الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُفْطِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْغُرُوبِ دُونَ مَسْأَلَةِ الطُّلُوعِ كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الشَّكُّ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: لَا يُفْطِرُ فِي الْجَمِيعِ أَقْوَى، وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَوَّى بَيْنَ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ، وَأَبُوهُ عُرْوَةُ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَكَلُوا حَتَّى ظَهَرَ لَهُمْ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ مِنْ [الْخَيْطِ] الْأَبْيَضِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءٍ وَكَانُوا مُخْطِئِينَ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّهَارَ فَقَالَ: لَا نَقْضِي؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَجَانَفْ لِإِثْمٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَقْضِي، وَإِسْنَادُهُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ؛ فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ خِفَّةَ أَمْرِ الْقَضَاءِ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى أَثَرًا وَنَظَرًا، وَأَشْبَهَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ.
قُلْتُ لَهُ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَمْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَعَلَّ الْحُكْمَ إنَّمَا شَرَعَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
فَأَجَابَنِي بِمَا مَضْمُونُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ اقْتَضَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مُفْطِرٌ، وَهَذَا كَمَا لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ؛ فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلْفِطْرِ، وَلَا تَعَرَّضَ فِيهِ لِلْمَانِعِ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النِّسْيَانَ مَانِعٌ مِنْ الْفِطْرِ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ، فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ وَالْجَهْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[فَصَلِّ الْحُكْمُ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]
وَمِمَّا ظُنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَا حَكَمَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَجَّلَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَقَدِمَ
الْمَفْقُودُ بَعْدَ ذَلِكَ فَخَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا؛ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَنْ ذَهَبَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ - وَقِيلَ لَهُ: فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ مِنْ الْمَفْقُودِ؟ - فَقَالَ: مَا فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، هَذَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرُوهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ، قَالَ أَحْمَدُ: مِنْ ضِيقِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ فِي الْمَفْقُودِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْقَادِمِ بِكُلِّ حَالٍ، إلَّا أَنْ نَقُولَ: الْفُرْقَةُ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ فَتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ، وَغَلَا بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ لَنُقِضَ حُكْمُهُ لِبُعْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ.
وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: أَخَذَتْ بِبَعْضِ قَوْلِ عُمَرَ، وَتَرَكُوا بَعْضَهُ، فَقَالُوا: إذَا تَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَلَا تُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ. [مَنْ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ هَلْ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودٌ أَوْ مَوْقُوفٌ] .
قَالَ شَيْخُنَا: مَنْ خَالَفَ عُمَرَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا اهْتَدَى إلَيْهِ عُمَرُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْخِبْرَةِ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِثْلُ خِبْرَةِ عُمَرَ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِأَصْلٍ وَهُوَ وَقْفُ الْعُقُودِ إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، هَلْ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا لَا تَقِفُ، وَهُوَ أَشْهُرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ التَّفْصِيلُ.
وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إذَا كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ وَكَانَ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ وَقَفَ الْعَقْدُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِلَا نِزَاعٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ لَمْ تَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فَفِيهِ النِّزَاعُ؛ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ وَنَحْوِهَا فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَيَئِسَ مِنْهَا فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ؛ فَإِنْ ظَهَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَبَيْنَ التَّضْمِينِ.
وَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي اللُّقَطَةِ؛ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَأْخُذُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا ثُمَّ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا، فَهُوَ تَصَرُّفٌ مَوْقُوفٌ لَمَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِئْذَانُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ، وَكَذَلِكَ الْمُوصِي بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْمَفْقُودُ الْمُنْقَطِعُ خَبَرُهُ إنْ قِيلَ:" إنَّ امْرَأَتَهُ تَبْقَى إلَى أَنْ يُعْلَمَ خَبَرُهُ " بَقِيَتْ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ إلَى
أَنْ تَبْقَى مِنْ الْقَوَاعِدِ أَوْ تَمُوتَ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا، فَلَمَّا أُجِّلَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يُكْشَفْ خَبَرُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ ظَاهِرًا.
فَإِنْ قِيلَ: يَسُوغُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْحَاجَةِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِقَادِ مَوْتِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ لَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا، وَهَذَا كَمَا سَاغَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا، فَإِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، كَمَا إذَا ظَهَرَ صَاحِبُ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي زَوْجَتِهِ بِالتَّفْرِيقِ، فَيَبْقَى هَذَا التَّفْرِيقُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِذَا أَجَازَهُ صَارَ كَالتَّفْرِيقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا رَيْبٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ كَانَ التَّفْرِيقُ بَاطِلًا فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ فَتَكُونُ زَوْجَتُهُ، فَكَانَ الْقَادِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إجَازَةِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَرَدَّهُ، وَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُضْعَ عَنْ مِلْكِهِ، وَخُرُوجُ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَخَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ، فَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ، وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا الْمُسَمَّى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي نَصِّ أَحْمَدَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ بِرَضَاعٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَوْجَ الْمُخْتَلِعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِالْعَدْلِ.
فَحُكْمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَفْقُودِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، مِثْلَ قَضِيَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَصَدُّقِهِ عَنْ سَيِّدِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ابْتَاعَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ لَمَّا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ وَكَتَصَدُّقِ الْغَالِّ بِالْمَالِ الْمَغْلُولِ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَمَّا تَعَذَّرَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْجَيْشِ، وَإِقْرَارُ مُعَاوِيَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَصْوِيبُهُ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا، مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ،
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ إصْلَاحٌ بِلَا إفْسَادٍ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَبِيعَ لَهُ أَوْ يُؤَجِّرَ لَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرُهُ، فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَضُرُّهُ، وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يُوقَفُ فِيهَا تَفْرِيقُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ، وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ بِخُرُوجِ بُضْعِ امْرَأَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ: هَلْ هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ أَوْ مَا أَعْطَاهَا الثَّانِي، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا يَرْجِعُ بِمَا مَهَرَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا مَهَرَهَا هُوَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِذَا ضَمِنَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ الْمَهْرَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
إحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ.
وَالثَّانِي: قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ، فَلَا يَضْمَنُ مَهْرَيْنِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَنِكَاحِ الثَّانِي فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ جِهَتِهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ عَلَى الثَّانِي، وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ.
وَهُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْقِيَاسِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نُقِضَ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَحْرَاهَا فِي الْقِيَاسِ، وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنْ قَالَ:" إنَّهَا تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ تَكُونَ مَعَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ " فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ؛ إذْ كَيْفَ تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا وَلَا يُرِيدَهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَفْرِيقًا سَائِغًا فِي الشَّرْعِ، وَأَجَازَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ؟ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ زَالَ الْمَحْذُورُ، وَأَمَّا كَوْنُهَا زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ مَعَ ظُهُورِ زَوْجِهَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ الْإِمَامُ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ لَمْ يُفَارِقْ امْرَأَتَهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبٍ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهُوَ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ، فَكَيْفَ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؟ وَهُوَ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَوْ بَدَلَهُ رُدَّ إلَيْهِ فَكَيْفَ لَا تُرَدُّ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ وَإِنْ قِيلَ:" حَقُّ الثَّانِي تَعَلَّقَ بِهَا " قِيلَ: حَقُّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الثَّانِي، وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَاضُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، وَمَا الْمُوجِبُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.
وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَحْمَدُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وَصَوَابُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَهُمْ فِيمَا وَافَقَهُمْ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.