الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقْتِنَائِهَا وَحِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَتَرْغِيبِ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَرْغَبَ لِلنُّفُوسِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ اقْتِنَائِهَا وَرِبَاطِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَرِبَاطُ الْخَيْلِ مِنْ جِنْسِ آلَاتِ السِّلَاحِ وَالْحَرْبِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْهَا مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ، بِخِلَافِ مَا أُعِدَّ لِلنَّفَقَةِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا مَلَكَ مِنْهُ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى هَذَا بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ:«قَدْ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَّةِ» أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا أُعِدَّ لِلْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ مَا أُعِدَّ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَنَصْرِ دِينِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ؟ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ، وَإِسْقَاطُ الزَّكَاةِ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا.
[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ بَعْضِ مَقَادِيرِ الزَّكَاةِ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَوْجَبَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَفِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ نِصْفَ الْعُشْرِ أَوْ الْعُشْرَ، وَفِي الْمَعْدِنِ الْخُمُسَ " فَهَذَا أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَمُرَاعَاتِهَا لِلْمَصَالِحِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ، وَطُهْرَةٌ لِلْمَالِ، وَعُبُودِيَّةً لِلرَّبِّ، وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ مَحْبُوبِ الْعَبْدِ لَهُ وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ.
ثُمَّ فَرَضَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَنْفَعْهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَأَرْفَقِهَا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلَمْ يَفْرِضْهَا فِي كُلِّ مَالٍ، بَلْ فَرَضَهَا فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الرِّبْحُ وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا فِيمَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَلَا غِنًى لَهُ عَنْهُ كَعَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَدَارِهِ وَثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ، بَلْ فَرَضَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ الْمَالِ: الْمَوَاشِي، وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ أَكْثَرُ أَمْوَالِ النَّاسِ الدَّائِرَةُ بَيْنَهُمْ، وَعَامَّةُ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، دُونَ مَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ فِيهِ، ثُمَّ قَسَّمَ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِحَسَبِ حَالِهِ وَإِعْدَادِهِ لِلنَّمَاءِ إلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلَى مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَقَسَّمَ الْمَوَاشِيَ إلَى قِسْمَيْنِ: سَائِمَةٍ تَرْعَى بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا خَسَارَةٍ فَالنِّعْمَةُ فِيهَا كَامِلَةٌ وَالْمِنَّةُ بِهَا وَافِرَةٌ وَالْكُلْفَةُ فِيهَا يَسِيرَةٌ وَالنَّمَاءُ فِيهَا كَثِيرٌ؛ فَخَصَّ هَذَا النَّوْعَ بِالزَّكَاةِ، وَإِلَى مَعْلُوفَةٍ بِالثَّمَنِ أَوْ عَامِلَةٍ فِي مَصَالِحِ أَرْبَابِهَا فِي دَوَالِيهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَحَمْلِ أَمْتِعَتِهِمْ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ زَكَاةً: لِكُلْفَةِ الْمَعْلُوفَةِ وَحَاجَةِ الْمَالِكِينَ إلَى الْعَوَامِلِ فَهِيَ كَثِيَابِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ.
ثُمَّ قَسَّمَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَجْرِي مَجْرَى السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فِي سَقْيِهِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ فَأَوْجَبَ فِيهِ الْعُشْرَ، وَقِسْمٍ يُسْقَى بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَلَكِنَّ كُلْفَتَهُ دُونَ كُلْفَةِ الْمَعْلُوفَةِ بِكَثِيرٍ إذْ تِلْكَ تَحْتَاجُ إلَى الْعَلَفِ كُلَّ يَوْمٍ فَكَانَ مَرْتَبَةً بَيْنَ مَرْتَبَةِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ زَكَاةً مَا شَرِبَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْ زَكَاتَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَأَوْجَبَ فِيهِ نِصْفَ الْعُشْرِ.
ثُمَّ قَسَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلثَّمَنِيَّةِ وَالتِّجَارَةِ بِهِ وَالتَّكَسُّبِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالسَّبَائِكِ وَنَحْوِهَا، وَإِلَى مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ دُونَ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ كَحِلْيَةِ الْمَرْأَةِ وَآلَاتِ السِّلَاحِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مِثْلِهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
ثُمَّ قَسَّمَ الْعُرُوضَ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَقِسْمٌ أُعِدَّ لِلْقِنْيَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ حُصُولُ النَّمَاءِ وَالرِّبْحِ بِالتِّجَارَةِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرَ مُعَانَاةً وَعَمَلًا خَفَّفَهَا بِأَنْ جَعَلَ فِيهَا رُبُعَ الْعُشْرِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّبْحُ وَالنَّمَاءُ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي تُسْقَى بِالْكُلْفَةِ أَقَلَّ كُلْفَةً وَالْعَمَلُ أَيْسَرَ وَلَا يَكُونُ فِي كُلِّ السَّنَةِ جَعَلَهُ ضِعْفَهُ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَلَمَّا كَانَ التَّعَبُ وَالْعَمَلُ فِيمَا يَشْرَبُ بِنَفْسِهِ أَقَلَّ وَالْمَئُونَةُ أَيْسَرَ جَعَلَهُ ضِعْفَ ذَلِكَ وَهُوَ الْعُشْرُ، وَاكْتَفَى فِيهِ بِزَكَاةٍ عَامَّةٍ خَاصَّةٍ؛ فَلَوْ أَقَامَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ أَحْوَالٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ نَمَاؤُهُ وَزِيَادَتُهُ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ؛ فَإِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلنَّمَاءِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الرِّكَازُ مَالًا مَجْمُوعًا مُحَصَّلًا وَكُلْفَةُ تَحْصِيلِهِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَكْثَرِ مِنْ اسْتِخْرَاجِهِ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ ضِعْفَ ذَلِكَ وَهُوَ الْخُمُسُ.
فَانْظُرْ إلَى تَنَاسُبِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي بَهَرَ الْعُقُولَ حُسْنُهَا وَكَمَالُهَا، وَشَهِدَتْ الْفِطَرُ بِحِكْمَتِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُطْرَقْ الْعَالَمُ شَرِيعَةً أَفْضَلَ مِنْهَا.
وَلَوْ اجْتَمَعَتْ عُقُولُ الْعُقَلَاءِ وَفِطَرُ الْأَلِبَّاءِ وَاقْتَرَحَتْ شَيْئًا يَكُونُ أَحْسَنَ مُقْتَرَحٍ لَمْ يَصِلْ اقْتِرَاحُهَا إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ.
وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَالٍ يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ قَدَّرَ الشَّارِعُ لِمَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ نُصُبًا مُقَدَّرَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ النُّصُبُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا لَا يُجْحِفُ الْمُوَاسَاةَ بِبَعْضِهِ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ مِنْهَا، وَإِلَى مَا يُجْحِفُ الْمُوَاسَاةَ بِبَعْضِهِ فَجَعَلَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا دُونَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الْمُوَاسَاةُ لَا تُحْتَمَلُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَا كُلَّ شَهْرٍ، إذْ فِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جَعَلَهَا كُلَّ عَامٍ مَرَّةً كَمَا جَعَلَ الصِّيَامَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ لَا يَشُقُّ فِعْلُهَا كُلَّ يَوْمٍ وَظَّفَهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ يَشُقُّ تَكَرُّرُ وُجُوبِهِ كُلَّ عَامٍ جَعَلَهُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ.