الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
…
وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتني
…
لها غرضاً أرمي وأنت سليم
فلو كان قول يكلم الجسم قد بدا
…
بجسمي من قول الوشاة كلوم
فأجابها:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن
…
وفي بعض هذا للمحب عزاء
جزيتك ضعف الودّ ثم صرمتني
…
فحبك في قلبي إلى اذاء
فالتفتت إلي وقالت ألا تسمع فغمزته فكف ثم أنشدت:
تجاهلت وصلي حين لاحت عمايتي
…
فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته
…
نصيب ولي رأي وعقل موفر
ولكنما آذنت بالصرم بغتة
…
ولست على مثل الذي جئت أقدر
فأجابها:
لقد جعلت نفسي وأنت احترمتها
…
وكنت أعز الناس عنك نطيب
وفي روضة القلوب بدل هذا البيت:
لقد كنت أنهي النفس عنك لعلها
…
إذا وعدت بالنأي عنك تطيب
وفيها أنه قبلها وأنشد:
دمعي عليك من الجفون سكوب
…
والقلب منك مروع مكروب
لا شيء في الدنيا ألذ من الهوى
…
إن لم يخن عهد الحبيب حبيب
فأجابته:
خلوتم بأنواع السرور هناكم
…
وأفردتموني للصبابة والحزن
وعذبتموني بالصدود وإنني
…
لراض بما ترضونه لي من الغبن
والمشهور أنهما لم يأتلفا بعد بل حين أنشد لقد كنت أنهي النفس البيت، قالت له أو كنت تفعل ما فيك خير بعدها وافترقا، فقالت لكعب ما قلت لك أنك لا تفي بضمانك، ولكن إذا كان السحر فأتني. قال كعب فجئت فإذا أنا بالصباح فسألت جارية فقالت حين خرجتما جعلت في عنقها انشوطة وخنقت نفسها، فلحقناها فخلصناها فجلست ساعة تحادثنا وتفتكره فتقول إنه لقاسي القلب، ثم شهقت فماتت.
وبلغ الشاب فلزم قبرها فجاء به في النوم، فقالت هلا كان هذا قبل، فمات من وقته.
قال في النزهة وأصل هذه الحكاية، أن هذه المرأة كانت من عذرة، واسمها سعدى وكانت وهذا الفتى على أعظم رتبة من شدة تعلق كل منهما بصاحبه، وكان في الحي رجل يحبها وهي لا تحبه فغار منهما فوشي به إلى أهلها فحجبوها منه فتراسلا بالمحبة وبلغه فأرسل زوجته عن لسانها إلى مالك بشتم وقطيعة ولم يعرف أنها زوجة ذلك الرجل، ولم تدر الزوجة تفصيل الأمر، وكانت عند مالك أنفة.
فخرج إلى مكة ناقضاً للعهد، فلما بلغ زوجة ذلك الرجل وجه الحيلة، وما أخفاه زوجها أخبرت سعدى بما تم فخرجت على وجهها إلى مكة حتى اجتمعت به وتم بينهما ما سمعته.
الصنف الثاني في ذكر من تمادى على نقض العهد ومات على اخلاف الوعد
أخرج في اقتداح زناد الأشواق عن الأصمعي، قال نزلت على رجل من بني هذيل فأكرمني وأطرفني بلطائف الأخبار، فكان يوم أقصر ما يكون بالسرور.
فلما كان الليل فرش لي موضعاً لطيفاً موطئاً ونمت وجلس، فقلت هل بقي لك ارب في السهر؟ قال لا وعافاك الله ثم ودعني لما بي فحدثت أن له شأناً فأوهمته النوم فقام وفتح مخدعاً فأخرج منه كلبة عليها الحرير وأطواق الذهب. فقدم لها طعاماً وشراباً، فلما اكتفت غسلها بماء الورد وبخرها بالعود، ثم مكث ساعة ونزع ما كان عليها ورشها بالرماد والزيت وعاقبها طويلاً وهو مع الفعلتين يبكي بشهيق أخال فيه أن نفسه زهقت ثم أعاد عليها وأدخلها المخدع وجلس يبكي وينشد:
أأحبابنا لو تعلمون بحالنا
…
لما كانت اللذات تشغلكم عنا
تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا
…
وأبديتم الهجران ما هكذا كنا
وآليتم أن لا تخونوا عهودنا
…
فقد وحياة الحب خنتم وما خنا
غدرتم ولم نغدر وخنتم ولم نخن
…
وحلتم عن العهد القديم وما حلنا
وقلتم ولم توفوا بصدق حديثكم
…
ونحن على صدق الحديث الذي قلنا
ودام كذلك حتى طلع الفجر، فجاء ليوقظني فرآني منتبهاً، فلما ودعته تفرس أن في وجهي كلاماً، فقال أنشدك الله هل رأيت من حالتي شيئاً أنكرته. قلت اللهم نعم، قال أو تحب أن أطرفك به قلت أي والله فتنفس الصعداء وكفكف دمعه فلم يملك ذلك وخنقته العبرة فأرسلها وأنشد:
أكفكف جفن العين والدمع سافح
…
كشبه غدير فوق خدي جاريا
فيا ليت شعري ذا البكاء إلى متى
…
وحتى متى ذا الحزن والجسم باليا
ثم غيض دمعه، وقال يا أخا العرب كانت لي ابنة عم لا أملك الصبر عنها فتزوجت بها فكانت بي أبر من أمي، وأقمنا مدة لم آل جهداً في الاتفاق عليها، فتعاهدنا على عدم التفرق والاستبدال. فلما أملقت أنفقت مني فأخذت في التحامل والتجنب فقلت لها ماذا تريدين؟ قالت أو فاعل أنت ما أقول؟ قلت نعم، قالت تطلقني فخامرني حبها فقلت قد فعلت. فاعتزلتني وعاودني القلق فألمت طويلاً وجئت وشكوت إليها ذلك وذكرتها العود والمواثيق، فطيبت نفسي وحلفت أنها لا تتزوج ولا تتزين لغيري.
فقمت وجئتها يوماً فوجدتها على أحسن ما يكون من أنواع الزينة فكلمتها فلم تجب، فسألت فقيل لي تزوجت فحلفت لها أن لا آخذ بدلها للبسها وزينتها التي عندي إلا كلبة وفعلت فأنا الآن أمثلها بتذيين هذه الكلبة وأذكر غدرها فأسلبها وأعاقبها كما رأيت.
قلت فهل وقع بينكما بعد ذلك مراسلات قط. قال نعم قد كلفها الذي تزوج بها شططاً وسلمها نقصاً، فندمت فراسلتني فلم أجب مع أنه لم يكن على البسيطة أعز علي منها ولكنها الغيرة تمنعني.
قال الأصمعي فلم أر أغرب منها.
وأخرج في النزهة عن الرياشي، قال اتجر صديق لنا فحمل الصندل إلى شهرزور وقد بلغه أنه نافق. فلما حل بها صادف كساداً، فمكث مغموماً فبينا هو كذلك إذ مرت به عجوز فسلمت عليه بلطف وسألته عن حاله، فشكى إليها ما يجد من الغربة والوحدة وكساد متجره.
فقالت أما الكساد فسيزول ولم تزل الناس على هذا، وأما وحدتك وغربتك فلا أرى لما دواء إلا أن تتزوج بمن تحفظك إذا غبت، وتؤنسك إلى حضرت وتفرج عنك إذا حزنت.
قلت ومن أين لي بما ذكرت؟ قالت أنا الضامنة لك ما تطلب ابتغاء لوجه الله تعالى، فشكرت صنيعها وأمرتها أن تفعل. فما مضت عني إلا وقد جاءت الدلالون فاشتروا البضاعة بأحسن ربح إلى أجل فتوسمت فيها الخير، وجاء فقالت قد هيأت لك ما تطلب فقم لتنظرها.
فمضينا إلى دار لطيفة وقد فرش لي قطيفة بزة، فجلست وجاءت امرأة تسر القلب وتملأ العين إلا أن عليها آثار الحزن وشعار الفرقة، فسلمت بحشمة وجلست فقالت العجوز ها هي فتراضينا ودخلت بها ودمت أسبوعاً في أنعم حال غير أني أجدها تقوم من الصباح فتجلس في موضع يشرف على الأشجار وتبكي حتى ترتفع الشمس، فلم أسألها عن ذلك.
فلما كان يوم وقد أخذها النوم حتى طلعت الشمس، انتبهت مرعوبة ترتعد، ثم ذهبت إلى المشرف وعادت ومزقت أثوابها وجلست تبكي فلم تلهج يومها كله إلا بهذه الأبيات:
أيا عين نوحي بالدموع السواجم
…
على طامس بالشرق خافي المعالم
وسحى دماً إن سح دمعك واسعفي
…
حليف الهوى من قبل حمل التمائم
إذ ناحت الورقا على فقدانها
…
ولم تك ذا عقل فما حال عالم
حرام عليّ النوم إذ فاتني به
…
زمان البكا والنوح قبل الحمائم
فضاق صدري لحالها، وراجعت نفسي في سؤالها، ثم غلب علي عدم التصبر بعد أيام وهي تجالسني كالمشغولة وتقوم بما أحتاجه حتى إذا نمت مكثت جالسة حتى يسفر الفجر فتروح إلى المكان الذي يشرف على الشجر كعادتها. فقلت يا سيدتي قد ضاق صدري لحالك. وأنا أعزم عليك إلا ما أخبرتني بما أنت فيه.
فقالت أو لا بد، قلت أي والله. قالت قد كان أبي ذا ثروة وعزة، وكان لي ابن عم قد كفله أبي صغيراً فنشأت وإياه ليس عند أحدنا أعز من الآخر فزوجني منه، فأقمنا لا نستطيع صبراً.
وكان في هذا البستان زوج حمام يبيت فيه ويصبح ويغرد بأنواع التغريد فإذا اختفت واحدة في شجرة دارت الأخرى عليها حتى تكاد أن تموت، فإذا التقينا تعانقا وغردا.
فلما كان يوم مر بهما حمام فطارت إحداهما إليه ومضت فلم ترجع فأقامت الأخرى تغرد كل صباح إلى ارتفاع الشمس، ثم تلقي نفسها كالميتة حتى ذهبت نضارتها وذوى ريشها.