الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا.
وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَ إبْرَاهِيمَ أَوْ مِثْلِهِ؟ ،
وَقَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا وَضَعُوا كُتُبًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: ثنا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِكَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِكَذَا، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ عُمَرَ؟ قُلْت: إنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ كَمَا صَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصَلِّ عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ]
. فَصْلٌ فِي عَقْدِ [مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَصَاحِبِ حُجَّةٍ] فِي عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ.
قَالَ الْمُقَلِّدُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا يَعْلَمُ إلَى سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ، فَقَالَ فِي «حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ: أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» .
وَقَالَ أَبُو الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرِهِ: " وَإِنَّى سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ " فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ، فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقْضِي فِيهَا، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ. وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ: كَانَ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُفْتُونَ النَّاسَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَكَانَ زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَقَالَ جُنْدُبٌ: مَا كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً، فَكَذَلِكَ
فَافْعَلُوا» فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ.
قَالَ الْمُقَلَّدُ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ - وَهُمْ الْعُلَمَاءُ، أَوْ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ - وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وَتَقْلِيدُهُمْ اتِّبَاعٌ لَهُمْ، فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رضي الله عنهم، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ:«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» وَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ: أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ.
وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ، وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا، وَاحْتَلَمَ مَرَّةً فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِك، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتهَا صَارَتْ سُنَّةً.
وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: مَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ لَهُمْ قَطْعًا؛ إذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُمْ لِلْعُلَمَاءِ.
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا» فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا، وَهَذَا
ظَاهِرٌ فِي تَقْلِيدِهِ لَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ، وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللَّحْمَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا، وَلَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا، وَالْقَدَرُ قَدْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُهْدِينَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ فِي كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتَهُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَمَا يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ. وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ، وَيُبَاحُ لِلْمَوْلَى تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِينَ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ. «وَقَدْ قَالَتْ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَرْضَعْتُك وَأَرْضَعْت امْرَأَتَك، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ» . وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، فَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ: فِي الضَّبُعِ بَعِيرٌ، قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ: قُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ: إنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْت بِقَوْلِ زَيْدٍ، وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ. وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْجَدِيدِ: قُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ.
وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله قَالَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ: لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا إلَّا تَقْلِيدُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا. وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيُصَرِّحُ فِي مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا. وَيَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَفْعَلُهُ. وَلَوْ جَمَعْنَا ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَطَالَ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّحَابَةِ: رَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا، وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ مَعَهُ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذَيْنِ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ، إلَّا بِهَذَا، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ، وَقَدْ فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَبَدَانِ، فَلَا يُحْسَنُ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ وَالْجَوَابَ عَنْ مُعَارِضِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا؛ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ، بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ هَذَا عَالِمًا، وَهَذَا مُتَعَلِّمًا، وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا لَهُ يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ؟ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ، فَهَلْ فَرَضَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَتِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا؟ وَهَلْ ذَلِكَ فِي إمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا؟ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَكَانَ الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ، وَلَا يَقُولُونَ لَهُ: عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَلْبَتَّةَ، وَهَلْ التَّقْلِيدُ إلَّا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ. وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ، وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا. وَنَقُولُ لِمَنْ احْتَجَّ عَلَى إبْطَالِهِ: كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا؛ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَلَيْسَ بِيَدِك إلَّا تَقْلِيدَ الرَّاوِي، وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَك تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ وَمَنْعَنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ، وَهَذَا سَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا رَوَاهُ، وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ مَا سَمِعَهُ، فَأَدَّى هَذَا مَسْمُوعَهُ، وَأَدَّى هَذَا مَعْقُولَهُ، وَفُرِضَ عَلَى هَذَا تَأْدِيَةُ مَا سَمِعَهُ، وَعَلَى هَذَا تَأْدِيَةُ مَا عَقَلَهُ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا؟ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ مِنْ التَّقْلِيدِ: أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلَّدِ فِي الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ
مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةً لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ.
قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ: عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلَّدِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ؟ فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ؟ وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّعِينَ بِمَا لَمْ تُعْطُوهُ، نَاطِقِينَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ؟ وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ، وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ، فَأَخْبِرُونَا: هَلْ صِرْتُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إلَيْهِ، وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ، وَكُنْتُمْ بِهِ عَنْ التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ، أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَلَيْسَ إلَى خُرُوجِكُمْ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَبِيلٌ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ، وَالرُّجُوعُ إلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ مِنْهُ لَازِمٌ، وَنَحْنُ إنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ قُلْت: لَسْنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ السَّبِيلِ، وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ، وَكُلَّ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ، حَاشَا فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ ادَّعَوْهُ لَكَانُوا مُبْطِلِينَ، فَإِنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إلَيْهِ، وَبُرْهَانٌ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِيَّ مِنْ الْعَاطِلِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ نَهَوْهُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَعَصَوْهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ دَانُوا بِخِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الْحُجَّةِ، وَنَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ، وَأَوْصَوْهُمْ إذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَتَّبِعُوهُ، فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، وَمَا أَتْبَاعُهُمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي كُتُبِهِمْ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ التَّوْلِيَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ
بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتُهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَفَسَادِهِ؛ إذْ طَرِيقُ ذَلِكَ مَسْدُودَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَتْبُوعِهِ لَا يُفَارِقُ قَوْلَهُ، وَيَتْرُكُ لَهُ كُلَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَتْبُوعِهِ أَوْ نَظِيرِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ اتَّخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَلِّدُهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ فَلَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا شَيْئًا، وَأَسْقَطَ أَقْوَالَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا. وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِي التَّابِعِينَ، فَلْيَكْذِبْنَا الْمُقَلَّدُونَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ الْوَخِيمَةَ فِي الْقُرُونِ الْفَضِيلَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَالْمُقَلَّدُونَ لِمَتْبُوعِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ يُبِيحُونَ بِهِ الْفُرُوجَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَيُحَرِّمُونَهَا، وَلَا يَدْرُونَ أَذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ، عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَلَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ مَوْقِفٌ شَدِيدٌ يَعْلَمُ فِيهِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ. وَأَيْضًا فَنَقُولُ لِكُلِّ مَنْ قَلَّدَ وَاحِدًا مِنْ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِ: مَا الَّذِي خَصَّ صَاحِبَك أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: " لِأَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ عَصْرِهِ "
وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مَعَ جَزْمِهِ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بَعْدَهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك وَلَسْت مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَهَادَتِك عَلَى نَفْسِك أَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ فِي وَقْتِهِ؟ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْمَذَاهِبَ وَأَدِلَّتَهَا وَرَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا فَمَا لِلْأَعْمَى وَنَقْدِ الدَّرَاهِمِ؟ ، وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ آخَرُ مِنْ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَيُقَالُ لَهُ ثَانِيًا فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم أَعْلَمُ مِنْ صَاحِبِك بِلَا شَكٍّ، فَهَلَّا قَلَّدْتهمْ وَتَرَكْته؟ بَلْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَمْثَالُهُمْ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ بِلَا شَكٍّ، فَلِمَ تَرَكْتَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ الْأَجْمَعِ لِأَدَوَاتِ الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَرَغِبْت عَنْ أَقْوَالِهِ وَمَذَاهِبِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ؟ فَإِنْ قَالَ:" لِأَنَّ صَاحِبِي وَمَنْ قَلَّدْته أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَتَقْلِيدِي لَهُ أَوْجَبَ عَلَيَّ مُخَالَفَةَ قَوْلِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْته؛ لِأَنَّ وُفُورَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لِدَلِيلٍ صَارَ إلَيْهِ هُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ " قِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ صَاحِبُك الَّذِي زَعَمْت أَنْتَ أَنَّهُ صَاحِبُك أَوْلَى مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ نَظِيرُهُ؟ وَقَوْلَانِ مَعًا مُتَنَاقِضَانِ لَا يَكُونَانِ صَوَابًا، بَلْ أَحَدُهُمَا هُوَ الصَّوَابُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظَفَرَ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ بِالصَّوَابِ أَقْرَبُ مِنْ ظَفَرِ مَنْ هُوَ دُونَهُ. فَإِنْ قُلْت:" عَلِمْت ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ " فَهَهُنَا إذًا قَدْ انْتَقَلْت
عَنْ مَنْصِبِ التَّقْلِيدِ إلَى مَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَبْطَلْت التَّقْلِيدَ. ثُمَّ يُقَالُ لَك ثَالِثًا: هَذَا لَا يَنْفَعُك شَيْئًا أَلْبَتَّةَ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ قَلَّدْته وَمَنْ قَلَّدَهُ غَيْرُك قَدْ اخْتَلَفَا، وَصَارَ مَنْ قَلَّدَهُ غَيْرُك إلَى مُوَافَقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ دُونَ مَنْ قَلَّدْته، فَهَلَّا نَصَحْت نَفْسَك وَهُدِيت لِرُشْدِك وَقُلْت: هَذَانِ عَالِمَانِ كَبِيرَانِ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا مَنْ ذُكِرَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِتَقْلِيدِي إيَّاهُ. وَيُقَالُ لَهُ رَابِعًا إمَامٌ بِإِمَامٍ، وَيَسْلَمُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ. وَيُقَالُ خَامِسًا: إذَا جَازَ أَنْ يَظْفَرَ مَنْ قَلَّدْته بِعِلْمٍ خَفِيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَذَوِيهِمْ فَأَحَقُّ وَأَحَقُّ وَأَجْوَزُ وَأَجْوَزُ أَنْ يَظْفَرَ نَظِيرُهُ وَمَنْ بَعْدَهُ بِعِلْمٍ خَفِيَ عَلَيْهِ هُوَ؛ فَإِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ مَنْ قَلَّدْته وَبَيْنَ نَظِيرِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ أَقْرَبُ بِكَثِيرٍ مِنْ النِّسْبَةِ بَيْنَ مَنْ قَلَّدْته وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْخَفَاءُ عَلَى مَنْ قَلَّدْته أَقْرَبُ مِنْ الْخَفَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ.
وَيُقَالُ سَادِسًا: إذَا سَوَّغْت لِنَفْسِك مُخَالِفَةَ الْأَفْضَلِ الْأَعْلَمِ لِقَوْلِ الْمَفْضُولِ فَهَلَّا سَوَّغْت لَهَا مُخَالَفَةَ الْمَفْضُولِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ؟ وَهَلْ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي وَيَجِبُ إلَّا عَكْسُ مَا ارْتَكَبْت؟ وَيُقَالُ سَابِعًا: هَلْ أَنْتَ فِي تَقْلِيدِ إمَامِك وَإِبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَنَقْلِهَا عَمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إلَى غَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ أُمَّتِهِ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؟ فَإِنْ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بُطْلَانَهُ، وَإِنْ قَالَ:" لَا " فَقَدْ كَفَانَا مُؤْنَتَهُ، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ.
وَيُقَالُ ثَامِنًا: تَقْلِيدُك لِمَتْبُوعِك يَحْرُمُ عَلَيْك تَقْلِيدُهُ؛ فَإِنَّهُ نَهَاك عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ بِقَوْلِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَنَهَاك عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كُنْت مُقَلِّدًا لَهُ فِي جَمِيعِ مَذْهَبِهِ فَهَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ، فَهَلَّا اتَّبَعْته فِيهِ؟
وَيُقَالُ تَاسِعًا: هَلْ أَنْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي أَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ سَائِرِ مَنْ رَغِبْت مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ أَمْ لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: " أَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ " قَالَ: مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ، وَإِنْ قَالَ:" لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ " وَهُوَ الْحَقُّ قِيلَ لَهُ: فَمَا عُذْرُك غَدًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ حِينَ لَا يَنْفَعُك مَنْ قَلَّدْته بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَحْمِلُ عَنْك سَيِّئَةً وَاحِدَةً، إذَا حَكَمْت وَأَفْتَيْت بَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، هَلْ هُوَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ؟ وَيُقَالُ عَاشِرًا: هَلْ تَدَّعِي عِصْمَةَ مَتْبُوعِك أَوْ تُجَوِّزُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ؟ وَالْأَوَّلُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، بَلْ تُقِرُّ بِبُطْلَانِهِ؛ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِذَا جَوَّزْت عَلَيْهِ الْخَطَأَ فَكَيْفَ تُحَلِّلُ وَتُحَرِّمُ وَتُوجِبُ وَتُرِيقُ الدِّمَاءَ وَتُبِيحُ الْفُرُوجَ وَتَنْقُلُ الْأَمْوَالَ وَتَضُرُّ الْأَبْشَارَ بِقَوْلِ مَنْ أَنْتَ مُقِرٌّ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مُخْطِئًا.
وَيُقَالُ حَادِي عَشَرَ: هَلْ تَقُولُ إذَا أَفْتَيْت أَوْ حَكَمْت بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْته: إنَّ هَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ وَشَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَلَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ؟ أَوْ تَقُولُ: إنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ خِلَافُهُ؟ أَوْ تَقُولُ: لَا أَدْرِي؟ وَلَا بُدَّ لَك مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَلَا سَبِيلَ لَك إلَى
الْأَوَّلِ قَطْعًا؛ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ لَا تَسُوغُ مُخَالَفَتُهُ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ مُخَالِفِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْآثِمِينَ، وَالثَّانِي لَا تَدَّعِيهِ، فَلَيْسَ لَك مَلْجَأٌ إلَّا الثَّالِثُ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ تُسْتَبَاحُ الْفُرُوجُ وَالدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ وَتُحَلَّلُ وَتُحَرَّمُ بِأَمْرٍ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلُهَا " لَا أَدْرِي "؟ فَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وَإِنْ كُنْت تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ.
وَيُقَالُ ثَانِي عَشَرَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ الَّذِينَ قَلَّدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمْ أَقْوَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ؟ وَلَيْتَكُمْ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ جَعَلْتُمُوهَا أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ، أَفَكَانَ النَّاسُ قَبْلَ وُجُودِ هَؤُلَاءِ عَلَى هُدًى أَوْ عَلَى ضَلَالَةٍ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُقِرُّوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَمَا الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ غَيْرُ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَتَقْدِيمِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا يُخَالِفُهَا، وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهَا دُونَ قَوْلِ فُلَانٍ أَوْ رَأْيِ فُلَانٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْهُدَى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ فَإِنْ قَالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: صَاحِبُنَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَاقْتَفَى مَنَاهِجَهُمْ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ هَلْ شَارَكَ صَاحِبَكُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُكُمْ بِالِاتِّبَاعِ وَحُرِمَهُ مَنْ عَدَاهُ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ قَالُوا بِالثَّانِي فَهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ قَالُوا بِالْأَوَّلِ فَيُقَالُ: فَكَيْفَ وَفَّقْتُمْ لِقَبُولِ قَوْلِ صَاحِبِكُمْ كُلِّهِ، وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ كُلِّهِ، فَلَا يُرَدُّ لِهَذَا قَوْلٌ، وَلَا يُقْبَلُ لِهَذَا قَوْلٌ، حَتَّى كَأَنَّ الصَّوَابَ وَقْفٌ عَلَى صَاحِبِكُمْ وَالْخَطَأَ وَقْفٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَلِهَذَا أَنْتُمْ مُوَكَّلُونَ بِنُصْرَتِهِ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ، وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ، وَهَذِهِ حَالُ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى مَعَكُمْ.
وَيُقَالُ ثَالِثَ عَشَرَ: فَمَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَدْ نَهَوْكُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ، يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وَهُوَ لَا يَدْرِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِنَا، حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا.
وَيُقَالُ رَابِعَ عَشَرَ: هَلْ أَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّكُمْ غَدًا مَوْقُوفُونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، وَتُسْأَلُونَ عَمَّا قَضَيْتُمْ بِهِ فِي دِمَاءِ عِبَادِهِ وَفُرُوجِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَعَمَّا أَفْتَيْتُمْ بِهِ فِي دِينِهِ مُحَرِّمِينَ وَمُحَلِّلِينَ وَمُوجِبِينَ؟ فَمِنْ قَوْلِهِمْ:" نَحْنُ مُوقِنُونَ بِذَلِكَ " فَيُقَالُ لَهُمْ: فَإِذَا سَأَلَكُمْ: " مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ ذَلِكَ؟ " فَمَاذَا جَوَابُكُمْ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: " جَوَابُنَا إنَّا حَلَّلْنَا وَحَرَّمْنَا وَقَضَيْنَا بِمَا فِي كِتَابِ الْأَصْلِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِمَّا رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبِمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ
مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبِمَا فِي الْأُمِّ مِنْ رِوَايَةِ الرُّبَيِّعِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبِمَا فِي جَوَابَاتِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَيْتَكُمْ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ صَعِدْتُمْ إلَيْهِ أَوْ سَمَتْ هِمَمُكُمْ نَحْوَهُ، بَلْ نَزَلْتُمْ عَنْ ذَلِكَ طَبَقَاتٍ، فَإِذَا سُئِلْتُمْ: هَلْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِي أَوْ أَمْرِ رَسُولِي؟ فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُكُمْ إذًا؟ فَإِنْ أَمْكَنَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تَقُولُوا " فَعَلْنَا مَا أَمَرْتنَا بِهِ وَأَمَرَنَا بِهِ رَسُولُك " فُزْتُمْ وَتَخَلَّصْتُمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولُوا: لَمْ تَأْمُرْنَا بِذَلِكَ وَلَا رَسُولُك وَلَا أَئِمَّتُنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ، وَكَأَنْ قَدْ.
