الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَثِيرُ الْخَطَأِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَزُهَيْرٌ ضَعِيفَانِ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَمْ يَأْتِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَيُّوبُ مِنْ أَنَسٍ عِنْدَهُمْ شَيْئًا. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» ذَكَرَهُ وَكِيعٌ عَنْ الرُّبَيِّعِ عَنْهُ، قَالَ: وَالْعَمَلُ الْمَشْهُورُ بِالْمَدِينَةِ التَّسْلِيمَةُ الْوَاحِدَةُ، وَهُوَ عَمَلٌ قَدْ تَوَارَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَمِثْلُهُ يَصِحُّ فِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِالْعَمَلِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى؛ لِوُقُوعِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا.
[عَمَل أَهْل الْمَدِينَة]
[أَنْوَاعُ السُّنَنِ]
[الْكَلَامُ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] : قُلْت: وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَعَمَلِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلِهِمْ وَعَمَلِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ؛ فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُمْ فَهُمْ أَهْلُ الْعَمَلِ الْمُتَّبَعِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَلَا تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِكَوْنِ عَمَلِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهَا أَوْ عَمِلَ بِهَا غَيْرُهُمْ، وَلَوْ سَاغَ تَرْكُ السُّنَّةِ لِعَمَلِ بَعْضِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهَا لَتُرِكَتْ السُّنَنُ وَصَارَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا؛ فَإِنْ عَمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْغَيْرُ عَمِلَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا، وَالسُّنَّةُ هِيَ الْعِيَارُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عِيَارًا عَلَى السُّنَّةِ، وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ قَطُّ فِي عَمَلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ دُونَ سَائِرِهَا، وَالْجُدْرَانُ وَالْمَسَاكِنُ وَالْبِقَاعُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي تَرْجِيحِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ، وَظَفِرُوا مِنْ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَهُمْ الْمُقَدَّمُونَ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، كَمَا هُمْ الْمُقَدَّمُونَ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَعَمَلُهُمْ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا يُخَالَفُ، وَقَدْ انْتَقَلَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ الْمَدِينَةِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، بَلْ أَكْثَرُ عُلَمَائِهِمْ صَارُوا إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَانْتَقَلَ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةٍ صَحَابِيٍّ وَنَيِّفٍ، وَإِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ نَحْوُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَمَلُ هَؤُلَاءِ مُعْتَبَرًا مَا دَامُوا فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا خَالَفُوا غَيْرَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفُوهُ مُعْتَبَرًا، فَإِذَا فَارَقُوا جُدْرَانَ الْمَدِينَةِ كَانَ عَمَلُ مَنْ بَقِيَ فِيهَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَلَمْ يَكُنْ خِلَافُ مَا انْتَقَلَ عَنْهَا مُعْتَبَرًا؟ ، هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ.
وَلَيْسَ جَعْلُ عَمَلِ الْبَاقِينَ مُعْتَبَرًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ عَمَلِ
الْمُفَارِقِينَ مُعْتَبَرًا؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُ فَعَمَلُهُ هُوَ الْعَمَلُ الْمُعْتَبَرُ حَقًّا، فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ الْمَعْصُومَةُ لِعَمَلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ؟ ثُمَّ يُقَالُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ اسْتَمَرَّ عَمَلُ أَهْلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ صَارَ إلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْعَمَلُ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ دُونَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ الَّذِي أَدَّاهُ غَيْرُهُمْ؟ هَذَا إذَا كَانَ النَّصُّ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِمْ النَّصُّ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَمَلِ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقَابِلُ النَّصَّ، بَلْ يُقَابَلُ الْعَمَلُ بِالْعَمَلِ، وَيَسْلَمُ النَّصُّ عَنْ الْمُعَارِضِ.
وَأَيْضًا فَنَقُولُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ مَنْ فَارَقَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " لَا يَجُوزُ " أَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ السُّنَنِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ بَيْتِ عَلِيٍّ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ أَبِي مُوسَى عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاوِيَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَضْعَافِ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ " يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْضُ السُّنَنِ وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ " فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَنُ لِعَمَلِ مَنْ قَدْ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ؟ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهَا بِالْمَدِينَةِ، كَمَا كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» فَقَضَى بِهِ عُمَرُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَوْ جَاءَ مَنْ رَوَاهَا إلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ؟
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ تَبَعًا لِلْمَدِينَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ إذَا قُدِّمَ عَلَى السُّنَّةِ فَلَأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى عَمَلِ غَيْرِهِمْ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ إنَّ عَمَلَهُمْ نَفْسَهُ سُنَّةٌ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمْ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَهْلَ الْأَمْصَارِ أَنْ لَا يَعْمَلُوا بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ السُّنَّةِ وَعِلْمُهُمْ إيَّاهُ الصَّحَابَةُ إذَا خَالَفَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، بَلْ مَالِكٌ نَفْسُهُ مَنَعَ الرَّشِيدَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِلَادِ، وَصَارَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ عِنْدَهُ حُجَّةً لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَا رَأَى عَلَيْهِ الْعَمَلَ، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ فِي مُوَطَّئِهِ وَلَا غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهِ، بَلْ يُخْبِرُ إخْبَارًا مُجَرَّدًا أَنَّ هَذَا عَمَلُ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ فَإِنَّهُ رضي الله عنه وَجَزَاهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا ادَّعَى إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةٍ.
ثُمَّ هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: لَا يُعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَالَفَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ.
وَالثَّانِي: مَا خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ غَيْرَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، وَالثَّالِثُ: مَا فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ وَرَعِهِ رضي الله عنه لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ الَّذِي لَا يَحِلُّ خِلَافُهُ. وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، أَوْ هُوَ وَالثَّانِي، أَوْ هُمَا وَالثَّالِثُ؛ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟
وَأَيْضًا فَأَحَقُّ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً الْعَمَلُ الْقَدِيمُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَزَمَنِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَهَذَا كَعَمَلِهِمْ الَّذِي كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ بِالْحِسِّ وَرَأْيِ عَيْنٍ مِنْ إعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ الَّتِي قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ شَهِدَ مَعَهُ خَيْبَرَ فَأَعْطَوْهَا الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، يُقِرُّونَهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ وَيُخْرِجُونَهُمْ مَتَى شَاءُوا، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْعَمَلُ كَذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ إلَى أَنْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم[مُدَّةَ] أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ مُدَّةَ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَكُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ مُدَّةَ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنهم، إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِعَامٍ؛ فَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ حَقًّا.
فَكَيْفَ سَاغَ خِلَافُهُ وَتَرْكُهُ لِعَمَلٍ حَادِثٍ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ، الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، فَيَا لَهُ مِنْ عَمَلٍ مَا أَحَقَّهُ وَأَوْلَاهُ بِالِاتِّبَاعِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُ إلَى عَمَلٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ مُخَالِفٌ لَهُ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فِي سُجُودِهِمْ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] مَعَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَإِنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ وَبَعْضَ الرَّابِعِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ
الْعَمَلُ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عَمَلُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ السِّنِينَ وَيُقَالُ: الْعَمَلُ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ صَعِدَ، فَهَذَا الْعَمَلُ حَقٌّ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ وَيُقَدَّمُ الْعَمَلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟
وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ خَلْفَهُ قُعُودًا أَوْ قِيَامًا، فَهَذَا عَمَلٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالصِّحَّةِ، فَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ - وَهُمَا كُوفِيَّانِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» ؟ وَهَذِهِ مِنْ أَسْقَطِ رِوَايَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَام حَجَّ جَمَعَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ بِالطِّيبِ، وَقَالَ الْقَاسِمُ: أَخْبَرَتْنِي «عَائِشَةُ أَنَّهَا طَيَّبَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» . وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا جَادًّا مُجِدًّا، كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ثُمَّ يَذْبَحُ ثُمَّ يَحْلِقُ ثُمَّ يَرْكَبُ فَيُفِيضُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ، قَالَ سَالِمٌ: صَدَقَ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ
، فَهَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُتْيَاهُمْ، فَأَيُّ عَمَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ يُخَالِفُهُ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ عَلَيْهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَاسِمِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَامَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذَا. فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ خَالَفَهُ، وَاَلَّذِي مَنْ جَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ.
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ عَمَلٍ بَعْدَ هَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يَكُونُ عَمَلٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا وَأَصَحُّ مِنْهُ؟
أَنْوَاعُ السُّنَنِ وَأَمْثِلَةٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا]
وَأَيْضًا فَالْعَمَلُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ وَلَا عَمَلٌ قَبْلَهُ وَلَا عَمَلُ مِصْرٍ آخَرَ غَيْرُهُ، وَعَمَلٌ عَارَضَهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ أَقْسَامِ هَذَا الْعَمَلِ كُلِّهَا فَهِيَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي فَرَّقَ النَّصُّ وَالْعَقْلُ بَيْنَهَا، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ فَارِقٍ بَيْنَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْهَا وَمَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا تَذْكُرُونَ دَلِيلًا قَطُّ إلَّا كَانَ دَلِيلَ مَنْ قَدَّمَ النَّصَّ أَقْوَى، وَكَانَ بِهِ أَسْعَدَ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُقَسِّمُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْمَقْبُولُ مِنْ الْمَرْدُودِ فَنَقُولُ: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِجْمَاعُهُمْ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَالْحِكَايَةِ، وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ فَالْأَوَّلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا: نَقْلُ الشَّرْعِ مُبْتَدَأٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا: نَقْلُ قَوْلِهِ، وَالثَّانِي: نَقْلُ فِعْلِهِ، وَالثَّالِثُ: نَقْلُ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَى أَمْرٍ شَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ أَوْ أَخْبَرَهُمْ بِهِ، الرَّابِعُ: نَقْلُهُمْ لِتَرْكِ شَيْءٍ قَامَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. الثَّانِي: نَقْلُ الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ مِنْ عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم. الثَّالِثُ: نَقْلٌ لِأَمَاكِنَ وَأَعْيَانَ وَمَقَادِيرَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهَا.
[نَقْلُ الْقَوْلِ وَطَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ فِي تَرْتِيبِ صَحِيحِهِ] :
وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَمْثِلَةَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ؛ فَأَمَّا نَقْلُ قَوْلِهِ فَظَاهِرٌ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْمَدَنِيَّةُ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَبْوَابَ الْبُخَارِيِّ وَجَدَهُ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ فِي الْبَابِ بِهَا مَا وَجَدَهَا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِأَحَادِيثِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَهَذِهِ كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ، وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
[نَقْلُ الْفِعْلِ]
أَمَّا نَقْلُ فِعْلِهِ فَكَنَقْلِهِمْ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ كُلَّ عِيدٍ إلَى الْمُصَلَّى فَيُصَلِّي بِهِ الْعِيدَ هُوَ وَالنَّاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُهُمْ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ وَظَهْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَوَجْهُهُ
إلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُهُمْ فِي دُورِهِمْ وَيَعُودُ مَرَضَاهُمْ وَيَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
[نَقْلُ التَّقْرِيرِ]
وَأَمَّا نَقْلُ التَّقْرِيرِ فَكَنَقْلِهِمْ إقْرَارَهُ لَهُمْ عَلَى تَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَعَلَى تِجَارَاتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَتَّجِرُونَهَا، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: تِجَارَةُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَتِجَارَةُ الْإِدَارَةِ، وَتِجَارَةُ السَّلَمِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهَا تِجَارَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الرِّبَا الصَّرِيحَ وَوَسَائِلَهُ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ أَوْ التَّوَسُّلَ بِتِلْكَ الْمَتَاجِرِ إلَى الْحَرَامِ كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ الْمُسْلِمَ وَبَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا وَبَيْعِ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَاوَنَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى صَنَائِعِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِجَارَةٍ وَخِيَاطَةٍ وَصِيَاغَةٍ وَفِلَاحَةٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْغِشَّ وَالتَّوَسُّلَ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ الْمُبَاحَةِ وَذِكْرِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسَابَقَةَ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْمُهَادَنَةِ فِي السَّفَرِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِيهِ وَإِعْلَامِ الشُّجَاعِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِعَلَامَةٍ مِنْ رِيشَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى لُبْسِ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الثِّيَابِ، وَعَلَى إنْفَاقِ مَا ضَرَبُوهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوكِهِمْ، وَلَمْ يَضْرِبْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِضَرْبِ الْكُفَّارِ. وَكَإِقْرَارِهِ لَهُمْ بِحَضْرَتِهِ عَلَى الْمِزَاحِ الْمُبَاحِ، وَعَلَى الشِّبَعِ فِي الْأَكْلِ، وَعَلَى النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَنِ احْتَجَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ.
وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ جَابِرٌ فِي تَقْرِيرِ الرَّبِّ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ كَقَوْلِهِ: " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَنْهَى عَنْهُ لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ " وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِهِمْ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْأَحْكَامِ وَمَدَارِكِهَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَ الْأَفْعَالِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، الثَّانِي: أَنَّ عِلْمَ الرَّبِّ تَعَالَى بِمَا يَفْعَلُونَ فِي زَمَنِ شَرْعِ الشَّرَائِعِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ وَإِقْرَارُهُ لَهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى عَفْوِهِ عَنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ اسْتِصْحَابًا، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ تَقْرِيرًا لِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْلِ الزُّرُوعِ الَّتِي تُدَاسُ بِالْبَقَرِ، مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ لَهُمْ بِغَسْلِهَا، وَقَدْ عَلِمَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ وَقْتَ الدِّيَاسِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى الْوُقُودِ فِي بُيُوتِهِمْ وَعَلَى أَطْعِمَتِهِمْ بِأَرْوَاثِ الْإِبِلِ وَأَخْثَاءَ الْبَقَرِ وَأَبْعَارِ الْغَنَمِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ دُخَانَهَا وَرَمَادَهَا يُصِيبُ ثِيَابَهُمْ وَأَوَانِيَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ وَلَا بُدَّ: طَهَارَةُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ وَرَمَادَهَا لَيْسَ بِنَجِسٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ
عَلَى سُجُودِ أَحَدِهِمْ عَلَى ثَوْبِهِ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَعْلَمْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ رَسُولَهُ بِإِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي حَالِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مِنْهَا مَا لَا مَسَاغَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِرِبًا أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا، بَلْ جَعَلَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ تَقْرِيرُ الْحَبَشَةِ بِاللَّعِبِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْحِرَابِ، وَتَقْرِيرُهُ عَائِشَةُ عَلَى النَّظَرِ إلَيْهِمْ، وَهُوَ كَتَقْرِيرِهِ النِّسَاءَ عَلَى الْخُرُوجِ وَالْمَشْيِ فِي الطُّرُقَاتِ وَحُضُورِ الْمَسَاجِدِ وَسَمَاعِ الْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنَادِي بِالِاجْتِمَاعِ لَهَا، وَتَقْرِيرُهُ الرِّجَالَ عَلَى اسْتِخْدَامِهِنَّ فِي الطَّحْنِ وَالْغَسْلِ وَالطَّبْخِ وَالْعَجْنِ وَعَلَفِ الْفَرَسِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَقُلْ لِلرِّجَالِ قَطُّ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ إلَّا بِمُعَاوَنَتِهِنَّ أَوْ اسْتِرْضَائِهِنَّ حَتَّى يَتْرُكْنَ الْأُجْرَةَ، وَتَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ فَرْضٍ وَلَا حَبٍّ وَلَا خُبْزٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَا تَبْرَأُ ذِمَمُكُمْ مِنْ الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ إلَّا بِمُعَاوَضَةِ الزَّوْجَاتِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْحَبِّ الْوَاجِبِ لَهُنَّ مَعَ فَسَادِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجَاتِ حَقَّهُنَّ مِنْ الْحَبِّ، بَلْ أَقَرَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَادُونَ نَفَقَتَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَقَرَّرَ وُجُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَجَعَلَهُ نَظِيرَ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَالصَّلَاةِ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى بَقَاءِ الْوُضُوءِ وَقَدْ خَفَقَتْ رُءُوسُهُمْ مِنْ النَّوْمِ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَتِهِ، وَتَطَرُّقُ احْتِمَالِ كَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بِهِ، وَبِأَنَّ الْقَوْمَ أَجَلُّ وَأَعْرَفُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ خَفَاءَ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَرَاهُمْ وَيُشَاهِدُهُمْ خَارِجًا إلَى الصَّلَاةِ مُمْتَنِعٌ.
وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا.
وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى مُبَايَعَةِ عُمْيَانِهِمْ عَلَى مُبَايَعَتِهِمْ وَشِرَائِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ يَوْمًا مَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَاجَةَ الْأَعْمَى إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْبَصِيرِ.
وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي يُخْبِرُهُمْ بِهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي يُخْبِرُهُمْ بِهَا النِّسَاءُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، بَلْ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الْإِهْدَاءِ مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى قَوْلِ الشِّعْرِ وَإِنْ تَغَزَّلَ أَحَدُهُمْ فِيهِ بِمَحْبُوبَتِهِ وَإِنْ قَالَ فِيهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي غَيْرِهِ لَأُخِذَ بِهِ كَتَغَزُّلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بِسُعَادَ، وَتَغَزُّلِ حَسَّانَ فِي شِعْرِهِ وَقَوْلِهِ فِيهِ:
كَأَنَّ خَبِيثَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
…
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ
ثُمَّ ذَكَرَ وَصْفَ الشَّرَابِ، إلَى أَنْ قَالَ:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
…
وَأُسْدًا لَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
فَأَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ وَسَمَاعِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِبِرِّ قُلُوبِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْ كُلِّ دَنَسٍ وَعَيْبٍ، وَأَنَّ هَذَا إذَا وَقَعَ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَدْحِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَذَمِّ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ فَمَفْسَدَتُهُ مَغْمُورَةٌ جِدًّا فِي جَنْبِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ هَزِّ النُّفُوسِ وَاسْتِمَالَةِ إصْغَائِهَا وَإِقْبَالِهَا عَلَى الْمَقْصُودِ بَعْده، وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ الشُّعَرَاءِ بِالتَّغَزُّلِ بَيْنَ يَدِي الْأَغْرَاضِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا بِالْقَصِيدِ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ السَّلَامِ، بِحَيْثُ كَانَ مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ.
فَصْلٌ
[نَقْلُ التَّرْكِ]
وَأَمَّا نَقْلُهُمْ لِتَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ نَوْعَانِ، وَكِلَاهُمَا سُنَّةٌ؛ أَحَدُهُمَا: تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ تَرَكَ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ، كَقَوْلِهِ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ:«وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ» وَقَوْلِهِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ «لَمْ يَكُنْ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا نِدَاءٌ» وَقَوْلِهِ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ «وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى أَثَرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا» وَنَظَائِرُهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ نَقْلِهِمْ لِمَا لَوْ فَعَلَهُ لَتَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ وَدَوَاعِيهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى نَقْلِهِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَلْبَتَّةَ وَلَا حَدَّثَ بِهِ فِي مَجْمَعٍ أَبَدًا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا كَتَرْكِهِ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَرْكِهِ الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلَ الْمَأْمُومِينَ وَهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ دَائِمًا بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ أَوْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَتَرْكِهِ رَفْعَ يَدَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، وَقَوْلِهِ:«اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت» يَجْهَرُ بِهَا وَيَقُولُ الْمَأْمُومُونَ كُلُّهُمْ " آمِينَ ".
وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يَنْقُلُهُ عَنْهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُوَاظَبَةَ لَا يُخِلُّ بِهِ يَوْمًا وَاحِدًا، وَتَرْكِهِ الِاغْتِسَالَ لِلْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَلِرَمْيِ الْجِمَارِ وَلِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْ هَا هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ تَرْكَهُ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ سُنَّةٌ، فَإِذَا اسْتَحْبَبْنَا فِعْلَ مَا تَرَكَهُ كَانَ نَظِيرَ اسْتِحْبَابِنَا تَرْكَ مَا فَعَلَهُ، وَلَا فَرْقَ.
فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَعَدَمُ النَّقْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْلَ الْعَدَمِ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ مَعْرِفَةِ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا السُّؤَالُ وَقُبِلَ لَاسْتَحَبَّ لَنَا مُسْتَحِبٌّ الْأَذَانَ لِلتَّرَاوِيحِ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؟ وَاسْتَحَبَّ لَنَا مُسْتَحِبٍّ آخَرُ الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؟ وَاسْتَحَبَّ لَنَا مُسْتَحِبٌّ