الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لعمري لمن أمسى وأنت ضجيعه
…
من الناس ما اختيرت إليه المضاجع
ألا تلك لبنى قد تراخى مزارها
…
وللبين غمّ ما يزال ينازع
إذا لم يكن إلا الجوى فكفى به
…
جوى حرق قد ضمنتها الأضالع
أبائنة لبنى ولم تقطع المدى
…
بوصل ولا صرم فييأس طامع
نهاري نهار الوالهين صبابة
…
وليلى تنبو فيه عني المضاجع
قد كنت قبل اليوم خلوا وإنما
…
تقسم بين الهالكين المصارع
وهذان البيتان في غير رواية أبي علي:
ولولا رجاء القلب أن يعطف النوى
…
لما حملته بينهنّ الأضالع
له وجبات أثر لبنى كأنها
…
شقائق برق في السحاب لوامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدى
…
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
…
ويجمعني بالليل والهم جامع
إذا نحن أنفدنا البكاء عشية
…
فموعدنا قرن من الشمس طالع
وللحب آيات تبين للفتى
…
شحوب وتبري من يديه الأشاجع
وما كل ما منيت نفسك خالياً
…
تلاقي ولا كل الذي أنت تابع
تداعت له الأحزان من كل وجهة
…
فحن كما حن الطيور السواجع
أراك اجتنبت الحي من غير بغضة
…
ولو شئت لم تجنح إليك الأصابع
كأن بلاد الله ما لم تكن بها
…
وإن كان فيها الناس قفر بلاقع
ألا إنما أبكي لما هو واقع
…
وهل جزع من وشك بينك نافع
أحال عليّ الدهر من كل جانب
…
ودامت ولم تقلع على الفجائع
فمن كان محروقاً غدا لفراقنا
…
مذ الآن فليك لما هو واقع
وقد انتهت أخباره كما وجدت وكأني بغبي يعترض على نقلي له من مراتب من حظي بالتلاق إلى مراتب من مات دونه من العشاق ولم يدر أن الحينيات توجب بالتأمل الصائب والفهم الذكي الثاقب ما لم يدركه الغافل الغبي أما تقدم هذه الأربعة فقد علم. وأما ذكر هذا هنا فقد قال في النزهة والبدور المسافرة وطوالع الأزهار وغالب شراح ديوان الاستاذ ومن بحث عن أحوال العشاق أنه رأس أهل الهوى ولكن وقوعه في فرقة المحبوب وقعة في هذه المرتبة وقال المتكلمون على الديوان المذكور إن سلطان العشاق واستاذ العارفين على الاطلاق قد أشار إلى تفضيله على الكل حيث شبه غرامه بغرامه وحسن لبنى ببهجة الحضرة الممدوحة حيث قال:
بفرط غرامي ذكر قيس بوجده
…
وبهجتها لبنى أمت وأمت
لا يقال قد أفرد غيره بالذكر أيضاً الآن أساليب دقائق كلامه وأفانين مطاوي نظامه تجلى عن أن تنال الأبشق الأنفس والله يؤتي فضله من يشاء فإن قوله: فإن كنت ليلى أن قلبي عامر. ونحوه ليس تمويهاً بعظم الشأن كما في البيت السابق اه. قلت وقد يقال لا تفضيل القيس في البيت على غيره فيجاب بأن قوله رضي الله عنه:
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق
…
كمجنون ليلى أو كثير عزة
صريح في جعله في مقابلة الجموع حيث ذكرهم بالحرف الدال على الانتقال عن الأرفع ومثل بالأمثل وذلك يقتضي التفضيل على الجميع وحكمة ذلك والله أعلم كونه قد عرف لذة الوصل والتلاق ثم رمي بغصة البعد والفراق وذلك عند العقلاء أبلغ وأعظم وأرفع في مقاسات الغرام وأفخم وفيه تلميح بما ذكر في التفضيل بين البشر والملائكة.
أخبار المجنون وصاحبته ليلى
قد اختلف في اسمه هل هو عامر أو مهدي أو الأقرع أو معاذاً وقيس ابنه أو ابن الملوح أو البحتري بن الجعد، والصحيح الأول لإشارة عارف الوقت في البيت السابق وفي نسبه عامري أو كلابي أو جعدي أو قشيري أو المجانين متعددة أو هما اثنان في بني عامر أو لم يكن أحد وإنما امرؤ تعشق واستكبر عن أن يصرح باسمه واسم محبوبته فموه بالمجنون وليلى والصحيح أنه من بني عامر وهو عامر بن ملوح بن مزاحم يتصل نسبه عند صاحب الأغاني إلى كعب بن ربيعة بن صعصعة كان مديد القامة جعد الشعر أبيض اللون ولم ينله الهزال والجنون وتغير اللون إلا من العشق، وصاحبته هي ليلى بنت مهدي بن سعد تتصل بنسبه في كعب بن ربيعة وكنيتها أم مالك وهذا أخذ من قوله ذلك في شعره كثيراً نحو قوله:
تكاد بلاد الله يا أم مالك
…
بما رحبت يوماً عليّ تضيق
وهذا كاستدلالهم بأن اسم أبيه ملوح بن مزاحم وأنه مات قبل اختلاط عقله فعقر عليه ناقة بقوله:
عقرت على قبر الملوّح ناقتي
…
بذي السرح لما أن جفاه أقاربه
وقلت له كوني عقيراً فإنني
…
غداة غد ماش وبالأمس راكبه
فلا يبعدنك الله يا ابن مزاحم
…
فكل امرىء للموت لا بد شاربه
وروى باسقاط هاء السكت وحذف البيت الأخير وذكروا أن سبب عشقه لليلى أنه مر يوماً على ناقة له وعليه حلتان من حلل الملوك بامرأة من قومه وعندها نسوة يتحدثن فأعجبهن فاستنزلنه للمنادمة فنزل وعقر لهن ناقته وأقام معهن بياض اليوم فأقبل فتى اسمه منازل يسوق غنماً فانصرفن إليه وتركن المجنون فقام مغضباً وأنشد:
أأعقر من جرّا كرائم ناقتي
…
ووصلي مقرون بوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحليّ ولم أكن
…
إذا جئت اخفوا صوت تلك الخلاخل
فقوله من جرا وكرائم يعني من أجلها وكرائم اسم المرأة التي كن عندها وروى ووصلى مفضول أي دون وصل منازل وهو أليق بالمقام وفي النزهة:
إذا جاء قعقعن الحليّ ولم يكن
…
إذا جئت بل أخفين صوت الخلاخل
يقول قد أظهرن صوت الحلي حين جاء منازل وهذه كناية عن قيامهن له ولم يكن ذلك عند مجيئي وهذا هو اللائق ولم يؤخذ من البيت السابق وقيل تداعيا المناضلة أو الصراع فقال له المجنون قم إلى حيث يرينك ولا تراهن فافعل ما تقول وأنشد في ذلك:
إذا ما انتضلنا في الخلاء نضلته
…
وأن يرم رشقاً عندها فهو ناضلي
فعلى هذا يكون ضمير عندها عائداً على النسوة وهذا دليل على شدة استحيائه فإنه يقول له ما دمت تنظر إليهن فإنك تشجع فتغلبني وهذا على حد قوله:
حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي
…
فأنت بمرأى من سعاد وسمع
يقول جدي في السجع فإن سعاد تنظرك وتسمعك قلت هذا ما نقل في الأصل عن ابن الكلبي ولا دليل فيه على تعلقه بليلى، وإنما الدليل فيما رواه صاحب نزهة المشتاق قال لما دعته النسوة إلى النزول نزل وجعل يحادثهن ويقلب طرفه حتى وقعت عينه على ليلى فلم يصرف عنها طرفاً وشاغلته، فلم يشتغل ثم قال لها هل عندكن ما تأكلن قالت لا، فعمد إلى الناقة فنحرها وقطعها وجاءته لتمسك معه اللحم فجعل يحز بالمدية في كفه وهو شخص فيها حتى أعرق كفه فجذبتها من يده ولم يدر، ثم قال لها ألا تأكلين الشواء قالت نعم فطرح من اللحم شيأ على الغضى وأقبل يحادثها، فقالت له أنظر إلى اللحم هل استوى أم لا فمد يده إلى الجمر وجعل يقلب بها اللحم فاحترقت ولم يشعر فلما علمت ما داخله صرفته عن ذلك ثم شدت يده بهدب قناعها ثم ذهب وقد تحكم عشقها من قلبه وقيل أنها بعد هذا المجلس استدعته للمحادثة وقد داخلها الحب فقالت له هل لك في محادثة من لا يصرفه عنك صارف فقال ومن لي بذلك ثم تزل وعقر ناقه كما مر وأنها كانت مغرمه بأحاديث الناس والأشعار وكان هو أروى الناس لذلك فكانت تستدعيه لتسمع منه وكان يجيبها إلى ذلك فتداخلت بينهما المحبة وفي نديم المسامرة أنهما انتشئا صغيرين يرعيان الغنم بدليل قوله:
تعلقت ليلى وهي ذات تمائم
…
ولم يبد للاتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى إليهم يا ليت أننا
…
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فتحابا وأنها حجبت عنه فداخله جنون وعلى كل الطرق لما عرف كل منهما ما عند الآخر وتمكنت المحبة منهما جعل يأتيها نهاراً قبل الحجب ويذهب ليلاً وفي ذلك يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
…
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
…
ويجمعني بالليل والهم جامع
قلت وقد تقدم أن البيتين لقيس بن ذريح وصرح في نزهة العشاق بذلك وقال أن المجنون كان يتمثل بهما وهذا هو الصحيح فإنهما كان متعاصرين حتى نقل في الأغاني أن قيساً مر بالمجنون وهو في مبادي مخالطة العقل والانفراد وكان كل منهما يشتهي لقاء صاحبه فسلم عليه فلم يرد فعرفه بنفسه فقام إليه واعتنقه وتباكيا واشتكى كل إلى الآخر ما عنده فقال المجنون لقيس أن حي ليلى قريب فهل لك أن تبلغها سلامي فمضى حتى وقف بها ونسب نفسه فتعارفا وبلغها فأخبرته أن وجدها به أعظم، ولكن قالت أنا عاتبة عليه حيث يقول:
أتت ليلة بالغيل يا أم مالك
…
لكم خير حب صادق ليس يكذب
إلا إنما أبقيت يا أم مالك
…
صدى أينما تذهب به الريح يذهب
فأي ليلة كانت ومتى اختليت معه بالغيل أو غيره فقال لها لا تحمليه على ما تقول الناس فلم يرد سوأ وانصرف قيس ليخبره فلم يجده وكان المجنون عند أبيه أعظم منزلة من اخوته وكان أبوه ذا ثروة فدفع له خمسين بعيراً وراعيها في مهر ليلى فلم يقبل أبوها مع أنه دونهم لما مر من أن العرب كانت تكره تزويج اثنين انتشرت أخبارهما بالمحبة فخيروها بينه وبين رجل اسمه ورد وهددوها على أن تختاره ففعلت كارهة وفي ذلك يقول المجنون:
ألا يا ليل إن ملكت فينا
…
خيارك فانظري لمن الخيار
ولا تستبدلي منا دنيا
…
ولا بر ما إذا حث القتار
يهرول في الصفير إذا رآه
…
وتعجزه ملمات كبار
فمثل تأيم منه نكاح
…
ومثل تموّل منه افتقار
وأبصر يوماً في طريقه إلى زيارتها جارية عسراء فتطير وأنشد:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جرى
…
بجد القوى من ليل أعسر حاسر
صريع العصا جدب الزمان إذا انتحى
…
لوصل امرىء لم تقض مه الأواطر
وشكا ذلك إليها فقالت لا بأس عليك والله لا اجتمعت بغيرك إلا كارهة وكانت قبل هذا القول قد امتحنته لتنظر ما عنده من المحبة لها فدعت شخصاً بحضرته فسايرته أو صرفت وجهها عنه إلى غيره ثم نظرته قد تغير حتى كاد أن يتقطر فأنشدت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضاً
…
وكل عند صاحبه مكين
وفي رواية وكل مظهر في الناس وبعده.
وأسرار الملاحظ ليس تخفى
…
وقد تغري بذي اللحظ العيون
وبهذين البيتين تظافرت الروايات وجاء في رواية:
وقد تغري بذي اللحظ الظنون
وبعده:
وكيف يفوت هذا الناس شيء
…
وما في الناس تظهره العيون
فسر بذلك حتى كاد أن يذهب عقله فانصرف وهو يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة
…
من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضى إليه وصيتي
…
ولا صاحب إلا المطية والرحل
محا حبها حب الأولى كن قبلها
…
وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
وفي رواية ولا وارث المطية والأولى أصح وأنسب لأن المطية لا ترث وتستصحب كما جاء في كلام العرب:
إن الحمار مع الحمار مطية
…
وإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأصل ذلك أن الصحبة في الأصل مجرد الاجتماع وأما شدة المخالطة والمداخلة فصداقة. وخرج يوماً في سفر مع قوم فأفضت به الطريق إلى مسلكين أحدهما يمر برهط ليلى ولكنه يزيد مرحلة فتقدم إلى القوم وسألهم أن يسلكوها أو يمكثوا له حتى يرجع فأبوا عليه فقال أنشدكم الله لو أن شخصاً تحرم بكم فضل بعيره أكنتم تسعفونه قالوا نعم فقال إن ليلى لأعظم من ذلك وأنشد:
أأترك ليلى ليس بيني وبينها
…
سوى ليلة إني إذن لصبور
هبوني امرأ منكم أضل بعيره
…
له ذمة إن الذمام كبير
وللصاحب المبرور أعظم حرمة
…
على صاحب من أن يضل بعير
عفا الله عن ليلى الغداة فإنها
…
إذا وليت حكماً عليّ تجور
واستشهد شخصاً عن عروة بن حزام فأخبره بحاله وأنه مات براحة فتعجب من كثرة ذكر الناس له مع حسن حاله في العشق وأنشد:
عجبت لعروة العذري أمسى
…
أحاديثاً لقوم بعد قوم
وعروة مات موتاً مستريحاً
…
وها أنذا أموت كل يوم
ولما اشتهر أمرهما في العرب وشاع شعره فيها منعه أهلها الزيارة وكان في حي ليلى امرأة من بني عامر قد تزوجها رجل من حريش ومات عنها وقد ترك لها صبية فكان يأتيها المجنون يتعرف منها أخبار ليلى فبلغ أهلها ذلك فزجروا المرأة وجاء المجنون فأخبرته فأنشد متمثلاً بيت امرىء القيس وضم إليه ثانياً له:
أجارتنا إنا غريبان هنا
…
وكل غريب للغريب نسيب
فلا تزجريني عنك خيفة كاشح
…
إذا قال شراً أو أخيف لبيب
ثم تركها وكان يأتي غفلات الحي فلما علموا بذلك شكوه إلى مروان فكتب إلى عامله بهدر دمه إذا وجد عند ليلى فقرؤا عليه ذلك فأنشد:
لئن حجبت ليلى وآلى أميرها
…
عليّ يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم
…
أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير إني أحبها
…
وإن فؤادي عند ليلى سميرها
ولما يئس من زيارتها قلق لذلك قلقاً أدى لزوال عقله فهام على وجهه يلعب بالتراب والعظام لا يعقل غير ذكرها وأنها جزعت لذلك جزعاً أدى إلى سقمها فحج بها أهلها فرآها ثقفي فخطبها إليهم فأجابوا بعد أن ردوا جماعة ونمى إلى المجنون ذلك فأنشد:
ألا أن ليلى العامرية أصبحت
…
تقطع إلا من ثقيف حبالها
هم حبسوها محبس البدن وأبتغي
…
بها المال أقوام ألا قل مالها
إذا ما التقت والعيس صفر من الثرى
…
من العين جلى عبرة العين حالها
هذا ما تظافرت به الأخبار وفي رواية إلا تلك ليلى العامرية أصبحت وفيها والعيس صفر من البكا وقد حرف هذا البيت وفي رواية الأغاني لقد حبسوها محبس البدن وفي أخرى بعده:
خليلي هل من حيلة تعلمانها
…
فيدنى بها تكليم ليلى احتيالها
فإن أنتما لم تعلماها فلستما
…
بأول باغ حاجة لا ينالها
كان مع الركب الذين اغتدوا بها
…
غمامة صيف زعزعتها شمالها
نظرت بمفضى سيل حوضين والض
…
حى تحث بأطراف المحارم آلها
بمنهلة الأجفان هيج شوقها
…
مجامعة الآلاف ثم رآلها
إذا التفت من خلفها وهي تعتلي
…
على العيس جلى عبرة العين حالها
وحين تحقق عنده تزويجها أنشد:
دعوت إلي دعوة ما جهلتها
…
وربي بما تخفي الصدور خبير
لئن كان يهدي برد أنيابها العلا
…
لا فقر مني إنني لفقير
فقد شاعت الأخبار إن قد تزوجت
…
فهل يأتيني بالطلاق بشير
وجعل يمر ببيتها فلا ينظر إليه فأنشد:
ألا أيها البيت الذي لا أزوره
…
وإن حله شخص إليّ حبيب
هجرتك اشفاقاً وزرتك خائفاً
…
وفيك عليّ الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلها
…
بيوم سرور في الزمان تؤب
وأفردت إفراد الطريد وباعدت
…
بي النفس حاجات وهن قريب
لئن حال واش دون ليلى لربما
…
أتى اليأس دون الأمر فهو عصيب
ومنيتني حتى إذا ما رأيتني
…
على شرف للناظرين يريب
صددت وأشمت العدوّ بصرمنا
…
أثابك يا ليلى الجزاء مثيب
والبيتان الأولان لمحمد بن أمية هذا ما نقله والصحيح أن البيت الأول للمجنون ذكر ذلك في النزهة وأقره في تسريح الناظر غير أنه قال في الثاني والثالث أنهما ليسا للمجنون وفيه وفي رواية هنا: بيوم سرور وفي الزمان تثوب. والمعنى واحد وبقي أبيات من هذه القصيدة آخرتها الآن لها حكاية وحين بلغه نقلها إلى الثقفي:
كان القلب ليلة قيل يغدى
…
بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرّها شرك فباتت
…
تجاذبه وقد علق الجناح
فلا في الليل نالت ما ترجى
…
ولا في الصبح كان لها براح
وفي تسريح الناظر عن الأمالي قال اجتمع إلى المجنون عزوة من قومه ممن كان ينادمه حال صحته وقد ذهبوا به حين بني الثقفي بليلى فعزموا على أن يسافروا به متنزهين في أحياء العرب ليذهب ما به فساروا وهو معهم تعاوده الصحة دوراً والجنون دوراً وهم يردون كل منتزه ويعرضون عليه من بنات العرب كل من أجمع على حسنها وأنهم غفلوا عنه ليلة ثم افتقدوه فرأوه قد ذهب فركب ابن عم له في طلبه فرآه عنده مشرعة وبين يديه ظبية لا حراك به وهو يمسح عنها التراب ويقبلها ويبكي هذا ما في تسريح الناظر زاد في نزهة المشتاق أنه كان ينشد:
أيا شبه ليلى لا تخافين إنني
…
لك اليوم من وحشية لصديق
فقال له اذهب بنا فلم يجب فقال اذهب لنمر بليلى فقام معه فلما جاء إلى أصحابه جلس متفكراً لا يخاطبهم حتى جاء الليل فلما كان السحر هبة نسمة وأبرق برق مما يلي حي ثقيف فأنشد:
طربت وشاقتك الهمول الدوامع
…
غداة دعا بالبين أسفع نازع
شجاه نعياً بالفراق كأنه
…
حريب سليب نازح الدار جازع
فقلت الا قد بين الأمر فانصرف
…
فقد راعنا بالبين قبلك رائع
سقيت سماماً من غراب فإنني
…
تبينت ما أخبرت أذهو واقع
ألم تر أني لا محب ألومه
…
ولا ببديل بعدهم أنا قانع
ألم تر دار الحي في رونق الضحى
…
بحيث انحنت للهضبتين الأجارع
وقد يتناءى الألف من بعد صحبة
…
ويصدع ما بين الخليلين صادع
وكم من هوى أو جيرة قد ألفتهم
…
زماناً فلم يمنعهم البين مانع
كأني غداة البيت ميت حوية
…
آخر ظما سدت عليه المشارع
يخلص من أوصال ماء صبابة
…
فلا الشرب مبذول ولا هو نافع
وبيض تطلى بالعبير كأنها
…
نعاج الفلا جيبت عليها البراقع
تحملن من وادي الاراك وأومضت
…
لهن بأطراف العيون المراتع
فما جئن ربع الدار حتى تشابهت
…
هجائنها والجون منها الجوامع
وحتى حملن الجور من كل جانب
…
وخاضت صدور الرقم منها الأكارع
فلما استوت تحت الخدود وقد جرى
…
عبير ومسك بالعرانين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا
…
من الصيف يوم لاقح الظل مانع
فلما لحقنا بالحمول تباشرت
…
بنا مقصرات عاب عنها المطالع
يعرضن بالدل المليح وأن يرد
…
خباهن مشغوف فهن موانع
فقلت لأصحابي ودمعي مسبل
…
وقد صدع الشمل المشتت صادع
أليلى بأبواب الخدور تعرضت
…
لعينيّ أم قرن من الشمس طالع
ومرض قبل الاختلاط فقلق قلقاً شديداً ودخل عليه جماعة أو هو أبوه للعيادة فسمعوه ينتحب بأشد تحرق وتوجع وينشد:
ألا أيها القلب الذي لج هائماً
…
بليلى وليداً لم تقطع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أبى
…
لما بك أن تلقى طبيباً تلائمه
فما لك مسلوب العزاء كأنما
…
ترى نأي ليلى مغرماً أنت غارمه
أجدك لا ينسيك ليلى ملمة
…
تلم ولا ينتسيك عهداً تقادمه
فاستتروا حتى أتم نشيده ودخلوا عليه فحادثوه في السلو فزاد في الهيام ولما عوفي جعل يعاود موضعها ويتمرغ في التراب ويبكي إلى الليل وعزم على التوحش والخروج فراجع ابن عم له في ذلك فكان يعزم عليه أن لا يفعل ويشاغله إلى أن بلغه أن ليلى دخلت إلى جارة لها فنضت أثوابها واغتسلت ونظرت إلى نفسه وقالت ويح ابن الملوح لقد علق بي عظيماً على غير استحقاق فأنشدك الله أصادق هو في وصفي أم كاذب فقالت بل صادق ثم خرجت من عندها وعادت لأخذ سواك نسيته فلما صار في يدها قالت سقى الله من أعطانيه فقالت لها جارتها ومن أعطاكيه قالت قيس فخرج هائماً وأنشد:
نبئت ليلى وقد كنا نبخلها
…
قالت سقى الله منه منزلاً خربا
قالت لجارتها يوماً تسائلها
…
لما استحمت وألقت عندها السلبا
يا حبذا راكباً كنا نهش له
…
يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
ناشدتك الله ألا قلت صادقة
…
أصادق وصفه المجنون أم كذبا
وقيل إنما كان خروجه من نظره إليها يوم رحلها زوجها أو قومها حين بلغهم زيارته لها وكان حضوره يوم رحيلها على خفية رجاء أن يسكن ما به فزاغ واختشى قومه أن يفتضح فيقتل لما تقدم من أنه كان قد هدر دمه إن دخل الحي وحذر فقال الموت أولى وخرج على وجهه.
وعن الهذلي عن رجل من بني عامراً وهو رباح بن سعد بن اثالة قال خرجت أثر سماء أربعنا بها وأحيت الأرض بعد الجدب فبينا أنا بوادي القرى أو الغيل إذ لاح لي شخص إلى جانب حجر يبكي فقصدته وسلمت عليه وإذا هو المجنون فقلت ما يبكيك فقال هذا السيل ثم تنفس الصعداء ثم أنشد الأبيات التي وعدنا بها وهي تمام القصيدة التي أولها ألا أيها البيت وقيل أنه أنشد القصيدة كاملة في هذا الوقت، وفي النزهة أن خالد بن كلثوم ضم هذه إلى تلك من عند نفسه وإلا فالمجنون لم ينشدها إلا متفرقة وهي:
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى
…
وفاضت له من مقلتيّ غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه
…
يكون بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى
…
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
فيا ساكني أكناف نخلة كلكم
…
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
أظل غريب الدار في أرض عامر
…
إلى كل مهجور هناك غريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى
…
إليّ وإن لم آته لحبيب
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر
…
حبيباً ولم يطرق إليك حبيب
وقيل إن آخر مجلس للمجنون من ليلى أنه لما اختلط عقله ومزق ما عليه وتوحش جاءت أمه إليها فأخبرتها بذلك وسألتها أن تزوره فعساها أن تخفف ما به فقالت أما نهاراً فمتعذر خيفة أهلي وسآتيه ليلاً فأما أمكنتها الفرصة أتته وهو مطرق يهذي فسلمت عليه ثم قالت له:
أخبرت أنك من أجلي جننت وقد
…
فارقت أهلك لم تعقل ولم تفق
فرفع رأسه إليها وأنشد:
قالت جننت على رأسي فقلت لها
…
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
…
وإنما يصرع الانسان في الحين
زاد عليها في نديم المسامرة:
لو تعلمين إذا ما غبت ما سقمي
…
وكيف تسهر عيني لم تلوميني
ثم فارقته فهام من ثم مع الوحش وقيل سئل عن سبب خروجه فقال لقيتها يوماً فشكيت إليها ما نزل بي من حبها وقلت إن لم ترحميني ذهب عقلي فقالت هو المطلوب فهمت لمرادها وقيل كان هيمانه مقاصة لقوله:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
…
فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
ثم أن الأسانيد الصحيحة والآثار المتظافرة دلت على أنها كانت من الغرام به والميل إليه أيضاً بمنزلة عظيمة.
حكى رباح بن عامر وكان من الجريشيين قال دخلت من نجد أريد الشام فأصابني مطر عظيم فقصدت خيمة رفعت لي فإذا بامرأة فسألتها التظليل فأشارت إلى ناحية فدخلت وقد أقبل رعاة وإبل وغنم كثيرة ثم قالت للعبيد سلوه من أين الرجل فقلت من نجد فتنفست الصعداء ثم قالت نزلت بمن فيها فقلت ببني الجريش.
وفي رواية ببني جعدة فرفعت ستارة كانت بيننا وإذا بامرأة كأنها القمر ثم قالت أتعرف رجلاً فيهم يقال له قيس ويلقب بالمجنون قلت أي والله سرت مع أبيه حتى أوقفني عليه وهو مع الوحش لا يعقل إلا أن ذكرت له ليلى فبكت حتى أغمي عليها فقلت مم تبكين ولم أقل إلا خيراً فقالت وأنا والله ليلى المشؤومة عليه غير المساعدة له أو قالت غير المكافئة أو المواسية له ثم أنشدت:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة
…
متى رجل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحله
…
ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
ولما أيس من ليلى حين ارتحلت مع زوجها واشتد هيمانه أجمع قومه أن يتقدموا إلى أبيه في حمله إلى مكة فعل الله أن يخفف عنه، ففعل وسار معه ابن عمه زياد بن كعب فمروا بحمامة على دوحة تنوح فوقف المجنون صاغياً لها ويخلف معه ابن عمه فقال له سر بنا فقد أبعد الرفاق فتنفس الصعداء وأنشد:
أأن هتفت يوماً بواد حمامة
…
بكيت ولم يعذرك بالجهل عاذر
دعت ساق حر بعدما غلت الضحى
…
فهاج لك الأحزان إن ناح طائر
تغنى الضحى والصبح في مر حجنة
…
كثاف الأعالي تحتها الماء حائر
كان لم يكن بالغيل أو بطن ايكة
…
أو الجزع من قول الاشاءة حاضر
يقول زياد إذ رأى الحي هجروا
…
أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقدم حاجتي
…
ملم على أوطان ليلى فناظر
ودخل مكة فنظر إلى الناس وهم يدعون ربهم محرمين فأنشد:
دعا المحرمون الله يستغفرونه
…
بمكة وهنا إن تمحى ذنوبها
وناديت أن يا رب أول سؤلتي
…
لنفسي ليلى ثم أنت حسيبها
فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب
…
إلى الله خلق توبة لا أتوبها
فزجره أبوه عن ذلك وأمره أن يدعو الله أن ينسيه ذكرها وأخذه حتى أمسكه أستار الكعبة ثم قال له قل اللهم انسني ذكرها وامح من قلبي حبها فقال اللهم اجمعني بها وارزقني حبها وزدني بها كلفأ وفيها تلفاً وأنشد مكملاً للأبيات السابقة:
يقر لعيني قربها ويزيدني
…
بها عجباً من كان عندي يعيبها
فكم قائل قد قال تب فعصيته
…
وتلك لعمري توبة لا أتوبها
فيا نفس صبر الست والله فاعلمي
…
بأول نفس غاب عنها حبيبها
ولما اجتمع الناس بمنى سمع هاتفاً يهتف بليلى فخر مغشياً عليه إلى الصباح ثم أفاق متغيراً حائل اللون وأنشد:
عرضت على نفسي العزاء فقيل لي
…
من الآن فايأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح تائباً
…
فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني
…
فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
…
أطار بليلى طائراً كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه
…
وليلى بأرض عنه نازحة قفر
ثم انساب منهم وكانت هذه سياحته الكاملة فجعل يقتات بعشب البر حتى طالت أظفاره وغطاه شعره فألفته الوحوش فكان يرد الماء معها ثم يهيم على وجهه حتى يقع بالشام فيرى أقواماً وأرضاً ينكرها فيقول أين جبل توباد من بني عامر وهو جبل. كان يرعى هو وليلى عنده الغنم فيقولون له أين أنت من توباد ويعرضون عليه الثياب والطعام فيأبى ويقول دلوني عليه فيرحمونه ويقولون له اتبع نجم كذا يوصلك إليه فيمضي حتى يقع باليمن فيكون له مثل ذلك إلى أن يظفر أحياناً بالجبل فينشد حين ينظره:
وأجهشت للتوباد حين رأيته
…
وكبر للرحمن حين رآني
وأذريت دمع العين لما عرفته
…
ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرة
…
وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
وقلت له أين الذين عهدتهم
…
بقربك في حفظ وطيب أمان
فقال مضوا واستودعوني ديارهم
…
ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لابكي اليوم من حذري
…
غداً فراقك والحيان مؤتلفان
سجالاً وتهتاناً ووبلاً وديمة
…
وسحاً وتسجالاً وتنهملان
وعن فتى من قيس أو هو رباح بن مالك قال لما أخذ المجنون إلى مكة للاستشفاء كما مر مررت يوماً وإذا أنا بجماعة قد تعلقوا بشخص متغير اللون ناحل البدن وقد هم أن يلقي نفسه من جبل فسألت عنه فإذا هو المجنون خرج ليتنسم صبا نجد فقلت علام تحبسونه قالوا نخاف أن يجني على نفسه ولو تقدمت إليه فأخبرته أنك من نجد أسكنت روعه ففعلت فجعل يسألني عن موضع موضع ويبكي أحر بكاء ثم أنشد:
ألا حبذا نجد وطيب ترابها
…
وأرواحها إن كان نجد على العهد
ألا ليت عشري عن عو يرضي قبا
…
لطول الليالي قد تغيرتا بعدي
وعن جارتينا بالنخيل إلى الحمى
…
على عهدنا أم لم يدوما على العهد
وعن علويات الرياح إذا جرت
…
بريح الخزامى هل تهب على نجد
وعن أقحوان الرمل ما هو صانع
…
إذا هو أثري ليلة بثرى جعد
وهل أسمعن الدهر أصوات هجمة
…
تطالع من وهد خصيب إلى وهد
وهل انغضن الدهر أفنان لمتي
…
على لاحق المتنين منذ لد الوخد