وَيُقَالُ خَامِسَ عَشَرَ: إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إمَامًا عَدْلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا، فَبِمَذْهَبِ مَنْ يَحْكُمُ؟ وَبِرَأْيِ مَنْ يَقْضِي؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ وَلَا يَقْضِي إلَّا بِشَرِيعَةِ نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ؛ فَذَلِكَ الَّذِي يَقْضِي بِهِ أَحَقُّ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَقْضُوا بِهِ وَتُفْتُوا، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْضِيَ وَلَا يُفْتِيَ بِشَيْءٍ سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ سَوَاءٌ، قِيلَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ نَفْتَرِقُ فِي الْجَوَابِ فَنَقُولُ: يَا رَبَّنَا إنَّك تَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عِيَارًا عَلَى كَلَامِك وَكَلَامِ رَسُولِك وَكَلَامِ أَصْحَابِ رَسُولِك، وَنَرُدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَنَتَحَاكَمُ إلَى قَوْلِهِ وَنُقَدِّمُ أَقْوَالَهُ عَلَى كَلَامِك وَكَلَامِ رَسُولِك وَكَلَامِ أَصْحَابِ رَسُولِك، وَكَانَ الْخَلْقُ عِنْدَنَا أَهْوَنَ أَنْ نُقَدِّمَ كَلَامَهُمْ وَآرَاءَهُمْ عَلَى وَحْيِكَ، بَلْ أَفْتَيْنَا بِمَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِك، وَبِمَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِك وَبِمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّك، وَإِنْ عَدَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَخَطَأٌ مِنَّا لَا عَمْدٌ، وَلَمْ نَتَّخِذْ مِنْ دُونِك وَلَا دُونِ رَسُولِك وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، وَلَمْ نُفَرِّقْ دِينَنَا وَنَكُونُ شِيَعًا، وَلَمْ نُقَطِّعْ أَمْرَنَا بَيْنَنَا زُبُرًا. وَجَعَلْنَا أَئِمَّتَنَا قُدْوَةً لَنَا، وَوَسَائِطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِك فِي نَقْلِهِمْ مَا بَلَّغُوهُ إلَيْنَا عَنْ رَسُولِك فَاتَّبَعْنَاهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَلَّدْنَاهُمْ فِيهِ، إذْ أَمَرْتَنَا أَنْتَ وَأَمَرَنَا رَسُولُك بِأَنْ نَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَنَقْبَلَ مَا بَلَّغُوهُ عَنْك وَعَنْ رَسُولِك، فَسَمْعًا لَك وَلِرَسُولِك وَطَاعَةً، وَلَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا نَتَحَاكَمُ إلَى أَقْوَالِهِمْ، وَنُخَاصِمُ بِهَا، وَنُوَالِي وَنُعَادِي عَلَيْهَا، بَلْ عَرَضْنَا أَقْوَالَهُمْ عَلَى كِتَابِك وَسُنَّةِ رَسُولِك، فَمَا وَافَقَهُمَا قَبِلْنَاهُ، وَمَا خَالَفَهُمَا أَعْرَضْنَا عَنْهُ وَتَرَكْنَاهُ، وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنَّا بِك وَبِرَسُولِك، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ رَسُولِك كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذَا جَوَابُنَا، وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ: هَلْ أَنْتُمْ كَذَلِكَ حَتَّى يُمْكِنُكُمْ هَذَا الْجَوَابُ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ، وَلَا يَرُوجُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ؟
وَيُقَالُ سَادِسَ عَشَرَ: كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ طَوَائِفِ الْمُقَلَّدِينَ، قَدْ أَنْزَلْت جَمِيعَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَجَمِيعَ التَّابِعِينَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَجَمِيعَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ إلَّا مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ فِي مَكَانِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، وَلَا يُنْظَرُ فِي فَتَاوَاهُ، وَلَا يُشْتَغَلُ بِهَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَلَا وَجْهَ لِلنَّظَرِ فِيهَا إلَّا لِلتَّمَحُّلِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ وَكَدِّهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ
إذَا خَالَفَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَتْبُوعِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَوِّغُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا خَالَفَ قَوْلُ مَتْبُوعِهِمْ نَصًّا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْوَاجِبُ التَّمَحُّلُ وَالتَّكَلُّفُ فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ النَّصِّ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَالتَّحَيُّلُ لِدَفْعِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ مَتْبُوعِهِمْ، فَيَا لِلَّهِ لِدِينِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِبِدْعَةٍ كَادَتْ تَثُلُّ عَرْشَ الْإِيمَانِ وَتَهُدُّ رُكْنَهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِهَذَا الدِّينِ أَنْ لَا يُزَالُ فِيهِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِأَعْلَامِهِ وَيَذُبُّ عَنْهُ، فَمَنْ أَسْوَأُ ثَنَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِحُقُوقِهِمْ، وَأَقَلُّ رِعَايَةً لِوَاجِبِهِمْ، وَأَعْظَمُ اسْتِهَانَةً بِهِمْ، مِمَّنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا إلَى فَتْوَاهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ ،
وَيُقَالُ سَابِعَ عَشَرَ: مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِكُمْ أَيُّهَا الْمُقَلِّدُونَ أَنَّكُمْ اعْتَرَفْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، مَعَ سُهُولَتِهِ وَقُرْبِ مَأْخَذِهِ، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى أَقْصَى غَايَاتِ الْبَيَانِ، وَاسْتِحَالَةِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْحَقِّ وَبَيَّنَ لِعِبَادِهِ مَا يَتَّقُونَ، فَادَّعَيْتُمْ الْعَجْزَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا نَصَبَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ وَتَوَلَّى بَيَانَهُ، ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ صَاحِبَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا فِي زَمَانِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَغُلَاةُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تُوجِبُ اتِّبَاعَهُ وَتُحَرِّمُ اتِّبَاعَ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ فِي كُتُبِ أُصُولِهِمْ، فَعَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ فِيمَا نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ مِنْ الْحَقِّ، وَلَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا، وَاهْتَدَى إلَى أَنَّ مَتْبُوعَهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ مِمَّنْ عَدَاهُ، وَلَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَاحِدًا.
وَيُقَالُ ثَامِنَ عَشَرَ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مِنْ شَأْنِكُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّكُمْ إذَا وَجَدْتُمْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تُوَافِقُ رَأْيَ صَاحِبِكُمْ أَظْهَرْتُمْ أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ بِهَا، وَالْعُمْدَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَالَهُ، لَا عَلَى الْآيَةِ، وَإِذَا وَجَدْتُمْ آيَةً نَظِيرَهَا تُخَالِفُ قَوْلَهُ لَمْ تَأْخُذُوا بِهَا، وَتَطَلَّبْتُمْ لَهَا وُجُوهَ التَّأْوِيلِ وَإِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا حَيْثُ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ، وَهَكَذَا تَفْعَلُونَ فِي نُصُوصِ السُّنَّةِ سَوَاءً، وَإِذَا وَجَدْتُمْ حَدِيثًا صَحِيحًا يُوَافِقُ قَوْلَهُ أَخَذْتُمْ بِهِ، وَقُلْتُمْ:" لَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَيْت وَكَيْت "، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِائَةَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ بَلْ وَأَكْثَرَ تُخَالِفُ قَوْلَهُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَى حَدِيثٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ مِنْهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَتَقُولُونَ: لَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مُرْسَلًا قَدْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَخَذْتُمْ بِهِ وَجَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً هُنَاكَ، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِائَةَ مُرْسَلٍ تُخَالِفُ رَأْيَهُ أَطَرَحْتُمُوهَا كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَقُلْتُمْ: لَا نَأْخُذُ بِالْمُرْسَلِ.
وَيُقَالُ تَاسِعَ عَشَرَ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّكُمْ إذَا أَخَذْتُمْ بِالْحَدِيثِ مُرْسَلًا كَانَ أَوْ مُسْنَدًا مُوَافَقَتَهُ رَأْيَ صَاحِبِكُمْ ثُمَّ وَجَدْتُمْ فِيهِ حُكْمًا يُخَالِفُ رَأْيَهُ لَمْ تَأْخُذُوا بِهِ فِي ذَلِكَ