الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
عفوك اللهم
الحمد لله الذي لا يُغلِّظه اختلافُ المسائل، ولا يُثبّطُه عن الجُوْد الدّائم إلحافُ السّائل، ولا يُسخِطُه كثْرة الذنوب إذا كانَ الاستغفارُ لها منَ الوسائِل، نحْمَده على نعَمِه التي وسّع الحمْدُ مجالسَها، ووشّعَ الشُكْر ملابِسَها، وضوّع الاعترافُ بها مغارسَها، وضوّأ حنادِسَها، ونشْهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، شهادةً لا يدخُلُ تحريرَها تحريفٌ، ولا يُخِلّ بتصحيحها تصحيفٌ، ولا يدفَعُ تسويغَ أدلّتها تسْويف، ونشهَد أنّ سيّدَنا محمداً عبدُه ورسولُه أفصحُ مضنْ نطَقَ، وأبلغُ منْ قرَع الأسماعَ لفظه وطرَق، وأعرفُ من أوتيَ جوامَ الكلِم فاندفع سيْلُ بلاغتِه في البطحاءِ واندفقَ، صلّى الله عليه وعلى آلهِ الذينَ كانوا للهُدى مَصابيح وللجَدى مجاديح وللنّدى إذا أغلقتْ أبوابُه مفاتِيح، صلاةً تتوثّقُ أمراسُ رِضْوانِها، وتعبَقُ أنفاسُ غُفرانها ما دَعا الحقُ لبيباً فلبّاه، ورَعى الصدقَ أريبٌ فربّاه، وشرّفَ ومجّدَ وكرّم وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدّين.
وبعد فإنّ التصحيفَ والتّحريفَ قلّما سلِم منهما كبير، أو نَجا منهما ذو إتقانٍ ولو رسَخَ في العِلم رسوخَ ثَبير، أو خلَصَ منمعرَّتِهما فاضلٌ ولو أنّه في الشجاعة عبدُ اللهِ بن الزُبَيْر، أو في البراعة عبدُ الله بن الزَّبير، خصوصاً ما أصبح النقلُ سبيلَه أو التقليدُ دَليلَه، فقد صحّفَ جماعةٌ هم أئمةُ هذه الأمّة، وحرّفَ كِبارٌ بيدهم من اللُغةِ تصْريفُ الأزِمّة، منهم من البَصْرة أعيان كالخليل بن أحمد، وأبي عمْرو بن العَلاء وعيسى بن عُمر، وأبي عبيدَة مَعْمَر بن المُثنّى وأبي الحسن الأخفش وأبي عثمان الجاحِظ،
والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأبي عُمر الجَرْمي، وأبي حاتم السجستاني وأبي العباس المُبَرَّد.
ومن أئمة الكوفة أكابر: كالكسائي والفرّاء والمفَضَّل الضّبي وحمّاد الرّاوية وخالد بن كُلثوم وابن الأعرابي وعلي الأحمر
ومحمد بن حبيب، وابن السِّكيت وأبي عُبيد القاسم بن سلاّم وعلي اللِّحياني والطوال وأبي الحسن الطوسي وابن قادِم وأبي العباس ثعلب.
وحسبك هؤلاء السادة الأعلام، والقادة لأرباب المَحابر والأقلام، وكل منهم:
إذا تغلْغَلَ فِكْر المرءِ في طرَفٍ
…
منْ عِلمِه غرِقَتْ فيه أواخِرُهُ
وإذا كان مثل هؤلاء قد صحّ أنهم صحّفوا، وحرّر النقلُ أنهم حرّفوا، فما عسى أن تكون الحُثالة من بعدِهم، والرذالةُ الذين يتبهرجونَ في نقدِهم، ولكن الأوائل صحّفوا ما قَلّ، وحرّفوا ما هو معْدود في الرّذاذ والطّل، فأما من تأخّر، وبَخّ قطْرُ جهلِه على سِباخ عقلِه وبخّرَ، وزادتْ سقطاتُه على البَرْق المتألّق في السحاب
المُسَخّر فإنّهم يُصحّفون أضعافَ ما يُصحّحون ويحرّفون زياداتٍ على ما يحرّرون، ولقد كان غلَط الأوائل قليلاً معدوداً وسبيلاً بابُ اقتحامِه لا يزالُ مرْدوماً مردوداً، تجيءُ منه الواحدةُ النّادرةُ الفَذّة، وقلّ أنْ تتْلوَها أختٌ لها في اللّحاق بها مُغِذّة، فأما بعد أولئك الفُحول، والسُحب الهَوامِع التي أقْلعتْ، وعَمَتْ رياضَ الأدَب بعدهم نوازلُ المحول، فقد أتى الوادي فطَمّ على القَريّ، وتقدّم السقيمُ على البَري:
فليْتَ أنّ زَماناً مرّ دامَ لنا
…
وليْتَ أنّ زَماناً دامَ لمْ يَدُمِ
قال صاحبُ الأغاني: حدثني محمد بن جرير الطّبري أنا أبو السّائِب ثنا وَكيع عن هِشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تُنشِدُ بيتَ لَبيد:
ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافِهمْ
…
وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجْرَبِ
فتقول: رحِم الله لَبيداً، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيْهم؟ فقال عروة: رحِم الله عائشة، فكيف لو أدركتْ مَن نحن بين ظهرانَيْهم؟ وقال هشام: رحِم اللهُ عُروةَ، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟ فقال وَكيع: رحِم الله هِشاماً، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟ فقال أبو السائب: رحِم اللهُ وكيعاً، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟ فقال أبو جعفر: رحِم الله أبا السائب، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟
ونقول نحن: والله المستعان، فالقضيةُ أعظم منْ أنْ توصَف بحال، انتهى. وقد عمّت المُصيبة ورشقَتْ سِهامُها المُصيبة، ولبِس الناسُ أرديتَها المَعيبة، وفَشا ذلك في المحدّثين وفي الفقهاء، وفي النحاة، وفي أهل اللغة، وفي رُواةِ الأخبار، وفي نقَلَة الأشعار، ولم يسْلَمْ من ذلك غيرُ القُرّاء؛ لأنهم يأخذونَ القُرآنَ من أفواه الرّجال.
وأما في الزّمن القديم فقد وقَع لبعض القرّاء عجائبُ ذكر منها الدّارقطني، رحمه الله تعالى، جملة في كتاب التصحيف له، ولهذا كان يُقال قديماً:
لا تأخذوا القرآن من مُصْحَفيّ ولا الحَديثَ من صُحُفيّ إذ التصحيف متطرِّق الى الحروف فيُقرأ المُهمَل معْجَماً، والمُعجم مُهمَلاً. على أنّه قد وقعَتْ في القرآن العظيم أحرفٌ واحتمل هجاؤها لفظين، وهو قِراءتان، ومن ذلك قوله تعالى:(هُنالِكَ تبْلو كلّ نفْسٍ ما أسلَفَتْ) و (تتْلو)، وقوله تعالى: (
…
إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بنبأٍ فتبيّنوا
…
) و (تثبّتوا) .
وقوله تعالى: (
…
الذين يُنفِقون أموالَهُم ابتِغاءَ مَرْضاةِ اللهِ وتَثبيتاً من أنفُسِهم) و (تَبْييناً)، وقوله تعالى:(أفَلَمْ ييْأسِ الذينَ أمَنوا) و (يتَبيّن) ،
وقوله تعالى: (وإذ يمكُر بِك الذين كفَروا ليُثْبِتوك) و (ليُبيّتوك)، وقوله تعالى:(تقاسَموا باللهِ لَنُبَيّتَنّه) و (لُنَبيّنَنّه)، وقوله تعالى:(لَنبوّئنّهُم) و (لنُثوِينّهم منَ الجنّة غُرَفاً)، وقوله تعالى:(وإذْ جعلْنا البيْتَ مَثابةً) و (مَتابَة) ، و (الْعَنْهُم لعْناً كبيراً) و (كثيراً) .
و (قُلْ فيهِما إثْمٌ كبير) و (كثير) ، و (ابتَغوا ما كتبَ اللهُ لكُمْ)
و (اتّبعوا) ، (وجَعَلوا الملائكَةَالذينَ هُمْ عِبادُ الرّحْمن) و (عِندَ الرّحْمن) ، (وهو الذي يُرسِلُ الرِياحَ نُشُراً) و (بُشْرى) ، (وانظُرْ الى العِظامِ كيفَ ننشُرُها) و (نُنْشِزُها) ، (فأغْشَيْناهُم فهُم لا يُبصِرون) و (أعشيْناهُم) و (قد شغَفَها حُبّاً) و (قدْ شغَفَها) ، (ولا تجسّسُوا) و (لا تحسّسوا) و (فمَنْ خافَ من مّوصٍ جَنَفاً) و (حَيْفاً) و (إنّ لكَ في النّهارِ سَبحاً طَويلاً) و (سبْخاً) أي حقاً. و (هوَ الذي يُسيّرُكُم في البرّ والبحْر) و (ينشُرُكُم) و (إنّما المؤمِنون إخوَةٌ فأصْلِحوا بينَ أَخويْكُمْ)
و (إخْوَتِكُم) ، و (حتّى إذا فُزِّع عن قُلوبِهم) و (فُرِّغ) ، (وأصْبَح فؤادُ أمِّ موسى فارِغاً) و (فزِعاً) ، و (أئذا ضَلَلْنا في الأرض) و (صَلَلْنا) أي تغيّرنا، و (فقَبَضْتُ قَبْضَةً من أثَر الرّسول) و (قَبَصْتُ قبْصَةً) ، (وتالله لأكيدَنّ أصْنامَكُم) و (بالله) ، و (إنْ كان مَكرُهُم لَتَزول) و (لِتَزول) و (فاذكُروا اسْمَ الله عليْها صَوافَّ) و (صَوافِيَ) أي خالِصة و (صَوافِن) في قراءة عباس.
و (حتى يلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ) و (الحمل) في قراءة
ابن عباس، وهو قلس من قلوس السفن. (وقضَى ربُّكَ ألاّ تعبُدوا إلاّ إيّاهُ) و (وصّى ربُّك) ، في قراءة ابن عباس، وقال: لو قضى ربك ذلك ما عبدوا سواه. و (إن يَدْعونَ من دونِه إلاّ إناثاً) و (إلاّ أوْثاناً) ، في قراءة عائشة، وقد قُرئ أيضاً (أُتْناً) و (آتُناً) .
وقد رُويَ أنّ السبب في نقط المصاحف أن الناس غبروا دهراً يقرءون
في مصاحف عثمان، رضي الله عنه، إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيفُ وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج الى كُتّابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علاماتٍ، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفراداً وأزواجاً، وخالف بين أماكنها بإيقاع بعضها فوق بعض الحروف وبعضها تحت الحروف، وغبرَ الناسُ بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، وكانوا أيضاً مع النقط يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام، فإذا أُغفِل الاستقصاءُ على الكلمة ولم تُوَفَّ حقوقها اعترى هذا التصحيف؛ فالتمسوا حيلة فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال.
وقد ذكرتُ في كتابي فَضّ الخِتام عن التّورية والاستخدام الأماكن التي صحّفها حمادٌ الراوية في القرآن العظيم لما قرأ في المصحيف وهي ما يَنيفُ على الثلاثين موضعاً.
وأما تصحيف المحدّثين فقد دوّن الناسُ في ذلك جملةً، وعقد المصنفونَ لذلك أبواباً في كتبهم وهي مشهورة، من ذلك ما حكاه أبو أحمد الحسن العسكري قال: حكى القاضي أحمد بن كامل قال: حضرت بعض مشايخ الحديث من المُغفَّلين فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عن رجل، قال: فنظرتُ فقلتُ مَن هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فإذا هو قد صحّفه، وإذا هو: عز وجل.
قال العسكري: وأخبرني أبو عليّ الرّازي قال: كان عندنا شيخ يَروي الحديثَ من المغفّلين، فروى يوما: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم احتجَم يوماً وأعطى الحَجّام آجُرّةً.
وروى بعضهم أنّ بعضَ المغفّلين روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يغسِل خُصى حِماره، وإنما هو يغسِل حصَى جِمارِه، بالحاء المهملة
أولاً والجيم ثانياً.
وروى بعضهم: الجَارُ أحقّ بصُفَّتِه؛ بالفاء المشددة والتاء ثالثة الحروف، وإنما هو بصَقَبِه، بالقاف والباء الموحدة.
وقد صنف الإمام الدارقطني مجلّداً في تصحيف المحدّثين وكذلك العسكري أيضاً.
وأما تصحيف الفقهاء فهو كثير أيضاً، قال يوماً بعض المدرسين: ولا يكون النَّذْر إلا في قرْيَة، قاله بالياء آخر الحروف، وهو بالباء الموحدة مضمومة القاف، وقال بعضهم في التنبيه: ويُكْرَه القَرْع ويُحِبُّ الخِيار، وإنما هو ويُكره القَزَع بالزاي، ويجِبُ، بالجيم، الخِتان بالتاء ثالثة الحروف وبعد الألف نون.
وقال بعضهم يوماً: وقال الشافعي: ويُستَحَبّ في المؤذّن أن يكون صَبياً، بالباء الموحدة والياء آخر الحروف، فقيل له: ما العلة في ذلك؟ قال: ليكونَ قادراً على الصعودِ في درَج المئذنة، وإنما هو صِيّيتاً، من الصوت.
وأما الكُتّاب فإن المتقدّمين صحَّف منهم جماعة بحضرة الخلفاء والملوك، قرأ يوماً بعضهم: أبو مُعسر المُتخم، بالسين المهملة من الإعسار وبالتاء ثالثة الحروف المشددة وبالخاء المعجمة، وإنما هو: أبو مَعشَر المنَجِّم.
وقرأ يوماً بعض كُتّاب المأمون قصة فقال: أبو ثريد بالثاء رابعة الحروف، فقال: كاتبنا اليوم جوعان، أحضروا له ثريداً، فأكل، فقرأ بعد ذلك: فلان الخبيصيّ فقال: هو معذور، ليس بعد الثريد إلا الخبيص، أحضروا له خبيصَة، وكانت الحِمَّصي والميم مفتوحة.
وكتب سليمان بن عبد الملك الى ابن حزم أمير المدينة: أن أحصِ مَنْ قِبَلَك من المُخنّثين. فصحف كاتبه وقرأ: اخصِ، بالخاء المعجمة، فدعاهم الأمير وخَصاهم أجمعين.
وحكى لي بعض الأصحاب أن الأمير علاء الدين الطنبغا، نائب حلب،
جاءتْ مطالعةُ بعض الوُلاة يذكرُ فيها أنه وُجِد في بعض الأماكن شخص وهو مقتول وخُرْجُه تحت إبطه، فقال: اكتب أنكر عليه وقل: لأي شيء ما جهزتَ الخُرْجَ الذي كان معه تحت إبطه؟ فعاد جواب الوالي يقول: إنما قلتُ: وجُرْحُه تحت إبطه.
وقرأ يوماً بعض الأكابر على السلطان الملك الناصر محمد قصة فيها: والمملوك من حَمَلةِ الكِتاب، فقرأها: جُملة الكتان، فقال السلطان: مِن حَمَلةِ الكِتاب العزيز.
وأما الشعراء فتصحيفهم كثير، وسيمر بك في أثناء هذا الكتاب نوادر من هذا الباب.
قرأ يوماً بعض الطلبة على أبي عبد الله المُفجَّع:
ولمّا نزلْنا منزِلاً طَلّه النّدى
…
أنيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ خاليا
بالخاء المعجمة، فحرك المفجَّع كتفيه وقال: يا سيد أمه! فعلى أي شيء كانوا يشربون؟ على الخسف؟.
وقرأ بعضهم على أبي عبيدة قول كُثيِّر:
ذهَبَ الذين فراقهم أتوقَّعُ
…
وخرى ببيتهم الغرابُ الأنفعُ
فقال أبو عبيدة: وحيك، إن عذرتُكَ في الأولى لم أعذرك في الثانية، أما سمِعتَ بالغراب الأبقع؟ وجرى ذكر المعرّي أبي العلاء في بعض المجالس فقال بعض من حضر: كان كافراً، فقيل له: بماذا؟ قال: بقوله:
نَبيّ من العُربان ليسَ بذِي شَرْع
…
.....
وقرأ القطربليّ على أبي العباس ثعلب قول الأعشى:
فلَو كنت في جُبٍّ ثمانينَ قامةً
…
ورُقّيتَ أسبابَ السّماءِ بسُلّمِ
فقرأه بالحاء بدل الجيم، فقال ثعلب: خَرِب بيتُك! أرأيت حبا قط ثمانين قامة؟ إنما هو جُبّ.
وقد جنى التصحيف على ابن الرومي فقتله، قال أبو أحمد العسكري: حدثني محمد بن فضلان الوراق قال: كان جلساء القاسم بن عبيد الله يقصدون أذى ابن الرومي وخاصة المعروف بابن فراس، وكان القاسم بن عبيد الله يغريهم به، الى أن سأله يوماً أحدهم عن الجرامض، على سبيل التصحيف والتهكم، فقال ابن الرومي:
وسألتَ عن خبرِ الجرامض طالباً عِلمَ الجرامضْ
فهو الجرامض حين يُقْلَبُ ضارج فيقال جارض
وهو الجراسم والقَمَجّر والجرافس والجرراغض
وهو الخَراكل، والغوامض قد يُفسَّر بالغوامض
وهو السلحكل، إن فهمتَ وإنْ ركَنْتَ الى المعارض
واصبرْ وإنْ حمض الجواب، فرُبّ حُلو جرّ حامض
والصفح محتاج الى قرع له مقابض
ومن اللِّحى ما فيه فعل للمواسى والمقارض
وهجا الجماعة وأكثر من هجائهم، فشكاه الجلساء الى القاسم بن عبيد الله، فتقدم الى ابن فراس فسمَّه في خشكنانجة كانت منيته فيها.
ومما يكثر فيه تصحيف صورته مثل: يحيى وزينب وبثينة ويونس وجبل وعيسى وخليل وحمزة.
ومما ركب الناس في صورتين من صورة واحدة ما كتب به بعض البلغاء توقيعاً والناس لفصاحته وبراعته ينسبونه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو: غرّكَ عِزُّك، فصار قُصارَ ذلك ذُلَّك، فاخْش فاحِشَ فِعلِك، فعلّك بهذا تُهْدى، والسلام.
وكتب بعضُ البلغاء، وهو الرّشيد الكاتِب: رُبّ ربِّ غِنىً، سرّتْه شِرّتُه، فجاءَه فجاءَةً بعْد بُعد عِشرته عُسرَتُه.
وما جاء للحريريّ في بعض مقاماته وهو:
زُيّنَتْ زَينبٌ بقَدٍّ يَقُدُّ
…
وتلاهُ ويْلاهُ نهْدٌ يَهُدُّ
…
الأبيات.
وللشيخ صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي، رحمه الله، رسالة رويتُها عنه بالإجازة عدتها أربعمائة كلمة نظماً ونثراً أبدع فيهالفصاحتها وانسجامها وعدم ظهور الكلفة عليها، أولها: قبَّل قَبْلَ يراك ثَراك، عبدٌ عِندَ رَخاك رَجاك، فألفَى فألقى جِدَّة خَدِّه بأعتابك باغياً بكَ شَرَفاً سَرَفاً لاذَ بكَ لأدَبِك، مُقْدِماً مُقَدِّماً أمَلَ آمِل، يُزجيه تَرجّيه، يُبشِّره بيُسْرِه وُجودك وَجودُك، فاشتاقَ فاستافَ عرْفَ عُرْفٍ منك مثل عبير عنبر، وقدِم وقدَّم صدَقَة صِدْقِه، مُتجمِّلاً متَحمِّلاً بصاعِه بضاعةَ تبر نَثْر....
ومن نظمها:
سَنَدٌ سيّدٌ حليم حكيم فاضِلٌ فاصِلٌ مجيدٌ مُجيدُ
حازم جازم بصير زانَهُ رأيُه السديدُ الشديدُ أمَّهُ أمةٌ رجاءَ رَخاءٍ أُدركْت إذْ زكت بقَوْدٍ تقودُ مَكْرُمات مُكرَّماتٌ بنَتْ بيْتَ علاءٍ عَلا بجودٍ يَجودُ
…
وهي كلها من هذا النمط الذي هذا نموذجه، وهي من الرسائل العقم الطنانة.
وقد كَلِفْت أنا في بعض الأوقات الى شيء من هذا النوع الذي توعّرَ وأعرض بخده عن الناظر إليه وصعَّر، فصنعتُ أنا هذه الرسالة، وهي جامعة للتصحيف والتحريف وقلب البعض، أولها: خبَّرنا حَبْرُنا المُوثَّق المُوفَّق المُسْنِدُ المُفيد المُقيِّد المُخْبِرُ المُحبِّر حَديثاً، جَدَّ بِنا هَزْلُه، هزَّله قلوبَنا فلَوْينا لِيْتَ العُنُقِ، لِبَثّ العبَق، حدَث حدَثٌ، مرّ بِنا مُرِينا تَخوّلَه نُحولُه يئِنُّ بين أهِلّة أهْلِه، لَطيفُ المجاذبة، لطَيْفِ المحادَثة إن نطَق انتطقَ بدُرٍّ ندَر، وردَ البناءَ فقالَ، وردّ إلينا فقالَ: أوعوا صِدْقي وَعوا قصدي، ثمّ نَمّ بما نَما، ونشرَ الحَبْرَ ويسر الخَبَر، ورجع قابلاً ورجّعَ قائِلاً: رَماني زَماني بداهية بُداهِته، حَتْله وحِيَله في فَيءِ المُتيَّمين المنتمين لآلِ عُذْرَة لا لغَدْرِه، السالينَ الشاكِينَ، وتَجْزيني وتَحْزيني تحكم بحكم، وهْيَ وهْيُ العاني العاتي الشِقِّ الشَقيّ التَّيِّق التقيّ، وإذا تعرّض وإذاً بغَرَض وِصالٍ قلّما سلِم فلمّا سلّم أغْيَدُ، أعتدُّ قُرْبَه قُربةً، بتجمُّل بتحمُّل كُلِّ كَلِّ، ترميه برُمَّته، عليه غَلَبَةُ صَبٍّ صَبَّ عَبراتِه، غير أنّه جرّب حرْبَ نفسِه بفتنتهِ وقاسَى وفاءً يَثني طُلْيَةَ طلَبِه عمّا عمّى توحُّده بوَجْدِه أسرَّ أسْرَ قلبي
فلبّى داعي حُسنِه ذاعِيّ خَشْيَةَ جَفْنِ جَفْنِ مهنّدٍ مُهتَدٍ، لمحاربةٍ لمحَ أرَبَه، غِبُّ دَهاءٍ عندَها:
ظبيٌ ظنّي بملازمتي يملا زمني وَفْراً وقِرَى
فثنى فِتَني تُطْري نظري يكفي تَلَفي يَطْرا بطَرا
حِبٌّ خِبٌ وارَى نَصْرِي، وأرى بصَري بدْراً بدَرا،
بوجْهٍ توجّه، نور توزّ جُلّناره جُلّ نارِه، وجَنّته وجْنَتُه، بمحاسِنه تُمْحى سُنّة البيْنِ البيّن بقَرينة تقريبه وصِلَةِ وصْلِه، إذ لهُ أدلّة وضحَتْ وصحّت حدائقُ خَذٍّ آنقُ من مَنِّ يُبشّر بيُسْرٍ يزْهو بزَهْرٍ بسَقَ نَوْراً يشُقُّ نُوراً:
خَدٌ نقّتْه حديقتهُ حُفَّتْ تُحَفاً حفّتْ بجَفا
وضَفا بِشْراً وصَفا بشَراً يُبْدي بَرقاً ينْدى ترَفا
وعيْنِ جُفونها، وعَيْنَ جَفوتها، الدِماءُ ألذّ ما أراقتْ، أراقِبُ فتْكَها قبلَها، نصّ لَها نصْلُها نصْرَها المبين بضُرِّها المتين، سحّارة، قتّالة فتّاكة، تغرُّك بغزَلٍ يسلُبُك تسَلّيك، ظرْفُ ظرْفٍ، جفْنُه حفَّ به فيه سِحْر فَبه تنتحر، مَبْسم متّسِم ربّ قِهِ، ريقُه في فيَّ سُكْر سُكّر، الى ثغْر آلي بِعزّ، برٌّ شفّه ترَشُّفُه أنّه آية، ولّد دُراً ولذّ دَراً، ودلّ رداً وردّ دَلاً، وبسَم ثُريّا، ونسَم برِيّا،
شفَتُه حمْراء، سقَتْه خَمْراً، نشوتُها يشوبُها مِسْك، متَبَتِّل، صرّفَهاصِرفُها، حيّا بها حَبابُها الدُرّي الدِّرّيءُ.
ولّى وليُّ لِثامِه لثّامُه ثغْرٌ بلألاءٍ يغُرُّ تَلالا
حَرَباً لهُ لم يشَفْني، جِريالَه لم يسْقِني، إنْ آنَ إلا آلا
وقدٍّ وفَد عِناقُه يشْفي غِبَّ آفةٍ تُشْقي يَتهادى تيهاً ذي ترَفٍ، يرِفُّ لينُه لنيّة فتْكٍ قبْلَ وصْلٍ وضلّ القلبُ القُلَّبُ بغدائره بعد آثِره، لا يجِدُ سلْوى، لا يحُدُّ شكْوى، لذّ لهُ لدَلِّه قتْلي، فبكى العائِد العائِذ، راقَتْه رأفتْه، فرَقاً فرْقاً، وتولّى وتلوّى، وكَبا وبكى لمُتيّم لم يتمَّ سُؤلَه، سوّلَه وهمٌ وهمٌ، وجلّ وجَلُ الشّجيّ السّخيّ بقَلْبِه تقلِّبُه يدا بُرَحائِه، بِداءِ تَرْحاتِه، حتى جنى بكفّه تلَفَه، دمعَتُه عُمدَتُه، وذخيرتُه وُدٌ خبَرْتفه، النصيحة الحصينة، ما ردَّ أحزابُه مارِدَ أحْزانِه، وليتني ولِيتْني خَسارةُ خلَدٍ على جسارة جلَدٍ، علّي يرُدُّ برْدَ أنفاسي اتقاءُ شيءٍ، فأسُدَّ فاسِدَ الحادِثِ الجلَل الجاذب الخَلَل، قادَني فآدَني جُمْلَةُ حِمْلِه، لأنّني لايني تكرُّبي يكُرّ بي، وطرْفي فلّه وطَرٌ في قِلّة نوْمٍ يؤمّ سُكوناً ثبّت كوْناً بصرَهُ،
تضُرُّه شهادةُ سُهادِه متى أدّها منَّى أذاها، فعدتُ قعدتُ مَحزوناً محْروباً، فما فتحْتُ فَماً فبُحْتُ، ولا أنسى ولاءَ أنْسي وإنصافي واتّصافي بذُلٍّ بدّل حُبّي حتى تَلافى تلافي سُوْرة سَوْرة غضَبٍ غصّتْ لهَواتي لِهواني، فتولّى قَبولي مُدْبِراً مُذ برى جسَدي حُسَّدي بتشفّيهم بِتُّ شقيّهم، فَيا عِشْقاً فيّأ عسْفاً مدّ له مذلّةَ والِه، وإلهِ السّماءِ الشّمّاء، كُلْفَة كلَفِه، هَينةَ هَنيئة، لِكِنّي لَكنّي أذهَبَ حَدّي إذْ هَبّ جَدّي وتعقُّلي وتعلُّقي، رَشَأ فيه رَشاقتُه تحتلّ بحبل قسْوَةٍ فشوّه خَلْقَه الحسَن خُلُقُه، الخشن، وتصبّرتُ وتربّصْت، وعالَجْت وغًى لجّت، فجّر سِرَّها، فجرّ شرّها رَقيبٌ قريبٌ ملازم مُزامِل، حريصُ العدوى صريح الدّعْوى، والبلية المُزْرِية والنَّكْبَة المُزرِية لمّا يُطيعُ لِما يطبع الحاسِدُ الحاشِد ويغُرّ به ويُغريه بِعادَةِ بُعادِه ويدَعُه وبدِعَة التَجا في التّجافي إليها ألّبَها بَغيُه بَغتةً:
بُعْداً لهُ تَعْذالُه غَيّاً رَوى عنّا
…
زَوى تَرْشاف بُرْءٍ شافِ
فَليتَ مِحنَتي قلبَتْ محبّتي لفتًى لفّني بُرْدُ غرامِه برد غرامه نَفْسي، يفشى وينفي الضِدَّ، يرحم شاكيَهُ ويرجم سالِيَه، جوْرُه حوَرُه، وسِنانُه وسْنانُه، أهيَفُ أهتِف باسمِه باسِمةً جواهِرُ فيه جواهرَ فِيهِ، فدَيْجورُه قدْ تجوّزَه، بظُلْمٍ يظلِمُ بَهارَه نهاره
مُعاينَةُ مَعانيه لذّاتٌ لِذاتِ المُعنّى المُعْيي:
عانِسٌ ناعِسٌ رشيق شَريق ساكِن كانِس حليم مليحُ
وادِعٌ واعِدٌ مُنيب مُبين لائِق قائِل حَصيف فَصيحُ
قال فآل تعجبنا يعُجُّ بنا وتعوّدنا وتقودنا من آفات منى فات وهوًى يكُدّ، وهو أنْكَدُ وطلّبنا وطلَبنا مَنّ الصّيانة من الصّبابة.
وقد ركبْت أنا مما يحرَّف ويُصحَّف من الكلمات الثنائية فما فوقها الى العشرات جملةً، ولكن فيها بعض تكلّفٍ، والعذرُ واضح لضيق المقام وزلَقِه: الاثنتان:
جابر حائر، جاء بَرٌ جابر، فسَّره فسَرَّه جُودُه جوّده، زِينَةُ رُتَبِه، يَغيبُ ويَعتِبُ، وعْدُ وغْدٍ، جَفّ فخَفّ، نَصيب يُصيب، برْقُه تَرَّفه، رَيْبٌ رُتِّبَ، راحُ راجٍ، تمنّى بمِنَى، نوبة توبة، راحَ راحٌ، راجٍ راجَ، بُروقٌ تَروقُ، عُباب عِتاب، ظِلٌ ضافٍ، جِيد جَيِّد، جمرة خمرة، خبايا حنايا، روايا زوايا، أُبادِر أبا ذَرٍّ، ما يتصوّرُ شيئاً ويتضور سباً، وحْلٌ وجَلٌ، أحمال أجمال، جمال خمّال، نجار بضحار، يحور ويخور، بُخاريّ يُجاري، براغيثُ براً غِيْثَ، بَزّني بزّتي، ذؤابة ذوّابة مَحانيّة مُجانِبِه، حبّذا جيدا، بازٍ نازٍ، نارُ ثأر، فرّ عَوْنُ فِرْعَون،
حالُك حالِك، حبْل خَتْل، وجبل حيل، مُهازِقُ مَهارِق فجْر فخْر، صحْوة صحْوِه، شُقَق شفَق، دَنا خيْر دَياجِيرُ، بَهار نَهار، عَلامة علاّمَة، قصّر فضَرّ، دَرُّ دُرٍّ لا ذَرُّذَرِّ، ظرْف ظرْف، غابُ عابٍ، عيْبةُ غِيْبة، غيْث عيَثْ، غمامة عمامة، جَناح جُناح، جَوْر حُور، ترَفٌ يرِفُّ ندّ مِنْه بذِمَّتِه، تِرْبي برَّ بي.
الثلاث: نُمَيرٌ تميّز بِمَيْر، يَغيبُ ويعتِبُ ويعبَثُ، جِدّةُ خَدِّه حَدَّه، ربَّتُه ريبة رُتَبِه، سَفَهُ شَفَةٍ شفّهُ، برْقِيّ ترَقّى بِرُقى، يؤمُّ نوْمُ يومٍ، نُزَحَ بُرْجُ ترَجٍ، عق ربَّ عقرب عقَرتْ، عنْز عثُرَ غبّرَ، منصور مِنْ صُور متَضوّرٌ، نجوم تخوم تَحوم، جُرح خرَج كأنّه خُرْج، بُلبل بِلَيْل بَلبَل، بذِمّة ندَمِه يَذُمّه، تِرْبِي تربّى يزْني، جاريتُه حارثيّة حارَبَتْه، سُمّانُ سمّانٍ سِمانٌ، تعبّداتٌ بَعيداتٌ بِعَيْذاب، أسَدٌ أسَدُّ أشدّ، يفترِشُ ما يفترِسُ بقُبْرس، وردَ ورْد ورَدّ، يفريدُ يَزيدُ يرتدّ، خبر حِتْر حيّر.
الأربع: قلْبٌ قلَب قلْبَ قُلَّب، تجمّل نجْمُك بحمل تحمّل، ثبتَ بيْتُ بيت ثَيّب، فنُّه فيه قُبّة فِيه، بُخْله يُحِلّه يُخِلّه وما يُجِلّه، علَتْ عُلَبُ غلَثٍ غلَبَ، بقَرُ نُقَرٍ تفرّ بقُرِّ، كرّ بِك كرْبُك لرَبِّك بَلْ كرّبِك، سِرْبُ سَربٍ بيثربَ شرِب، خلَف خلفٌ خلْف خِلْف، فضلُك يمٌ تمّ ثمّ نمّ، خَيال خَبال حِيال جبال، تناوَلي بتأوّلي ثناءَ ولي
بباولِي، غبيٌ غنيٌ عنّى وعثّى، نُذور تدور بِدور بُدور، قُتِل قبْل فيك فيل، تأبّى ثاني باني يأتي، شبِث سبّبَ شَيْبَ شيث.
الخمس: خبرٌ جبَر خير حبْر حبّر، جرَبٌ حرّبَ حرْبَ حرْثَ خرّب، تُحارِبُه تَجارِبه بِجارية بُخاريّة تُجاريه.
الست: بشير تُستَر يُشير بسَيْر يَسير نسير، بِشْرٌ نشَرَ نشْرَ بشرٍ بسرٍّ يسُرُّ.
السبع: تَبْنيه بثَثْتُه تُثبّتُه بُثَينَة ببَيِّنَة يَثْبُتُ بِه تبيُّنُه، نُورٌ توزّ بُوز ثوْر ثوّر بُور نَوْر.
الثماني: نجيبف نُجيب تَحبّبَ بحَيْثُ يُجيْبُ نَحيْبَ تحنَّث يُجْتَثُ.
وأما تصحيف خليل فكنتُ أنا قد كتبتُ الى القاضي جمال الدين عبد الله ابن الشيخ علاء الدين بن غانم، رحمهما الله تعالى، وقد توجه من دمشق الى بعلبك وطالتْ غيبته، وصحفتُ اسمي في عدة مواضع من أبيات أولها:
قرّ بِكَ القلبُ الذي
…
أبعدته وقرّبَكْ
يا نازِحاً عن جِلَّقٍ
…
ونازِلاً في بعْلَبَكْ
ومنها:
أنا خَليلُ صحبةٍ
…
وِدادُها قد جلَبَكْ
حَليُكَ فيه فاخِرٌ
…
وسِحْرُه قد خلَبَكْ
جلَتْكَ أنوار المنى
…
في خاطرٍ تطلّبَكْ
خُلّتُكَ الحُسنى جلَتْ
…
لي في المعالي شُهُبَكْ
حلَتْكَ بالفضل الذي
…
به علَوْت رُتَبَكْ
أبو جلَنْك لو رأى
…
كما رأيتُ أدَبَكْ
حلّ بِك المعنى الذي
…
حلّ، بل الحقّ التَبَكْ
فكتب هو في الجواب إليّ من قصيدة أولها:
أمِنْ عُقارٍ انسَبَى
…
أم من نُضارٍ انسبَكْ
مِنْ لآلٍ نُظِمَتْ
…
على عَذارى كالشَبَكْ
ومنها:
حَلا بذوقِ عِلْمِه
…
نُهاكَ لمّا جلَبَكْ
أنتَ جَليلُ فِطْنَةٍ
…
يعرفُ ذا مَنْ طلبَكْ
حلّتْكَ فارتضتْ
…
ومَنْ يرتَضي إلا أدَبَكْ
خلّتْك معدومَ النّظي
…
رِ فرْدَ أفرادِ النّبَكْ
أنت حليلٌ للعُلا
…
وليُّها قد قرّبَكْ
حلّ بك النائِل بالنّ
…
حْلَةِ منها أرَبَكْ
حكَتْك في الذَّكا ذُكا
…
ولم تُحاكِ نُخَبَكْ
حلَّ بكَ الفضلُ فح
…
لّى البرايا كُتَبَكْ
حُلّتُك الفضلُ حَبا
…
كَهَا نُهاكَ إذْ حبَكْ
شدوتُ من تصحيف ذا
…
الاسمِ الذي قدْ صحِبَكْ
ومن التصحيف اللطيف ما أنشدنيه لنفسه إجازة الشيخ الإمام صفيّ الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي، رحمه الله تعالى: سألتُ الحِبّ: ما اسمُك، وهو ظبي من العرب الكرام، فقال: عيسى، الاسم العلَم فقلتُ له: انتسِبْ من أيّ قومٍ تكون من الأنام؟ فقال: عيسى، عَبسيّ من بني عبْس فقلتُ: وما صَنيعُك في البوادي لتحصيل الحِطام؟ فقال: عيسى، يعني عشّاباً فقلتُ: ومَنْ أنيسك في البوادي إذا جنّ الظلامُ؟ فقال: عيسى، عَنْسى يعني نوقَه
فقلتُ: وعمّ تسألُ كلَّ غادٍ يمر على الدوامِ؟ فقال: عيسى، عن شيء فقلتُ: وأي عيش في البوادي يلَذّ لذي الغرام؟ فقال: عيسى، عيشي فقلت: ولمْ عصيْتَ نُصحَ حُبٍّ دعاك الى المقامِ؟ فقال: عيسى، غشني فقلت: لقد سلبتَ القلبَ منّي بلحظِك والقوام، فقال: عيسى، عبثتَ بي فقلتُ: عساكَ تسمحُ لي بوصلٍ أيا بَدرَ التّمام، فقال: عيسى، عنّيتَني فقلتُ: وما الذي يدعوكَ حتى تَجافى بالكلام، فقال: عيسى، غَبَنْتَني فقلتُ له: صدَقْتَ وكلّ شيء تقولُ على النِّظام، فقال: عيسى، عُنيتَ بي فقلت: بمَن أعيش وأنت سُؤْلي وتبخل بالمرام، فقال: عيسى، عِشْ لي وأنشدني من لفظه لنفسه الإمام الفاضل عز الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ بهاء الدين الحسين الموصلي الحنبلي زيادةً على ذلك: أتى عيسى وناداني: تُرى مَن تُحب من الأنام؟ فقلت: عيسى، عَنَيتَني فقال: نعم رأيتُ إليك قلبي يحنّ من الهيام فقلت: عيسى، عَيْنُ بَثيّ فقال: وما حَلالي قط شيءٌ سِوى هذا المقام فقلت: عيسى، غيّبتَني فقال: ونيّتي واللهِ وصلٌ به يُمْحى الملامُ فقلت: عيسى، عينُ نيّتي فقال: عليك لي عتبٌ إذا ما تطارَحْنا الغرامَ فقلت: عيسى، عَتبْتَني فقال: بشرطِ أنْ أشدو بلَحْنٍ على شُرب المدامِ فقلت: عيسى، غنّ شيء فقال: أما شدوتُ بطيبِ نغم يحنّ له الحَمام؟ فقلت: عيسى، غنّيتَني فقال: وقد أتَتْ ليلى: سلامٌ، وأسرع في القيام فقلت: عيسى، عنّ بَيني فقال: وما حَداك على فراقي بلا رَدِّ السلام؟ فقلت: عيسى، عيّبتَني فقال: انظر وقد حنقتْ عليه وتعبس في الكلام فقلت: عيسى، عبّسي فقال: حملتَ عِبءَ العشقِ منها وصبرك في انهزامِ فقلت: عيسى، عبءٌ سيئ فقال: وما ترى فعل اللواتي رَعَيْن لك الزمام؟ فقلت: عيسى، غيّبْنَني قال: فقال لي بعض الناس: ألا إنك جعلت عوض فقلت: فقال، وعوض فقال: فقلت. قال: فغيرتها الى الصورة التي قالها، وقلت: أتى عيسى فقلت له: الى من تميل من الأنام؟ فقال: عيسى، عَنَيْتَني فقلت: نعم رأيت إليك قلبي يحن من الهيامِ، فقال عيسى، عيْن بَثّي فقلت: وما حَلالي قط شيء سوى هذا المقامِ فقال: عيسى، غيّبْتَني فقلت: ونيّتي يا بدر وصلٌ به يشفى الأُوامُ فقال: عيسى، عينُ نيتي فقلت: عليك لي عتب إذا ما تطارحنا الغرام فقال: عيسى، عتَبْتَني فقلت: بشرط أن أشدو بلحن على شرب المدام فقال: عيسى، غنّ شيء
فقلت: أما شدوتَ بطيب نغم يحن له الحمام فقال: عيسى، غنيتني فقلت: اجلس فقد جاءتك ليلى تحيي بالسلام فقال: عيسى، عنَّ بيني فقلت: وما حداك على فراق وإسراع القيام فقال: عيسى، عيّبْتَني فقلت: أقم، فقامتْ وهي غضبى تعبس في الكلام، فقال: عيسى، عبسيّ فقلت له: حملت العبء منها وصبري في انهزام، فقال: عيسى، عبء سيئ فقلت: فما فعل اللواتي رعَيْنَ لك الزمام، فقال: عيسى، غيّبنني وقلتُ أنا: وقد بقيتْ على ذلك زيادة ليس فيها زبدة، ولا يقدح البديع فيها زنده،
فأحببتُ نظمها، وأردتُ رقمها، فقلت، وإنْ كان في ذلك قلَق، ولم ينشق دجاه عن فلَق، فإن المُتقدّمين الفاضِلين أخذا ما رقّ وراقَ، وفلَذا ما راع ونزل وما هو في درَج الفصاحة بِراقٍ ولا برّاق، فليعذرْ صاحبُ الذّوق مَنْ شبّ عمره في هذا المقام عن الطوق، وذلك:
غدا عيسى يفرُّ من الغواني فقلتُ له: عَلامَ؟ فقال: عيسى، عبثنَ بي فقلتُ: اغفرْ وعُدْ، فالعود أولى، فما في ذاك ذام فقال: عيسى، غبنٌ ثُنّيَ فقلت: احملْ أذى مَن بتّ تهوى ولا تخشَ الملام فقال: عيسى، عيبٌ بُني فقلتُ: وما يَسوءُك بثُّ سرّ تنالُ منه المرام فقال: عيسى، عِبتُ بثّي فقلت: فراستي حكمت بهذا عليك فما ألام فقال: عيسى، عيبٌ نُبي فقلت: رأيتك مع فتاةٍ حكَتْ بدْرَ التمام فقال: عيسى، غيّبَتْني فقلت: فما لقدك وهو غُصنٌ يميلُ من المدام فقال: عيسى، عن نثنّي فقلت: فما ترى من بعد هذا فقل جاء المنام فقال: عيسى، غشِّني فقلت: وما ركابك إن قطعنا الفلا تحت الظلام فقال: عيسى، عِيسى فقلت: أريد أن ألقاءك خِلْواً تفرّ من الآثام فقال: عيسى، غَثَيتني وقلت أنا في تصحيف يحيى: ومليح قلتُ: ما الاسمُ حبيبي؟ قال: يحيى، العلَم المشهور قلتُ: خاطبني بتصحيفٍ تعِشْ لي قال: يحيى، يحيا من الحياة
قلت: حيّاك إلهي، قال لي: بل أنت يحيى، تُحيَّ من التحية قلت: في قدّيْكَ ورْدٌ وهو غضّ قال: يحيى، يُجْنى من الجَنَى فتَوقَّ الجفْنَ مني فهو سيفٌ، قلت: يحيى، يجْني بالجيم من الجناية قلتُ: أصبحتَ مليكَ الحُسْن فرداً، قال: يحيى، بختي من البخت والَى عندي خَراجُ الحُسنِ في الآفاق يحيى، يجبَى من الجباية وإذا الغُصن تثنّى فلقَدّي بات يحيى، يُحنَي من الانحناء وإذا قام بقدٍ فنسيم الريح يحيى، يُجثى من جثا على ركبتيه أنا لو شِئْتُ لحُسني كان فوق البدر يحيى، تختي من التخت الذي يجلس فوقه فهو في الصورة من فوقٍ وفي معناه يحيى، تَحتي نقيض فوْقي فقلت: هل أُحْبَى وِصالاً منك حلواً قال يحيى، تُحْبى من الحِباء قلت: لو بُحتُ بسري خفَّ ما بي قال يحيى، بُحْ بي من البَوْح وإذا ما ناحت الوُرْقُ على الأغصان يحيى، نُحْ بي من النَّوْح قلت: ما يقطع خصمي عندَ عذْلي؟ قال: يحيى، بحْثي من البحْث قلت: لكن اشتهى لو قطّعوه، قال: يحيى، بجَبّي من الجَبّ وهو القطع قلت: ما لي من شفيع يعتني بي، قال: يحيى، بحُبّي من الحُبّ قلت: ما تنجو سريعاً من وصالي، قال يحيى، نجِّني من النّجاج قلت: نحّيت غرامي، قال: من قلبك يحيى، نحّني من التنحية قلت: نحتُ الصخر دأبي وقد أعيا فيكِ يحيى، نحْتي من النحت
وكذاك الدهرُ ما زال على الأحرار يحيى، يُخني أي يُهلِك قلت: خذني لك عبداً، قال: من يألف يحيى، بجِنّي من الجِنّ قلت: جفن قد حَثا الدمع بخدّي، قال: يحيى، يُحثى من الحُثوة قلت: قد سال دماً من جفن عيني، قال: يحيى، ثجَّ بي من الثّجّ قلت: في جفني قرحٌ من بكائي، قال: يحيى، نجَّ بي من نَجَّت القرحة قلت: ذُخري دمع عيني، قال: للشدة يحيى، يُخبا من الخبيئة قلت: ما لي قط ذنبٌ، كيف تجفو؟ قال: يحيى، تجنّى من التّجنّي ثم لانَ القلبُ منه إذ رأى في اللفظ يحيى، نُخَبي جمع نُخبة قلت: قُمْ وانشطْ ولا تكسَلْ وسافر، قال يحيى، نَخّني من النخوة قلت: ما تركب إن سرنا جميعاً؟ قال: يحيى، نُجبي جمع نجيب قلت: فاخترْ لي مركوباً غليظاً، قال: يحيى، بُختي بالخاء المعجمة قلت: ما الزاد الذي تعتدّه لي؟ قال: يحيى، يخني يعني مصْلوقاً قلت: وما الماء الذي نلقاه وِرْداً؟ قال: يحيى، بجُبّي يعني الجُبَّ قلت: إنْ كَلّ بعيري بمَ يُزْجى؟ قال: يحيى، بخَثّي من الحثّ فهُو لو لم يقضِ قَصْدي كُنتُ أقضي فيهِ يحيى، نَحْبي من قضى نحبه
وأنشدني لنفسه ونقلته من خطّه الأديبُ علاء الدين علي بن مقاتل الحمويّ بيتين ثانيهما تصحيف الأوّل:
شِفائي وجنّاتي حبيبٌ بِسرْبِه
…
لَغوبٌ بمزجٍ يَفْرُجُ البأسَ شيمتُهْ
سَقاني وحيّاني حَييتُ بشَرْبَةٍ
…
لَغوتُ بمزجٍ تُفرِحُ الناسَ سيمتُهْ
ومما وجدته من التصحيف والتحريف في المجون قول ناصر الدين بن شاور الفقيسي الكناني، ونقلته من خطه مما كتب به الى السراج الوراق رحمه الله تعالى:
مازلتُ مُذْ غبتُ عنك في بلدي
…
حتى إذا ما أزحتُ عِلّتَها
أقمتُ أجرانَها على عجلٍ
…
وبعد هذا خزنتُ غَلَّتَها
ونقلت منه له:
لقدْ كانَ فيما مضَى دايةٌ
…
تحِنُّ علَينا وتَبْغي رِضانا
فماتتْ فآلمَنا فقْدُها
…
فنحنُ جميعاً عليها حَزانى
ونقلت من خط السراج عُمر بن محمد الورّاق، رحمه الله تعالى، مما نظمه في التصحيف:
أتيتُ أرجيهِ في حاجةٍ
…
فلم تنبعثْ نفسُه الجامدهْ
ففتّل لحيتَه والوَرى
…
تعافُ المفتّلةَ الباردهْ
فقلت له: خَلّ تفتيلَها
…
وصحِّفْ عسى خلفها فائده
وأنشدني إجازةً لنفسِه الشيخُ صفيّ الدين عبد العزيز الحلي:
وظبي من التّرْكِ مادم
…
تُه وبالغتُ في حُسْن تاليفهِ
تمتّعْتُ منْهُ ومن كاسهِ
…
بتَرجيحها وبتشفيفِهِ
وقلتُ: خدَمْنا وتصحيفُها،
…
فجاد بنُوشٍ وتصحيفهِ
وأنشدني لنفسه إجازةً أيضاً:
يا مانحي محْضَ الوعودِ وما بغى
…
حفظ العهود ومُجتَنى معروفِه
لي كل يومٍ منكَ عُذْرٌ حاضرٌ
…
وأخافُ أنْ يُفْضي الى تصحيفِه
وأنشدني لنفسه إجازة أيضاً:
أعْوزني الحِبْرُ ولا طاقةٌ
…
بطبخه لي وبتكليفهِ
فجُدْ بهِ عفْواً فلا زِلْتَ في
…
معكوسِهِ الدهرَ وتصحيفِهِ
ومما اتفق لي نظمه في التصحيف مما قلتُ:
أبْكمٌ لا يعي فَفيهمُ شيئاً
…
ولِسترِ التصحيفِ أصبحَ يُسْبِلْ
قال لي: هذه حرافيش مصرٍ
…
قلت: لا بل أرى حرافيش إربلْ
ومنه قولي أيضاً:
وصاحبٍ قال: صحِّفْ لي مَنْ تعذِّبُ قلبَكْ
فقلت: إن كان شيء فسِتُّنا بنتُ أزبك
فقال: قدِّمْ سواها، فقلتُ: أخِّرْ أغُلْبَك
ومنه قولي أيضاً:
ألا قُلْ لمن قد راحَ فينا مصحِّفاً وليس لهُ في مثل ذلك عائِبُ
بمصرَ وَباً والقمحُ غضٌ كما ترى كذا الخَسُّ نبتُ الماءِ والنّخّ سائبُ
وتصحيف ذلك: تمصُّ روْثاً، والقُم جعْص، الحس بيت الماء والنحس أنت. ومنه قولي أيضاً:
وعاذلي ذاله استقرْ ولم تُصحَّفْ من شؤم بختي
إن قال: ماذا سباك منها؟ أقلْ سِوارٌ بكفِّ سِتي
ومن ذلك قصيدة وجدتُها لنور الدين أبي بكر محمد بن رستم الأسعردي، رحمه الله تعالى:
إني أقصُّ عليك أعجب ما يُرى
…
منْ صُنع ربّي جلّ مَنْ قدْ قدّرا
فاسمعْ وعاينْ سَقْفَ بيتِك ساعةً
…
تَرَ تحته ثوراً سميعاً مُبصِرا
وانظرْ الى الماء الزلالِ تجدْ بهِ
…
كلباً وليس تراه أن يتكدَّرا
إن شئت أن تلقى حماراً ناطِقاً
…
فانظرْ بمرآةٍ تجدْهُ مصوَّرا
طالعْ كِتاباً إنْ خلوْتَ بمجلسٍ
…
ترَ ثَمَّ شيطاناً يطالِعُ أسطرا
واصعَدْ الى سطحٍ وغمّضْ ناظراً
…
لك إنّ فوق السطح تيساً أعورا
والبس ثيابكَ واقر آياتٍ تجدْ
…
من تحتها تيساً هنالك قد قَرا
وإذا حضرتَ الحربَ وَلِّ عنِ العِدى
…
تَرَ ثَمّ صفعاناً يولّي مُدْبِرا
ومتى شرِبَْ مدامةً بين الورى
…
ترَ جاهلاً في الناسِ يشربُ مُسْكِرا
وإذا لُعنْتَ وأنت تحسبُه دعا
…
ترَ أحمقاً لعنوه ثَمّ وما دَرى
يا غادياً ينوي التزهّد بعدما
…
أفنى الزمان من الشباب الأكبرا
لا تخرِبَنّ الوجه منك بذلةٍ
…
فخراب وجهك في الورى أن يُعْمَرا
لو كان رزقك يا كثير الحرص في
…
جُحْر أكلتَ ولن يكون مُقَتَّرا
كُنْ مثلَ مَنْ في الناسِ قوّى دينَهُ
…
وغدا حِمَى راجيهِ إن سُئِلَ القِرى
وينافِرونَك معْشرٌ من جهلهم
…
ولأنت أجهل إن سمعت المنكرا
هوّنْ إذا ضحك الأنام عليك في
…
الدنيا سيبكيك الذي فيها جرى
إن كُنتَ للصلواتِ في أوقاتها
…
تَنْسى كثيراً فاجتهدْ أن تَذكُرا
يا بئس ما صنعتْ يداك وما سعتْ
…
رجلاك في قطع المفاوز تذْكُرا
ما هذه الدنيا بدارِ سلامةٍ
…
لابدّ يوماً أنْ تبيتَ مُكَسَّرا
يقسو عليها عالم بصروفها
…
وتروق مَنْ أعمته عن أن يُبْصِرا
لابدّ من بعثٍ فكن متيقظاً
…
واصنعْ له عملاً، ومن أن تُنْشَرا
وترى جهنمَ والصراطَ مُهيّأ
…
في وسطها وترى عليها مُعْسِرا
ويدُسّ رأس كبيرِهم وصغيرِهم
…
في قعرها حتى استفكَّكَ شافِعٌ لن ينكرا
يجري على خديك دمْعُك عند ذكر
…
الحش لا أُنسيتَ ذاك المحشرا
بِتْ نائماً متيقّظاً واذْكُرْ إذا
…
ما قُمتَ منتفضاً هناك من الثّرى
كُنْ خاسِئاً متواضعاً واحذرْ بأنْ
…
يوماً تُرى متفرِّغاً مُتجبِّرا
لا تفخرنّ بجلدِ كلبٍ إن غدا
…
تاجاً لراسِك فالمدَى سامي الذُرَى
لو كنتَ ذا القرنينِ في سلطانه
…
لم يُجد ملكُكَ وانصرفتَ منكَّرا
قد كَلّ جيشٌ للعِدى أولا تَقُدْ
…
لابدّ أن يُفني الرّدى كلَّ الوَرى
هيهات ما الدنيا بدارٍ يُرتَجى
…
فيها الجَزا، فاحمَدْ لمقصِدكَ السُرى
كم نال فيها عاجِزٌ ما يَرتجي
…
وحوى على رغم الأعادي مَفْخرا
يا قاعداً رضي الخمولَ لنفسِه
…
قد كان حقك في الوَرى أن تُشْهَرا
ما بالُ رأسِكَ لا يزالُ مُنَكَّساً
…
من ركْوةٍ فيه وصار مفَتَّرا
لا تحزننّ لشيبِ رأسِكَ واتّئدْ
…
سيصير كُلٌ في الخراب فلا يُرى
يا لِحيةً خُلقتْ فأفحش خلقها
…
كالروض تُزهى بهجةً إذْ نوّرا
إنْ ضرّ طولك في الأنام فطالما
…
استنفعت من شعَر يكون مُقَصّرا
يا ساجداً في كل أرض راغباً
…
في ذكر كلّ فتى يراه كبرا
أخبار أهل الزهد عندي كلها
…
إن كُنتَ فيها للسعادةِ مُؤثِرا
يا آكِلا جزء الغِذا من خوفهِ
…
ستنال من ذاكَ النعيم الأكبرا
فالقطْ نَوًى من كل أرضٍ ثم كُلْ
…
منها الخرادلَ تَحْوِ أجراً أوفرا
لابدّ يوماً أن تصير ببطنها
…
ولك الجزا فيها على هذا المِرا
ومن ذلك قصيدة للحكيم شمس الدين محمد بن دانيال، رحمه الله تعالى:
إنّ البلادَ التي أصبحتَ واليهَا
…
أضحت ولا جنة المأوى ضواحِيها
وعُمّرتْ منك بالعدل المبين الى أن با
…
ت حاضرُها سُكنى وباديها
وبعدما أصبح الطيرُ الخراب بها
…
على أسافلها تبكي أعاليها
كأنّها لم تبِضْ فيها ولا فقسَتْ
…
بها ولا نبتتْ فيها خوافيها
فأقفرَتْ بعدما كانتْ مساكنُها
…
فيها خرائدَ قد لذّ الأسى فيها
فلنْ يهِرَّ بها كلبٌ ولو ظهرتْ
…
رسومُها لَعوى فيها عوافيها
هبّتْ رياحُ دَبور في جوانبِها
…
فكان سقط لواها إلف سافيها
وا لَهْف نفسي عليها عند ذاك ويا
…
خرابَها بمعانٍ في معانيها
منْ بعدِها لم أجِد أرضاً أفُشّ بها
…
صَبابةً في ضميري كنتُ أخفيها
أنتَ الشجاع الذي ذاق البَرازَ ولم
…
يجْبُن إذا بطلٌ جرّ القَنا فيها
كم نار حرب لدى الهيجاءِ ما وقدَتْ
…
إلا أتيت ببأس منك يُطفيها
للهِ رمْيُك واستيفاكَ من بطلٍ
…
سهامَ أي قِسيّ بتَّ تحْنيها
كم قد خرقتَ بطونَ الدارعينَ بها
…
حتى تراقتْ نفاذاً من تراقيها
وعصبةٍ تشربُ الأبوالَ من ظمأٍ
…
وتأكل الروثَ جوعاً أنت مُغنيها
كم استنابك فيها حاكم فغدا
…
بحفظها منك إقبالٌ لرائيها
ومُذْ رآك الورى فرْدَ الزمانِ بها
…
خرّتْ لوجهِكَ، أعنى سُجّداً تِيها
لو أنّ دجلةَ فيها القاع ذو يبسٍ
…
لوارديها لكنتَ الدهرَ تسقيها
سلْ أرض حرّان إذْ أمسيتَ ساكنَها
…
هل جاع صُعلوكُها أو جاع صوفيها
وفاخَرَتْك جماعاتٌ وربَّتَما
…
قالوا قصير فرُدَّ القولُ تسفيها
إنْ قلّ طولك فيه للعيان فما
…
قد قلّ طولك فيها حين تعطيها
يا والياً بيّتَ الأكفاءَ في نفق
…
يحمي حماها كما قد بات يحميها
لا تعجلنّ وكُن مسترفقاً وخذ ال
…
مياه بالحكم عدلاً من مجاريها
وإن ركبتَ الى حمل الغلال ولم
…
تُحْصَدْ جميعاً لتجني حصْدَ باقيها
عليك بالدّرةِ الخرْزاءِ إن سمعتْ
…
أُذناكَ مستخدماً ألغى خراجيها
فالنحسُ أنتَ تراهُ غيرَ مكترثٍ
…
إلا بصَفْعِكَه إن رُمْتَ تنبيها
خُذْها مدائح مَنْ تلقاه مُبتَسِماً
…
يَهذي بذكرك بين الناس تنويها
واهزُزْ لها عِطفَك الميّاسَ من طرَبٍ
…
ليُصبح الحاسد الغضبان يُطْريها
فأنتَ كالبانِ أعطافاً مرنَّحَة
…
لمَنْ يشبّهُ أنّى رامَ تشبيها
فإنها كالتي إنْ أُنشِدَتْ طرَباً
…
صُدورها قامتْ منها قوافيها
ومن التحريف الظريف ما هو مشهور:
إنْ آنَ أنْ تلتَقي علِمْنا مَنْ منّ مِن أهلنا علينا
لوْ لؤلُؤاً صُبَّ في يديهم لوَلْوَلوا بالبُكا لدَيْنا
ومن ذلك ما أنشدنيه لنفسه إجازة الشيخ صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي، رحمه الله تعالى:
سلْ سلسلَ الريقِ إن لم يرْوِ حرَّ ظَما بَلْ بلبلَ القلبَ لمّا زاده ألَما
قدْ قدَّ قَدُّ حبيبي حبلَ مصطَبري إنْ آنَ أنْ أجتني جُرماً فلا جرَما
مُذ ملّ ململَ قلبي في تعنُّتِه لو كفَّ كفكفَ دمعاً صار فيه دَما
بلْ رُبّ ربربِ سِرْبٍ ثغره شَنِبٌ لوْ لؤْلُؤٌ رام تشبيهاً به ظلَما
لو قابلَ الشمسَ لألاؤها كسفتْ فإن تقُلْ للدجى زح زحزحَ الظلما
كم هدّ هُدْهُدُ واشينا بناءَ وفاً غداةَ عنعنَ عن أعدائنا الكلِما
مُذ نَمّ نمْنَمَ أقوالاً شقيتُ بها إذْ زلّ زلزلَ طوْدَ الصبرِ فانهدما
لِمْ لملَم الوجدَ عندي بعد مصرفه عني وجمجمَ جَمّ الغيثِ فالتأما
مُذ لجّ لجلجَ نُطقي عن إجابتهِ لوْ رقّ رقرقَ دمعاً ظلّ منسجِما
إنْ كانَ دعْدعَ دَعْ كأسَ العتابِ وقُلْ مَهْ مَهْمِه العِشقَ لا يطويه مَنْ سئما
إن قيل ضعضعَ ضعْ خدّيك معتذراً أو قيل قلقلَ قُلْ أرضى بما حكما
أو قيل طحطحَ طح بالحُبّ ملتجئاً أو قيل دمدمَ دُمْ بالوُدِّ ملتزما
سب سَبْسَبَ الحُبّ واشكرْ من أحبتنا لكل مَنْ منّ من أهل الوَفا كرَما
هُم همُّهم حفظُهُم للخلّ حقَّ وفاً بحيث حصحصَ حصَّ الهمَّ منتقما
إن قيل أجَّ أجاج الغَدْر فارضَ بهِم إلاّ فنفسَك لُمْ لِمْ لَمْ تُفِضْ ندما
وما رأيت أعجبَ من بيت للأعشى ميمون بن قيس، فإنّه صحّف فيه العلماءُ الأعلام مواضع عدةً، وهو قوله:
إنّي لعَمْرو الذي حطّتْ مناسمها
…
تَحذي وسيقَ إليها الباقر الغُيُلُ
وهذا البيت من جملة قصيدته المشهورة التي أولها:
ودِّع هُريرةَ إنّ الركبَ مُرتَحِلُ
…
وهل تُطيق وداعاً أيّها الرجُلُ
والمغاربة يعدون هذه القصيدة من المعلقات السبع.
أما الأصمعي فإنه روى البيتَ الذي أشرتُ إليه:
إني لعَمرو الذي خطّتْ مناسمها
…
............
فأورده بالخاء المعجمة، وقال: خطّتْ يعني أنها تشق التراب، وقال: ومثله قول النابغة:
أعلِمتَ يوم عُكاظَ حينَ لَقيتَني
…
تحْتَ العَجاج فما خطَطْتَ غُباري
قال: ولا تكون حطت، يعني بالحاء المهملة، لأن الحطاط: الاعتماد في الزام وقال:
بسلجَم يحُطُّ في السفارِ
وأما أبو عمرو الشيباني فإنه رواه: حطت بالحاء المهملة، وقال: هو أن يعتمد في أحد شقيه، وقال: فيه: تخدى بالخاء المعجمة، يعني: تسير سيراً شديداً، وقال فيه: الباقر الغيل بالغين المعجمة والياء آخر الحروف، وروى الزيادي عن الأصمعي: الباقر العَثَل بالعين المهملة والثاء مثلثة، وقال: العثلُ والعثجُ واحدٌ، وهو الجماعة من الناس في سفر وغير سفر.
وأما عسل فإنه رواه عن الأصمعي: حطت، بالحاء المهملة، وقال معناه أسرعت، والعثَل: الكثير الثقيل، ويقال: انكسرت يده ثم عثِلَتْ تَعْثَل أي ثَقُلَتْ عليه، فهذه رواية الأصمعي.
ورواه بعضهم: حِضْناً بالحاء المهملة والضاد المعجمة، ولم أدر ما معناه.
ومن قول الأعشى:
نفى الذّمَّ عنْ آلِ المحلَّقِ جَفنةٌ
…
كَجابيةِ الشّيخ العراقيّ تفْهَقُ
الجابية، بالجيم، الحَوض بلا ماء، ومعناه: أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ حوضه لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محالّه.
وقال المبرد: سمعت أعرابية تنشده كجابية السَّيْح، يريد النهر الذي يجري على جانبيه فماؤها لا ينقطع، لأن قول المبرد بالسين والحاء المهملتين وبينهما ياء آخر الحروف، والسَّيْحُ، بفتح السين، الماءُ الجاري.
وبعضهم صحفه فقال: كخابية، بالخاء المعجمة.
ومن غرائب التصحيف ما حُكي أن بعض المؤدبينَ صحّف بيتاً لزياد النابغة وهو قوله:
أسقينَني رثيّي وغنّيَني بحبّ يحيى ختنِ بن الجُرَذْ
وإنما هو:
أشقيتَني ربّي وعنَّيتَني بُحتُ بحبّي حينَ بِنَّ الخُرُدْ
فلم يدع فيه كلمة واحدة حتى صحّفها، كما تراه جعل أشقيتني من الشقاء أسقينني من السقي لجماعة الإناث، وجعل ربّي من الرّب
المضافِ الريَّ المضاف ضد العطش، وجعل عنيتني من العناء وهو الأسر والذل غنينني من الغناء لجماعة الإناث المطربات، وجعل بحت من البوح وهو إظهار السر، بحب؛ حرف جرّ دخلَ على حب وهو هوى النفس، وجعل بحبي يحيى اسم يحيى بن زكرياء، وجعل حين وهو الوقت ختن وهو زوج البنت، وجعل بِنّ وهو من البين للإناث ابناً وتفقه فيه لأنه قال: ابن بعد علم فلم يثبت ألفهو جعل الخرد جمع خريدة الجرذ بالجيم والذال ذكر الفأر.
ومن ذلك، ما كتبه الإمام الناصر، رحمه الله تعالى، وقد غضب على خادمه يُمْن: بِمَنْ يَمُنُّ يُمْن، ثمَنُ يُمْنٍ ثُمْنُ ثُمْنِ فكتب الخادم إليه: يَمُنّ يُمْن بمَنْ ثمّنَ يُمْنَ ثُمْنَ ثُمْنِ فأعجبه ذلك منه وعفا عنه.
ومن غرائبه أن أهل البصرة كانوا يروون عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ألا إنّ خَرابَ بَصرتِكم هذه يكون بالرّيح.
يروونه بالراء والياء آخر الحروف، وما أقلعوا عن هذا التصحيف إلا بعد مائتي سنة عند خرابها بالزنج لما دخلها الخبيث الزنجي.
ومما كثر تصحيفه قول امرئ القيس:
كأنّ سراتَهُ لدَى البيتِ قائماً
…
مَداكُ عُروسٍ أو صَرايةُ حنْظَلِ
رواه الأصمعي: صَراية بفتح الصاد مهملة وياء آخر الحروف، والصَرايَة الحنظلة الخضراء، وقيل هي التي اصفرت.
ورواه أبو عبيدة: صِراية بكسر الصاد، وقال: هو الماء المُستَنقَع الذي يُنتقَع فيه الحنظل يقال: صَرِيَ يَصْرى صَرْياً وصراية، وهو أخضر صاف.
ورواه بعضهم: صَرابة، بباء تحتها نقطة، يريد الملوسة والصفاء، يقال: اصرأبّ الشيءُ، إذا املأسّ.
وبعض الناس يقال فيه: صلاية باللام عوض الراء.
ومما كثر تصحيفه قول أبي الطيب:
بَليتُ بِلَى الأطلالِ إنْ لمْ أقِفْ بِها
…
وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّربِ خاتمُه
قال بعضهم: إن المتنبي أخذ هذا العجز من مكان وصحفه جميعه، وهو:
وقوفَ شَجيجٍ ساخَ في الترب جاثِمُه
يعني بذلك الوَتِد الذي شج رأسه بالدق حتى ساخ جاثمه في التراب، شجيج
بالشين والجيم المعجمتين، وجاثمه بالجيم والثاء المثلثة، وهذا بلا شك أبلغ في الوقوف على الأطلال من وقوف شحيح ضاع خاتمه في التراب لأنه يقف ساعة يفتش التراب عليه فإن لم يجده تركه وانصرف.
وقوله أيضاً:
وريعَ له جيشُ العدوِّ وما مشى
…
وجاشتْ له الحربُ الضروسُ وما يغْلي
منهم من رواه: ما تَغلي بالتاء ثالثة الحروف مع الغين المعجمة، أراد أن الحرب قامت على أعدائه معنىً لا صورةً، لخوفهم منه، ومنهم من رواه بالياء آخر الحروف، أراد لم يبلغ الى أن يخنق صدره غضباً.
ومنهم من رواه بالفاء بدل الغين، أراد: لم يبلغ الى أن يَفْليَ رءوسهم بسيفه، ومنهم من رواه بالقاف من القِلَى والبُغْض.
وقوله أيضاً:
كم وقفة سجَرْتَك شوقاً بعدما
…
غَرِيَ الرقيبُ بنا ولَجّ العاذِلُ
منهم من رواه: سجرتك بالسين المهملة والجيم أي ملأتك. ومنهم من رواه بالسين والحاء المهملتين من السحر. ومنهم من رواه: شجرتك بالشين والجيم المعجمتين من قولهم: شجرتُ الدابة إذا كبحتها باللجام لتردها.
وقوله أيضاً:
بِصارمي مُرتَدٍ بمَخْبُرَتي مُجتَزِئٌ بالظلامِ مُشتَمِلُ
قال بعضهم: مُجتَزئ بالزاي وقال بعضهم: مجتَرِئ بالراء من الجُرأة وبعضهم رواه: ملتحف، وكل صحيح المعنى.
وقوله أيضاً:
إذا وطِئَتْ بأيديها صخوراً
…
بَقينَ لوَطْءِ أرجلها رمالا
رواه ابن جني بالباء الموحدة والقاف. ورواه غيره يفين بالياء آخر الحروف والفاء من فاء يفيئ إذا رجع. والأول صحيح أيضاً.
وقوله أيضاً:
وأبَهْرُ آياتِ التِهاميّ أنّه
…
أبوكَ وإحدى ما لكم من مناقِبِ
رواه بعضهم: التهامي آية بدل أنّه، من أنّ واسمها وأجدى بفتح الهمزة وبعدها جيم بدل وإحدى بكسر الهمزة وبعدها حاء مهملة.
وقوله أيضاً:
فالموتُ آتٍ والنفوسُ نفائس
…
والمستَغِرُّ بما لديه الأحمقُ
بعضهم رواه: المستغر بالغين المعجمة والراء، وبعضهم رواه: والمستعز بالعين المهملة والزاي. وكلاهما معنى صحيح.
وقوله أيضاً:
وإنّ القيامَ التي حوْلَه
…
لتحسد أقدامَها الأرْؤسُ
روى ابن جِني وغيره: القيام بالقاف. ورواه المعري: الفئام بالفاء وهمز الياء، وهو اختيار أبي الطيب، لأن الفئام بالفاء لا يقع إلا على الجماعة الكثيرة، بخلاف القيام بالقاف.
ومما كثر التحريف فيه بين المحدِّثين وهو ثلاثة أحرف: جبل حراء، حرّف المحدّثون في حِرَا الحاء والراء والألف فيفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة، فيقولون فيه: حَري على وزن دَنِي، وألفه ممدودة فبعضهم يقول فيه: جبل حَرَا، مقصور الألف.
وما أحسن ما أنشدنيه من لفظه لنفسه الشيخ الإمام المحدِّث الأديب جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد السُرَّمَريّ الحنبلي:
سألتَ عن اسم من ثلاثة أحرفٍ
…
وقد غلطوا فيه بأحرفه طُرّا
فذاك حراء فاكسر الحاء وافتحن
…
راءه ومد الهمز واجتنب القَصْرا
فهم فتحوا المكسورَ والعكس ثمّ أنّ
…
هُم قصَروا الممدودَ واستوجبوا الهجرا
ولو لم يكن ذا القولُ ف جبَلٍ لما
…
تصبّرَ هذا الصّبْرَ واحتمل الضُرّا
ومما حُرِّف فانفسد به المعنى قول أبي الطيب:
قُلْ للدمستق إن المسلمين لكم
…
خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا
أكثر الناس يقولون: المُسلِمين بكسر اللام، يريدون جمع مسلِم، وليس كذلك. وإنما هو بفتح اللام، يريد بذلك الذين أُسلِموا لهم، وإلا فما فائدة قوله: لكم.
ومما كثر فيه التحريف والتصحيف قول جرير، وهو:
يمشون قد نفخ الخزيرُ بطونَهم
…
وغَدَوا وضيف بني عقال يُخْفَعُ
روي في وغدوا عدة روايات: فقيل فيه: رَعَدَى، وقيل: رغداً بالراء، وقيل: زَغَداً بالزاي والغين، الزغد بالزاي: الكثير، والرَّغْد: الضِّرْط، ورواه ابن قتيبة: شِبعاً. وقيل: يَخْفَع بفتح الياء، وقيل بضمها.
وقد نفَعَ التصحيفُ كما قد ضرّ، فمن نفعه أنه لما حضرَ محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، الى العراق اجتمع الناس عليه يسألونه ويسمعون كلامه، فرفع خبره الحسدة الى الرشيد وقيل: إنّ هذا يفتي بعدم وقوع الأيمان وعدم الحنث وربما يفسد عقول جندك الذين حلفوا لك، فبعث بمن كبس مكانه وحمل كتبه معه، فحضر إليه من فتش كتبه، قال محمد: فخشيت على نفسي من كتب الحِيَل، وقلتُ بهذا تروح روحي، فأخذت القلم ونقطتُ نقطةً، فلما وصل إليه قال: ما هذا؟ قلت: كتاب الخَيْلُ يُذْكَرُ فيه شياتُها وأعضاؤها، فرمى به ولم ينظر إليه.
قلت: فتخلّص بنقطة صحفت الحاء المهملة بالخاء المعجمة.
ومن نفْعِه: كان محمّد بن نفيس غيوراً فأُخبرَ أنّ جارية له كتبتْ على خاتمها
مَنْ ثبَتَ نبَتَ حُبُّه، فدعاها ووقفها علي ذلك، فقالت: لا والله، أصلحك الله، ما هو ما قيل لك وإنما هو مكتوب مَنْ يَتُب يُثَبْ جنّةً.
قلت: الأول بالثاد المثلثة مفتوحة وبعدها باء موحدة وتاء ثالثة الحروف، ونون وباء موحدة وتاء ثالثة الحروب، وحاء مهملة وباء موحدة مشددة.
والثاني: بالياء آخر الحروب والتاء ثالثة الحروف والباء الموحدة، والياء آخر الحروف مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة وباء ثانية الحروف، وجيم ونون مشددة.
ومن نفْعه ما حكاه لي بعضُ الفضلاء، قال: كان القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله، يوماً بين يدي الملك الظاهر بيبرس وهو يكتب كتاباً الى نائب الشام فمرّ به ذكر عكا، وكان الساحل يومئذ بأيدي الفرنج، فحصل له سهو وكتب: عكّا المحروسة، وعلّق السين، وكان بعض مَنْ يكرهه حاضراً فقال: يا مولانا نقول عن عكا: المحروسة؟! فقال محيي الدين على الفور: إذا كان واحد ما يقرأ إلا ما ينقط ما لنا فيه حيلة! المخروبة، بسم الله. ثم إنه نقط الخاء وجعل تحت السين المعلقة نقطة، فسكن غضب السلطان ونجا ابن عبد الظاهر، رحم الله كلاً.
وقد هجا خَلَفُ الأحمر العُتْبيَّ فقال:
لنا صاحبٌ مولَعٌ بالخلافِ
…
كثير الخطاءِ قليل الصوابِ
ألَجُّ لجاجاً من الخنفساءِ
…
وأزهى إذا ما مشى مِنْ غُرابِ
وليس من العلم في كفّهِ
…
إذا ذُكِرَ العِلْمُ غير الترابِ
أحاديثُ ألّفَها شَوْكَرٌ
…
وأخرى مؤلّفة لابنِ دابِ
فلو كان ما قد روى عنهما
…
سماعاً، ولكنه من كتابِ
رأى أحرفاً شُبِّهَتْ في الكتابِ
…
سواء إذا عدّها في الحسابِ
فقال: أبي الضيم يُكنى بِها
…
وليست أبي إنما هي آبي
وفي يوم صِفّين تصحيفةٌ
…
وأخرى له في حديث الكُلابِ
قال أبو أحمد العسكري، رحمه الله تعالى: آبِي الضّيْم ليست كنيته، وإنما هو فاعل من الإباء، ومثله آبي اللحم ليست كنية، وإنما كان يأبى أن يأكل اللحم الذي ذبح لغير الله تعالى، وكان حيان بن بشر قد ولي قضاء بغداد وقضاء أصبهان أيضاً، وكان من جلة أصحاب الحديث، فروى يوماً أن عرفجة قُطِعَ أنفُه يوم الكِلاب، وكان يستمليه رجل يقال له كِجّة، فقال: إنما هو بالكُلاب. فأمر بحبسه، فدخل الناس إليه وقالوا: ما دهاك؟ فقال: قُطِعَ أنفُ عرفجة يوم الكُلاب في الجاهلية وامتحنت به أنا في الإسلام.
ومن التحريف الذي نفَع ونجّى من الهلاك قولُ أبي نُواس وقد استطرد يهجو خالصة حظية الرشيد، فإنه قال:
لقد ضاعَ شِعْري على بابِكُمْ
…
كما ضاعَ حَلْيٌ على خالِصَهْ
فيقال إنهالمّا بلغها ذلك غضبتْ وشكته الى الرشيد، فأمر بإحضاره، وقال له: يا ابن الزانية تعرِّض بحظيتي، فقال: وما هو يا أمير المؤمنين، قال: قولك: لقد ضاع شعري
…
البيت، فاستدرك الفارطُ أبو نواس وقال: يا أمير المؤمنين لم أقلْ هذا وإنما قلت:
لقد ضاءَ شِعري على بابِكُمْ
…
كما ضاءَ حَليٌ على خالصَه
فسكن غضب الرشيد ووصله، ويقال: إن هذه الواقعة ذكرت بحضرة القاضي الفاضل، رحمه الله تعالى، فقال: بيتٌ قُلِعَتْ عيناه فأبصرَ.
ومنه ما حكاه الرواة من أنه لما غرِقَ شبيبٌ الخارجيّ في نهر دجلة، أُحضِر الى عبد الملك بن مروان بعد غرَقِه عتبانُ بن وُصَيْلة، وقيل أُصيلة، الحروري، وكان من شُراة الجزيرة، فقال له عبد الملك: ألستَ القائل:
فإنْ كان منكُم كان مَروانُ وابنُهُ
…
فمنّا أميرُ المؤمنين شَبيبُ
فقال: يا أمير المؤمنين لم أقلْ هكذا، وإنما قلت:
فمنا حُصَيْنٌ والبَطينُ وقَعْنَبٌ
…
ومنا أميرَ المؤمنينَ شبيبُ
وفتَح الرّاء من أميرَ المؤمنين، فاستحسن ذلك منه وخلّى سبيله، فخلص من الموت بتغيير حركة.
ومن طريف التصحيف ما حكاه صاحب كتاب الرّيْحان والرّيعان قال: حضَر شابٌ ذكيّ بعضَ مجالس الأدب، فقال بعضُهم: ما تصحيف نصَحْتُ فخنتني؟ فقال: تصحيفٌ حسَن، فاستغرب إسراعه، وكان في المجلس شاعر من أهل بلنسية فاتهم الشاب وقال مختبراً: ما تصحيف بلنسية؟ فأطرق ساعة ثم قال: أربعة أشهر فجعل البلنسي يقول: صدق ظني فيك، إنك تدعي وتنتحل ما تقول، ويحك، والفتى يضحك، ثم قال له: اشعُرْ فأنتَ شاعر، فقال له: أي نسبة بين بلنسية وبين أربعة أشهر؟ فقال: إن لم يكن في اللفظ فهو في المعنى، ثم قام وهو يقول: هو ذاك، فتنبه بعض الحاضرين بعد حين ونظر فإذا أربعة أشهر ثلث سنة، وهو تصحيف بلنسية، فخجل المنازعُ ومضى الى الشاب معترِفاً ومعتذراً، انتهى.
وقال آخر لآخر: ما تصحيف: نصحتُ فضعتُ، فجعل لا يهتدي
الى تصحيفه، فلما أعياه الأمر قال له: بالله ما تصحيفه؟ قال: تصحيفٌ صعبٌ قال له: بالله قل لي ما تصحيفه؟ قال: تصحيفٌ صعبٌ، ولم يزالا كذلك وهو يسأله وذاك لا يغيّر جوابَه ولم يهتدِ الى أنّ ذلك هو الجواب.
وقال آخر لآخر: ما تصحيف: استنصِحْ ثقةً، ففكر فيه زماناً، فلما أعياه قال: لم يظهر أيش تصحيفه، فقال له: قد أجبت ولم تعلم أنك أجبت.
وحكي أن الإمام الناصر قال لابن الدباهي وقد اشترى مملوكاً اسمه بُلَيّة: يا ابن الدباهي: ثَلَثة ثَلَثة، فقال: يا أمير المؤمنين لا تَعُدّ.
وحكي أن المتوكل قال لابن ماسويه الطبيب: بِعْتُ بيت بقصرين، فقال الطبيب: يُطَيّنُ أجُرّاً غَداً كُلّه، قال الخليفة: تعشّيتُ فضرّني، قال الطبيب: بَطّي أخِّر غِذاك له.
وقال المستنجد بالله يوماً لسعد الدين الحسين بن شبيب صاحب
المخزن وقد رآه مُقبِلاً: أين شتّيْتَ؟ فقال مجيباً على الفور: ذاك عندك، يريد المستنجد ابن شبيب فقال له: عبدك.
وقيل إن ابن مُنقذ قال لابن الساعاتي الشاعر يوماً، وكان مليح الصورة: أجيء وأحدثكم، فقال ابن الساعاتي سريعاً: مُرْ وَيْكَ، أراد ابن منقذ: أخي واحد بكم، وأراد ابن الساعاتي مروءتك.
وحُكي أنّ الناصر صاحبَ حلَب وجد يوماً بعض الفلاحين مُقبِلاً فقال له: من أين أتيت يا كَيّس؟ فقال له: من ضَيعتِك يا بنش، فنقب عن أمره، إن كان يعرفُ يكتبُ أو يقرأ، فوجده أمياً، فقال: البَغْيُ مصْرعٌ.
وكان يوماً الى جانبي في بعض الأيام مَليح، فقال بعض أصحابي الفضلاء: يا مولانا سلسلة، فقلت أنا على الفور: بقناديل، فأعجبه ذلك بعدما خجل، ثم قال لي: مغفورة لسرعة جوابها وحسنها الزائد.
ولمّا وقفتُ على كتبِ أهلِ العِلم ممّنْ تصدّى لرفع التصحيف ودفع التحريف - مثل الشيخ أبي محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري صاحب
المقامات، رحمه الله تعالى، فقد وضع كتاباً سمّاه درّة الغوّاص في أوهام الخَواص، وهو كتاب جيد، وذيّل عليه الشيخ الإمام اللغوي النّحوي أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، رحمه الله، وسمّاه التكملة، وقيل إنّ ابن بري أو ابن الخشاب، رحمهما الله تعالى، وضعَ على كتاب الحريري ردّاً، ولم أقِفْ عليه الى الآن، ومثل الشيخ الجليل القاضي أبي حفص عمر بن خلف بن مكي الصقلي النحوي، وضع كتاباً سمّاه تثقيف اللسان وتلقيح
الجنان، وكان رحمه الله محدّثاً فقيهاً لغوياً نحْوياً. ومثل الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن حسن الزبيدي، رحمه الله تعالى وضع كتاباً سمّاه ما تلحن فيه العامة، ومثل الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ الجوزي، رحمه الله، وضع كتاباً سماه تقويم اللسان، ومثل الإمام محمد بن يحيى الصّولي، رحمه الله تعالى، وضع فيما صحّف فيه
الكوفيون مصنفاً صغيراً، ومثل الإمام أبي عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني، رحمه الله تعالى، وضع كتابا سماه التنبيه على حدوث التصحيف، ومثل العلامة أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، رحمه الله تعالى، فإنه وضع في التصحيف مصنفاً وقد وقفتُ على قِطعة من شرْحِه له، ومثل الضياء موسى الناسخ الأشرفي، رحمه الله تعالى، جمع أوراقاً في هذا الباب. ومثل الإمام الحافظ العلامة الناقد الحجة أبي الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، رحمه الله تعالى، وضع كتاباً في التصحيف، والنّفْع به للمحدِّث أكثر - أردت أن أنتقي من ذلك كلّه مجموعاً يُغني كلّه عن أجزاء هذه المصنّفات المذكورة والأسماء المسطورة، وأرتبَ ذلك على حروف المعجَم؛ ليكون أسهل حالة الكَشْفِ، وأسوغَ حالة الرّشْف، فهو فرْدٌ تناول ذلك المجموع، ومبتدأٌ اقتضى تلك الأخبار؛ فكان أوْلى بقول أبي الطّيّب:
ذُكِر الأنامُ لَنا فكانَ قصيدةً
…
أنتَ البديعُ الفرْدُ من أبياتِها
وأحقَّ بقولِ البُحتري:
ولمْ أرَ أمثالَ الرّجالِ تفاوَتَتْ
…
الى المجد حتّى عُدّ ألفٌ بواحِدِ
ولم يكن لي في هذا غير التهذيب وحُسن الرّصْفِ والتّبويب، اللهمّ إلا ما يتخللُ أثناء ذلك من تفسيرٍ وتقييد، وتقريرٍ وتمهيد، وأمّا ما عثرت عليه من التصحيف في كتاب الصحاح للجوهري فقد ذكرت ذلك مستوْعَباً في كتابي نُفوذ السّهم فيما وقعَ للجوهري من الوهْم.
وقد جعلْتُ لكلّ مصنّفٍ نقلْتُ عنه رمزاً يخصّه، وإشارة من حروف المُعجَم تنبِّه على فصِّه وتقُصّه: فعلامة كتاب درّة الغوّاص للحريري (ح) وعلامة التّكملة للجواليقي (ق) وعلامة تثقيف اللسان للصقلي (ص) وعلامة ما تلحَنُ فيه الامّة للزبيدي (ز) وعلامة تقويم اللسان لابن الجوزي (و) وعلامة كتاب ما صحّفَ فيه الكوفيون (ك) وعلامة كتاب حُدوث التصحيف (ث) وعلامة كتاب تصحيف العسكري، رحمه الله تعالى (س) وعلامة الضياء موسى الناسخ (م)
فإنه جمَع في هذا الباب أوراقاً فعلتُ ذلك خوفاً من التطويل، وقد يجتمع المصنِّفُ وغيرُه على نقلِ الشيءِ الواحد فأذكر العلامتين أو الثلاث أو الأربع، ويكون المتأخّر هو صاحب العبارة.
وبالله الاستعاذة والاستعانة، وإليه الإنابةُ في الإبانة، لا إله إلاّ هو سُبحانه.