الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا لا يحسن على اطلاقه إلا بعد تحقيق وثاقه وهو أن يكون للمحبة أمل وإنما ضعف بالملازمة وإلا فالبعد مع عدم ذلك غاية مطلوبه وصفة محبوبه.
القسم الثالث
الهجر المعروف بهجر الجزاء والمعاقبة
هو هجر سببه وقوع في ذنب ولو خطأ وعلامته قبول الأوبه عند صدق التوبة وعلاجه تصديق الحبيب في دعواه والنزول على حكمه والرضا بما يهواه والاعتراف بالذنب وإن لم يكن صدر والطلب العفو ممن قدر وإلى هذا المشرب وسلوك هذا المأرب أشار سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه بقوله:
عبد رق مارق يوماً لعتق
…
لو تخليت عنه ما خلاكا
فقد حقق في هذا الباب أن لا محيص له عن هذا الجناب وأنه يطلبه بكل حال لا ينحيه عنه في سائر الأحوال سوى طلب أو منع أو جلب أو دفع ثم دل على صدق كلامه وانعقاد قلبه على مطاوعته في مرامه فقال:
وبما شئت في هواك أختبرتني
…
فاختياري ما كان فيه رضاك
ثم ارتفع عن هذه المرتبة ايضاحاً لمراتب السالكين ودلالة على التنقل الموصل للناسكين حيث قال:
وقد صرت مستدع قضاك وما به
…
رضاك ولا أختار تأخير مدتي
فإنه أبلغ من قوله:
وإن هددوا بالهجر مانوا مخافة
…
وإن أوعدوا بالقتل حنوا إلى القتل
خلافاً لبعض الشراح لعموم ما في الأول بالنسبة إلى هذا وبيانه يستدعي طولاً وأما قوله:
وما غدرت في الحب إذ هدرت دمي
…
بشرع الهوى لكن وفت إذ توفت
فاصرح من جميع ذلك فيما نحن فيه بل ربما تمشى على القسم الأول أو هو له حقيقة.
الهجر الرابع
الهجر الخلقي
وسماه بعض الصوفية الأزلي يقال أن الجنيد رضي الله عنه فسر قوله صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف بأن الله حيث أخرج عالم الذر جعله في كفه ثم أخذ العهد عليه ثم بذره فوقع بعضه متقابلاً وهؤلاء هم المشتركون في نسب أوجبت الصحبة وحققت المحبة وتدابر الآخر فحقت بين أفراده المقاطعة وجبلوا على الممانعة وهذا التقابل والتدابر يجوز حله على حقيقته ويجوز أن يراد به أمر معنوي غايته الاختلاف وأسباب هذا كثيرة أعظمها عند المتمسكين بالشرائع اختلاف الأديان وعند مطلق العالم يستند إلى الارادة الالهية حيث صرح بعجز أكمل مخلوقاته وعين أعيان سر صفاته عن قيام الناموس بدونها فقال عز وجل من قائل " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً الآية " وهذا القسم والذي قبله لا تعلق للعشاق بهما على ما اخترناه وبعضهم يرى أن الثلاثة الأول من متعلقات العشق ويجمع بين الكلامين بتفاوت المراتب فإن من بلغ إلى قول الاستاذ رضي الله عنه وكل الذي ترضاه البيت لم يكن القسم الثاني فضلاً عن الثالث مكن متعلقاته وإذا عرفت ما قررناه ثبت عندك أن هذا القسم لا علاج له أصلاً إلا بالارادة الالهية ثم الهجر من المحب الصادق قد يؤل الأمر فيه بالعاشق إلى أن يخرج كلامه مخرج الدعاء عليه ويكون في الحقيقة ثناء لديه وقد يستخير عند تمادي الهجر وحكم الغرام حلول رمسه فيجعل ذلك الدعاء على نفسه وألطف ما سطر في الأول وعليه عند الظرفاء يعول قول الشاب الظريف المعروف بابن العفيف.
أعز الله أنصار العيون
…
وخلد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتداراً
…
وإن تك أضعفت عقلي وديني
وخلد دولة الأعطاف فينا
…
وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون
وأسبغ ظل ذاك السعد يوماً
…
على قدّ به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثنايا
…
وإن جارت على الفذ الطعين
وقال أيضاً:
أدام الله أيام الوصال
…
وخلد عمر هاتيك الليالي
وأسبغ ظل أغصان التداني
…
وزاد قدودها حسن اعتدال
ولا زالت ثمار الأنس تجني
…
تزيد لطافة في كل حال
ولا برحت لنا فيها عيون
…
تغازل مقلتي خشف الغزال
وقال آخر:
يا رب إن قدرته لمقبل
…
غيري فللمسواك أو للأكؤس
وإذا قضيت لنا بصحبة ثالث
…
يا رب فليك شمعة في المجلس
وإذا حكمت لنا بعين مراقب
…
يا رب فلتك من عيون النرجس
وقال شهاب الدين بن العائم:
والله ما أدعو على هاجري
…
إلا بأن يمحن بالعشق
حتى يرى مقدار ما قد جرى
…
منه وما قد تم في حقي
وقال آخر:
أيها المعرض صفحاً
…
عن خطابي وجوابي
لا أرك الله عمري
…
أو يريني بك ما بي
ربّ فاجعله دعاء
…
خائباً غير مجاب
رق قلبي أن يرى
…
قلبك في مثل عذابي
وقال آخر:
كم جفاني فرمت أدعو عليه
…
فتوقفت ثم ناديت ذاهل
لأشفى الله طرفه من سقام
…
وأراني عذاره وهو سائل
ابن وكيع:
إن كنت تعلم ما بي
…
وأنت بي لا تبالي
فصار قلبك قلبي
…
وصرت في مثل حالي
بل عشت في طيب عيش
…
تفديك نفسي ومالي
دعوت إذ ضاق صدري
…
عليك ثم بدا لي
وقال آخر:
ولما بدا لي أنه غير رائدي
…
وأن هواه ليس عني بمنجلي
تمنيت أن يهوى ويحيا لعله
…
يذوق مرارات الهوى فيرق لي
قالت:
لي طلعة الحسن واللطف ناضرة
…
أرى كل أرباب المحاسن ناظره
لقد بطنت في كل معنى وصورة
…
من الكون لما أصبحت فيه ظاهره
تضن على العشاق بالقتل في الهوى
…
فما طلبي للوصل إلا مكابرة
ولكنني أرجو تبدل ما بنا
…
من الميل واستكشاف حجب المساتره
فتطلبني من بعد ما أنا طالب
…
لها وتحييني بحسن المحاضره
فيا رب خذ منها بحقي وانتصر
…
لنفس غدت في أبحر الشوق حائره
ولا تستجب مني وسلطان عزها
…
أدمه وإن كانت على الناس جائره
ثم قد يتمادى الهجر ولا يسمع الدعاء ويعز الوصل ويصعب الرضا فيأخذ العاشق في مسح الدموع والانحطاط من أوج الارتفاع إلى حضيض الخضوع. ولقطب هذه الدائرة وبدر سماء هذه الكواكب السائرة ذي المرتقة التي لا تلحق وقصب السبق التي لا تدرك والجواد الذي لا يسبق قوله:
ومن درجات العز أمسيت مخلداً
…
إلى دركات الذل من بعد نخوتي
فلا باب لي يغشى ولا جاه يرتجى
…
ولا جار لي يحمي لفقد حميتي
فقد أشار في هذين البيتين إلى طرح حطوط نفسه التي قد تكون مانعة من الوصول إشارة يدق إدراك كنهها عن العقول فقد أثبت له رتبة رفيعة بين أن تركها بعد علاج عظيم ومن ثم كان تدريجاً لعدم إمكان طرحها دفعة كما أفهمته الدرجات والإضافة إلى العز وعكس الحكم في الطرف الآخر لأنه في غاية المقابلة وأكد ذلك بالاشارة إلى غاية المحو الذي به حقق إثباته كما أشار بعده بقوله والفقد مثبتي وأما إشارته إلى الدموع وفنسكابها فالغاية التي لا يدرك منها الناس إلا القشور فمنها قوله:
فسهدي حي في جفوني مخلد
…
ونومي بها ميت ودمعي له غسل
فانظر إلى غرابة هذه الاستعارات ولطف هذا التركيب وصحة هذا السبك الخالص من الزيف مع بلوغ المقصود ثم بالغ في تحقيق هذا المرام وارتقى في مسالك هذا المقام بقوله:
وامع هملت لولا التنفس من
…
نار الجوى لم أكد أنجو من اللجج
وأبلغ منه قوله
فطوفان نوح عند نوحي كاد معي
…
وإيقاد نيران الخليل كلوعتي
فلولا زفيري أغرقتني مدامعي
…
ولولا دموعي أحرقتني زفرتي
لعكس التشبيه كما سبق في صدر هذا الباب وتكافؤ الضدين هنا ومن قال بتساوي المعنيين في القصيدتين لم يعرف معنى الطوفان بالنسبة إلى اللجج في الأول لأنه انقلاب العناصر كلها إلى واحد وهذا في الدقة كقوله رضي الله عنه وإن لم يكن مما نحن فيه.
وتحفت أخفافها فهي تمشي
…
من جواها في مثل جمر الرماد
حيث نسب تحفية الاخفاف إلى حراره الجوى التي شأنها الصعود عكس الإخفاف فكأنه يقول لشدة هذه الحرارة استوعب الأحباز كلها وأما قوله:
فلو بكى في قفار خلتها لججا
…
وإن تنفس عادت كلها يبسا
وغيره فكثير لا يمكننا إدراك أقله وأني للبشر من حيث أنه بشر إدراك دقائق الفيوضات الإلهية والكرامات التي خلفت المعاجز النبوية كما صرح به رضي الله عنه حيث قال: