الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن وفاء النساء أن كسرى أبرويز ترك جارية كانت حظية فطلب ولده أخذها فعالجت ناوس كسرى ففتحته ودخلت فمصت خاتماً مسموماً كان في أصبعه فماتت.
القسم الثالث
فيمن خالسته عيون الاماء فأسلمته إلى الفناء وكادت أن تقضي عليه لولا
المداركة بالوفاء
ومما ينبغي ذكره هنا مصدر الحكاية المشهورة عن حبابة، وهي جارية في الأصل للأحوص، وقيل لرجل مدني، وأنها كانت تسمى العالية، وأنه دخل بها على يزيد بن عبد الله في خلافة أخيه وعليها ازار له ذنبان وبيدها دف فغنته:
ما أحسن الجيد من ملكية
…
واللبات إذ زانها ترائبها
يا ليتني ليلة إذا هجع
…
الناس ونام النيام صاحبها
في ليلة لا يرى بها أحد
…
يسعى علينا إلا كواكبها
فاشتراها بأربعة آلاف دينار، فبلغ أخافه فعزم على أن يحجر عليه فردها فاشتراها رجل من أفريقية. وقد تولعت بها نفس يزيد وكان قد تزوج سعدى بنت عبد الله بن عثمان وزنجية بنت عبد الله بن جعفر وأمهر كلاً منهما عشرين ألف دينار، فخاف من سليمان الحجر فلم يزل ينتظر حتى انتقلت إليه الخلافة، فأرسلت سعدى مولى لها في طلب حبابة، فبلغه أنها في المدينة فمضى إليها فقيل بمصر، فمضى إليها فقيل بافريقية، فمضى حتى اجتمع بمولاها فاشتراها منه بمائة ألف درهم بعد امتناعه من بيعها، لولا أني أخبرته بأن الخليفة سيأخذها منه قهراً، ولما ارتحل بها مولى سعدى أنشد الافريقي وقد تبعتها نفسه:
أبلغ جبابة أسقي ربعها المطر
…
ما للفؤاد سوى ذكراً كم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكركم
…
أو عرسوا تستهيم النفس والفكر
ولما مر بها على مكة شيعها الناس، وقيل من المدينة وكانوا مائتي رجل إلى ذي خشب، وسألوها أن تزودهم صوتاً فأنشدت:
سلكوا بطن مخيض
…
ثم ولوا راجعينا
أورثوني حين ولوا
…
طول حزن وأنينا
ثم كتبت أسماءهم حتى عرضتهم على يزيد فوهب كلاً ألف درهم، ولما وصل بها إلى سعدى ألبستها حللاً ووبهتها جواهر وطيباً كثيراً، ثم قالت للخليفة قد وهبك الله الملك فهل بقي عليك شيء، وهي تعلم ما في نفسه، فقال لا. فقالت بل أنا أعلم فاخبرني عسى أن أوصلك إليه، فقال العالية يعني حبابة. فقالت أوتعرفها إذا رأيتها؟ قال نعم فأخذت بيده حتى أدخلته عليها فسر وعظمت منزلة سعدى عنده، وكان عاهدت حبابة أن لا تدع لها حاجة عند الخليفة إلا فضتها، وأن يجعل الخلافة لولدها ففعلت، وكانت ربيحة قد اشترت سلامة وهي أيضاً جارية كانت لمدني وكان قد رآها يزيد فوقعت من نفسه موقعاً عظيماً، فلما اجتمعنا عنده، قال أنا الآن كما قيل:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عيناً بالاياب المسافر
وأول ما عظمت به عنده أن دخل يوماً فسمعها تغني من وراء الستر ولا علم لها به:
كان لي يا يزيد حبك حيناً
…
كاد يقضي عليّ حين التقينا
فكشف الستر فوجدها مستقبلة الجدار فعلم أنها لم تشعر به فألقى نفسه عليها وارتفعت منزلتها عنده وكانت حبابة أجمل نساء زمانها قد حوت اللطافة والمعرفة بالأدب والآلات والغناء وأخذته عن أهله مثل معبد وجميلة وأم عوف وغيرهم وكان يزيد قبل خلافته يختلف إلى أم عوف ويقترح عليها أن تغني:
متى أجر خائفاً تسر مطيته
…
وإن أخف آمناً تنبو به الدار
سيروا إليّ وأرخوا من أعنتكم
…
إني لكل امرىء من وتره جار
فسأل حبابة أن تغنيه ولم يمكنها الطعن على أم عوف فبكت يزيد بحبه لها بأن غنت أثر الصوت:
أبى القلب إلا أم عوف وحبها
…
عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفندا
فضحك وقال لمن هذا فقالت لمالك فكان كثيراً ما يسألها أن تغنيه، فغنت يوماً:
لعمرك أنني لا حب سلعا
…
لرؤيتها ومن بجنوب سلع
تقر بقربها عيني وإني
…
لأخشى أن تكون تريد فجعي
حلفت برب مكة والهدايا
…
وأيدي السابحات غداة جمع
لأنت على التنائي فأعلمته
…
أحبّ إليّ من بصري وسمعي
ولما أنشدته البيت الأول تنفست الصعداء، فقال يزيد مالك وله والله لو أردته حجراً حجراً لجئت به إليك فقالت ما أصنع به إنما أريد صاحبه أو ساكنه واقترح عليها وعلى سلامة يوماً أن يغني كل منهما ما في نفسه، ومن أصابت فلها ما تطلب فغنت سلامة فلم تصب وغنت حبابه:
خلف من بني كنانة حولي
…
بفلسطين يسرعون الركوبا
فأصابت به ما في نفسه فقال احتكمي، فقالت تهب لي سلامة وما لها، فأبى وقال اطلبي عيرها فأبت إلا هي، فقال أنت أولى بها وبما لها فغمت سلامة لأنها كانت أرفع منها زمن التعليم عند معبد، حتى كان يأمرها أن تدرب حبابة، فذكرتها ذلك فقالت لا ترين إلا خيراً. ثم طلب يزيد شراءها فأعتقتها وزوجتها منه، واختلفتا يوماً في صوت لحنه معبد من شعر لجرير وهو قوله:
ألا حيّ الديار بسعداني
…
أحبّ لحب فاطمة الديارا
أراد الظاعنون ليحزنوني
…
فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
فاستحضره يزيد ليقضي بينهما وقد أخبر أنه إلى حبابة أميل، فقضى لها فقالت سلامة إنما قضيت للمنزلة ولكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته لما له علي من الحق فأذن لها فمضى معبد فوجد سلامة قد سبقت حبابة بالضلة ولم تزل تفتقده حتى رجع.
وهذان البيتان غنتهما قينة للفرزدق عند الأحوص، فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز، فقال الأحوص إنما هو لجرير يهجوك به، فقال ويل ابن المرارة ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره، وقيل أن معبداً حين حضر عند الخليفة غنى قول كثير:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الهوى
…
وإن يحدث الشيب الملم لي العقلا
على حين صار الرأس مني كلما
…
علت فوقه نذافة العطب أعزلا
فيا عزان واش وشى بي عندكم
…
فلا تكرميه أن تقولي له أهلا
كما لو وشى واش بودّك عندنا
…
لقلنا تزحزح لا قريباً ولا سهلا
فأهلاً وسهلاً بالذي شدّ وصلنا
…
ولا مرحباً بالقائل أصرم لنا حبلا
فطرب يزيد حتى جعل الوسادة على رأسه، ودار في الدار وهو يقول: السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان. فلما رجع إلى مجلسه ذكر اختلافهما السابق لمعبد، فرجع لحبابة كما سبق، فقالت له سلامة يا ابن الفاعلة تعلم أن الحق معي ولكن قضيت للمنزلة، فضحك يزيد وأحسن صلته وكان البيدق من المهرة في الغناء وكان يختلف إلى حبابة. فلما علت عند يزيد قصدها ليستعطيها وسمعت به فأدخلته وقد جلست مع الخليفة، فقالت له إن هذا أبي وشكرت من صوته وأشارت إليه أن يقرأ فقرأ حتى بكي يزيد ثم أومأت أن يغن فغنى شعر سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بتلحين بن شريح.
من لقلب مصفد
…
هائم القلب مكمد
أنت زوّدته جوى
…
بئس زاد المزوّد
ثاوياً تحت تربة
…
وهي رمس بفدفد
غير إني أعلل النف
…
س باليوم أو غد
فطرب يزيد فضربه بمدهن من ذهب مفصص بالياقوت، فأشارت إليه أن يأخذه فأدخله في كمه.
فقال يزيد لحبابة انظري إلى أبيك كيف أخذ مدهننا فقالت ما أحوجه إليه، ثم خرج فأمر له بثمانين ديناراً وغنته يوماً الشعر السابق أول القصه، بتلحين ابن شريح فطرب وقال هل رأيت أطرب مني، فقالت نعم معاوية بن عبد الله بن جعفر، فغضب وأحضره فأرسلت حبابة فأعلمته أن لا يطرب إلا عندما تغني الصوت المذكور، فلما غنته رقص وطرب، وجعل يقول الدخن بالنوى فأمر له يزيد بثمانية آلاف دينار.
وقال لها مرة أخرى من أطرب مني، فقالت مولاي الذي باعني فاستحضره مقيداً، فلما دخل عليه وقد أرسلت من عرفه القصة أيضاً غنت فألقى نفسه على الشمعة حتى حرقت لحيته، وهو يقول الحريق يا أولاد الزنا فضحك الخليفة وأكرمه بألف دينار. ثم لم يزل منعكفاً على الاقامة معها، والمحافظة على اللهو والطرب والشرب، وقيل أنه جعل فسقية من الخمر في مجلسه وكان إذا طرب سقط فيها ومزق حلة قيمتها ألف دينار.
قيل ذكر أخوه سليمان بحضرة الرشيد فقال الأصمعي، كان رجلاً نهماً، إذا قدم إليه السماط لا يصبر حتى يبرد بل يتناول اللحم بكمه، وأما أخوه يزيد فكان يسقط في الخمر بثيابه، فقال الرشيد للأصمعي ما أعلمك بالناس، والله إن ثيابهما عندي وإن الدهن في أكمام سليمان وأثر الخمر في ثياب يزيد، ولما استمر على حاله وكان قد ولى الخلافة أثر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد اعتاد الناس العدل والاصلاح ثقل عليهم حاله وتعطلت الحاجات فضجوا فدخل عليه مسلمة أخوه فعنفه ولامه ووعظه وذكره عدل عمر. وقيل أنه قال من نفسه، والله ما عمر بأحوج إلى الله مني فهجر الجواري والشراب أياماً.
وقال لمسلمة أرجو أن لا تعتبني بعد اليوم، ثم جلس للناس فثقل ذلك على حبابة فأرسلت إلى الأحوص فعمل شعراً واستحضرت معبداً فلحنه ثم احتالت على أسماعه الخليفة قيل عارضته وهو خارج إلى الصلاة، وقيل رشت خادماً مقرباً منه فأوقفها بحيث يسمع وأنشدته فطرب وقال مروا مسلمة أو قال صاحب الشرط فليصل بالناس ولعن من يلومه في ذلك وعاد فاعتكف على ما كان عليه، وقيل إن الذي أمره بالكف عن ذلك مولى خراساني، كان ذا رتبة عنده، وأنه قال له سأحضرك معهن وأقول أنك عمي، فإن عنفتني رجعت وفعل فشعرن به وقمن يضربنه فوقاه يزيد ثم قال له أدوم على ذلك أم لا فقال دم فاستمر والشعر الذي أنشده الأحوص هو هذا:
ألا لا تلمه اليوم أن يتلبدا
…
فقد غلب المحزون أن يلجلدا
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني
…
ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن فندت الصبا في طلب الصبا
…
لا علم أني لست في الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
…
فكن حجراً من يابس الصخر جلدا
فما العشق إلا ما تلذ وتشتهي
…
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وعهدي بها صفراء رود كأنما
…
نضى عرق منها على اللون عسجدا
مهفهفة الأعلى وأسفل خلقها
…
جرى لحمه من دون أن يتخددا
من المدمجات اللحم خدّا كأنها
…
عنان صناع مدمج الفتل عضدا
كأن ذكيّ المسك منها وقد بدت
…
وريح الخزامى عرفه ينفح الندا
وإني لأهواها وأهوى لقاءها
…
كما يشتهي الصادي الشراب المبردا
فقلت ألا يا ليت أسماء أصقبت
…
وهل قول ليت جامع ما تبدّدا
علاقة حب كان في زمن الصبا
…
فأبلى وما يزداد إلا تجدّدا
نظرت رحاب الموقرات فكم أرى
…
أكاريس يحتلون خاخاً فمنشدا
فأوفيت في نشز من الأرض يافع
…
وقد يسعف الايفاع من كان مقصدا
كريم قريش حين ينسب والذي
…
أقرت له بالملك كهلاً وأمردا
وليس عطا من كان منه بمانع
…
وإن جل عن أضعاف أضعافه غدا
أهان تلاد المال في الحمد أنه
…
أمام هدى يجري على ما تعوّدا
تردّى بمجد من أبيه وجدّه
…
وقد أورثا بنيان مجد مشيدا
ولو كان بذل المال والجود مخلدا
…
من الناس إنساناً لكنت المخلدا
فأقسم لا انفك ما عشت شاكراً
…
لنعماك ما طار الحمام وغردا
هكذا وجدت القصيدة وإن بترها المصنف إلا أن في بعض أبياتها تغييراً ففي نسخة بدل إذا لم تكن تعشق. إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا. يعني بالعزهاة بالمهملة فالزاي محب اللهو والطرب وبدل قوله وإني وإن فندت أغرقت، وبدل قوله لكنت المخلدا لكان ولما سمعه قال لحبابة من يقول هذا قالت الأحوص فاستحضره وأحسن صلته وتراسات فيه يوماً هي وسلامة، فغنيتا إلى أن قالت حبابة كريم قريش، فقال يزيد من يعني قالت أنت، فقالت سلامة أسمع باقيه وأكملته فأجزل صلة الأحوص وكانت إذا غنته حبابة الشعر يطرب حتى يقول أحسنت يا حبيبتي أتأمرين أن أطير فتقول له إلى من تكمل الأمة فيقول إليك واشتد طربه بها يوماً فقال لها قد استخلفتك واستعلمت فلاناً عنك، فقالت قد عزلته فقال أوليه وتعزلينه، وقام مغضباً فلم تكترث به وارتفع النهار فدعا خادماً لها فقال له ما تصنع حبابة؟ قال قد اتزرت بازار خلوقي وهي تلعب بلعبها، فقال هل تقدر أن تمر بها علي، ولك حكمك.
فمضى فلاعبها ساعة واستل لعبة وفر فانطلقت في طلبه تخطر حتى مرت عليه فوثب واعتنقها وهو يقول وليته وهي تقول عزلته، واصطلحا وأقاما على ذلك إلى أن قال يزيد يوماً قد بلغني إن السرور لم يصف لشخص يوماً كاملاً وإني مجرب ذلك، ودعا بحجابه فأوصاهم أن لا يدخلوا عليه أحداً واحتجب معها ببستان له بمقربة من الغوطة تسمى ببيت رأس علي.
زعم المؤرخون أن يزيد بن معاوية وضع رأس الحسين بها حين قدموا به فلم يزل معها على عادتهما حتى انتصف النهار وأنه ضاحكها ثم رشقها بعنبة أو حبة رمان، وقيل هي ابتلعتها فشرقت بها فماتت، واشتد غم يزيد وحزنه وأقام ثلاثاً يرشفها ويضمها ولم يقم أحداً لدفنها حتى ضج به القوم وعذلوه فأذن في تجهيزها ثم لم يستطع النهوض إلى الصلاة عليها، فقيل حمل على رقاب الناس، وقيل قال له مسلمة أنا أكفيك مع أنه لم يحضر ثم ضم جويرية كانت تخدم حبابة فأنس بها فقال لها يوماً ههنا كنا نجلس، قالت نعم، فأنشدك
كفى حزناً للهائم الصب أن يرى
…
منازل من يهوى معطلة قفرا
وخرج إلى قبرها فبكى طويلاً، ثم تمثل بقول كثير:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى
…
فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قائل
…
من أجلك هذا ميت اليوم أو غد
ثم مكث خمسة عشر يوماً وعاوده القلق فأمر بنبشها، فقيل منعه أخوه وقال له الناس أنك أتيت في عقلك فيخلعونك فرجع وقيل استخرجها وجعل يقبلها، فقيل له قد تغيرت. فقال أراها أحسن منها اليوم وإنه مات حينئذ وقيل أقام أربعين يوماً ثم مات ودفن في جانبها. قالوا ولم يسبق أن خليفة مات عشقاً سواه، وأما سلامة فأقامت بعدهما حتى توفيت ما قيل في عهد المنصور.
وحكى عن رجل أنه قال دخل علي غلامي ومعه كتاب ففتحته وإذا فيه:
تجنبك البلاء ونلت خيراً
…
ونجاك المليك من التموم
فعندك لو مننت شفاء نفس
…
وأعضاء فنين من الكلوم
فعلمت أنه عاشق وأمرت بإدخاله فلم يجدوه، فعرضت الكتاب على جواري وقلت من عرفت منكن أمر صاحب هذا فهي له ومائة دينار، فحلفن أنهن لم يعرفن ذلك وبقي الكتاب والدراهم سنة في جانب البيت، فبينا أنا يوماً جالس إذ دخل علي غلامي بكتاب مثل الأول وفيه:
ماذا أردت إلى روح معلقة عند
…
التراقي وحادي الموت يحدوها
حبست حاديها ظلماً فجدّ بها
…
في السير حتى تخلت في تراقيها
والله لو قيل لي تأتي بفاحشة
…
وإن عقباك دنيانا وما فيها
لقلت لا والذي أخشى عقوبته
…
ولا بأضعافها ما كنت آتيها
لولا الحياة لبحنا بالذي كتمت
…
بنت الفؤاد وأيدينا أمانيها
فطلبته فلم أجده أيضاً فغمني أيضاً أمره، وقلت للخادم لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه حتى أراه، وكان قد قرب الحاج فلما وقفت بعرفة إذا بشاب على ناقة إلى جانبي وقد أخذ منه النحول والسقم إلا أن عليه آثار الجمال والأدب فسلم علي وقال هل تعرفني قلت زدني قال أنا صاحب الكتابين قلت قد وهبت لك الجارية ومائة دينار فامض وأعرفها وتسلمها فقد تعبت من أمرك. قال لم أطلب شيئاً مما تقول فعرفني اسمها لا كرمها من أجلك، قال ما كنت بالذي يبوح بشيء وانصرف بعد أن أنشد:
لعمرك ما استودعت سري وسرها
…
سواها حذار أن تضيع السرائر
أصون الهوى خوفاً عليك من العدا
…
مخافة أن يغري بذكراك ذاكر
ومنهم أبو عبد الله الخبشاني عشق جارية سوداء يقال لها صفراء، ومرض من حبها حتى لزم الوساد فقيل لمولاه لو أرسلت بها إليه فعساه أن يجد الشفاء فلما دخلت عليه قالت كيف أصبحت قال بخير ما رأيتك قالت ما تشتهي، قال قربك قالت مما تشتكي؟ قال هجرك قالت فيم توصي؟ قال بك إن سمع لي قالت إني أريد الانصراف، قال لا تعجلي ثواب الصلاة علي، فلما رآها ولت شهق شهقة فمات.
