الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فسقط مغشياً عليه حين سمع ذلك وتذكر به حال الماجنة وأنها أخبرته أنها تطلب الشام، ثم أفاق ورجع ورمى العمل وكان يركب قصبة ويطوف ببغداد وأهلها يطلبونه خصوصاً أرباب الدواوين ليسمعوا شعره، قيل قال له ابن الجهم يوماً هب لي قولك:
ليت ما أصبح من رقة حدّيك بقلبك
فقال من الذي يهب ولده، ورآه يوماً والصبيان يضربونه، فأدخله بيته ثم قال له بعدما أخذ الراحة، ماذا تريد قال هريسة ورطباً فأحضرهما، فلما أكل قال أسمعني شيئاً من شعرك فأنشد:
تناسيت ما أودعت سمعك يا سمعي
…
كأنك بعد الضر خال من النفع
فإن كنت مجبولاً على الصد والجفا
…
فمن أين لي صبر فاجعله طبعي
هل الحب تجنيه عليّ التفاتة
…
فافرح بعد اليأس مني ومن نفعي
علام الجفايا من كلفت بحبه
…
أتتلفني بالهجر منك وبالقطع
لئن كان أضحى فوق خديك روضة
…
فإن على خدي غديراً من الدمع
فقال له أحسنت والله ووجد لذلك وجداً عظيماً، ثم قال له أسمعني شيئاً غير هذا قال حسبك لن ينالك بهريستك ورطبك أكثر مما سمعت، وخرج من عنده، وله أيضاً:
يا تارك الجسم بلا قلب
…
إن كنت أهواك فما ذنبي
يا مفرداً بالحسن أفردتني
…
منك بطول الهجر والحب
إن تك عيني أبصرت قينة
…
فهل على قلبي من عتب
حسيبك الله لما بي كما
…
أنك في فعلك بي حسبي
ودخل على ابن عباد فرفع مجلسه فقال ابن الأعرابي من هذا فقال أو ما تعرفه قال لا. قال هو خالد الكاتب فقال له ابن الأعرابي، أسمعنا من شعرك فأنشد:
لو كنت من بشر لم يفتن البشرا
…
ولم يفق في الضياء الشمس والقمرا
نور تجسم منحلاً ومنعقداً
…
سلك تضمن في تنظيمه دررا
فقال له ابن الأعرابي كفرت هذه صفة الخالق لا المخلوق أنشدنا غير هذا فقال:
أراك لما لججت في غضبك
…
تترك ردّ السلام في كتبك
حتى أتى على قوله:
أقول للسقم عد إلى بدني
…
حباً لشيء يكون من سببك
فقال له إنك لفوق ما وصت به ووقف عليه إبراهيم بن المهدي عشية وقد تلفع برداء أسود فقال له أنت القائل:
قد بكى العاذل لي من رحمة
…
فبكائي لبكاء العاذل
قال نعم، قال يا غلام ادفع له ما معك، فقال خالد وما ذاك؟ قال ثلثمائة دينار، قل لا أقبلها أو تعرفني من أنت؟ قال أنا ابن المهدي، فأخذها وانصرف إبراهيم، فلما بويع له بالخلافة طلبه فقال له أنشدني من شعرك فأنشد:
عش فحبيك سريعاً قاتلي
…
والضني إن لم تصلني واصلي
قد طغى الشوق بقلب دنف
…
فيك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنى
…
تركاني كالقضيب المائل
وحكى عن حمزة الشاعر نحو ما سبق عن ابن الجهم من رؤيته مع الصبيان وادخاله وإطعامه لكنه قال: فأطعمه رطباً فقط واستنشدته فأنشد:
قد حاز قلبي فصار يملكه
…
فكيف أسلو وكيف أتركه
رطيب جسم كالماء تحسبه
…
يخطر في القلب منك مسلكه
يكاد يجري من القميص
…
من النعمة لو القميص يمسكه
فصل في ذكر من جرع كأس الضنى وصبر على مكابدة العنا واتصف بذلك كله من
النساء وثبت بعد فراق محبوبه على النوى أو كان منها داعية الاعتداء
حكى صاحب النزهة، قال نشأ ببني حران شاب لبعض التجار يدعى واصفاً وكان كامل الحسن والظرف واللطافة والعفة، وكان له ابنة عم تسمى لطيفة، وكانت على أرفع ما يكون من مراتب الجمال ومحاسن الأخلاق والخصال. فتوفي أبوها وتركها صغيرة فكلفها عمها حتى بلغت، فكانت تنظر إلى ابن عمها فيعجبها إلى أن تمكن حبه منها، فمرضت وهي تكتم أمرها.