ومر يوماً على جبلي نعمان وهو موضع من نجد به جبلان ليسا بالعظيمين بينهما فاصل يسير فقال لرفقة معه هذا مكان يقرب من منزل كانت تنزل به ليلى قال فأي الرياح تهب منه قالوا الصبا فحلف لا يبرح من مكانه حتى تهب فمضوا وتركوه ثم عادوا بعد ثلاث فأقاموا معه حتى هبت فأنشد:
أيا جبلي نعمان بالله خليا
…
سبيل الصبا يخلص إليّ نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة
…
على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
…
على نفس مهموم تجلت همومها
قلت قال في النزهة بعد ذكر هذه الأبيات أن أبا الفرج بن الجوزي تزوج امرأة اسمها نسيم الصبا فأقام معها مدة ثم وقعت بينهما وحشة ففارقها فاشتد بها كلفه وزاد غرامه ورسالها فأبت عليه وطال بينهما الأمر وأنها حضرت مجلس وعظه يوماً فلاحت منه نظرة فرآها وقد استترت بجاريتين فتنفس الصعداء وأنشد أيا جبلي نعمان الأبيات فاستحيت ثم ذهبت وقد داخلتها الرقة له فحكت لبعض النساء ذلك فمضين فأخبرنه فراسلها فأجابت فتزوج بها ومر يوماً بعد ما تمكن منه التوحش بليلى ظاعنة فلما رآها سقط مغشياً عليه فأخذه بعض قومها فمسح عنه التراب وسألوها أن تكلمه رقة عليه فاستعذرت من الخوف فأرسلت امرأة تأمنها بالسلام والاستعطاف والاستعذار وأنها لولا الخوف لأتنه، فلما بلغته المرأة ذلك ثاب إليه عقله وأنشد:
أقول لأصحابي هي الشمس ضوءها
…
قريب ولكن في تناولها بعد
لقد عارضتنا ريح ليلى بنفحة
…
على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشياً علي وقد مضت
…
أناة ولا عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي تعولني
…
يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبق إلا الجلد والعظم عارياً
…
ولا عظم لي إن دام ما بي ولا جلد
أدنياي ما لي في انقطاعي وغربتي
…
إليك ثواباً منك دين ولا نقد
عديني بنفسي أنت وعداً فربما
…
جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
وقد يبتلي قوم ولا كبليتي
…
ولا مثل وجدي في الشقاء بكم وجد
غزتني جنود الحب من كل جانب
…
إذا حان من جند قفول أتى جند
وسئل يوماً وهو حاضر من الغمرة ما أحسن ما رأيت قال ليلى فقيل له ذلك معلوم وإنما نعني غيرها فقال ما رأيت شيئاً غيرها وذكرتها الاسقط من عيني إلا ظبياً رأيته يوماً فذكرت ليلى فزاد في عيني حساً فانطلقت أعدو خلفه حتى كلت رجلاي وغاب عن عيني فأخذت راحتي ثم انطلقت حتى وجدته وقد فتك به ذئب فأخذت سهماً وضربت به الذئب فلم يحظ قلبه، فشققت بطنه وأخرجت ما أكل فضممته إلى ما بقي من الظبي ودفنته، وأنشد:
أبى الله أن يبقى لحي بشاشة
…
فصبراً على ما شاء الله بي صبرا
رأيت غزالاً يرتعي وسط روضة
…
فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا
فيا ظبي كل رغد هنيئاً ولا تخف
…
فإنك لي جار ولا ترهب الدهرا
وعندي لكم حصن حصين وصارم
…
حسام إذا أعلمته أحسن العبرا
فما راعني الأذويب قد انتحى
…
فأعلق في أحشائه الناب والظفرا
فبوأت سهمي في كتوم غمزتها
…
فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا
فاذهب غيظي قتله وشقى جوى
…
بقلبي الحر قد يدرك الوطرا
واجتمع إليه النساء يوماً فقلن له أما آن لك أن تصرف عنك هوى ليلى ليرد إليك عقلك فإنها امرأة من النساء وفينا عنها كفاية فاختر إحدانا فقال لو ملكت لفعلت ولكني مغلوب فقلن ما أعجبك منها قال كل شيء رأيته وسمعته فقلن صفها فأنشد:
بيضاء خالصة البياض كأنها
…
قمر توسط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد
…
إن الجمال مظنة للحسد
وترى مدامعها ترقرق مقلة
…
سوداء تعرب عن سواد الاثمد
خو إذا ذكر الكرام رأيتها
…
تحمي الحمى وإذا تكلم تقصد
وقال له رجل من قومه إني قاصد حي ليلى فهل عندك شيء تقوله لها، قال نعم أنشدها إذا وقفت بحيث تسمعك هذه الأبيات:
اللهّ يعلم أن النفس قد هلكت
…
باليأس منك ولكني أمنيها
منيتك النفس حتى قد أضربها
…
وأبصرت خلفاً مما أمنيها
وساعة منك ألهوها ولو قصرت
…
أشهى إلي من الدنيا وما فيها
قال الرجل فمضيت حتى وقفت بخيامها فلما أمكنتني الفرصة أنشدت بحيث تسمع الأبيات فبكت حتى غشى عليها ثم قالت أبلغه عني السلام وأنشده:
نفسي فداؤك لو نفسي ملكت إذا
…
ما كان غيرك يجزيها ويرضيها
صبراً على ما قاضه الله فيك على
…
مرارة في اصطباري عنك أخفيها
قال الرجل فلما بلغته ذلك بكى حتى غشي عليه ثم أفاق وهو يقول عجبت لعروة العذري البيتين السابقين في صدر القصة ولما أيس أهله منه وخالط الوحوش أخذوا يحتالون على إصلاحه فقال أبوه يوماً لشخص أريد أن تمر به فتذكر له ليلى وأنك من عندها وأنها تذكره كثيراً فإذا أعطاك سمعه وتمكنت منه فاذكر له أنها تشتمه وتنقصه فعساه أن يداخلة كرهها. قال الرجل فمضيت حتى اجتمعت به وأعلمته بذلك حتى ذكرت أنها تشتمه فأنشد:
تمر الصبا ضفحا بساكن ذي الغضى
…
ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
إذا هبت الريح الشمال فإنها
…
جوابي بما يهدي إليّ جنوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما
…
هوى كل نفسي حيت كان حبيبها
وحسب الليالي إن طرحنك مطرحاً
…
بدار قلى تمسي وأنت غريبها
حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا
…
هنيئاً ومغفور لليلى ذنوبها
هذا ما ذكر في الأصل وأنكر في النزهة ذلك وقال إن أبا المجنون مات قبل اختلاط عقله كما سبق. وفي تسريح الناظر إن الذي أمر الرجل بذلك زياد بن كعب أحد بني عم المجنون وهو الأوجه. وقيل للمجنون يوماً أتحب ليلى قال نعم حباً خالط الدم ومازج الأعضاء قيل فما يغني حبك لها وهي مريضة وأنت لا تعودها فتنفس الصعداء وأنشد:
يقولون ليلى بالصفاح مريضة
…
فماذا إذا يغني وأنت صديق
شفى الله مرضي بالصفاح فإنني
…
على كل شاك بالصفاح شفيق
وعن نفول بن مساحق بن عبد الله بن المسور بن مخرمة وكان والياً على الصدقات من قبل مروان أو عبد الملك وله صحبة عند الذهبي. قال قدمت على بني عامر لأخذ أموال الصدقة فرأيت شخصاً عارياً يلعب بالتراب فأمرت له بثوب فقيل لي لو كان يلبس لكان في مال أبيه كفاية فإنه سيد الحي، ولكنه تولع بحب امرأة فصيرته هكذا قال فقمت إليه وكلمته فلم يعقل فقيل لي إن أردت أن يفهم ما تقول فاذكر له ليلى. فقلت أتحب ليلى قال نعم فقلت له أتريد أن أزوجك بها قال أو ممكن ذلك قلت نعم فقل يا له من جميل لو أن أهل الأرض شكروك معي لم يفوا فعند ذلك قام فلبس ثيابه وأقام معه بوعد منه إلى يوم مجتمع لهم فهم ليأخذه فأخبروه باهدار السلطان دمه فصرفه وقيل هموا بقتاله فصرفه إنما كان خوف الفتنة فقال المجنون له والله إنك لم تف بالوعد ثم مزق ما عليه وانصرف. وفي الكتاب ما يشعر بأن القصة مع محمد بن نوفل وليس كذلك لما ستعرفه من أن نوفلاً لم يزل من ذلك اليوم متطلباً لأخبار المجنون جامعاً لأشعاره وأنه قدم سنة من السنين يسأله عنه فقالوا لم نعرف له خبراً فركب في طلبه حتى لاح له وراء اراكة بين قطيع من الغزلان وقد غطاه شعره فصعد نوفل الشجرة مستخفياً وشربت الظباء وانصرفت فوقف المجنون يرعى هذا ما في الأصل وفي نزهة المشتاق أنه انصرف معهم ولم يمكنه الاجتماع به فرجع متأسفاً وشكا ما به إلى شيخ كبير في بني سعد فقال له الشيخ إن للمجنون داية يألفها وأنها تحمل له الطعام والخبز أحياناً فيأكل منها ولو صحبتها لأمكن أن تظفر به ففعل، فهرب المجنون منهما فرجع وأخبر الشيخ فقال له الشيخ قد قرأت في سالف الأخبار أن سلطاناً قال لوزيره أخبرني عن أعظم رائحة وأقوى لذة وأشد حافر على الأرض وقد أمهلتك ثلاثاً فإن لم تجب جللتك بالسيف.