ومنهم شاب بصري قال في النزهة اسمه ظريف بن نعيم الغفاري كان بأعظم حالة من الجمال وأمكن رتبة من المال، وأنه اقترح على أبيه وكان من أكابر تجار البصرة أن يرسله بمتجر إلى بغداد، فمانعه زماناً وكان يقول له نحن غير محتاجين إلى اكتساب بالأسفار فلا تفجعني فيك، فأبى إلا السفر فجهز له حملاً وسار حتى دخل بغداد، فأقام بها مدة يتنزه ويسرح في ملاذها ناظره ويشرح بمنازهها خاطره إلى أن أشار عليه بعض ندمائه بحضور الدكة يعني المكان الذي تباع به الجواري فحضر مع خواص التجار وجيء بجارية بهرت الحاضرين وأشغلت الناظرين.
فكانت كلما أراد أحد تقليبها لم تمكنه من النظر إلى أكثر من عضو واحد وكانت كلما أراد أحد شراءها عابته حتى وقعت عينها على البصري فأحبته وأطعمته بنفسها فساوم مولاها حتى أخذها بمائة ألف درهم ثم انطلق بها إلى منزله.
فلما كان الليل إذا بطارق فخرج فإذا هو صاحب شرطة الحجاج فأخذوه حتى دخلوا به عليه فقال له علي بالجارية التي اشتريتها، فقال أصلح الله الأمير إنها روحي فلا تكن سبب هلاكي. فأمر بالقبض عليه وأرسل من جاء بالجارية، فلما رآها علم أنها لم تبق له إن عرف الخليفة ذلك فوجه بها إلى الشام من ليلتها إلى عبد الملك وحبس الشاب، فلما زال عقله أطلقه وأخذ ماله، فتوجه الشاب إلى دمشق فأقام بها مدة متنغص الحياة، فأراد أن يحتال للاجتماع بالجارية فلم يمكن فوقع في قصة أنه رأى أمير المؤمنين يأمر جاريته نعمى أن تغني لي ثلاثة أصوات اقترحها، ثم يفعل ما شاء. فلما سمع القصة اشتد غضبه ثم عاوده الحلم فلما انصرف الناس أحضر الشاب والجارية، وقال مرها بما شئت، فقال لها غني لي قول قيس بن ذريح لقد كنت حبس النفس إلى أربعة أبيات فغنت فمزق أثوابه، ثم قال لها غني قول جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
إلى ستة أبيات فغنت فغشي عليه، ثم أفاق فقال غني قول المجنون:
وفي الحيرة الغادون من بطن وجرة
إلى أربعة أبيات فلما غنت قام والقي نفسه من علو شاهق فمات.
فقال عبد الله لقد عجل على نفسه أيظن أني أخرجت جارية وأعود بها خذها يا غلام فاعطها لورثته أو فتصدقوا بها عليه، فلما نزلوا بها نظرت إلى حفيرة معدة للسيل فجذبت يدها من الغلام وهي تقول:
من مات عشقاً فليمت هكذا
…
لا خير في عشق بلا موت
وألقت نفسها في الحفيرة فماتت وسأل القوم عن الغلام فقيل أنه قدم من كذا وكذا يوماً ورؤي في الأسواق وهو يقول:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم
…
وتزداد داري من دياركم بعدا
وقيل إن القصة وقعت بين يدي سليمان بن عبد الملك وأنه اقترح في الصوت الأول قول امرىء القيس:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
إلى ثلاثة أبيات وفي الثاني:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم
البيتين وفي الثالث:
تألق البرق نجدياً فقلت له
…
يا أيها البرق إني عنك مشغول
يكفيك مني عدوّ ثائر حنق
…
بكفه كحباب الماء مصقول
وأنه كان يطلب كل مرة النبيذ فيسقي.