وكانت امرأة عمها فطنة مجربة للأمور فامتحنتها فوجدتها تغيب عن حسها أحياناً. فإذا دخل الغلام صحت والتمست ما تأكل فأخبرت أباه، فقال يا لها نعمة، ثم زوجه منها فأوقع الله حبها في قلبه فأقاما على أحسن حال مدة، وهو يأمرها أن تكون دائماً متزينة متطيبة، ويقول لها لا أحب أن أراك إلا كذا فلم يزالا على ذلك حتى ضعف الشاب ومات، فحزنت عليه وفقدت عقلها، فكانت تتزين بأنواع زينتها كما كانت وتمضي وتمكث على قبره باكية إلى الغروب.
قال الأصمعي مررت أنا وصاحب لي بالجبانة فرأيتها على تلك الحالة فقلنا لها علام ذا الحزن الطويل فأنشدت:
فإن تسألاني فيم حزني فإنني
…
رهينة هذا القبر يا فتيان
وإني لاستحييه والترب بيننا
…
كما كنت أستحييه حين يراني
فعجبنا منها ثم جلسنا بحيث لا ترانا لننظر ما تصنع فأنشدت:
يا صاحب القبر من كان يؤنسني
…
وكان يكثر في الدنيا موالاتي
قد زرت قبرك في حلى وفي حلل
…
كأنني لست من أهل المصيبات
لزمت ما كنت تهوى أن تراه وما
…
قد كنت تألفه من كل هيآتي
فمن رآني رأى عبرى مولهة
…
مشهورة الزي تبكي بين أموات
ثم انصرفت فتبعناها حتى عرفنا مكانها فلما جئنا إلى الرشيد، قال حدثني بأعجب ما رأيت فأخبرته بأمر الجارية. فكتب إلى عامله على البصرة أن يمهرها عشرة آلاف درهم ففعل وأتي بها إليه وقد أنهكها السقم فتوفيت بالمدائن.
قال الأصمعي فلم يذكرها الرشيد إلا ذرفت عيناه. وحكى بعض أهل المدينة، قال دعاني صاحب لي لسماع جارية تغني، فدخلنا عليها فإذا هي منخرطة الوجه متغيرة تكثر من السهر والاطراق كأنها مشغولة فعزمت عليها أن تخبرني بما بها، فقالت برح الذكر ودوام الفكر وخلو النهار وتشوقي إلى من سار، والذي ترى مما وصفت لك فإن كنت ذا أرب صرفت العتب عن ذي الكرب، واجتهدت في طلب الدواء لمن أشرف على العطب وأخذت العود فغنت تقول:
سيوردني التذكار خوض المهالك
…
فلست لتذكار الحبيب بتارك
أبى الله إلا أن أموت صبابة
…
ولست لما يقضي الإله بمالك
كأن بقلبي حين شط به النوى
…
وخلفني فرداً صدور التيازك
تقطعت الأخبار بيني وبينه
…
ليعد النوى واستد سبل المسالك
فوالله لقد خفت أن تسلب عقلي بغنائها، فقلت جعلني الله فداءك وهذا الذي صبرك إلى ما أرى يستحق ذلك مع أن الناس كثير فلو تسليت بغيره فلعل ما بك يسكن ويخف فقد قال الأول:
صبرت على اللذات لما تولت
…
وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
…
فإن أطعمت تاقت وإلا تولت
فقالت قد رمت ذلك فكنت كما قال قيس ولما أبى إلا جماحا البيتين، فأسكتتني حجبها عن المحاورة، وما رأيت كمنطقها وحسنها وأدبها.
وحكى الزبير بن بكار قد دخلت على الأمير بن طاهر حين قدم من الحجاز فتبسم في وجهي ثم قال:
لئن باعدت بيننا الأنساب
…
فقد قربت بيننا الآداب
وأن أمير المؤمنين اختارك لتأديب ولده، فأمر لك بعشرة آلاف درهم وعشر نحوت وبغال تحمل عليها أمتاعك، فشكرت فضله.
فلما عزمت على الانصراف قال زودنا أيها الشيخ حديثاً نذكرك به فقلت أحدثك بما رأيت أبو بما سمعت قال بما رأيت أو بما سمعت. قال بما رأيت قلت بينما أنا بين المسجدين أو قال على اثاوة الأعرج، إذا أنا برجل صاد ظبياً وهم ليذبحه فنشب الظبي بقرنيه في الرجل فدخلا في جوفه فسقط الصياد والظبي ميتين أو قال رأيت حبالة منصوبة وظبياً مذبوحاً ورجلاً ميتاً فجاءت امرأة حسارة وهي تقول:
يا حسن يا بطل لكنه أجل
…
على الاساءة ما أودي بك البطل
يا حسن قلقل أحشائي وأزعجها
…
وذاك يا حسن عنيد كله جلل
أمست فتاة بني نهد علانية
…
وبعلها في أكف القوم يبتذل
قد كنت راغبة فيه أضن به
…
فحان من دون ضن الرغبة الأجل
ثم شهقت فماتت، فلم أرى أعجب من الثلاثة. وفي رواية وبعلها فوق أيدي القوم محتمل فوهب له عشرة آلاف درهم، ثم قال أتدرون ما استفدنا من الشيخ قالوا لا، قال قوله علانية يعني ظاهرة وهذا حرف لم أسمعه من العرب.
وحكى أن امرأة أحبت رجلاً وكان متمنعاً عنها زماناً فراسلته أن يتزوج بها ففعل وكانت بينهما ألفة شديدة فمكثا على ذلك مدة، فمرض ومات فجعلت المرأة تتردد إلى قبره ولزمته يوماً تبكي وتنشد:
كفى حزناً إلى أروح بحسرة
…
وأغدو على قبر ومن في لا يدري
فيا نفس شقي جيب عمرك عنده
…
ولا تبخلي بالله يا نفس بالعمر
فما كان يأبى أن يجود بنفسه
…
لينقذني لو كنت صاحبة القبر
ثم زادت في النحيب وانكبت على القبر فإذا هي ميتة. وحكى الربيع قال مررت بجارية على قبر تقول:
بنفسي فتى أوفى البرية كلها
…
وأقواهم في الموت صبراً على الحب
قال فقلت لها بم صار كذلك قالت كان إذ أعنف في حبي يصبر وإذا لحى عليه يسكت وإذا زاد به الغرام ينشد هذين البيتين:
يقولون إن جاهرت قد عضك الهوى
…
وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما للذي يهوى ويكتم حبه
…
من الأمر إلا أن يموت فيقبرا
ولم يزل يكررهما حتى مات فها أنا مقيمة على حفظ عهده لا أبرح حتى يتصل القبران ثم صرخت وسقطت فاجتمع النساء فحركنها فإذا هي ميتة، فدفنت إلى جانبه.
وحكى رجل من تميم قال ضلت لي ابل فخرجت في طلبها فإذا أنا بجارية كأنها قمر تغشى بصر من ينظر إليها، فما رأتني قالت مالك؟ قلت ضلت لي ابل فلم أعرف خبرها. فقالت هل أدلك على من عنده علمهن. قلت بلى قالت إن الذي أعطاكهن هو الذي أخذهن وهو أحق بردهن فسله من طريق التيقن لا من طريق الاختبار فأعجبني كلامها ووقفت أنظر إليها ثم راودتها عن نفسها فقالت هبك ليس لك مانع من أدب أمالك زاجر من الحياء فقلت لن يرانا إلا الكواكب. فقالت أين مكوكبها؟ فقلت ألك بعل قالت قد كان ولكن دعي إلى ما خلق له فصار إلى ما خلق منه ثم أنشدت:
إني وإن عرضت أشياء تضحكني
…
لموجع القلب مطوي على الحزن
إذا دجا الليل أحياني تذكره
…
وزادني الصبح أشجاناً على شجني
وكيف ترقد عين صار مؤنسها
…
بين التراب وبين القبر والكفن
ابلي الثرى وتراب الأرض جدّتة
…
كأن صورته الحسناء لم تكن
أبكي عليه حنيناً حين أذكره
…
حنين والهة حنت إلى وطن
أبكي على من حنت ظهري مصيبته
…
وطير النوم عن عيني وأرقني
والله لا أنس حبي الدهر ما سجعت
…
حمامة أو بكى طير على فنن
فقلت لها عندما رأيت من جمالها وفصاحتها هل لك في زوج لا تذم خلائقه وتؤمن بوائقه فأطرقت ملياً ثم أنشدت تقول:
كنا كغصنين في أصل غذاؤهما
…
ماء الجداول في روضات جنات
فاجتث خيرهما من جنب صاحبه
…
دهر يكر بفرحات وترحات
وكان عاهدني إن خانني زمني
…
أن لا يضاجع أنثى بعد مثواتي
وكنت عاهدته أيضاً فعالجه
…
ريب المنون قريباً من سنيات
فاصرف عنك عمن ليس يردعه
…
عن الوفاء خلاف في التحيات
وحكى إبراهيم الموصلي، قال كان كثيراً ما يصف في زلزل جارية عنده فلما مات مولاها وسمعت عرضها للمبيع ركبت حتى دخلت عليها فإذا هي جاريه كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها ونقص منه فسألتها أن تغني، فأخذت العود وغنت:
اقفر من أوتاره العود
…
فالعود للاقفار معمود
وأوحش المزمار من صوته
…
فما له من بعدك تغريد
من للمزامير ولذاتها
…
وعارف اللذات مفقود
فالخمر تبكي في أباريقها
…
والقينة الخمصانة الرود
فركبت إلى أمير المؤمنين فأعلمته بها، فاستحضرها فلما وقعت من قلبه، قال لها هل لك أن أشتريك؟ فقالت أما إذا اشتريتني فلا خير لك فيّ، فرحمها وأعتقها وأجرى عليها مؤونة.