فمضى مهموماً وكان له ابنة قد اتخذت قصراً مفتوحاً إلى الأربع جهات على قارعة الطريق للنزهة فلما رأت ما بأبيها استعطفته حتى أخبرها فاستسهلت الأمر وقالت له إذا عدت إليه من الغد فأخبره أن أقوى رائحة رائحة الخبز وأعظم الأشياء لذة الجماع وأشد حافر على الأرض البغال فلما أعلمه قال له أخبرني من أين لك ذلك فصدقه الأمر فاستحضر البنت وقال لها لئن لم تخبريني عن تعليل ذلك وإلا ضربت عنقك فإنك بكر لم تعلمي أحوال النساء ولا لذة الجماع فقالت أيد الله الملك إن قصري منفتح للأهوية فلم أجد من لدن قطنت به رائحة يتكيف بها الهواء أعظم من الخبز ولم يتحرك جدار القصر من شيء غير البغال وأما الجماع فإنني أخذته من شدة ألم الوضع وما شاهدت من مقاساة النساء فيه فلو لم يكن الجماع أعظم لذة ما عدن إليه والرأي عندي أن تصنع خبزاً وتجعله في طابق يضم بخاره وتفتحه حيث يشمه فإنه يقف لبعد عهده به فتذكر له ليلى فيزداد أنساً. قال الرجل فمضيت وعملت برأي الشيخ وطيبت الخبز بالأفاويه حتى إذا أقبل ولمحته من خلال الأواكة كشفت الخبز وصعدت لتشرب الظباء فشربن وسرن ووقف يشم الرائحة فأنشدته من الشجرة.
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت
…
مزارك من ليلى وشعباً كما معا
فاندفع يقول:
فما حسن أن يأتي الأمر طائعاً
…
وتجزع أن داعي الصبابة أجزعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
…
على الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
واذكر أيام الحمى ثم أنثني
…
على كبدي من خشية أن يصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع
…
إليك ولكن خل عينيك تدمعا
معي كل عز قد عصى عاذلاته
…
بوصل الغواني من لدن أن ترعرعا
إذا راح يمشي في الرداءين أسرعت
…
إليه العيون الناظرات التطلعا
ثم سقط مغشياً عليه فتمثلت بقوله:
يا دار ليلى بسقط الحي قد درست
…
إلا الثمام وإلا موقد النار
أبلى عظامك بعد اللحم ذكركها
…
كما ينحت قدح الشوحط الباري
ما تفتئوا الدهر من ليلى تموت كذا
…
في موقف وقفته أو على داري
فرفع رأسه وقال من أنت حياك الله فقلت له نوفل أخبرني ما صنعت بعدي فأنشد إلا حجبت ليلى الأبيات ثم أخذ يفاوضني فيا لكلام حتى سنح له قطيع ظباء فطفق يعدو حتى اختلط بها وفارقته فلم أره بعد قلت وفي النزهة أنه تطلبه مرة أخرى غير هذه فوجده بين حجرين ميتاً فأخذه ودفنه وسيجيء ذكر ما رأى له من الأشعار منقوشاً في التراب أورده آخر القصة على النمط السابق في غيره ومر برجلين قد اصطادا ظبية وربطاها فعزم عليهما أن يطلقاها فأبيا عليه فأطلقها بشاة من غنمة وأنشد:
شريت بكبش شبه ليلى ولو أبوا
…
لأعطيت مالي من طريف وتالد
فيا بائعي شبهاً ليلى قتلتما
…
وجنبتما ما ناله كل عايد
فلو كنتما حرين ما بعتما فتى
…
شبيهاً لليلى بيعة المتزايد
واعتقتماها رغبة في ثوابها
…
ولم ترغبا في ناقص غير زائد
وقيل إن الرجلين أخوه وابن عمه وأنه أنشدهما متعرضاً لبخلهما:
يا أخوي اللذين اليوم قد أخذا
…
شبهاً لليلى بحبل ثم غلاها
إني أرى اليوم في أعطاف شاتكما
…
مشابهاً أشبهت ليلى فحلاها
وأنه عرض عليهما اقتل حين أبيا افلاتها لأنه كان أجلد منهما وفي رواية فداها بقلوص ولما ذهبت تعدو وأنشد أيا شبه ليلى الأبيات وزاد هنا.
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
…
ولكن عظم الساق منك رقيق
وقد وردت هذه الرواية من طرق كثيرة وفي إحداها يا صاحبي اللذان وهو أسلم من الزحاف هذا ما تلخص من صحيح أخباره وأما ما قيل من أنه مر بزوج ليلى وهو في حي بني عامر عند ابن عم له يصطلي فوقف على رأسه وأنشد:
بربك هل ضممت إليك ليلى
…
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل زفت عليك قرون ليلى
…
زفيف الأقحوانة في نداها
فقال أما إذ حلقتني فنعم فصرح المجنون وقبض الجمر بكلتا يديه وسقط مغشياً عليه فأكل الجمر لحم راحتيه وقام زوج ليلى مغموماً. وما قيل أيضاً من أن أبا المجنون طرقه ضيوف ليلاً فأرسله إلى أبي ليلى ليقترض منه سمناً فأمرها أبوها أن تخرج إليه بنحى فتملأ وعاءه فجعلت تسكب فيه ويتحاثان حتى غرقت أرجلهما.
وأنه جاء ليلة أخرى يستقبسها ناراً فخرجت إليه بقضبة فكان يتحدث معها ويقطع من برد عليه يغلف به النار، وكلما احترقت قطعة أخذ أخرى حتى صار عرياناً فلم يصح اسناده عندنا كصحة غيره ومثل ذلك ما قيل من أن جنونه كان مجازاة لقوله قضاها لغيري أو لسماع هاتف أنشده:
كلانا مغرم في حب ليلى
…
بفيّ وفيك من ليلى التراب
فاختلط عقله، وأما حال موته فالصحيح ما قدمناه وقيل أن رجلاً شامياً كان مغرماً بأشعاره وأشعار قيس بن ذريح قدم للاجتماع به أو الرجل من بني جعدة أو مرة أو هو الصباح بن عامر الكفاني. أقوال فسأل أهله عنه فأخبروه أنه متوحش من الأنس إلا صديقاً له يذهب إليه في كل يوم يكتب ما يقول من الأشعار وداية تذهب إليه بطعام فمضى إليهما يسألهما الحيلة في الاجتماع عليه فقالا له أقصده في موضع كذا فستجده جالساً عند خط حوله التراب وهو يعبث بأصابعه فيه فإذا رآك أخذ الأحجار وهم بضربك فاصرف بصرك عنه وأطل الجلوس ثم أنشد ما يحضرك من شعر قيس فإنه مغرم به فإذا فعلت بلغت ما تريد منه فمضى الرجل يقتفي أثره حتى وجده على ما وصف فلما أنس به قال رحم الله قيساً حيث يقول:
نبيت ونضحي كل يوم وليلة
…
على منهج تبكي عليه القبائل
قتيل للبنى صدع الحب قلبه
…
وفي الحب شغل للمحبين شاغل
فقال أنا والله أشعر منه حيث أقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها
…
معرّقة تضحى إليه وتضجر
وأخليتها من منحها وكأنها
…
قوارير في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت
…
علائقها مما تخاف وتحذر
خذي بيدي ثم انهضي بي تبيني
…
بي الضر إلا أنني أتستر
ثم انساب يعدو وفارقته فلما كان اليوم الثاني جئت على العادة وأنشدت قول قيس:
تبادر أم تروح غداً رداحاً
…
ولن يستطيع مرتهن براحا
سقيم لا يصاب له دواء
…
أصاب الحب مقلته فباحا
وعذبه الهوى حتى براه
…
كما القيت بالسفن القداحا
فكاد يذيقه جرع المنايا
…
ولو أسقاه ذلك لاستراحا
فقال أشعر منه حيث أقول:
فما وجد مغلوب بصنعاء موثق
…
لساقيه من ثقل الحديد كبول
قليل الموالي مستهام مروّع
…
له بعد نومات العشاء عويل
يقول له الحداد أنت معذب
…
غداة غداً ومسلم فقتيل
بأعظم مني روعة يوم راعني
…
فراق حبيب ما إليه سبيل
ثم فعل فعلته بالأمس وعاودته فقلت أحسن والله قيس حيث يقول:
ألا يا غراب البين ويحك أنبني
…
بعلمك في لبنى وأنت خبير
فإن أنت لم تخبر بشيء علمته
…
فلا طرت إلا والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك بينهم
…
كما قد تراني بالحبيب أدور
وفي رواية ابن الأعرابي.
