الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ، وَأَمَرْتُمْ أَنْتُمْ بِرَأْيِ فُلَانٍ وَمَذْهَبِ فُلَانٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي تُرِكَ لَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيُعْرَضُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مِعْيَارًا عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي بَرَّأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرُونَ الَّتِي فَضَلَّهَا وَخَيَّرَهَا عَلَى غَيْرِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ أَحَدُهُمْ لِلْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ: لَيْسَتْ سُنَّتُهُمْ حُجَّةً، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهَا؟ .
[أَخْبَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ اخْتِلَافُ كَثِيرٌ]
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» وَهَذَا ذَمٌّ لِلْمُخْتَلِفِينَ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ، وَإِنَّمَا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا الدِّينَ وَصَيَّرُوا أَهْلَهُ شِيَعًا، كُلُّ فِرْقَةٍ تَنْصُرُ مَتْبُوعَهَا، وَتَدْعُو إلَيْهِ، وَتَذُمُّ مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِلَّةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ، يَدْأَبُونَ وَيَكْدَحُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ: كُتُبُهُمْ، وَكُتُبُنَا وَأَئِمَّتُهُمْ وَأَئِمَّتُنَا، وَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُنَا.
هَذَا وَالنَّبِيُّ وَاحِدٌ وَالْقُرْآنُ وَاحِدٌ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَنْقَادُوا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ، وَأَنْ لَا يُطِيعُوا إلَّا الرَّسُولَ، وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ أَقْوَالُهُ كَنُصُوصِهِ، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ فَلَوْ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَانْقَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمَنْ دَعَاهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَحَاكَمُوا كُلُّهُمْ إلَى السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ لَقَلَّ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ لَمْ يَعْدَمْ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَقَلَّ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا وَأَقَلَّ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ لِمَا بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ عَنْ الْحَدِيثِ أَبْعَدَ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَنْ رَدَّ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ وَجْهُ الصَّوَابِ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَذْهَبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] .
[فَصَلِّ أَمَرَ عُمَرُ شُرَيْحًا بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ]
[أَمَرَ عُمَرُ شُرَيْحًا بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ]
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ إنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ: " أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ
الْحُكْمَ بِالْكِتَابِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي الْكِتَابِ وَوَجَدَهُ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ قَضَى بِمَا قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ.
وَنَحْنُ نُنَاشِدُ اللَّهَ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ: هَلْ هُمْ كَذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ حَدَّثَ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يُنَفِّذُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخَذَهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي السُّنَّةِ أَفْتَى فِيهَا بِمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ؟ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْخُذُونَ حُكْمَهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ، وَإِنْ اسْتَبَانَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ؛ فَكِتَابُ عُمَرَ مِنْ أَبْطَلْ الْأَشْيَاءِ وَأَكْسَرِهَا لِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا كَانَ سَيْرَ السَّلَفِ الْمُسْتَقِيمَ وَهَدْيَهُمْ الْقَوِيمَ.
[طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَخْذِ الْأَحْكَامِ]
فَلَمَّا انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَى الْمُتَأَخِّرِينَ سَارُوا عَكْسَ هَذَا السَّيْرِ، وَقَالُوا: إذَا نَزَلَتْ النَّازِلَةُ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا: هَلْ فِيهَا اخْتِلَافٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اخْتِلَافٌ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابٍ وَلَا فِي سُنَّةٍ، بَلْ يُفْتِي وَيَقْضِي فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ اجْتَهَدَ فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إلَى الدَّلِيلِ فَأَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ.
وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَكِتَابُ عُمَرَ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ. وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ مَأْمُورٌ، فَإِنْ عِلْمَ الْمُجْتَهِدُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَسْهَلُ عَلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا عَلَى الْحُكْمِ.
وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا فَهُوَ أَصْعُبُ شَيْءٍ وَأَشَقُّهُ إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا وُصُولَ لَنَا إلَيْهِ وَيُتْرَكُ الْحَوَالَةَ عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ اللَّذَيْنِ هَدَانَا بِهِمَا، وَيَسَّرَهُمَا لَنَا، وَجَعَلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِمَا طَرِيقًا سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ مِنْ قُرْبٍ؟ ثُمَّ مَا يُدْرِيهِ فَلَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنِّزَاعِ عِلْمًا بِعَدَمِهِ، فَكَيْفَ يُقَدِّمُ عَدَمَ الْعِلْمِ عَلَى أَصْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إلَى أَمْرٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْهُومًا، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ شَكًّا مُتَسَاوِيًا أَوْ رَاجِحًا؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ؟ فَمَا لَمْ يَنْقَرِضْ عَصْرُهُمْ فَلِمَنْ نَشَأَ فِي زَمَنِهِمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، فَصَاحِبُ هَذَا السُّلُوكِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ انْقَرَضَ وَلَمْ يَنْشَأْ فِيهِ مُخَالِفٌ لِأَهْلِهِ؟ وَهَلْ أَحَالَ اللَّهُ الْأُمَّةَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ وَلَا اطِّلَاعَ لِأَفْرَادِهِمْ عَلَيْهِ؟ وَتَرْكِ إحَالَتِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ،
وَحِينَ نَشَأَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَوَلَّدَ عَنْهَا مُعَارَضَةُ النُّصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَجْهُولِ، وَانْفَتَحَ بَابُ دَعْوَاهُ، وَصَارَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخِلَافَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ: هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَابُوا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَهُ، وَكَذَّبُوا مَنْ ادَّعَاهُ؛ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: " أَجْمَعُوا؟ " إذَا سَمِعْتهمْ يَقُولُونَ: " أَجْمَعُوا " فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ:" إنِّي لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا " كَانَ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا كَذِبٌ، مَا عِلْمُهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ:" مَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا " فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: إجْمَاعُ النَّاسِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا.
[أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَدِّمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ]
وَلَمْ يَزُلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَجَعْلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحُجَّةُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقُ الْأَئِمَّةُ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ: وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ، الْأُولَى: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: فَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، الرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، وَالْخَامِسَةُ: الْقِيَاسُ؛ فَقَدَّمَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَى الْإِجْمَاعِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: الْعِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ الْأَلِبَّاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ، فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، مِثْلِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلَّامٍ
انْتَهَى.
فَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، جَعَلَ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ بَدَلًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ فَعَدَلَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُقَلِّدُونَ إلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَاءُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ التَّيَمُّمِ بِكَثِيرٍ.
ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ فِرْقَةٌ هُمْ أَعْدَاءُ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ فَقَالُوا: إذَا نَزَلَتْ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ نَازِلَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ بَلْ إلَى مَا قَالَهُ مُقَلَّدُهُ وَمَتْبُوعُهُ وَمَنْ جَعَلَهُ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ فَمَا وَافَقَ قَوْلَهُ أَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ، وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَلَا يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَرَّضَ لِعَزْلِهِ عَنْ مَنْصِبِ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ، وَاسْتَفْتَى لَهُ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ وَالْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُنْتَسَبُ إلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ يُقَلِّدُهُ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَيُنْغِضُ الْمُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَقْدَحُ فِيهِ.
وَلَعَلَّ الْقَوْلَ الَّذِي عَدَلَ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَمْثَالِهِمْ؛ فَيُجِيبُ هَذَا الَّذِي انْتَصَبَ لِلتَّوْقِيعِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ قَوْلِ مَتْبُوعِهِ لِأَقْوَالِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ أَقْوَالِهِمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ جِنَايَاتِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ لَزِمُوا حَدَّهُمْ وَمَرْتَبَتَهُمْ وَأَخْبَرُوا إخْبَارًا مُجَرَّدًا عَمَّا وَجَدُوهُ مِنْ السَّوَادِ فِي الْبَيَاضِ مِنْ أَقْوَالٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصَحِيحِهَا مِنْ بَاطِلِهَا لَكَانَ لَهُمْ عُذْرٌ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ هَذَا مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ، وَهَذِهِ مُعَادَاتُهُمْ لِأَهْلِهِ وَلِلْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[هَلْ قَلَّدَ الصَّحَابَةُ عُمَرَ؟]
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " مَنَعَ عُمَرُ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ تَقْلِيدًا لَهُ، بَلْ أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ: إنِّي رَأَيْت ذَلِكَ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ كُلُّهُمْ فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ يُخَالِفُهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ فِي الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ فَالْحَاكِمُ هُوَ الْحُجَّةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي اتِّبَاعِ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَتَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ لَوْ فُرِضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَا يُسَوِّغُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِكَثِيرٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَتَرْكِ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَمَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَعْلَمُ مِنْهُ، فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَلِّدُوا عُمَرَ وَاتْرُكُوا تَقْلِيدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَأَمَّا وَأَنْتُمْ تُصَرِّحُونَ بِأَنَّ عُمَرَ لَا يُقَلَّدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