الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) إن واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل مفعول يحب وفخور عطف على مختال. (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) الواو عاطفة واقصد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي مشيك متعلقان بأقصر واغضض من صوتك عطف على ما تقدم. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الجملة تعليل للأمر بخفض الصوت بصورة مؤكدة كما سيأتي في باب
البلاغة
وإن واسمها والأصوات مضاف اليه واللام المزحلقة للتأكيد وصوت الحمير خبر إن.
البلاغة:
في قوله: «إنها إن تك مثقال حبة من خردل» الآية فن التمام أو التتميم وقد تقدمت الاشارة الى الفن في مواطن من هذا الكتاب، والمعنى انه تمم خفاء الهنة أو الخطيئة في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة والأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة مستقرة في أغوار الأرض السحيقة أو في الأعالي من أجواز الفضاء، ومنه في الشعر قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
فقولها «في رأسه نار» تتميم جميل لا بد منه لتجسيد الظهور والشهرة للسارين والغادين.
وقول عنترة العبسي:
أثني عليّ بما علمت فإنني
…
سهل مخالقتي إذا لم أظلم
فقوله «لم أظلم» تتميم حسن.
ومن التتميم الحسن قول امرئ القيس يصف الفرس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله
…
أفانين جري غير كزّ ولا واني
فقوله «قبل سؤاله» تتميم عجيب لقوله «أفانين جري» وما أجمل قول زهير بن أبي سلمى في هذا الباب:
من يلق يوما على علاته هرما
…
يلق السماحة منه والندى خلقا
والتتميم هنا في قوله «على علاته» وهو تتميم عجيب تضمن مبالغة أعجب. ويجري على هذا المنوال قول ابن محكان السعدي حين قدم الى القتل:
ولست- وإن كانت إليّ حبيبة- بباك على الدنيا إذا ما تولت قال أبو العباس المبرد: فاستثنى: «وإن كانت إليّ حبيبة» استثناء مليحا، ونوى التقديم والتأخير فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدّما على مظهره.
2-
التأكيد بأن وفنون أخرى:
ومن بديع هذه الآية «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» فنون عديدة نشير إليها:
أ- فقد أتى بالتمثيل مؤكدا بإن أولا وعزز هذا التأكيد باللام فصار الكلام خبرا إنكاريا كأن التمثيل أمر مبتوت فيه لا يتطرق اليه الشك، فقد تدخل إن في الجملة فترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا، واستخدامها على هذا الوجه يحتاج الى تدبر وروية معا، وقد خفي سر هذا الاستخدام حتى على أفراد العلماء روي عن الأصمعي أنه قال: كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر وكانا يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، وأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال:
هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال:
نعم بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أرد عليه مالا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما:
بكّرا يا صاحبيّ قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح في التبكير» «بكّرا فالنجاح في التبكير» كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: «إن ذاك النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت: بكرا في النجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذاك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. قال عبد القاهر في تعليقه على هذه القصة: «فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟» .
ومضى عبد القاهر في تحليله لبيت بشار فقال: أما ان الجملة مستأنفة مع إنّ فلأنها غير معطوفة على ما قبلها بالواو وهي واقعة في جواب سؤال مقدر فكأن سائلا سأل: ولماذا يطلب الى صاحبيه أن يبكرا قبل الهجير فكان الجواب: إن ذلك النجاح في التبكير واما انها تصل جملتها بالجملة السابقة فالدليل عليه أنك لو أسقطت «إن» من الجملة لرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير ولعل ذلك هو سر لطفها ودقتها وجزالة التعبير بها وهو سمة البناء الأعرابي الوحشي على عكس ما لو قال: بكرا فالنجاح في التبكير فهو بناء سهل واضح الترابط بالفاء وذلك سمة بناء الجمل عند المولّدين وإذا كانت الفاء تفيد الربط فانها لا تفيد التوكيد الذي تدل على «إن» وهذا البناء الجزل هو الذي جاء في القرآن الى درجة لا يدركها الإحصاء.
ويروي عبد القاهر في دلائل الاعجاز حديث يعقوب بن اسحق الكندي المتفلسف إذ ركب الى أبي العباس وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟
فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد.
كلام العرب حشوا فقال أبو العباس: في أي موضوع وجدت ذلك؟
فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم: إن عبد الله لقائم جواب عن انكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني.
وانما أطلنا في الاقتباس لدقة هذا البحث وخفائه وهو في الآية التي نحن بصددها واقع أجمل موقع وألطفه، موضح لتعليل الأمر بخفض الصوت مبني على تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهيق وافراط في التنفير عن رفع الصوت وقد أجاد الخطيب في تعليله لهذا التعليل وننقل فصله بطوله لروعته وابداعه قال:
ب- توحيد الصوت:
وقال الزمخشري: «لم وحّد صوت الحمير ولم يجمع؟
قلت ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع وانما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده» .
الاستعارة التصريحية:
وفي هذه الآية الاستعارة التصريحية حيث أخلي الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة فجعلوا حميرا وجعل صوتهم نهاقا مبالغة في الذم والتهجين وإفراط في النهي عن رفع الصوت والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة الموجعة وكذلك نهاقه.
ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه انهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين، وعن عبد الحميد الكاتب انه قال: لا تركب الحمار فإنه إن كان فارها أتعب يدك وإن كان بليدا أتعب رجلك. وقال أعرابي: بئس المطية الحمار إن وفقته أدلى وإن تركته ولى، كثير الروث، قليل الغوث، سريع الى الفرارة، بطيء في الغارة، لا توقى به الدماء، ولا تمهر به النساء، ولا يحلب في الإناء. ومن العرب من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد.
الصوت مصدر: