأيت من فعل ذلك وعنفته فادعى في ذلك لذة عظيمة فقلت له بعدها وقد رأيته بمكة كيف على ما أعلم فيك فأنشد يقول:

ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والخلاعة جانب

أقول وفيه تظرف عظيم حيث جعل حصة الله منه نصفاً وعدد المقابل وهو دليل مزيد الاشتغال بالله حيث لم يجعل المقاسم واحداً خصوصاً واللهو في شعره أعم من أن يكون بالمحبوب وغيره وأما التشبه بالمحبوب في سائر الأفعال والأقوال والميل إلى ما يحبه والاستلذاذ باستعمال ما كان من أثره فأمر معلوم لا يجهل ومطلوب بين العشاق حتى قيل أن شخصاً وجد في تركته إثنا عشر حملاً وفردة من السراويل لكونه رأى ميل محبوبه إليها وآخر ألف هاون لسماع صوت هاون محبوبته وأما اتحاد الأجساد والمرض حيث يمرض فكثير قيل مرض أبو نواس ولم يعلم سبب مرضه حتى عاده شخص فأخبره بمرض عنان جارية الناطفي وأنها نشطت فكتب إليها:

إني حممت ولم أشعر بحماك

حتى يحدث عوادي بشكواك

فقلت ما كانت الحمى لتطرقني

من غير ما سبب إلا لحماك

وخصلة كنت فيها غير متهم

عافاني الله منها حين عافاك

حتى قد اتفقت نفسي ونفسك في

هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك

وفي معناه أنشد:

وقف الهوى بي وحيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة

حباً لذكرك فليلمني اللوّم

ويقرب من هذا قول الشافعي:

مرض الحبيب فعدته

فمرضت من حذري عليه

وأتى الحبيب يعودني

فبرئت من نظري إليه

إذا تقرر هذا فليكن الأخف منه كالغيرة وبذل النفس وترك ما سوى المحبوب بالطريق الأولى وكذا نظائرها كاستحلاء ما يتعلق به من نحو حديث وملبوس رؤية ما ينسب إليه ويقوله حسناً صحيحاً وإن كان بالخلاف ولم ينسب نحو هذا إلى المبالغة عند العشاق للاتيان بأعظم منه كما سمعت قال الزراع ودع هندي جارية كان يهواها فذرفت إحدى عينيه فغمض الأخرى عن الملاذ عقوبة لها أربعاً وستين سنة حتى مات.

وأما حصول العشق برؤية في النوم أو بالأثر أو بالسماع أو بالكلام أو الوصف أو اللمس أو بأول نظرة أو بالمطاولة والمعاشرة وزيادته بالبعد لقوم والقرب لآخرين فبحسب الأمزجة وقد أسلفت في طالعة الكتاب تفصيل ذلك وقبول المزاج سرعة الانتقاش والفرق بين لطافة المزاج وكثافته ونحو ذلك مما ينبئك على تعليل هذا فليراجع وقد ظهر لي في ذلك أن الناس أما ناظرون بلا حجب أو بها أما من العاشق والمعشوق معاً أو من أحدهما فقط وتختلف الحجب لطفاً وصفاء معكسهما فهذه أسباب الاختلاف وإن كانت لأهل الحقيقة بالذات.

‌الباب الأول

‌فيمن استشهد من المحبين شوقاً إلى حضرة رب العالمين

ص: 14

لما كان غاية المحبة أما وصولاً إلى المطلوبات الدنيوية أو الأخروية ومبدؤها من الحواس الظاهرة غالباً والباطنة ومطالبها العالية ومقاصدها الذاتية وأما اشتغال عن الحق بخيالات وهمية تنتقش في العقل من الخلق أو ميل نفسي إلى المبدع باستيحاش ممن سواه لا جرم قسمت المحبة قسمين أشرفها متعلقاً الثوابي وهو الحب في الله لأنه لا يفني متعلقه ولا تكيف غايته ولا يفضله شيء في الحقيقة إذ ما سواه وهام وتضمحل وتزول وأعراض تفني وتحول ولا شبهة في أن إدخار ما لا يتطرق إليه تغير ولا فناء أولى في الحكمة عند العقلاء فلذلك صدرت به الأبواب ومدار ما يذكر هنا في الأصل على ذكر من أنفى نفسه في طاعة ربه وأكثر اغترافه من الحلية لأبي نعيم إذا تقرر هذا فحد المحبة كما قال الحصري وصول إلى مقام الأنس والنعمة باطناً والوحشة والبلاء ظاهراً بشرط الإشراف على الغيوب وفناء الكل في بقاء المحبوب وهذا تعريف لها بحسب الغاية الخاصة وكان عليه أن يورد التعريف التام العام أولاً ثم يفصل وقال الاستاذ أبو يزيد البسطامي هي استهلاك النفسانية مع بقاء الروحانية وهذا عندي قريب من الأول غير أن بعض شراح النصوص قال أن فيه تعريفاً بالمادة وأظنه أخذ ذلك من قوله استهلاك وفيه تكلف ونقل الحدين البحراني في شرح التائية على قول الاستاذ فقالت هوى غيري قصدت وأقرهما وأحسن منهما ما نقل عن شيخ الطريقة الجنيد رضي الله عنه وقد سئل ما المحبة فقال هي الصفاء في الباطن مع حقائق الحق والوفاء في الظاهر مع استعمال دقائق الشرع فهذا والله هو الحد التام وإن كان إلى الخاص أميل فإن قوله الصفاء في الباطن يريد به الخلوة الحقيقية التي هي قفل أبواب الحواس عن ممارسة الخلق ونشر القلب بالاستكانة والخضوع على أعتاب الحق ونفي الكدورات الحسية عن الحواس النفسية لإلحاقها بالحضرة القدسية وذلك غير تام قبل نفي العوائق وقطع العلائق والخروج من شوائب الخلائق ليتحقق الصفاء والتخلق بتلك الحقائق

هناك وجدت الكائنات تحالفت

على أنها والعون مني معينتي

حيث انتفت معاندات الأغيار وتحققت ممازجات الأخيار حتى انتقشت المطلوبات الحقية في مرآت الصورة الخلقية وانبسطت أشعة الأحوال البسطية حيث انتفت الكدورات الوحشية.

فلم تهوني ما لم تكن في فانياً

لم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي

وقوله والوفاء في الظاهر يعني لكل معاهد بعهده وموعود بوعده وضال برده ومتغفل بتنبيهه وتقوية جده لأن العارض المتصف بما ذكر خليفة الله على خلقه ينفذ فيهم أوامره ويقيم شرائعه فإن فعل ذلك ظاهراً وباطناً فهو النبي وخلفاؤه ومن فعله على الأول فهم السلاطين أو على الثاني فهم الأفراد الأقطاب جوامع الأسرار ومعادن الحقائق والاستبصار علماء أمتى كأنبياء بني إسرائيل وورثة الأنبياء

فعالمنا منهم نبى ومن دعا

إلى الحق منا قام بالرسلية

وأما قوله استعمال دقائق الشرع فإشارة إلى معنى لا يدركه إلا الخواص وإن غاص عليه من غاص فإن فيه إشارة إلى حفظ الكليات التي عليها مدار النظام واستقصاء الجزئيات التي قصر عنها الكلام واجتهاد النفس في جمع ما تفرقت فيه الآراء وتشعبت إليه الأهواء بيد أن ذلك قباء لم يخط على كل ذي قد وأشكال أقيسة فكر لم يستخلصها كل ذي جد اللهم حققنا بحقائق معارفك وأرفعنا من حضيض زوايا الخمول إلى أوج استقامة لطائفك وأنقل أنفسنا من مراكز عكس الصعود إلى أشرف منازل السعود وأما قول بعضهم وينسب إلى ذي النون المصري المحبة أرق بلا رقاد وجسم بلا فؤاد وتهتك في العباد وتشتت عن البلاد فتعريف بصورة الحالة الراهنة من المحبة بعد قطع الطرق فإن الأرق الذي هو السهر من الفكر في الأمور الطارئة على النفس لا يكون إلا بعد تمكن تلك الأمور في الذهن وإن الجسم لا يكون بلا فؤاد إلا إذا فني فهي كناية عن عدم الالتفات إلى ما من شأنه أن يدرك القلب مما سوى الموجود المطلق بقرينة المقام وفيه تكلف وخلط لحالة المجانين بأحوال المحبين وباقي الكلام ظاهر وعندي أن المحبة ميل نفساني إلى المراد يعضده الجزم بالاعتقاد ورؤية ما سوي المطلوب من الفساد وفي الدين ارتداد وإليه أشار عارف الوقت والحقيقة وسلطان عشاق الخليقة بقوله:

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري سهواً قضيت بردتي

ص: 15

فقولنا ميل كالجنس ونفساني كالفصل وإلى المراد فصل قريب ولذلك أخره وهذا هو فعل المادة والصورة والجزم في الاعتقاد بالفاعلية وغاية ذلك الثبات على الحب حيث ثبت أن ما سواه فساد فقد جمع هذا الحد مطرداً ومنعكساً أحوال المحبة على وجه العموم فمن أراد تخصيصه فبالفصول اللائقة ثم لهذه المحبة أوصاف وشروط منها أن لا يبالي المحب بما يرد من المحبوب وأن يؤثر رضاه على نفسه فيتلذذ فيه بالبلاء كالعطاء وبالغيبة كالحضور والهجر كالوصل والفناء كالبقاء إذا كان ذلك رضا المحبوب قال العارف:

فكل الذي ترضاه والموت دونه

به أنا راض والصبابة أرضت

فانظر إلى هذا الاستاذ كيف أوضح طرق السلوك للسالك ودل على المطالب والمسالك وأوضح مرقاة الوصول للدارج ونكب عن المعارج إلى أسنى المعارج حيث قال: نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي، لأن الزمان المذكور محل الميل إلى مرادات النفس وشهواتها ففي البيت مع الجناس التام واستيفاء مادة الكلام تحرير أحوال الغرام بأقصى المراد ثم أكد ما أسس وأبدع ما جنس وقوى جزئي الميل حتى صار كلياً بما وشح من بديع نظامه وأنق من لطيف كلامه بقوله:

محجبة بين الأسنة والظبا

إليها انثنت ألبابنا إذ انثنت

ممنعة خلع العذار نقابها

مسربلة بردين قلبي ومهجتي

فجدوا أيها المقصرون وانتبهوا أيها الغافلون وبادروا أيها المثمرون فإن المطلوب خطير والوصول عسير وليس هذا قطعاً عن الطريق وتخذيلاً للهمم كما زعمه بعض الشراح المتلبسين بهذه الصناعة الظانين أن الوصول إلى هذا النفس بالظاهر من البلاغة والبراعة كلا بل هو تبيين وتحقيق لئلا يقدم على هذا الأمر إلا من أراد علو همته وغلو قيمته ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا يتلبس بالعلم غير أهله ولا يبسق الفرع على غير أصله:

فللحب أقوام كرام نفوسهم

منزهة عما سوى الحب يا خلي

ص: 16

إلى غير ذلك مما دلت عليه أبياته الفائقة وعباراته الرائقة وألفاظه الشاقة التي هي لصوادق الهمم إلى مقام الوصول سائقة ولولا ما في ذلك من التطويل الذي يستغرق المدد مع المدد ويستنفذ الأبد فضلاً عن طول الأمد لأوضحت لك ما في كلامه من الأسرار الحقيقية الدالة على أن أبيات القصيدة وضعت كدرج المرقاة في الإبرام والنقض لا يجوز تقدم بعضها على بعض ومن لطيف ما اتفق لي إني خلوت بنفسي ليلة وكانت ليلة الجمعة سادس رجب الفرد من شهور إحدى وسبعين وتسعمائة فأخذت أتفكر في كلامه متصفحاً في دقائقه إلى أن قام في فكري معارضة بين ما اتفق له من قوله وعيدك لي وعد البيت. وقوله عذب بما شئت غير البعد وقوله وأصعب شيء دون اعراضكم سهل. وبين قوله ولك الذي ترضاه البيت فإنه في جميع الأبيات أشار إلى أنه راض بكل أفعال المحبوب خلا البعد والهجر ثم أشار في هذا البيت إلى الرضا بسائر الحالات ومنها البعد والهجر ثم قام عندي جواب إن ذلك عام خصص ثم غشيني النوم فرأيت كأني بالمدرسة الأشرفية وقد زينت بأنواع الزينة وليس فيها غيري وإذا برجل طويل غليظ شديد البياض في يده عكاز أخضر متوشح بثوبين أبيضين وعلى رأسه كالأزار فقام عندي أنه الشيخ فإذا هو هو فسلم علي ووضع يده على كتفي ووقفنا متقابلين وهو يقول لي هذا جواب الفقهاء ولم أقصده فقلت يا سيدي وما الذي قصدت قال أما تعلم أنا لمسافر أثقل ما يكون في مبادي سفره ثم لم يزل يخف إذا طالت طريقه حتى لم يبق إلا هو وربما فني قلت نعم قال وكذلك السالك لم يزل يلقي مرادات نفسه حتى إذا وصل انطوى في دائرة المحبوب فلم يبق له مطلوب كما في الحديث القدسي فبي يسمع وبي يبصر فعلمت أن هذا الشأن لا يدرك بالعلوم الظاهرة إن لم تداركها نفحات من الحضرة الطاهرة فرجعت عما كنت عزمت عليه من الكتابة على القصيدة إلا أن تداركني الألطاف الباهرة وقال بعض العارفين شرط المحبة أن تكون ميلاً بلا نيل وشرطاً بلا جزاء لئلا تزول عند زوال العوض ويتأكد ذلك في أحباء الله عز وجل. روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول في مناجاته إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة ومن ثم قيل أفضل الحمد ما وقع دالاً على استحقاق الله له بلا شرط نحو نحمدك يا من جلت صفاته عن الاحصاء بخلاف ما وقع في مقابلة شيء كالحمد لله على ما أنعم وأخبر السراج عن أبي بكر الازدستاني بسنده إلى ابن كثر قال لما تاب داو عليه السلام كان له يوم نوح تجتمع إليه فيه الناس حتى الوحوش والطيور فينوح ويعظ مذكراً بالجنة ثم النار ثم الأهوال ثم الخوف من الله وفي كل واحدة يموت من كل طائفة خلق وولده قائم على رأسه فيقول حسبك يا أبت قد مات الناس ثم يقول له العباد لا تعجل بطلب الجزاء فيخر ساجداً مغشياً عليه فتأخذ كل طائفة من مات منها وتذهب ثم يدخل بيت عبادته وهو يقول يا إله داود غضبان أنت عليه أم راض إلى أن يخر مغشياً عليه وأخرج عبد العزيز بن علي الطحان عن ابن عطاء في معنى قوله عز وجل إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين أن أيوب لم يزل يأكله الدود حتى لم يبقى غير قلبه ولسانه فأكل بعضه بعضاً حتى بقيت واحدة فدبت إلى قلبه فقال ذلك لأنه قال أي رب لم أخف من بلاء ما دام قلبي عارفاً بحلاوة ذكرك فأوحى الله إليه بم تنظر إلي غداً قال بهاتين العينين قال لا ولكن أخلق لك عينين يسميان البقاء لتنظر إلى البقاء بالبقاء وقيل خرج عيسى عليه السلام في سياحته ليلة برد وريح ومطر فعاج إلى كهف ليستظل فخرج إليه أسد فقال أنت أحق بمكانك وعاد وهو يقول رب لكل ذي روح ملجأ إلا عيسى فأوحى إليه كأنك استبطأتني فوعزتي وجلالي لأزوجنك بجواري ولأولمن عليك أربعة آلاف سنة وحكى المنذري عن ابن سعد يرفعه أن أنصارياً بكي من خشية الله خوفاً من النار حتى حبسه البكاء في بيته فحكى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فلما اعتنقه خر ميتاً فقال جهزوا صاحبكم فإن الفرق بتحريك الراء يعني الخوف فلذ بالمعجمة يعني قطع كبده وحكى أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الواحد بن زيد عن الفضيل بن عياض أن ابن زيد سأل ربه ثلاث ليال أن يريه رفيقه في الجنة فإذا بقائل يقول له هي ميمونة السوداء قال فقلت وأين هي قال بالكوفة فخرجت في طلبها فلما سألت عنها قالوا هي مجنونة وأنها بموضع كذا ترعى

ص: 17

غنيمات لنا فجئتها فرأيتها قد غرست عكازاً وعليها جبة صوف مكتوب عليها لا تباع ولا تشرى والغنم ترعى مع الذئاب بلا ضرر وهي تصلي فلما رأتني أوجزت في صلاتها ثم قالت يا ابن زيد ليس هذا موضع الموعد فقلت ومن أين عرفتيني فقالت الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وفي رواية أخرى قالت جالت روحي وروحك في عالم الملكوت فتعارفنا فقلت لها عظيني فقالت واعجبا من واعظ يوعظ ثم قالت يا ابن زيد لو وضعت معيار القسط على جوارحك لخبرتك بمكنون ما فيها يا ابن زيد ما من عبد أعطاه الله شيئاً من الدنيا فأبتغى إليه ثانياً إلا سلبه الله حب الخلوة معه وبدله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة وأنشدت: مات لنا فجئتها فرأيتها قد غرست عكازاً وعليها جبة صوف مكتوب عليها لا تباع ولا تشرى والغنم ترعى مع الذئاب بلا ضرر وهي تصلي فلما رأتني أوجزت في صلاتها ثم قالت يا ابن زيد ليس هذا موضع الموعد فقلت ومن أين عرفتيني فقالت الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وفي رواية أخرى قالت جالت روحي وروحك في عالم الملكوت فتعارفنا فقلت لها عظيني فقالت واعجبا من واعظ يوعظ ثم قالت يا ابن زيد لو وضعت معيار القسط على جوارحك لخبرتك بمكنون ما فيها يا ابن زيد ما من عبد أعطاه الله شيئاً من الدنيا فأبتغى إليه ثانياً إلا سلبه الله حب الخلوة معه وبدله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة وأنشدت:

يا واعظاً قام لاحتساب

يزجر قوماً عن الذنوب

تنهى وأنت السقيم حقاً

هذا من المنكر العجيب

لو كنت أصلحت قبل هذا

غيك أو تبت من قريب

كان لما قلت يا حبيبي

موقع صدق من القلوب

تنهي عن الغيّ والتمادي

وأنت في النهي كالمريب

قال ثم سألتها ما بال الذئاب التي مع الغنم لا تضرها فقالت أصلحت ما بيني وبينه فأصلح ما بين الذئاب والغنم وفي الكتاب المذكور عن ابن المبارك قال بينما أطوف في الجبال إذا أنا بشخص فلما دنا مني إذا هو امرأة عليها ثياب من صوف فلما دنت سلمت ثم قالت من أين قلت غريب قالت وهل تجد مع سيدك وحشة الغربة وهو مؤنس الضعفاء ومحدث الفقراء فبكيت فقالت ما بكاؤك ما أسرع ما وجدت طعم الدواء قلت هكذا العليل ثم قلت عظيني يرحمك الله فأنشدت:

دنياك غرارة فذرها

فإنها مركب جموح

دون بلوغ الجهول منها

منيته نفسه تطوح

لا تركب الشرّ فاجتنبه

فإنه فاحش قبيح

والخير فاقدم عليه جهراً

فإنه واسع فسيح

فقلت زيديني قالت سبحان الله أو ما في هذا الموقف من الفوائد ما أغنى عن الزائد قلت لا غنى لي عنه فقالت أحبب ربك شوقاً إلى لقائه فإن له يوماً يتجلى فيه لأوليائه.

وفيه عن أبي الفيض ذي النون المصري رضي الله عنه قال بينما أنا في السياحة إذا لقيتني امرأة فقالت من أين قلت غريب فقالت كما قيل لابن المبارك إلا أنها زادت حيث نهت عن البكاء بأن قالت البكاء راحة القلب فما كتم شيء أحق من الشهيق والزفير فإذا أسبلت الدمعة استرحت وهذا ضعف عند العقلاء فتعجبت من ذلك وقال وصف لي رجل فقصدته فأقمت على بابه أربعين يوماً فلما رآني بعدها هرب مني فقلت له سألتك بالله إلا ما وقفت فقال ما تريد فقلت تعرفني بما عرفته فقال إن لي حبيباً إذا قربت منه قربني وأدناني وإذا بعدت صوب بي وناداني وإذا قمت باليسير رغبني ومناني وإذا عملت بالطاعة زادني وأعطاني وإذا عملت بالمعصية صبر علي وتأناني فهل رأيت مثله انصرف عني ولا تشغلني ثم ولى يقول:

حسب المحبين في الدنيا بأنّ لهم

من ربهم سبباً يدني إلى سبب

قوم جسومهم في الأرض سائرة

وإن أرواحهم تختال في الحجب

لهفي على خلوة منه تسدّدني

إذا تضرّعت بالاشفاق والرغب

يا رب يا رب أنت الله معتمدي

متى أراك جهاراً غير محتجب

ص: 18

وعن أبي الفتح بن سحنون قال كان سعدون صاحب محبة الله لهجاً بالقول صام ستين سنة حتى خف دماغه فسماه الناس مجنوناً لتردد قوله في المحبة فغاب عنا زماناً وكنت مشتاقاً إلى لقائه فبينما أنا بفسطاط مصر على حلقة ذي النون وإذا به وعليه جبة من صوف فنادى يا ذا النون متى يكون القلب أميراً بعدما كان أسيراً فقال إذا اطلع الخبير على الضمير فلم ير فيه إلا هو قال فخر مغشياً عليه ثم أفاق وهو يقول:

ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي

ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر

ثم قال يا أبا الفيض إن من القلوب قلوباً تستغفر الله قبل أن تذنب قال نعم تلك قلوب تثاب قبل أن تطيع قال يا أبا الفيض اشرح لي ذلك قال يا سعدون أولئك أقوام أشرقت قلوبهم بضياء روح اليقين فهم قد فطموا النفوس عن روح الشهوات فهم رهبان من الراهبين وملوك العباد وأمراء في الزاد للغيث الذي أمطر في قلوبهم المولهة بالقدوم إلى الله تعالى شوقاً فليس فيهم من آنس بمخلوق ولا مسترزق من مرزوق فهو في الملأ حقير وعند الله خطير ثم ولى.

وعن أبي سليمان قال مررت ليلة فسمعت في جبل اللكام رجلاً يقول في دعائه سيدي وأملي وموئلي ومن به تم عملي أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك وقلب لا يشتاق إليك ودعاء لا يصل إليك وعين لا تبكي عليك فعلمت أنه عارف ثم صعق فتركته وانصرفت وإذا أنا برجل نائم فركضته وقلت قم فإن الموت لم يمت فرفع رأسه وقال ما بعد الموت أشد منه.

وعن عبد الله بن المبارك قال مررت في سياحتي بالشام بطبيب يصف لكل ما يحب فقلت له يا طبيب أعندك دواء المذنوب فقال نعم فلما تفترق الناس قال لي يا هذا عليك بورق الفقر وعروق الصبر واهليلج الصاف وبليلج الرضا وغارقون في الكتمان وسقمونا الأحزان فأمر سهم بماء الأجفان ودعهم في طاجن القلق وأوقد تحتهم نار الفرق وصفهم بمنخل الأرق واشربهم على الحرق فإنه شفاؤك وأنشد:

يا طبيباً بذكره يتداوى

وصفوه لكل داء غريب

ليس حزني عليك شيء عجيب

إنما الصبر عنك شيء عجيب

وسئل أبو بكر الشبلي ما علامات العارف قال صدره مشروح وقلبه مجروح وجسمه مطروح قيل من العالم قال من عرف الله وعمل بما علمه الله وأعرض عما نهاه الله قيل فما الصوفي قال من صفا قلبه ورمى الدنيا وجفا الهوى واتبع المصطفى قيل فما التصوف قال التألف والأعراض عن التكلف وأحسن منه تصفية القلوب لعلام الغيوب وأحسن منه التعظيم لأمر الله والشفقة على عباد الله وأحسن منه من صفا من الكدر وخلص من العكر، وامتلأ من الفكر وتساوى عنده الذهب والمدر.

وعن إبراهيم بن أدم رضي الله عنه قال كنت يوماً من الأيام ماراً بقبر فترحمت عليه وبكيت عليه فسألني من معي عنه فقلت قبر حميد بن جابر أمير هذه المدن غرق في الدنيا ثم استنقذه الله بلغني أنه سر يوماً من الأيام بما هو فيه ثم نام مع بعض محاظيه فرأى رجلاً واقفاً على رأسه وفي يده كتاب فناوله إياه ففتحه فإذا هو مكتوب بالذهب لا تؤثر فانيا على باق ولا تغتر بملكك وسلطانك وخدمك ولذاتك فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم وملك لولا أن بعده هلك وفرح وسرور لولا أن بعده غرور فسارع إلى أمر الله فإنه يقول وسارعوا إلى مغفرة من ربكم فانتبه مرعوباً وخرج إلى هذا الجبل فما زلت أتعهده حتى مات ودفن ههنا.

وحكي أن ملكاً أراد الركوب يوماً فدعا بثياب الزينة فجيء بها فردها وقال أريد ثياب كذا فجيء بها فردها حتى جيء بأصناف كثيرة ثم اختار ما أراد وفعل كذلك بالدواب فلما ركب نفخ إبليس في أنفه فعلاه من التكبر ما لا يوصف حتى أنه لم يخاطب أحداً فبينما هو في موكبه إذا برجل رث الهيئة قد قبض على لجام دابته وهو يقول لي إليك حاجة قال حتى أرجع قال لا بل مكانك قال اذكرها فقال أدن مني فطأطأ فقال له أنا ملك الموت فتغير واضطرب وسأله أن يعود فيودع أهله فأبى وقبضه مكانه.

وحكى أنه عارض في ذلك الوقت رجلاً زاهداً فقال له كما قال للملك فقال حباً وكرامة فقال له ملك الموت هل لك حاجة تمضي إليها فقال لا حاجة أحب إلي من لقاء الله فقال اختر على أي حالة أقبضك فقال ألك ذلك قال نعم فتوضأ وصلى فلما سجد قبضه.

ص: 19

وعن عتبة المعروف بالغلام وسمي بذلك لكثرة خدمته أنه كان مقيماً بالجبانة فبلغ خبره علي بن سلمان أمير العراق فخرج حتى وقف عليه فسلم فرفع رأسه فرد عليه فقال له الأمير كيف أصبحت قال متفكراً في القدوم على الله بخير أم بشر ثم بكى وأطرق رأسه منكساً إلى الأرض فقال الأمير قد أمرت لك بألف درهم فقال قبلتها على أن تقضيني معها حاجة فقال وقد سر بذلك وما هي قال تقبل مني ما وهبتني فقال قد فعلت وانصرف ولقد كان عتبة هذا لا ينام إلا أول الليل ثم يستيقظ فزعاً مرعوباً ينادي النار النار قد شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقف للخدمة وإن البكاء ليمنعه القراءة وكثيراً ما يقول اللهم يا عالماً بحاجتي غير معلم بما أطلب وما أطلب إلا فكاكي من النار اللهم إن الجزع قد أرقني من الخوف فلم يؤمني وكل هذا من نعمتك السابقة علي وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك إلهي قد علمت لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين.

وعن سهل ابن عبد الله التستري رضي الله عنه الناس ثلاثة أصناف صنف مضروب بسوط المحبة مقتول بسيف الشوق مضطجع على بابه ينتظر الكرامة وصنف مضروب بسوط التوبة مقتول بسيف الندامة مضطجع على بابه ينتظر العفو وصنف مضروب بسوط الغفلة مقتول بسيف الشهوة مضطجع على بابه ينتظر العقوبة.

وعن حيان القيسي العباد مع الله على ثلاث طبقات قوم ظعن بهم عن البلاء لئلا يسترق الجزع سرهم فيكون هذا حكمة أو يكون في صدورهم حرج من قضائه وقوم ظعن بهم عن مساكنة أهل المعاصي لئلا تغتم قلوبهم فمن أجل ذلك سلمت صدورهم للعالم وقوم صب عليهم العذاب صباً فما ازدادوا بذلك إلا حباً.

أقول والتقسيم الأول شامل لطبقات العالم السعيد منهم والشقي إلا أن القسم الأول أسعد السعداء وأما هذا التقسيم فهو تقسيم لأهل الله فقط على أن لنا أن نتكلف للأول أن يكون مثله وفي هذا تلميح إلى التسليم البحت في القضاء والقدر والأول إلى الاختيار.

وعن سحنون بن حمزة الخواص أن أبا بكر البصري وكان رجلاً من أكابر الأولياء مات قبل الجنيد بيسير وكان قد سمي نفسه بالكذب لبيت قاله وهو:

فليس لي في سواك حظ

فكيفما شئت فامتحني

فحصر بوله أثر قوله هذا فتضجر فسمي نفسه الكذاب في المحبة غيره:

ولو قيل طأفي النار أعلم أنه

رضا لك أو مد لنا من وصالك

لقدّمت رجلي نحوها فوطئتها

سرور الآتي قد خطرت ببالك

وله أيضاً:

وكان فؤادي خالياً قبل حبكم

وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبي هواك أجابه

فلست أراه عن فنائك يبرح

رميت ببين منك إن كنت كاذباً

وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح

وإن كان شيء في البلاد بأسرها

إذا غبت عن عيني بعيشي يملح

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل

فلست أرى قلبي بغيرك يصلح

وله أيضاً:

يا من فؤادي عليه موقوف

وكل همي إليه مصروف

يا حسرتي حسرة أموت بها

إن لم يكن لي إليك معروف

وعن الجنيد رضي الله عنه قال أنفذ في السري في حاجة فلما قضيتها دفع إلي رقعة وقال قد أجزتك هذه الرقعة ففتحتها فإذا فيها:

ولما شكوت الحب قالت كذبتني

ألست أرى منك العظام كواسيا

وما الحب حتى يلصق بالجلد بالحشا

وتخرس حتى لا تجيب المناديا

وتضعف حتى لا يبقى لك الهوى

سوى مقلة تبكي بها وتناجيا

ودخل أبو بكر الشبلي يوماً المارستان فوجد غلاماً أسود قد غل إلى سارية فلما رآه قال يا أبا بكر قل لربك ما كفاه أن تيمنى بحبه حتى قيدني وأنشد يقول:

على بعدك لا يصبر من عادته القرب

وعن قربك لا يصبر من تيمه الحب

فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب

ص: 20