الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا مَنْ رَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ؟ ،
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمِثَالَ الَّذِي مَثَّلْتُمْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ أَوْ سُلُوكَ طَرِيقٍ حِينَ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُهُ بِخِلَافِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدُمُ عَلَى تَقْلِيدِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بَلْ يَبْقَى مُتَرَدِّدًا طَالِبًا لِلصَّوَابِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ؛ فَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ مَعَ مُسَاوَاةِ الْآخَرِ لَهُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالدَّيَّانَةِ أَوْ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فِي ذَلِكَ عُدَّ مُخَاطِرًا مَذْمُومًا وَلَمْ يُمْدَحْ إنْ أَصَابَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَوَقَّفَ أَحَدُهُمْ وَيَطْلُبَ تَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ الصَّوَابُ، وَلَمْ يُجْعَلْ فِي فِطَرِهِمْ الْهَجْمُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ وَاحِدٍ وَاطِّرَاحُ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنْ نَقُولَ لِطَائِفَةِ الْمُقَلِّدِينَ: هَلْ تُسَوِّغُونَ تَقْلِيدَ كُلِّ عَالِمٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَوْ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ؟ فَإِنْ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَ الْجَمِيعِ كَانَ تَسْوِيغُكُمْ لِتَقْلِيدِ مَنْ انْتَمَيْتُمْ إلَى مَذْهَبِهِ كَتَسْوِيغِكُمْ لِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ، فَكَيْفَ صَارَتْ أَقْوَالُ هَذَا الْعَالِمِ مَذْهَبًا لَكُمْ تُفْتُونَ وَتَقْضُونَ بِهَا وَقَدْ سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا مَا سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ الْآخَرِ؟ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا صَاحِبَ مَذْهَبِكُمْ دُونَ هَذَا؟ وَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا أَقْوَالَ هَذَا وَتَقْبَلُوا أَقْوَالَ هَذَا وَكِلَاهُمَا عَالِمٌ يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ؟ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ دَفْعُ الدِّينِ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَهُ؟ وَهَذَا لَا جَوَابَ لَكُمْ عَنْهُ.
[مَجِيءُ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ كَمَجِيءِ قَوْلَيْنِ لِإِمَامَيْنِ]
[مَجِيءُ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ كَمَجِيءِ قَوْلَيْنِ لِإِمَامَيْنِ] : يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ إذَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلَانِ وَرِوَايَتَانِ سَوَّغْتُمْ الْعَمَلَ بِهِمَا، وَقُلْتُمْ: مُجْتَهِدٌ لَهُ قَوْلَانِ؛ فَيَسُوغُ لَنَا الْأَخْذُ بِهَذَا وَهَذَا، وَكَانَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا مَذْهَبًا لَكُمْ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ قَوْلَ نَظِيرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَجَعَلْتُمْ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا مَذْهَبًا لَكُمْ، وَرُبَّمَا كَانَ قَوْلُ نَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَرْجَحَ مِنْ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَأَقْرَبَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ إذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِكُمْ مِمَّنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَوْلًا خِلَافَ قَوْلِ الْمَتْبُوعِ أَوْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلِهِ جَعَلْتُمُوهُ وَجْهًا وَقَضَيْتُمْ وَأَفْتَيْتُمْ بِهِ وَأَلْزَمْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ مَتْبُوعِكُمْ أَوْ فَوْقَهُ قَوْلًا يُخَالِفُهُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ وَلَمْ تَعُدُّوهُ شَيْئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ نَظِيرُ مَتْبُوعِكُمْ أَجَلُّ مِنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، فَقَدِّرُوا أَسْوَأَ الْمَقَادِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ وَجْهٍ فِي
مَذْهَبِكُمْ.
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، صَارَ مَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ أَحَقَّ بِالْقَبُولِ مِمَّنْ أَفْتَى بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْكُمْ.
وَتَمَامُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّمَانُونَ: أَنَّكُمْ إنْ رُمْتُمْ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ، وَقُلْتُمْ: بَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَقَالَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ: يَسُوغُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ قَلَّدْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ، كَانَ أَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةَ قَوْلِكُمْ بِقَوْلِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى فِي ضَرْبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
ثُمَّ يُقَالُ: مَا الَّذِي جَعَلَ مَتْبُوعَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ مَتْبُوعِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى؟ بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ؟ وَهَلْ تَقَطَّعَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهَا بَيْنَهَا زُبُرًا وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ إلَّا بِهَذَا السَّبَبِ؟ ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدْعُوا إلَى مَتْبُوعِهَا وَتَنْأَى عَنْ غَيْرِهِ وَتَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ مُفْضٍ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَجَعْلِ دِينِ اللَّهِ تَابِعًا لِلتَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ وَعُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِلِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهِ، وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ تَنَاقُضُ أَصْحَابِهِ وَمُعَارَضَةُ أَقْوَالِهِمْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ إلَّا إيجَابُهُمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِهِمْ وَتَحْرِيمُهُمْ تَقْلِيدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ.
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ حَكَمُوا عَلَى اللَّهِ قَدَرًا وَشَرْعًا بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ جِهَارًا الْمُخَالِفِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ فَأَخْلَوْا الْأَرْضَ مِنْ الْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَقَالُوا: لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ عَالِمٌ مُنْذُ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَجَعَلُوهُمْ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: طَائِفَةٌ أَصْحَابُ وُجُوهٍ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَأَبِي حَامِدٍ، وَطَائِفَةٌ أَصْحَابُ احْتِمَالَاتٍ لَا أَصْحَابَ وُجُوهٍ كَأَبِي الْمَعَالِي، وَطَائِفَةٌ لَيْسُوا أَصْحَابَ وُجُوهٍ وَلَا احْتِمَالَاتٍ كَأَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَلَفُوا مَتَى انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعِلْمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا، وَلَا يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ بِمَا فِيهِمَا حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى قَوْلِ مُقَلَّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ حَكَمَ بِهِ
وَأَفْتَى بِهِ، وَإِلَّا رَدَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ.
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ - كَمَا تَرَى - قَدْ بَلَغَتْ مِنْ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالتَّنَاقُضِ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ، وَالزُّهْدِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا مَبْلَغَهَا، وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَيُصَدِّقَ قَوْلَ رَسُولِهِ.
إنَّهُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَلَنْ تُزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا، وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ يُقَالَ لِأَرْبَابِهَا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْتُمْ فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ اخْتِيَارُ تَقْلِيدِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَكَيْفَ حَرَّمْتُمْ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَخْتَارَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَبَحْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ اخْتِيَارَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ، وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى الْأُمَّةِ تَقْلِيدَهُ، وَحَرَّمْتُمْ تَقْلِيدَ مَنْ سِوَاهُ، وَرَجَحْتُمُوهُ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ سِوَاهُ؟ فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ هَذَا الِاخْتِيَارَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ، وَحَرَّمَ اخْتِيَارَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؟ وَيُقَالُ لَكُمْ: فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الِاخْتِيَارُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَك وَلَا عِنْدَ غَيْرِك فَمِنْ أَيْنَ سَاغَ لَك وَأَنْتَ لَمْ تُولَدْ إلَّا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةٍ أَنْ تَخْتَارَ قَوْلَ مَالِكٍ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ؟ وَمُوجِبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَشْهَبَ وَابْنَ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْبَغَ بْنَ الْفَرَجِ وَسَحْنُونَ بْنَ سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا إلَى انْسِلَاخِ ذِي الْحُجَّةِ مِنْ سَنَةِ مِائَتَيْنِ، فَلَمَّا اسْتَهَلَّ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَغَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ بِلَا مُهْلَةٍ مَا كَانَ مُطْلَقًا لَهُمْ مِنْ الِاخْتِيَارِ.
وَيُقَالُ لِلْآخَرِينَ: أَلَيْسَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَعَجَائِبِ الدُّنْيَا تَجْوِيزُكُمْ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ وَالْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ، ثُمَّ لَا تُجِيزُونَ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ لِحُفَّاظِ الْإِسْلَامِ وَأَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَفَتَاوَاهُمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَنُظَرَائِهِمْ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِمْ بِالسُّنَنِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالسَّقِيمِ وَتَحَرِّيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَدِقَّةِ نَظَرِهِمْ وَلُطْفِ اسْتِخْرَاجِهِمْ لِلدَّلَائِلِ، وَمِنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ مِنْ أَقْرَبِ الْقِيَاسِ إلَى الصَّوَابِ، وَأَبْعَدِهِ عَنْ الْفَسَادِ، وَأَقْرَبِهِ إلَى النُّصُوصِ، مَعَ شِدَّةِ وَرَعِهِمْ وَمَا مَنَحَهُمْ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ وَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَائَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ لَهُمْ، فَإِنْ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِتَرْجِيحِ مَتْبُوعِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرَاجِيحِ مِنْ تَقَدُّمِ زَمَانٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ لِقَاءِ شُيُوخٍ وَأَئِمَّةٍ لَمْ يَلْقَهُمْ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ كَثْرَةِ أَتْبَاعٍ لَمْ يَكُونُوا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنْ يَبْدُوَا لِمَتْبُوعِهِمْ مِنْ التَّرْجِيحِ
بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ مَا هُوَ مِثْلُ هَذَا أَوْ فَوْقَهُ، وَأَمْكَنَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ جَمِيعًا: نُفُوذُ قَوْلِكُمْ هَذَا إنْ لَمْ تَأْنَفُوا مِنْ التَّنَاقُضِ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا قَوْلَ مَتْبُوعِكُمْ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَعْلَمُ وَأَوْرَعُ وَأَزْهَدُ وَأَكْثَرُ اتِّبَاعًا وَأَجَلُّ، فَأَيْنَ أَتْبَاعُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بَلْ أَتْبَاعُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْجَلَالَةِ؟
وَهَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَمَلَ الْعِلْمَ عَنْهُ ثَمَانُمِائَةِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ، وَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِثْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ؟ وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِهِمْ مِثْلُ السَّعِيدَيْنِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَشُرَيْحٍ؟ وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِهِمْ مِثْلُ نَافِعٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَمَا الَّذِي جَعَلَ الْأَئِمَّةَ بِأَتْبَاعِهِمْ أَسْعَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَتْبَاعِهِمْ؟ وَلَكِنَّ أُولَئِكَ وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى قَدْرِ عَصْرِهِمْ فَعِظَمُهُمْ وَجَلَالَتُهُمْ وَكُبْرُهُمْ مَنَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَقَالُوا بِلِسَانِ قَالِهِمْ وَحَالِهِمْ: هَؤُلَاءِ كِبَارٌ عَلَيْنَا لَسْنَا مِنْ زَبُونِهِمْ، كَمَا صَرَّحُوا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ أَقْدَارَهُمْ تَتَقَاصَرُ عَنْ تَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالُوا: لَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ، لَا لِقُصُورِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ لِعَجْزِنَا نَحْنُ وَقُصُورِنَا، فَاكْتَفَيْنَا بِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمَا مِنَّا، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَلِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ اقْتَدَى بِهِمَا وَحَكَّمَهُمَا وَتَحَاكَمَ إلَيْهِمَا وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمَا فَمَا وَافَقَهُمَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُمَا رَدَّهُ؟ فَهَبْ أَنَّكُمْ لَمْ تَصِلُوا إلَى هَذَا الْعُنْقُودِ فَلِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ؟ وَكَيْفَ تَحَجَّرْتُمْ الْوَاسِعَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى قِيَاسِ عُقُولِ الْعَالَمِينَ وَلَا اقْتِرَاحَاتِهِمْ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي عَصْرِكُمْ وَنَشَئُوا مَعَكُمْ وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ نَسَبٌ قَرِيبٌ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ رَدَّ النُّبُوَّةَ بِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَهَا عَنْ عُظَمَاءِ الْقُرَى وَمِنْ رُؤَسَائِهَا وَأَعْطَاهَا لِمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ أُمَّتِي كَالْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ السَّابِقِينَ بِأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، ثُمَّ قَالَ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] .