ألا يا غراب البين هل أنت مخبري
…
بخير كما خبرت بالنأي والشر
وخبرت أن قد جد بين وقربوا
…
جمالاً للبنى مثقلات من العذر
وهجت فدى عين للبنى مريضة
…
إذا ذكرت فاضت مدامعها تجري
وقلت لداك الدهر ما زال فاجعاً
…
صدقت وهل شيء بباق على الدهر
فقال له المجنون أحسن والله ولكي أشعر منه حيث أقول. كان القلب البيتين فأمهلته حتى فرغ. ثم قلت وأحسن قيس أيضاً حيث يقول. وأني لمفن دمع عيني بالبكا.
الأبيات السابقة في قصة قيس قال فبكى حتى ظننت أنه فاضت نفسه ثم قال أحسن والله وأنا أشعر منه حيث أقول.
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني
…
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لالى حيلة
…
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
قال ولم أزل أعاوده أكتب ما يقول إلى أن تطلبته فوجدته بين أحجار ميتاً وفي رواية أن هذا الرجل لم يجتمع به. وأخرى رآه ميتاً محمولاً قد دلت عليه دايته وأنه لم يكتب أشعاراً إلا من عند صديقه المقدم ذكره بالجملة فمحل الاجماع أنه وجد ميتاً فاحتمل وغسل ودفن وحضر جنازته جميع بني جعدة وسعد والحريش وحضر أبو ليلى فأظهر جزعاً شديداً وتنصل واعتذر بأنه لم يعلم أن أمره يقضي إلى هذه الحالة ولو يعلم لاحتمل العار وزوجه، ولما غسل وجدوا الرقعة مكتوباً فيها.
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى
…
شقيت لا هنئت من عيشك الخفضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني
…
أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخاليب طائر
…
إذ أذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
…
على فما تزداد طولاً ولا عرضا
وقيل أن ليلى توفيت قبله وأنه سمع هاتفاً يقول.
أمنعية بالموت ليلى ولم تمت
…
كأنك عمد أظلك غافل
فسقط ميتاً وهذا أمر يتعذر الوصول إلى تحقيقه وله أشعار كثيرة بلا أسباب من محاسنها قوله:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلباً فارغاً فتمكنا
ومنها:
تقول العدا لا بارك الله في العدا
…
تقاصر عن ليلى ورثت رسائله
ولو أصبحت ليلى تدب على العصا
…
لكان هوى ليلى جديداً أوائله
ومنها:
فلو تلتقي في الموت روحي وروحها
…
ومن بين رمسينا من الأرض منكب
لظل صدى رمسي وإن كنت رمه
…
لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
قلت قال في النزهة وشتان ما بين هذا وما بين قول ثوبة في ليلى الأخيلية:
ولو أنّ ليلى الأخيلية سلمت
…
عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسلم البشاشة أوزقا
…
إليها صدى من جانب القبر صائح
قول وفحوى الكلام أن قول المجنون أبلغ لأن تلاقي روحيي ميتين أعظم في جانب المبالغة من تلاقي حي وميت وكلام ثوبة من الثاني ويمكن نقل هذا إلى مبحت حكمي وعكس كلام صاحب النزهة فقد أجمعت الحكماء بل وأصحاب الشرع بأن استلذاذ الأرواح واداركها بعد مفارقة إليها كل الجسمية أشد وأقوى فتأمله.
ومنها:
فلو زرت بيت الله ثم رأيتها
…
بأبوابه حيت استجار حماها
لمست ثيابي إن قدرت ثيابها
…
ولم ينهني عن مسهن حمامها
ولو شهدتني حين تأتي منيتي
…
جلا سكرات الموت عني ابتسامها
ومنها:
أقول لألف ذات يوم لقيته
…
بمكة والانضاء ملقى رحالها
بربك أخبرني ألم تأثم التي
…
أضر بجسمي من زمان خيالها
فقال بلى والله سوف يمسها
…
عذاب وبلوى في الحياة تنالها
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
…
سريع إلى جيب القميص انهمالها
عفا الله عنها ذنبها واقالها
…
وإن كان في الدنيا قليلاً نوالها
ومنها:
وأحبس عنك النفس والنفس صبة
…
بذكراك والممشى إليك قريب
مخافة أن يسعى الوشاة بظنة
…
وأحرسكم أن يستريب مريب
لتد جعلت نفسي وأنت اخترمتها
…
وكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل
…
لك الدهر مني ما حييت نصيب
أما والذي يبلوا السرائر كلها
…
ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن تصطفى النفس خلة
…
لها دون خلان الصفاء حجوب
ومنها.
ألا ليت ليلى اطفأت حر زفرة
…
أعالجها لا أستطيع لها ردا
إذا الريح من نحو الحمى نسمت لنا
…
وجدت لمسراها ومنسمها بردا
على كبد قد كاد يبدي بها الهوى
…
ندوباً وبعض القوم يحسبني جلدا
وإني يماني الهوى منجد النوى
…
سبيلان القي من خلافهما جهدا
سقى الله نجداً من ربيع وصيف
…
وما ترجى من ربيع سقى نجدا
بلى أنه قد كان للعيش مدة
…
وللعيس والركبان منزلة حمدا
أبى القلب أن ينفك من ذكر نسوة
…
رقائق لم يخلقن شوها ولا نكدا
إذا رحن بسحبن الذيول عشية
…
ويقتلن بالألحاظ أنفسنا عمدا
مشا عيطلات رجح بحضورها
…
روادف وعثات ترد الخطا ردا
وتهتز ليلى العامرية إذ مشت
…
ولاثت بثوب القز ذا غدر جعدا
إذا حرك المدى ضفائرها العلا
…
مزجن بذي الريحان والعنبر الوردا
ومنها.
أبى القلب الأحبة عامرية
…
لها كنية عمرو وليس لها عمرو
تكد يدي تندى إذ ما لمستها
…
وتنبت في أطرافها الورق الخضر
ومنها وقد ضعف فعاده الناس ولم تعده ليلى فأنشد.
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعي
…
بليل ولا يجري بذلك طائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت
…
بليلى ولكن ليس للطير زاجر
أزالت عن العهد الذي كان بيننا
…
بذي الأيك أم قد غيرتها المقادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة
…
ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدرى بأية حيلة
…
وأي مرام أو خطار أخاطر
وتالله إن الدهر في ذات بيننا
…
عليّ له في كل حال لجائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركت
…
جميع القوى والعقل مني وافر
ولكن أيامي بحقل عنيزة
…
وبالردم أيام حباها التجاور
وقد أصبح الود الذي كان بيننا
…
أمانيّ نفس والمؤمل حائر
لعمري لقد كدرت يا أم مالك
…
حياتي وساقتني إليك المقادر
ومنها:
فوا كبدي من حب من لا يحبني
…
ومن زفرات ما لهن فناء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد
…
ولم يك عندي إذ أبيت اباء
أتاركتي للموت أنت فميت
…
وما للنفوس الخائفات لقاء
ومنها:
وجاءوا إليه بالتعاويذ والرقي
…
وصبوا عليه الماء من ألم النكس
وقالو به من أعين الجن نظرة
…
ولو عقلوا قالوا به نظرة الأنس
ومنها:
وشغلت عن فهم الحديث سوى
…
ما كان فيك فأنتم شغلي
وأرى جليسي إذ يحدثني
…
إن قد فهمت وعندكم عقلي
ومنها:
سرت في سواد القلب حتى إذا انتهى
…
بها السير وارتادت حمى القلب حلت
فللعين تهمال إذا القلب ملها
…
وللقلب وسواس إذا العين ملت
ووالله ما في القلب شيء من الهوى
…
لأخرى سواها أكثرت أم قلت
ومنها:
ذكرت عشية الصدفين ليلى
…
وكل الدهر ذكراها جديد
عليّ ألية إن كنت أدرى
…
أينقص حب ليلى أم يزيد
ومنها:
يا ويح من أمسى تخلس عقله
…
فأصبح مذهوباً به كل مذهب
خلياً من الخلان إلا معذراً
…
يضاحكني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وأرجعت
…
روائع عقلي من هوى متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة
…
رلا الهم إلا بافتراء التكذب
تجنبت ليلى إذ يلح بك الهوى
…
وهيهات كان الحب قبل التجنب
ألا إنما غادرت يا أم مالك
…
صدى أينما يذهب به الريح يذهب
ولم أر ليلى بعد موقف ساعة
…
بخيف منى ترمي جمار المحصب
وتبدي الحصا منها إذا قذفت بها
…
من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
…
مع الصبح في أعقاب نجم مغرّب
ومنها:
وإني لمجنون بليلى موكل
…
ولست عزوفاً عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكيت صبابة
…
لتذكارها حتى يبل البكا الخدّا
ومنها:
ألا يا حمام الأيك مالك باكياً
…
أفارقت الفاً أم جفاك حبيب
دعاك الهوى والشوق لم ترنمت
…
هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوب ورقاً قد أذن لصوتها
…
فكل لكل مسعد ومجيب
ومنها:
لقد غردت في جنح ليل حمامة
…
على إلفها تبكي وإني لنائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً
…
لما سبقتني بالبكاء الحمائم
ومنها:
إذا قربت داري كلفت وإن تأت
…
أسفت فلا بالقرب أسلو ولا البعد
وإن وعدت زاد الهوى لانتظارها
…
وإن بخلت بالوعد مت على الوعد
ففي كل حب لا محالة فرحة
…
وحبك ما فيه سوى محكم الجهد
ومنها، وهو كما قال في النزهة من الأشعار التي قيلت على الأوهام قال لما حضروا به في مكة بات ليلة فجعل يحدث نفسه كالذي في النوم ويعاتب امرأة حاضرة فقيل له في ذلك فحلف أن ليلى كانت إلى جانبه في هذا الوقت ثم أنشد:
طرقتك بين مسبح ومكبر
…
بحطيم مكة حيث كان الأبطح
فحسبت مكة والمشاعر كلها
…
وجبالها باتت بمسك تنفح
ومنها:
لئن نزحت دار بليلى لربما
…
عنينا بخير الزمان جميع
وفي النفس من شوقي إليك حرارة
…
وفي القلب من وجدي عليك صدوع
وأما قصيدته الموسومة بالمؤنسة فهي أطول قصيدة أنشدها وواظب عليها قيل أنه كان يحفظها دون أشعاره وأنه كان لا يخلو بنفسه إلا وينشدها وهي من محاسن الأشعار وأرقها لفظاً وأعذبها سبكاً وألطفها شجواً وأبلغها نسيباً وغزلاً تهيج الشجون وتعين المحزون وللناس في الاقتصار على بعضها والاستصفاء منها اختلاف كثير أحسنه:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
…
وأيام لا أعدى على الدهر عاديا
ويوم كظل الرمح قصرت ظله
…
بليلى فلهاني وما كنت لاهيا
فيا ليل كم من حاجة لي مهمة
…
إذا جئتكم بالليل لم أدر ماهيا
خليليّ ألا تبكي لي التمس
…
خليلاً إذا أنزفت دمعي بكى ليا
فما أشرف الايفاع إلا صبابة
…
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
…
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
لحي الله أقوا ما يقولون إننا
…
وجدنا طوال الدهر للحب شافيا
وعهدي بليل وهي ذات مؤصد
…
ترد علينا بالعشي المواشيا
فشب بنو ليلى وشب بنو ابنها
…
واعلاق ليلى في فؤادي كما هيا
إذا ما جلسنا مجلساً نستلذه
…
تواشوا بنا حتى أمل مكانيا
سقى الله جارات لليلى تباعدت
…
بهن النوى حيث احتللن المطاليا
بتمرين لاحت نار ليلى وصحبتي
…
بقرع العصا ترجى المطى الحوافيا
فقال بصير القوم لمحة كوكب
…
بدا في سوادا لليل من ذي يمانيا
فقلت لهم بل نار ليلى توقدت
…
بعليا تسامى ضوءها فبدا ليا
خليلي لا والله لا أملك الذي
…
قصى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
…
فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
وخبرتماني أن تيماء منزل
…
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت
…
فما للنوى ترمي بليلى المراميا
فلو أن واش باليمامة داره
…
وداري بأعلى حضرموت أتى نيا
وماذا لهم لا أحسن الله حالهم
…
من الحظ في تصريم ليلى حباليا
وقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل
…
بي النقض والابرام حتى علانيا
فيا رب سوّ الحب بيني وبينها
…
يكون كفافاً لا عليّ ولا ليا
فما طلع النجم الذي يهتدى به
…
ولا الصبح الاهيجا ذكرها ليا
ولا سرت ميلاً من دمشق ولا بدا
…
سهيل لأهل الشام إلا بدا ليا
ولا سميت عندي لها من سمية
…
من الناس الا بل دمعي ردائيا
ولا هبت الريح الجنوب لأرضها
…
من الليل إلا بت للريح جانيا
فإن تمنعوا ليلى وتحموا بلادها
…
عليّ فلن تحموا عليّ القوافيا
فاشهد عند الله إني أحبها
…
فهذا لها عندي فما عندها ليا
قضى الله بالمعروف منها لغيرنا
…
وبالشوق مني والغرام قضى ليا
وإن الذي أملت يا أم مالك
…
أشاب فؤادي واستهان فؤاديا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
…
وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
واخرج من بين البيوت لعلني
…
أحدث عنك النفس بالليل خاليا
أراني إذا صليت يممت نحوها
…
بوجهي وإن كان المصلي ورائيا
وما بي اشراك ولكن حبها
…
وعظم الحوى أعيى الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وفق اسمها
…
وأشبهه أو كان منه مدانيا
خليليّ ليلى أكبر الحاج والمنى
…
فمن لي بليلى أو فمن لها بيا
لعمري لقد أبكيتني يا حمامة العقيق
…
وأبكيت العيون البواكيا
خليليّ ما أرجو من العيش بعدما
…
أرى حاجتي تشرى ولا تشترى ليا
وتجرم ليلى ثم تزعم أنني
…
سلوت ولا يخفى على الناس ما بيا
فلم أر مثلينا خليلي صبابة
…
أشد على الرغم الأعادي تصافيا
خليلان لا نرجو اللقاء ولا ترى
…
خليلين إلا يرجوان تلاقيا
وإني لاستحييك أن تعرض المنى
…
توصلك أو أن تعرضي في المنى ليا
يقول أناس على مجنون عامر
…
يروم سلوا قلت أنى لما بيا
إذا ما استطال الدهر يا أم مالك
…
فشأن المنايا القاضيات وشأنيا
إذا اكتحلت عيني بعيني لم تزل
…
بخير وجلت غمرة عن فؤاديا
فأنت التي إن شئت شقيت عيشتي
…
وأنت التي إن شئت أنعمت باليا
وأنت التي ما من صديق ولا عدى
…
يرى نضو ما أبقيت الارثي ليا
أمضروبة ليلى عليّ أزروها
…
ومتخذ دين لها أن ترانيا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني
…
أصانع رحلي أن يميل حياليا
يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن
…
شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا